حياة المدينة

بعد أن فشلت تجربة إرسال لوركا إلى «القرية» لاستكمال دراسته مع أستاذه ومعلِّمه الأثير، كان على الأسرة أن تتخذ قرارًا بالانتقال إلى عاصمة الإقليم — مدينة غرناطة — وذلك حتى يتوفَّر للصبي ولأخيه وأختَيه التعليم المناسب في المدارس المناسبة، وقد انطوى ذلك الانتقال على تغييراتٍ عديدةٍ في نمط حياة الأسرة وطريقة حياة أفرادها، وكانت الرحلة مثيرةً للوركا الصبي، ولكنه سرعان ما بدأ يفتقد مسارح طفولته وأصدقاءه وأماكن تجواله ولهوه في القرية، ووجد لوركا المدينة جد مختلفة عن القرى التي شهدت طفولته، فالأفق لم يعُد منبسطًا أمام ناظرَيه، وافتقد هدوء الريف وتوهُّج الشمس فيه، ولم يعُد المنزل الذي يقيم فيه يتسم بالرحابة والألفة التي كان الصبي يجدهما في الكرمة التي كانوا يقيمون فيها بالقرى، حيث صحن الدار بنافورته التقليدية، والبستان الذي يحيط بالدار ويمتلئ بالزهور من وردٍ وياسمين ورياحين، ويزخر بالفراشات والجداجد والهوام والقواقع، وهي المادة التي أثرت بعد ذلك في معظم قصائد لوركا وتمثيلياته.

واصطبغ شعوره في المدينة بحنينه إلى طفولته القروية، فأنتج مثل هذه القصيدة التي كانت من أوائل ما كتب من شعر:

يخرج الأطفال فَرِحين
من المدرسة
مُرسِلين في هواءِ أبريل الدافئ
أغانيَ حَنونة.
أي بهجة
يخلعها الصمت العميق
على الزقاق الصغير!
صمت يتحطَّم شظايا
بضحكات الفضة الجديدة.

•••

ها أنا أمضي في درب الأصيل
وسط زهور البستان
تاركًا ورائي
مياه أحزاني،
وفي التل المنعزل
ترقد مقبرة الضيعة،
كأنها حقلٌ تغرسه الجماجم،
بينما ازدهرت أشجار السرو
كأنها رءوس ضخام،
تتأمل الأفق
بمحاجر فارغة
وشعور مُخضَوْضِرة
يكلِّلون الفكر والحزن.

•••

آه يا أبريل الإلهي
يا من تأتي حاملًا الشمس والشذى
فتملأ الجماجم المزهرة
بأعشاشٍ ذهبية!

وكان مما خفَّف على الأسرة هذا الحنين الجارف إلى الريف، أن الأب قد احتفظ بضياعه القروية، حيث كانت الأسرة تذهب لتمضية العطلات، كذلك ابتاع الأب بعد ذلك كرمةً فخمةً في ضواحي غرناطة سُميت «بستان سان فسنت»، حيث كانوا يمضون الصيف دائمًا، وكان لوركا يحرص على اللحاق بأسرته هناك لزيارتهم وتمضية بعض الوقت معهم، وقد ارتبطت تلك الكرمة بآخِر أيام الشاعر حين ذهب في زيارة الأسرة هناك، حين وقع الانقلاب العسكري في صيف عام ١٩٣٦م وأدَّى في النهاية إلى مصرعه.

وفي غرناطة، أُلحِقَ لوركا بمدرسةٍ إعداديةٍ اسمها «القلب المقدَّس»، كيما تُعِدُّه للحصول على الشهادة الحيوية بالنسبة لكل طالب — وهي الثانوية العامة التي تُسمَّى بالإسبانية «الباتشييراتو» — التي تؤهِّله للالتحاق بالجامعة، وكان جوُّ الدراسة في هذه المدرسة — رغم أنها لم تكن مدرسة دينية بالمعنى المفهوم — جوًّا خانقًا، وكان المدرِّسون من النوع المتزمِّت العتيق، وقد خلد لوركا أحد مدرسيه في تلك المدرسة، في مسرحيته «الآنسة روزيتا العانس»، حيث نرى الأستاذ «مارتين» يبث شجونه عن حياته كمدرِّسٍ والصعوبات اليومية التي يُلاقيها من تلاميذه، فيقول:

«لقد عدت توًّا من إلقاء درس عن المنظور، لقد كان جهنمًا حقيقية، لقد كان درسًا عظيمًا: «مفهوم وتعريف الاتساق»، ولكن لم يكن يهم الأولاد في شيء … ويا لهم من أولاد! إنهم يحترمونني شيئًا ما لأنهم يرون أنه لا نفع فيَّ، فمرة أجد دبوسًا على المقعد أو عروسًا صغيرة على ظهري، ولكنهم يقترفون أشياءً أفظع مع رفقائي المدرسين، إنهم أبناء الأثرياء، ولا يمكن عقابهم لأنهم يدفعون، وهذا ما يقوله لنا المدير دائمًا، وأمس زعموا أن الأستاذ «كانيتو» المسكين، وهو معلم الجغرافيا الجديد، يرتدي مشدًّا للخصر؛ ذلك لأن جسده مُنحنٍ قليلًا، وحين كان يقف وحده في الفناء، تمالأ عليه الكبار وتلاميذ الداخلية، ونزعوا الثياب عن وسطه الأعلى، وربطوه في أحد أعمدة البهو، وألقوا عليه دلوًا من الماء من الشرفة …

… إنني أدخل المدرسة كلَّ يوم وأنا أرتجف منتظرًا ما سوف يفعلونه معي، رغم أنهم يحترمون — بعض الشيء — ما أنا فيه من البلاء … إن الآباء يضحكون بعد ذلك من الفظائع التي يقترفها أولادهم؛ لأننا من المدرسين غير المُثبَّتين، ولا نقوم بامتحان أولادهم، إنهم يعتبروننا رجالًا خالين من العواطف، كأننا أشخاصٌ نقف في آخِر درجةٍ من السُّلم، ولا نَزال نرتدي ربطة العنق والياقة المنشاة».١

وبعد مدرسة «القلب المقدس»، يلتحق شاعرنا بمعهد الدراسة الثانوية في غرناطة، ويمضي فيه فترة دراسته الثانوية حتى يتخرج منه بصعوبةٍ، حاصلًا على الثانوية العامة في ٢٠ من مايو ١٩١٥م، ونقول إنه حصل عليها بصعوبةٍ؛ لأن الدراسة لم تكن تستهويه بقدر ما يستهويه تكريس حياته للفن والموسيقى والأدب ومعايشة أهلها، وهي السمة التي ستظل لاصقة به أيضًا خلال تعليمه الجامعي.

ونعود إلى تلك الحقبة من حياته أولى اهتماماته الفنية في حقلَي الشعر والموسيقى؛ إذ يرجع إليها وضعه لأولى قصائده، وعنوانها «فجر»، التي نشرها بعد ذلك في أول دواوينه الشعرية:

فؤادي المطحون
يشعر عند إطلالة الفجر
بأحزانِ حُبِّه،
وأحلام الأرض القصية،
ونور الفجر
يحمل مئات الحنين،
والحزن الأعمى
للباب الروح،
ويرفع قبر الليل العريض
نقابه الأسود؛
ليُخفي بالنهار
الذُّرى الشاسعة
المرصَّعة بالنجوم.

•••

ماذا سأفعل أنا في هذه الحقول؟
ألتقط الأعشاش والأغصان
ملتحفًا بالفجر،
بينما يملأ الليل روحي!
ماذا سأفعل أنا؟
وعيناك قد صرعتهما الأنوار الباهرة
وبدني يجب ألا يشعر
بحرارة نظرتك.

•••

لماذا فقدتك وإلى الأبد
في ذلك الأصيل الصافي؟
فاليوم قد جفَّ صدري
كأنما هو نجمةٌ منطفئة.

كما يبدأ لوركا أيضًا في هذه الفترة دراسة الموسيقى دراسة منهجية، على يد أستاذٍ عظيمٍ ترك فيه أكبر تأثير، وهو الموسيقار «أنطونيو سيجورا»، أحد تلاميذ الإيطالي العظيم «فردي»، وقد وصل شغفه بالموسيقى وحُبُّه لدراستها، إلى حد أنه قد خطَّط جديًّا — بعد وفاة أستاذه ذاك — للسفر إلى باريس؛ لاستكمال دراسته للموسيقى هناك، ولم يثنِه عن ذلك إلا إصرار والده على أن يُكمل دراسته في الحقوق أولًا.

وبعد حصول الشاعر على الثانوية العامة، التحق بكلية الحقوق جامعة غرناطة، وقد جاء اختيار تلك الكلية بعد طول نقاشٍ بين لوركا ووالده، تحوَّل بعد ذلك إلى مشكلةٍ عويصة، فقد كان الابن راغبًا في دراسة الأدب، بينما الأب يتطلَّع إلى رؤية ابنه يشغل وظيفة محترمة، تكفل له وضعًا مريحًا في المجتمع، كوظائف المحامين والقضاة، ووجد لوركا الحل السعيد لتلك القضية، فقد أذعن لرغبة والده في دراسة الحقوق، إلا أنه عمد إلى إرضاء نزعاته الأدبية، فالتحق أيضًا وفي نفس الوقت بكلية الآداب في نفس الجامعة!

ولكن هيهات لتلك الروح الثائرة الوثابة أن ترضى بالقوالب الجامدة التي تفرضها الدراسة النظامية — سواء كانت لحقوقٍ أو للآداب، ذلك أن ميوله الفطرية كانت في جانب، والدراسات المنهجية في الجانب الآخَر؛ لذلك نراه لا يُلقي بالًا لمتابعة المحاضرات ولا للاستعداد للامتحانات، بل هو موجودٌ دائمًا حيث يوجد الفن والأدب، مُشاركًا في الجماعات الأدبية، وحاضرًا في نوادي الفن والثقافة، حيث يطلق العنان لروحه لتتلاقى مع أرواح رفاقه من الفنانين والأدباء، وتُسمعهم خطراتها على شكل أغاني شعبية ومعزوفات موسيقية خلَّاقة، وجديرٌ بالذكر أنه لم يتخرَّج، في نهاية الأمر، إلا في كلية الحقوق في عام ١٩٢٣م، معضدًا بوساطات أصدقائه وزملائه لدى الأساتذة، للتغاضي عن نسبة الحضور اللازمة لدخول الامتحانات، أما كلية الآداب، فإن مترجمي حياته — وعلى رأسهم صديقه الحميم «خوسيه لويس كانو» — يؤكدون أنه لم يتخرَّج فيها أبدًا، وغنيٌّ عن القول أيضًا أنه لم يعمل بليسانس الحقوق الذي حصل عليه في أيِّ وقتٍ من أوقات حياته!

ترك لوركا إذَن محاضراته، وانطلق يهيم في عالم الفن والأدب على حريته، وكانت الأماكن التي تستأثر بوقته عديدة: «الساكرامنتو» حي الغجر في غرناطة، حيث كان يحب أن يندمج مع هذه الفئة التي تعيش حياتها على طبيعتها، يسمع منهم كما اعتاد أن يسمع من قبل في الريف غناءهم وحكاياتهم وقصصهم، وكان بعضهم يسكن أيضًا في حي الفقراء، من العمال والفلاحين، وهو حي «البيازين» الذي احتفظ بنفس اسمه العربي منذ أيام بني الأحمر، والذي لا يزال الزائر إلى اليوم يجد لافتات صغيرة بالعربية تقول: «الحي العربي يرحِّب بكم».

وكان الشاعر يتردَّد كثيرًا على مركزَين رئيسيَّين من مراكز الفن والثقافة في غرناطة، أحدهما رسمي تقليدي، والآخَر تجديدي طليعي، فأما المركز الرسمي فهو «المركز الفني Centro Artitstico»، وكان لوركا يجد فيه الكتب التي يريد الاطلاع عليها، ويسمع فيه المحاضرات، ويحضر الحفلات الموسيقية، وفي هذا المركز أعطى لوركا أول عروضه الموسيقية، حيث عزف مقطوعات كلاسيكية نالت استحسان الحاضرين. ولكنه كان ينطلق على سجيته مع المجدِّدين الطليعيين، الذين تركزوا في ندوةٍ فنيةٍ كانوا يجتمعون فيها في ركنٍ من أركان مقهى شهير يُدعى «ألاميدا»، وتسمَّت الندوة من جرَّاء ذلك باسم «الركن الصغير Rinconcillo»، وفي هذه الندوة — التي تمثِّل النزعة الثائرة على التقليد في الفن — كان يلتقي صفوة ممَّن جادت به غرناطة من شباب الشعراء والقصاصين والرسامين والموسيقيين، وكان أفراد الندوة يتناقشون في كل وجهٍ من أوجُه الثقافة والفن، من المسرح الإسباني في عصره الذهبي، إلى موسيقى «ديبوسي» و«رافيل» الفرنسيين، وكانوا يستمعون إلى إنتاج بعضهم البعض ويتناولونه بالنقد والتحليل، وكان لوركا يُلقي على أفراد الندوة حكاياته ونوادره وشعره، ويعزف لهم المقطوعات الشعبية ويغنِّي الأغاني الفولكلورية … وفي هذه الندوة ألقى لوركا أوائل قصائده التي بدأ في تدبيجها عام ١٩١٨م وما بعده، وقوبلت بحماسةٍ شديدةٍ من أفرادها، مما جعل «مورا جارنيدو» أحد أعضاء الندوة – يؤكد بعد ذلك بأن تلك الحماسة هي التي أغرت لوركا بالتركيز على كتابة الشعر منذ تلك الفترة.

وكان كبار الأدباء والفنانين — الإسبان والأجانب — يزورون تلك الندوة الثقافية في ركنها الصغير للمشاركة والتعرُّف وإبداء الرأي، أو لحضور مناقشاتها بوصفها واحة من المعالم الثقافية لمدينة غرناطة، وهكذا زار الندوة الكاتبان البريطانيان الشهيران ﻫ. ج. ويلز و«رديارد كبلنج» عند مرورهما بغرناطة في رحلتهما الإسبانية، كذلك كان الموسيقار الإسباني المعروف مانويل دي فايا — الذي يعرِّب البعض لقبه إلى «ضيف الله» — يحضر جلسات الندوة في كثيرٍ من الأحيان بعد انتقاله إلى غرناطة، واتخاذه كرمة له هناك بالقرب من قصر الحمراء، وقد تعارف إلى لوركا، ونشأت بين الفنانين الأندلسيين صداقةً وثيقة العُرى، سنعود إلى الحديث عنها بين حينٍ وآخَر في هذا الكتاب.

وتركزت قراءات لوركا في تلك الفترة — بعامل تأثير أصدقائه أعضاء الندوة وزملائه في جامعة غرناطة — في عيون الأدب الإسباني … وهكذا الْتَهمَ أعمال «لوي دي فيجا» و«كالديرون دي لاب باركا» و«جونجرا» و«خوان ثوريلا»، فضلًا عن دواوين «روبين داريو» شاعر نيكاراجوا الذي رفع راية الحداثة في الشعر الإسباني، وقرأ كذلك أعمال الرومانسيين، خاصةً «جوستافو أدلفو بيكر» شاعر إشبيلية، وتعرف على حركتَي الرمزيين والبرناسيين اللتين كانتا في عنفوانها آنذاك في فرنسا، وكم كان للوركا من تجوالات طَوال في دروب غرناطة التي عشقها، وعلى مشارف قصر الحمراء ورياض جنة العريف، وحده أو مع زملاء له، يقرءون كتب الشعر والأدب هذه ويعلِّقون عليها بآرائهم ونقدهم.

وتعرف لوركا إبَّان الطلب الجامعي في غرناطة على أستاذَين لعبا دورًا هامًّا في تكوينه الثقافي والعلمي، أولهما وأبعدهما تأثيرًا هو «فرناندو دي لوس ريوس» أستاذ القانون السياسي بكلية الحقوق — الذي تبنَّاه فكريًّا وتابع مدَّ يد العون له في جميع مراحل حياته، خاصةً عندما عُيِّن الأستاذ بعد إعلان الجمهورية في إسبانيا عام ١١٣١م وزيرًا للتعليم، والأستاذ الثاني هو «مارتين برويتا» الذي كان له الأثر المباشر في وضع لوركا لأول كتبه المنشورة، وكان الأستاذ «برويتا» يعمل أستاذًا لنظرية الأدب بكلية الآداب، وعمل بدروسه ومحاضراته على إثارة القلق الفني والأدبي في صدور تلاميذه ومنهم لوركا، ذلك القلق اللازم للإبداع الفني، وقد نظم الأستاذ «برويتا» رحلات هامة لطلبته لزيارة المعالم الفنية والأثرية والتاريخية في إسبانيا، اشترك لوركا في رحلتَين منها، كانت نتيجتها أول كتبه، كانت الرحلة الأولى في يونيو ١٩١٦م لزيارة إقليم الأندلس كله بمدنه العظيمة، والتقى لوركا أثناء مرورهم ببلدة «بياسة» Baeza، بالشاعر العظيم «أنطونيو متشادو» أحد عمد جيل ٩٨ التي سبق ذكرها، وكان يعمل أيامها بالتدريس هناك، والرحلة الثانية كانت في أكتوبر من نفس العام، وزار فيها مقاطعة قشتالة وشمال شرق إسبانيا، وكان من بين مَن قابله لوركا إبانها فيلسوف إسبانيا المشهور «أونامونو»، وهو أيضًا علَم من أعلام جيل ٩٨.

وقد عمد لوركا في أثناء الرحلتَين إلى تدوين خواطره وتأملاته عن الأماكن التي يزورها، وعاد إلى تلك الأوراق بعد ذلك يعمل فيها تنقيحًا وترتيبًا وإضافةً، حتى تجمع له في النهاية عدة مقالاتٍ وصفية، وقد خطر له خاطرٌ ألحَّ عليه حتى أصبح احتمالًا مُحقَّقًا، وذلك هو نشر هذه المقالات في كتابٍ يحمل اسمه، ولم يكن أمامه — وهو غير المعروف بعدُ في عالم الكتابة — إلا أن ينشر الكتاب على نفقته، وحين فاتحَ والده في ذلك، تردَّد الأب، ثم بحث الموضوع مع الثقاة من معارفه من أساتذة الجامعة والصحفيين، فأجمعوا كلهم على أن الكتاب يستحق النشر، وهكذا دفع «دون رودريجث» ثلاثة آلاف بيزيتا تكاليف الطبع، وقال في هذه المناسبة: «إن ذلك أفضل مما لو كان قد طلب مني سيارة!»

وصدر كتاب لوركا تحت عنوان «انطباعاتٌ وصور Impresiones y Paisajes»، فأحدث ضجةً لا لدى الجمهور، ولكن لدى أعضاء ندوة «الركن الصغير»، الذين رأوا في كتابٍ يصدره أحد زملائهم مدعاة فخر للجماعة كلها، وقد أهدى المؤلف كتابه لأستاذه الموسيقي الراحل «أنطونيو سيجورا»، فكان رمزًا مزدوجًا يعبِّر عن إخلاصه وحبه لأستاذه، وكذلك حبه وشغفه بالموسيقى.

ومقالات الكتاب كُتبت بروحٍ بلاغيةٍ رومانسية، يبدو فيها واضحًا تأثير إمام الرومانسيين الإسبان «بيكر» في قِطَعه النثرية، وقد سطرت بروحٍ شاعريةٍ وحسٍّ غنائيٍّ دفَّاق، يعبِّر عن حب الشاعر لمواطن الجمال في وطنه، ولكن الكتاب لم يلقَ رواجًا، إلا أنه كان دافعًا مشجعًا للشاعر المبتدئ أن يرى إنتاجه الأول مطبوعًا ومنشورًا، ورغم أن لوركا كان يشير إليه بعد ذلك في رنة اعتذار عن روح البلاغة الطلابية التي تشيع فيه، إلا أن أجزاءً منه كانت ترد دائمًا في طبعة الأعمال الكاملة للشاعر.

وبعد فترةٍ وجيزةٍ من صدور هذا الكتاب، ثُبتت أقدام الشاعر في عالم النشر، ذلك أن مجلة «الرواية القصيرة» التي تصدر في مدريد، أخرجت عددًا خاصًّا عن الشعر الإسباني الحديث، كان من بينها قصيدة للوركا بعنوان «موال الساحة الصغيرة»، ورغم أنها لم تكن أول قصيدة يكتبها لوركا، فهي أول قصيدة تُنشر له، وكان نشرها بعد نشر كتابه الأول عاملًا هامًّا أقنعه بأن حياته ليس لها إلا طريق واحد، طريق الفن والأدب، وتندرج تلك القصيدة المبكِّرة في فئة حنينه إلى مسارح طفولته وذكريات حياته في الريف:

الأطفال (يغنون) :
في الليل الهادئ
يا للغدير الصافي
والنبع الرقراق!
الأطفال :
ماذا يخبِّئ فؤادك الإلهي البهيج؟
أنا :
دقات أجراس
تائهة بين طيات الضباب
الأطفال :
ها أنت تدعنا نغني في الساحة الصغيرة
يا للغدير الصافي
والنبع الرقراق
ماذا تمسك في يديك الربيعيتين؟
أنا :
زهرة بلون الدماء
وسوسنة
الأطفال :
أغمرهما في مياه الأغنية العطرة
يا للغدير الصافي
والنبع الرقراق
ماذا يخبِّئ فمك من مشاعر
حمراء عطشًا؟
أنا :
مذاق عظام رأسي الكبير
الأطفال :
فلننهل من الماء الهادئ للأغنية العَطِرة
يا للغدير الصافي
والنبع الرقراق!
لماذا تذهب هكذا
بعيدًا عن الساحة الصغيرة؟
أنا :
إني ذاهبٌ بحثًا عن السحرة
وعن الأميرات
الأطفال :
ومَن دلَّك على درب الشعراء؟
أنا :
نبع الأغنية العطرة
وغديرها الرقراق
الأطفال :
أذاهبٌ أنت بعيدًا بعيدًا
فيما وراء البحار والأرض؟
أنا :
لقد امتلأ فؤادي الحريري
بالأضواء،
بالأجراس التائهة،
بالزنابق والنحلات
ولسوف أبغي بعيدًا جدًّا
فيما وراء الهضاب والجبال،
فيما وراء البحار والأنهار
بالقرب من النجوم
كيما أطلب من يسوع المسيح
أن يرد لي
روح طفولتي الأولى
وقد أنضجتها الأساطير
بما فيها قبعات الريش
والسيف الخشبي
الأطفال :
ها أنت تدعنا نغنِّي في الساحة الصغيرة
يا للغدير الصافي
والنبع الرقراق!
وها هي العيون اليواقظ
للأكمات الذابلات
تبكي أوراقها الميتة
وقد أثخنتها الرياح بالجراح
١  «الآنسة روزيتا العانس» – العدد ١٦٥ من سلسلة من المسرح العالمي، وزارة الإعلام بالكويت، يونيو ١٩٨٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤