ما وراء الحادث

لم يكن للوركا أي انتماء حزبي محدد، فهو كمعظم الفنانين يحب أن يكون حرًّا، لا يقيده قيد ثقيل يشل حركته وتفكيره، إذ كان الإنسان هو هدفه، وأعظِمْ به من هدف! غير أنه ككل فنانٍ مرهف الحس، لا يمكن أن ينفصل عن القضايا الإنسانية العامة في كل زمانٍ ومكان: قضايا العدالة والحرية والحب والخير، وهكذا كان يقترب بوجدانه وفنه من الشعب وقضاياه، ومن الفقراء والمحررين والبؤساء والمظلومين.

غير أن هذا «الالتزام الإنساني» الذي لا يستطيع أيُّ فنانٍ أصيلٍ إلا أن يحتذيه، لم يكن ليرضي أفراد الفريق المحافظ، الذين يرون في مبادئ ذلك الالتزام انتقاصًا لسلطتهم وحقوقهم وممتلكاتهم … كذلك فقد حملت روح الفن شاعرنا على السير في درب الحداثة أيامها، وتبدت على شكل ثورته على بعض التقاليد المرعية — من التزامٍ بالعادات والأعراف المرعية والورع الديني — واستهانته بها، وتبنيه للغريب من السلوك والملابس، مما كان يملأ صدور بعض أهل بلدته غرناطة — من الأثرياء والإقطاعيين المحافظين — بالاستهجان والاحتجاج، ونضيف إلى هذا مهاجمة الشاعر في أعماله الفنية، للسلطة التي تحد من حرية الإنسان، وقد تبدت هذه السلطة أكثر ما تبدت في الحرس المدني، الذي ناله الكثير من الانتقاد والهجوم في كثيرٍ من قصائده.

كل ذلك قد ساعد على رسم صورة معينة للشاعر — إن لم تكن بوصفه تقدميًّا صرفًا — فعلى الأقل بكونه لا يسير على نهج المحافظين التقليديين ولا يتعاطف معهم، بل يتعاطف مع الأهداف التقدمية التي تناصر الفقراء والمحررين والمستضعفين، وقد ساعد ذلك على تصنيف الشاعر — من قبل النفوس الحاقدة التي يعميها الحسد والغيرة — ضمن تصنيف سياسية معينة، حتى إذا انفجر بركان الانقلاب وسالت الدماء أنهارًا، أدرج الشاعر ضمن مَن يحرص قادة الانقلاب على ضرورة تصنيفهم، وأدى كل ذلك إلى النهاية الفاجعة التي وصفناها سابقًا.

وقد انفجر خبر مصرع الشاعر في وسط هذه الظروف السياسية المضطربة في إسبانيا، فكان له دوي هائل في العالم بأسره، ونشرت الصحف الجمهورية في مدريد النبأ، كدلالة على وحشية مدبري الانقلاب وعدم إنسانيتهم، التي جعلتهم لا يفرقون بين بريءٍ ومذنب، ولا يميزون الشخصيات التي تعتز بها البلاد، ولكن صحف العالم رددت النبأ بوصفه خسارة عظيمة مُنِيَ بها الأدب والشعر، اللذان لا يعرفان مكانًا ولا زمانًا، وسارع اتحاد القلم الدولي P.E.N ممثلًا برئيسه الكاتب والمفكر المشهور ﻫ. ج. ويلز بإرسال برقية، يستفسر فيها عن مصير الشاعر، ولم يتلقَّ إلا بضع سطور مبهمة بتوقيع الكولونيل «فالديس» محافظ غرناطة، تقول: «لا أعرف مكان السيد فديريكو غرسيه لوركا!»

وقد نعى الكتَّاب والفنانون مصرع الشاعر في قصائد ومقالات اشتهرت في تاريخ الأدب المعاصر، منها مرثيات لبابلو نيروزا، وأنطونيو متشاور، ورفاييل ألبرني، وميجيل أرناندث، وغيرهم كثيرون، كما كتب عددٌ من الشعراء العرب في فضل لوركا وعن مصرعه الغاشم، منهم صلاح عبد الصبور ومحمود درويش وعبد الوهاب البياتي ونزار القباني.

وكان الصحفيون والكتاب قد تناقلوا خبر مصرع لوركا، بوصفه عملًا من أعمال قادة الانقلاب بالملكي، ولكن سلطات الانقلاب ظلت تتجاهل هذا الأمر، بل وتتعمد التشويش عليه بإشاعات بأن الشاعر قد قُتل في برشلونة على يد الشيوعيين، إلى أن لم يعُد في الإمكان تجاهل الموضوع، فكان أن أجاب الجنرال فرانكو على سؤالٍ لأحد الصحفيين عن مصرع لوركا — في مقابلةٍ صحفية في نوفمبر ١٩٣٧م — بما يلي:

«لقد ثار حديث طويل في الخارج عن كاتب غرناطي، الذي لا أعرف أنا مقدار شهرته خارج الحدود … والحقيقة أنه في اللحظات الأولى من الثورة في غرناطة، مات ذلك الكاتب بعد الخلط بينه وبين المنشقين، إنها من الحوادث الطبيعية في الحروب … ولقد كان فقده — بوصفه شاعرًا — مما يؤسى له، وقد استغلت الدعاية الشيوعية تلك الحادثة لإثارة عالم الفكر والثقافة، غير أنه لا أحد يذكر في مقابل ذلك كيف اغتيلت شخصيات أخرى كثيرة في الجانب الآخر …»

وظلت هذه هي الرواية الرسمية عن الحادث، بأنه كان نتيجة أحداث الحروب التي يروح فيها البريء أحيانًا، حتى إن أشعار وفاة الشاعر، الذي عملت أسرته على استصداره من بلدية غرناطة، لمواجهة المسائل الإدارية من إرث وخلافه، يذكر سبب وفاته عثر على أنه «نتيجة جروحٍ ناشئةٍ عن الأعمال الحربية، حيث عُثر على جثته في اليوم العشرين من نفس الشهر (أغسطس ١٩٣٦م) في الطريق الموصل بين «فرنار» و«والفقار».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤