الشمس تشرق من جديد

بعد انتصار قوات فرانكو الملكية وسيطرتها سيطرةً كاملةً على إسبانيا كلها في عام ١٩٣٩م، ظل اسم لوركا حتى عام ١٩٤٩م محرمًا ذكره في أيِّ صحيفةٍ أو كتابٍ يصدر في إسبانيا، ولم تكن ثمة عروض لمسرحياته، ولا ذكر له في كتب الأدب الإسباني الحديث، التي تدرس في المدارس والجامعات الإسبانية، وشهدت هذه الفترة أيضًا اندحار الفاشستيات الألمانية والإيطالية واليابانية، وانقسام العالم إلى معسكرٍ ليبراليٍّ وآخر اشتراكي، ونظرَ كلٌ من المعسكرَين إلى نظام فرانكو بوصفه أثرًا من آثار فاشستية الثلاثينيات، وتكونت جمعياتٌ وروابط من الإسبان المنفيين في الخارج للعمل على إسقاط ذلك النظام بكل الوسائل؛ ولذلك كان طبيعيًّا أن ينظر إلى لوركا بوصفه نجمًا من نجوم الحرية، إلى جانب فضائله في عالم الأدب والشعر والفن، وقد دفعت هذه الظروف المتعددة بدور النشر في جميع أنحاء العالم — عدا إسبانيا — إلى التسابق في إصدار كتبه وترجماتها إلى اللغات الحية، وإلى البحث عن مخطوطات أعماله التي لم تنشر لإصدارها، ودفعت الفرق المسرحية إلى إدخال مسرحيات لوركا ضمن برامجها على الدوام، وهكذا ظهر في عام ١٩٤٠م «ديوان التماريت» يضم آخر قصائد لوركا، ونشره لأول مرة المعهد الإسباني بنيويورك، كما صدر في العام نفسه — بالمكسيك — ديوان «شاعر في نيويورك»، وفي عام ١٩٤٥م عرضت لأول مرة مسرحية «بيت برناردا ألبا» في بوينس آيرس بالأرجنتين، وهي من المسرحيات التي أعطاها مؤلفها عنوانًا جانبيًّا آخر، هو «دراما عن النساء في القرى الإسبانية»، وقال عنها إن فصولها الثلاثة تهدف إلى تقديم «وثيقة فوتوغرافية لقرى إسبانيا»، وتحكي المسرحية قصة بيتٍ ريفيٍّ يضم نساءً فقط: أمٌّ مسيطرة صارمة، وخمس بنات، وخادمتان، يعيشن جميعًا في ظل حداد على ربِّ البيت الذي مات لتوه عند بدء أحداث المسرحية، وتصور الأحداث رد فعل البنات الخمس تجاه مصير العزلة والحداد الذي تفرضه عليهن أمهن برناردا ألبا، وتجاه القسوة التي تطبق بها الأم معايير الشرف الإسباني، التي تتسم بالضراوة والحزم، ويزيد من هذا كله التوتر الهائل الذي يفرضه جو الريف المليء بالإشاعات والأقاويل، وتسير الأحداث — كما في كل تراجيديات لوركا — إلى نهاية محتومة، من موت الأبنة الصغرى التي تنتحر بعد ضعفها أمام خطيب أختها الكبرى، وبعد أن تعتقد خطأً أن الأم قد قتلته … ولكن كل ما يهم الأم في هذا أن ابنتها قد ماتت دون أن تفقد شرفها.

وظلَّ اسم لوركا مُبعدًا عن وطنه حتى عام ١٩٤٩م، حين بدأت بوادر المصالحة بين العالم الليبرالي وإسبانيا فرانكو، بعد أن تبين فشل الجهود التي بذلت لتغيير النظام في إسبانيا، فعملت الدول الغربية على كسبها إلى جانبها في صراعها ضد العالم الشيوعي، ومع تلك البوادر، نشر الشاعر «لويس روساليس» — صديق لوركا وآخر مَن رآه من الأصدقاء على قيد الحياة — بعض القصائد التي لم تنشر من قبل للوركا، في مجلتين أدبيتين إسبانيتين، وفي عام ١٩٥٤م، أصدرت دار نشر «أجيلار» — كبرى دور النشر الإسبانية — أول طبعة من الأعمال الكاملة للوركا، وقد خضعت التعليقات على حياة الشاعر في هذا السفر لرقابةٍ صارمة، بحيث جاء في نهاية الدليل التاريخي لحياة الشاعر سطر واحد مبهم، كما يلي:

١٩ أغسطس ١٩٣٦م: يموت.

وتالى بعد ذلك ذوبان الثلوج في وطن الشاعر تجاهه، إلى أن لم يعُد ثمة كتاب مدرسي أدبي يخلو من ذكر لوركا، ووضعه الممتاز في تاريخ الأدب الإسبانيِّ الحديث، وتتابع ظهور أعمال مجهولة له، منها مسرحية «الجمهور» وأوبرا كوميدية بعنوان «الممثلة لولا»، كان لوركا قد كتبها كيما يعد موسيقاها «مانويل دي فايا» ولم يتم المشروع.

وقد لمس كاتب هذه السطور مدى انتشار أعمال الشاعر ومسرحياته في إسبانيا إبان إقامته في مدريد في الفترة من ١٩٦٩م– ١٩٧٤م خلال السنوات الأخيرة من حكم فرانكو، حيث كان إنتاجه يُعرَض بصورة عادية، مع توفر جميع الكتب الأجنبية التي تتناول ظروف مصرع الشاعر في مكتبات إسبانيا.

ولكن تتويج اعتراف البلاد بشاعرها العظيم لم يأتِ إلا بدءًا من عام ١٩٧٦م — بعد وفاة الجنرال فرانكو وانتهاج خليفته الملك «خوان كارلوس» النهج الديمقراطي في حكم البلاد — حين أقيم مهرجانٌ فنيٌّ كبيرٌ في غرناطة في ذلك العام احتفالًا بذكرى الشاعر، حيث تبارى المحتفلون في الإشادة بذكره والمطالبة بتخليد ذكراه على صورة نصبٍ تذكاريٍّ يُقام في بلدته، ومن المظاهر الأخرى الهامة، صدور طابعٍ بريد تذكاريٍّ تكريمًا للشاعر، وتخليدًا لذكراه ومكانته في تاريخ الأدب الإسبانيِّ الحديث.

وهكذا مهما طال الزمن ومهما تضافرت الظروف المعاكسة على إخفاء أقدار الأصلاء، فلا بُدَّ أن تنتشع السحب آخر الأمر وتبرز الحقيقة أمام العيون، ولعل خير ما نختتم به هذا الكتاب عن الشاعر الذي مرق كالشهاب في سماء الأدب العالمي، ثم ترك وراءه نورًا باقيًا على مرِّ العصور، هو القصيدة التي رثاه بها غداة مصرعه صديقه الشاعر «بابلو نيرودا» بعنوان «أنشودة إلى لوركا»:

لو أمكنني أن أبكي من الخوف في بيتٍ مهجور
لو أمكنني أن أنزع عيني وآكلهما
لفعلت ذلك حزنًا على صوتك البرتقالي المتشح بالسواد
وحزنًا على أشعارك التي تهب صارخة.

•••

لأجلك صبغت المستشفيات بالزرقة نوافذها
وانتشرت المدارس والأحياء المطلة على البحار
ونما الريش في أجساد الملائكة المثخنة بالجراح
وغطت الزعانف الأسماك السماوية.
لأجلك
طارت القنافذ إلى السموات العُلى.
لأجلك امتلأت محلات الخياطين ذات الأنسجة السوداء
بالملاعق وبالدماء
وابتلعت شرائط حمراء
وصرعت بعضها البعض بالقبلات
واتشحت بالملابس البيضاء.

•••

حين تحلق طائرًا متشحًا بالملابس الخوخية
حين تضحك ضحكة عيدان الأرز يعصف بها الريح
حين تغني فتهز العروق والأسنان
والحناجر والأصابع
أموت أنا من فرط حسرتي على عذوبتك
أموت على البحيرات الحمراء
التي تحيا فيها وسط الخريف
مع الفرس المنهار والإله الذي ينزف دمًا
أموت على المقابر التي تسري كالأنهار الرمادية
بمياهها وقبورها
في الليل كأنها أجراس غَرقى
أنهارٌ كثيفةٌ كأنها عنابر جنود مَرضى
تتحول فجأةً على حدود الموت
إلى أنهارٍ ذات أرقامٍ مرمرية
وتيجان متعفنة وزيوت جنائزية
أموت من أجل أن أراك
ترقب في الليل مرور الصلبان المطمورة
واقفًا تبكي
لأنك تبكي في وجه نهر الموت
مهجورًا، مثخنًا بالجراح
تبكي باكيًا، وعيناك
مفعمتان بالدموع، بالدموع، بالدموع.

•••

لو أنني استطعت وحيدًا في الليل
أني أجمع النسيان والظلال والدخان
وأنشرها فوق القطارات والبواخر
من خلال قمعٍ أسود
بينما أمضغ الرماد
لفعلت ذلك من أجل الشجرة التي تنمو معها
من أجل أعشاش المياه الموشاة التي تجمعها
من أجل اللبلاب الذي يغطي عظامك
ويبوح لك بأسرار الليالي.

•••

مدائن تفوح منها رائحة الأبصال المبتلة
تنتظر ظهورك منشدًا بصوتك الأجش
بينما تتبعك
سفن صَمُوتة مُحمَّلة بالعنبر
وعصافير خضراء تبني أوكارها في شعرك
وثمة قواقع وأيام وصواري وأشجار كرز
تدور وتلف
حتى تصل إلى رأسك الشاحب
ذي العيون الخمسة عشر
وفمك ذي الدم الغريق.

•••

لو استطعت أن أملأ البلاد بالسواد
وأن أهدم الساعات من البكاء
لفعلت ذلك من أجل أن أشهد أمام منزلك
مجيء الصيف بشفاهه المحطومة
مجيء العديد من الأشخاص متشحين بثياب الموت
مجيء الأرض ذات البهاء الحزين
مجيء المحاريث الميتة وشقائق النعمان
مجيء حفَّاري القبور والفرسان
مجيء الكواكب والخرائط تنزف دمًا
مجيء الغواصين يغطيهم الرماد
مجيء الملثمين يجرون العذارى
وقد غاصت في أجسادهن النصال الطويلة
مجيء الجذور والعروق والمستشفيات والينابيع والنملات
مجيء الليل
ومعه الفراش الذي يموت عليه جندي مهجور
وسط خيوط العنكبوت
مجيء زهرة الكراهية، والوخزات
مجيء السفائن المعصفرة
مجيء نهار عاصف وأطفال
مجيئي أنا، ومعي أوليفر
ونورا، وفيثنتي ألكساندري، وداليا، وماروكا،
ومالفا، ومارينا، وماريا لويزا، ولاركو،
وروبيا، ورافاييل، وأوجارتي،
وكوتابوس، ورافاييل ألبرتي،
وكارلوس، وبيبي، وماتولو التولاجيري،
وموليناري،
وروساليس، وكونشامندس،
وآخرون غابوا عن ذاكرتي.

•••

تعال أضع التاج على هامتك
يا فتى الأصحاء والفراشات
أيها الفتى النقي
كأنك الزنجي البارق الطليق أبدًا.
تعالَ نتحادث سويًّا
الآن، حيث لا أحد يَقْعَى بين الصخور
نتحادث ببساطة
كعادتنا أنا وأنت.
ما فائدة الأشعار لو لم تكن من أجل الندى؟

•••

ما فائدة الأشعار لو لم تكن من أجل ليلة مثل هذه الليلة؟
حيث تبعنا خنجر مرير،
لذلك اليوم
لذلك الشفق
لذلك الركن المحطوم
حيث يتهيأ للموت فؤاد الإنسان الكسير؟

•••

في الليل فوق كل شيء.
في الليل ترصِّع السماءَ أنجمٌ كثيرة
كلها في محيط نهرٍ واحد
كأنها شرائط معلقة
على نوافذ البيوت التي تزخر بالمساكين.

•••

ربما مات لهم قريب
ربما فقدوا وظائفهم في المكتب،
في المستشفيات، في المصاعد،
وفي المناجم
تقاسي الخلائق وقد أثقلتها الجراح
وثمة عزم وأنين في كل ناحية
بينما الأنجم تجري في محيط نهرٍ لا نهاية له
ثمة أنين طاغٍ يصَّاعد من كل نافذة
والأبواب قد تهاوت من الأنات
والغرفات ابتلت من الأنين
الذي يأتي في موجاتٍ تبتلع الأبسطة.

•••

فديريكو!
إنك ترى الدنيا الآن
ترى الطرقات والحمض
والوداع على أرصفة المحطات
حين يرفع الدخان أطواقه الحاسمة
إلى حيث لا شيء
سوى الفراق والأحجار والقضبان الحديدية.

•••

مئات من الناس
يتساءلون في كل ناحية
هناك الضرير الدامي، والثائر،
والخائر، والبائس، وذو الأظافر المورقة،
وقاطع الطريق يحمل أحقاده فوق كتفيه.

•••

هكذا الدنيا يا فديريكو
هاك الأشياء التي بوسع صداقتي أن تقدمها لك
صداقة الرجل الكئيب الرجولي.
لقد علمت الكثير من الأشياء بنفسك
ولسوف تعلم أشياء أخرى
تأتي في بطء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤