صداقتان حميمتان

مرَّت بحياة لوركا المبكِّرة علاقتان من علاقات الصداقة الحميمة، ضربتا بجذورهما في أعماق نفسه، وكان لها أثرٌ عميق في تكوينه الفني، في مظهرَين أساسيين: الموسيقى، والرسم، ورغم أن لوركا قد أسهم في هذين الميدانين إسهامًا ملحوظًا، إلا إن أهميتهما تكمن في الأثر الذي خلَّفَته ثقافته الموسيقية والتصويرية — وإبداعاته فيها — على أدبه وشعره. وقد تبلورت صداقتاه هاتان — مع الموسيقار الإسباني الكبير «مانويل دي فايا» والرسام السيريالي «سلفادور دالي» — في هذه الفترة من حياته، بعد صدور ديوانه الشعري الأول.

وترجع صلة لوركا بدي فايا إلى عهد صبا الشاعر، حين كان يقضي أمسياتٍ عديدة مع أصدقائه من الفنانين الشبَّان في كرمة دي فايا بغرناطة، التي أطلق عليها اسم «السلام عليك يا مريم»، وكان الموسيقار الإسباني قد أُغرِم بمدينة غرناطة، وقرَّر بعد عودته من باريس أن يقيم فيها إقامةً دائمةً مع أخته في تلك الكرمة التي تحولت بعد وفاته إلى متحف. وكثيرًا ما كان لوركا يجلس إلى البيانو الخاص بالموسيقار ليُسمِع الحاضرين ألحانًا وأغاني شعبية من أدائه. وكان فايا ولوركا يُكِنَّان الإعجاب بفن أحدهما الآخَر؛ فالموسيقار مُعجَب بموسيقية الشاعر، إلى حدِّ أنه هتف مرة مُتعجِّبًا: «كم أودُّ أن أكتب شعرًا بالمهارة التي يعزف بها فديريكو على البيانو» … أما لوركا فكان يرى في «فايا» تجسيدًا لغرامه الأبدي بالموسيقى، وذوقًا فنيًّا مشتركًا بينهما في الإيمان بالرؤية الأندلسية في الحياة. وكان لوركا يحرص بعد انتقاله للإقامة في مدريد على زيارة الموسيقار، كلما عادت إلى غرناطة لقضاء إجازة من إجازاته … وفي إحدى تلك الزيارات، نبعت من أحاديث الصديقين ومناقشاتهما فكرة عقد مهرجان ومسابقة للغناء الفلامنكو القديم، الذي يُطلق عليه اسم الغناء العميق Cante Jundo، وهو الغناء الشعبي الأندلسي بكل فروعه، ويتصف هذا النوع من الغناء الشعبي برنة الكآبة التي تشيع فيه، وهو غناءٌ يركز على أحاسيس المغني الفردية الدفينة، ويعبِّر المغنِّي من خلاله عن طقوسٍ من المشاعر، تنبجس من داخل النفس بشكل طوعي فِطري، ويؤديه المغنُّون دون هدف للربح في المقاهي والحانات وصالات الرقص الشعبية. وقد أرجعَ كثيرٌ من دارسي الفنون هذا النوع من الغناء إلى تأثير الأغاني والألحان العربية أيام الوجود العربي الإسلامي في إسبانيا، وامتزاجها بالأغاني المحلية في الأندلس، فأخرجت هذا النوع المتميز من الغناء، الذي يختلف عن أيِّ أغانٍ وألحانٍ شاعت في بقاع أوروبا الأخرى غير إسبانيا.

وقد فكَّر الصديقان لوركا ودي فايا في إقامة هذا المهرجان بدافع حبهما المشترك لذلك الفن، وكحافزٍ للعاملين في هذا المجال، وحرصًا على استمراره وتغذيته، وكان عليهما أن يخلقا جوًّا تمهيديًّا للمهرجان، فقام «دي فايا» بنشر مقالٍ عنوانه «الغناء العميق: أصوله وقيمه الموسيقية وأثره في الفن الموسيقي الأوروبي»، وألقى لوركا محاضرةً في المركز الفني الغرناطي عنوانها: «الغناء الأندلسي البدائي»، نشر نصها بعد ذلك في إحدى صحف المدينة. وبهدف جمع الأموال اللازمة للإنفاق على تنظيم المهرجان، ورصد جوائز للفائزين في مسابقة أفضل المنشدين، أُقيم حفلٌ خيريٌّ في فندق قصر الحمراء بغرناطة، تلا فيه لوركا أشعارًا جديدةً عُرفت بعد ذلك باسم قصيدة الغناء العميق، وافتتح المهرجان أخيرًا في مساء ١٣ من يونيو ١٩٢٢م، في ميدان «الحب» بقصر الحمراء العربي، وتكوَّنت لجنة التحكيم في المسابقة من «دي فايا» و«أندريس سيجوفيا» و«ماويل شاكون»، أئمة الموسيقى الإسبانية وقتذاك، وخلال ليلتين متتاليتين، اهتزَّت غرناطة كلها طربًا بأغاني المتسابقين.

وقد كسب إنتاج لوركا من هذا المهرجان تلك القصائد التي وضعها للتمهيد له، وهي قصائد تتسم بكل ما هو قاتم وحزين من الغناء الفلامنكو، وقد صدرت في صورة ديوانٍ مستقل بعد ذلك، في عام ١٩٣٢م، ومنها تلك الأغنية المليئة بالشجن:

بدأ نحيب القيثارة
وانحطمت أقداح الفجر
بدأ نحيب القيثارة
وعبثًا إسكاتُها،
مستحيلٌ إسكاتها.
تنتحب في إيقاعٍ رتيب
كما تبكي المياه،
وكما تبكي الرياح
فوق تلال الثلوج
مستحيلٌ إسكاتها
تبكي أشياءً قصِيَّة
رجال الجنوب الساخنة
التي تشتاق إلى الزنابق البيضاء
تبكي سهامًا بلا أهداف
أصيلًا دونما غد
وأول الطيور ميتًا فوق الأغصان
آه أيتها القيثارة!
وقلبي
الذي أثخنَتْه بالجراح
خمسة سيوف.

وقد استمرت صداقة لوركا ودي فايا حتى النهاية، وإن كان قد اعتورها بعض الفتور، نتيجة لشعور فايا بالإساءة من بعض سطور قصيدة كتبها لوركا عام ١٩٢٨م، بعنوان «أنشودة إلى قدس الأقداس»، وأهداها إلى الموسيقار العظيم، وقد غضب دي فايا التقيُّ الورع من تلاعب الشاعر المعتاد بالألفاظ ومن صوره الشعرية الجريئة، وهو يتناول ذلك الموضوع الديني ذا الحرمة التقليدية. وحدث جفاءٌ قصيرٌ بين الصديقين، ولكنهما سرعان ما تمكنا من تنقية الجو ونسيان ما حدث. وقد حاول دي فايا بكل الطرق التوسط لإنقاذ صديقه لوركا من مصيره المحتوم من اندلاع الحرب الأهلية عام ١٩٣٦م، ولكن جهوده كلها راحت أدراج الرياح، كما سوف تعلم في حينه.

وكانت ثانية صداقات لوركا الخلَّاقة مع الرسَّام السيريالي «سلفادور دالي»، وقد بدأت تلك الصداقة فور التحاق دالي بالمدينة الجامعية بمدريد عام ١٩٢٣م، وإلى ما بعد شدِّه الرحالَ إلى باريس في عام ١٩٢٩م، بعد طرده من مدرسة الفنون الجميلة بمدريد، وقد أثَّر سلفادور دالي بآرائه الطليعية في الفن في كثيرٍ من زملائه الطلاب. وقد تبلورت تلك الآراء فيما بعد في انضمامه إلى الحركة السيريالية بقيادة «أندريه بريتون» في باريس، وكان من أبرز مَن تأثروا بدالي وآرائه — عدا لوركا — صديقهما وزميلهما المشترك في المدينة الجامعية «لويس بونيويل»، الذي اشترك مع دالي في عمل أول فيلمين سيرياليين، أثارَ أولهما — وهو فيلم «كلب أندلسي» — ضجة صاخبة عند عرضه لأول مرة في باريس عام ١٩٢٨م، رغم أن مدة عرضه لا تزيد على نصف الساعة. وقد كتب دالي سيناريو هذين الفيلمين، وأخرجهما بونيويل. وقد أصبح دالي بعد ذلك إمام الرسم السيريالي، وأصبح بونيويل أمام السمينائيين السيرياليين، وقد فاز بالأوسكار لأحسن فيلم أجنبي عام ١٩٧٢م عن فيلمه «سحر البرجوازية اللطيف».

وقد جمع بين لوركا ودالي حب التجديد والتطوير الفنيَّين، علاوة على الرسم الذي كان أحد الموضوعات التي أُغرِم بها لوركا، وضرب فيها بسهمٍ وافر، حتى إن طبعة أعماله الكاملة تحتوي — بالإضافة إلى أدبه — عددًا كبيرًا من لوحاته الفنية.

وقد تعمقت الصداقة بين دالي ولوركا في أواخر عام ١٩٢٥م، بعد دعوة دالي لصديقه الغرناطي لزيارته، وقضاء إجازة عنده في بلدته «قداقش»، وهي بلدةٌ بَحْرية صغيرة من أعمال «برشلونة» عاصمة مقاطعة قطلونيا في الشمال. وسرعان ما اندمج الشاعر مع أسرة صديقه: هو يُسمِعهم من قصائده وأغانيه وموسيقاه، وهم يَعرضون عليه فنونًا قطلونيَّة أصيلة. وفي بيت دالي قرأ لوركا على الأسرة لأول مرة مخطوطة مسرحيته الجديدة «ماريانا بنيدا»، التي لاقت إعجابًا دفع الأب إلى دعوة أصدقائه لسماع الشاعر وهو يتلوها عليهم مرةً ثانية.

وكان طبيعيًّا أن ينهمك الصديقان في فترة الزيارة في مناقشات عديدة حول طبيعة الفن وإمكانيات التجديد الفني. وقد تأثر لوركا باتجاه التجديد لدى دالي الذي ينحو نحو السيريالية. وكانت المدرسة السيريالية قد انشقت عن الحركة «الدادائية»، وتأسست كحركةٍ مستقلةٍ على يد الشاعر الفرنسي أندرية بريتون عام ١٩٢١م.

وقد تحدَّدت الحركة أكثر عام ١٩٢٤م، حين أصدر بيرتون ورفاقه بيانًا أكدوا فيه سمات الحركة، وأبانوا فيه أن الحرية هي أساس السيريالية، وأول الحرية عند الفنان هي الخلاص من قواعد الفن. وقد انتشرت هذه الحركة بعد ذلك في أوروبا كلها، وصبغت كلَّ الفنون بصبغتها، وإن اختلفت كل حالة عنفًا وخفةً حسب اختلاف أنواع الفنون. وقد امتدت السيريالية إلى الشعر والقصة، ولكنها كانت أشد ظهورًا في الفنون التصويرية، فبرزت في الرسم والتصوير والسينما والنحت.

وكان لوركا في طليعة الأدباء الذين تأثروا بالاتجاه السيريالي، وظهر ذلك في شعره في اختياره للصور الفنية في قصائده. وقد بدأت هذه الصور الغريبة تغزو شعره وتستبين فيه تدريجيًّا، منذ قصائد ديوانه «حكايا الغجر»، إلى أن وصلت إلى أقصى ذروتها من السيريالية الحقة في قصائد ديوانه «شاعرٌ في نيويورك».

كذلك فإن صداقة لوركا — بل وحبه — لأخت الرسام دالي، «آن ماري دالي»، قد أثَّرا كثيرًا على حياته العاطفية. ورغم أن المعلومات عن هذه العلاقة غير واضحة ولا هي متوفرة، إلا إن كثيرًا من مؤرِّخي حياته يرجعون الأزمة العاطفية التي مرَّ بها في عام ١٩٢٩م إلى فشل هذا الحب وتحطُّمه، والتي لم يجد الشاعر دواء منها إلا السفر خارج بلاده إلى نيويورك، حيث قضي عامًا وبعض العام في الخارج.

وقد خرج لوركا من زيارته الأولى لدالي في «قداقش»، بقصيدةٍ عنوانها «أنشودة إلى سلفادور دالي»، نُشرت عام ١٩٢٦م في المجلة الفكرية الشهيرة التي كان يصدرها المفكِّر الإسباني «خوسيه أورتيجا أي جاسيت»، وهي «مجلة الغرب Revisat del Occidente»، ونورد فيما يلي تلك القصيدة لأهميتها في الدلالة على الاتجاه السيريالي، الذي بدأ الشاعر في انتهاجه للتعبير عما يجيش في نفسه من عواطف وأفكار.
وردةٌ في البستان العلوي الذي هفوا إليه
طوقٌ يدور في أعراف الفولاذ الصافي،
وجبل الغيوم الانطباعية قد نضا عنه الثياب
بينما الرماديات تطل على حواجزها الأخيرة.

•••

الرسامون الجدد، في مراسمهم البيضاء
يقطنون زهرة الجذر التربيعي المعقمة
وفي مياه السين جبلٌ ثلجيٌّ من المرمر
يغطي النوافذ بالبرودة، ويهش على أغصان اللبلاب.

•••

الناس تطأ الشوارع المغطاة بالبلاط في قوة
والبِلَّوْرات تعرض عن سحر الانتكاس.
ها هي الحكومة قد أغلقت محلات العطور
والآلهة تخلد فرجاراتها المتثنية

•••

غيابٌ من الغابات والسواتر والجبهات
يزحف على أسطح المنازل العتيقة
والهواء يصقل عدساته على صفحة البحر،
ويرتفع الأفق كما لو كان سدًّا عظيمًا للمياه.

•••

بَحَّارةٌ يجهلون طعم النبيذ ومذاق الظلال
يذبحون جنيات البحر في بحارٍ من الرصاص
والليل، تمثال الحصافة البهيم ذاك،
قد طوَّق مرآة القمر المستدير بين يدَيه.

•••

تتملكنا رغبةٌ من الصور ومن الحدود
ويأتي الرجل المتطلِّع حاملًا المقياس الأصفر
وفينوس طبيعة بيضاء ميتة
بينما جامعو الفراشات يأبقون.

•••

«قداقش»، في مؤشر من المياه والتلال
تدعم درجات حجرية وتُخفي القواقع.
النايات الخشبية تنشر السَّكينة في الهواء
وإله هرم برى يوزع الفاكهة على الأطفال.

•••

نيامٌ صيادوك في الرمال دونما رؤى
وفي أعالي البحار يتخذون الورود «بوصلة» تهديهم
وأفق المناديل الجريحة العذرى
يوحد بين زجاج السمكة وبين القمر الهائل.

•••

تاج متيس من سفائن بيضاء
يجعد جبهات مريرة وشعور من الرمال.
حوريات البحر يقنعن، ولكنهن لا يوحين
ويخرجن إذا لوَّحنا لهن بكوبٍ من عذب المياه.

•••

آه يا سلفادور دالي، يا ذا الصوت الزيتوني
إنني لا أمتدح ريشتك المراهقة غير الكاملة،
ولا لونك الذي يحيط بلون زمانك
ولكني أمتدح أشجانك كخالد تقيِّده الحدود.

•••

أيتها الروح القح، تعيشين فوق رخاماتٍ جديدة
وتهربين من الغابة المظلمة للصور التي لا يُصدِّقها عقل
تصل تهويماتك إلى حيث تصل يداك
وتستمتع بأنشودة البحر من نافذتك.

•••

يمتلئ العالم بظلالٍ صمَّاء وفوضى
يصطدم بها الإنسان في أول اتصالاته بالدنيا
ولكن النجمات تخفي قطاعات طبيعية
تشير إلى ملامح العالم الذي تعيشه كاملة.

•••

مجرى الزمن يتوقف ويعيد ترتيب نفسه
على الصور العددية لقرنٍ وقرن آخَر من الزمان.
والموت المهزوم يلتجئ راجفًا
إلى دائرة اللحظة الآتية الضيقة.

•••

عندما تمسك لوحة ألوانك، ورصاصة في الجناح
تسعى إلى النور الذي يضيء كأس شجرة الزيتون
نور «منيرفا» العريض الذي يشيد السقالات؛
حيث لا مكان للنوم ولا لأزهاره السقيمة.

•••

تسعى إلى النور العتيق الذي ينوس على الجبين
النور الذي لا يهبط إلى فم الإنسان ولا يبلغ فؤاده
النور الذي تخشاه كرمات «باخوس» الحميمة
والقفزة الغاشمة التي تكمن في منحدر المياه.

•••

إنك تحسن صنعًا أن ترفع رايات الإنذار
على الحدِّ المظلم الذي يسطع ليلًا
فأنت لا ترغب أيها الرسام أن يلين لك الشكل،
ندفة القطن التي تتغير كأنها سحابةٌ فجائية.

•••

أنت لا تجري وراء اختراع السمكة في إنائها،
ولا الطائر في قفصه،
لا في البحر ولا في الرياح.
بل تجلو الغامض وتنقل الصور
بعد أن تضرب بحدقتيك الأمينتين
في أجسادها الغضة المستدقة.

•••

تهيم غرامًا بالمادة المحددة الدقيقة
حيث لا تستطيع قباب النبات أن تضرب خيامها.
تهيم غرامًا بالمعمار المُشيَّد فيما هو غائب
وتقبل الراية بوصفها دعابة لطيفة.

•••

ينطق الفرجار الصلب بقصيدته القصيرة اللدنة.
ها هي جزائر مجهولة تكذب صفحة الكون
وينطق الخط المستقيم بجهده العمودي
ويتغنى الزجاج العارف برياضياته.

•••

بل أيضًا وردة البستان الذي تعيش فيه
دائمًا أبدًا الوردة، في شمالنا وجنوبنا؛
ساكنة، مركزة، كأنما هي تمثالٌ أعمى
غافلةٌ عما تثير من جهودٍ خفية.

•••

وردةٌ طاهرةٌ تزيح كل ما هو مُصطنَع مرسوم
وتفتح لنا أجنحة البسمة الحانية
(فراشة لصيقة تزن خطوات طيرانها)
وردة التوازن الذي لا يعرف الآلام المنشودة.
دائمًا أبدًا … الوردة.
آه يا سلفادور دالي! يا ذا الصوت الزيتوني!
إنما أنا أنطق بما توحيه لي شخصيتك ولوحاتك
إنني لا أمتدح ريشتك المراهقة غير الكاملة،
ولكني أغنِّي لثبات الاتجاه فيما تطلق من سهام.

•••

أغنِّي لجهودك الجميلة التي تزيِّنها الأنوار القطلانية
لحبك كل ما يحتمل تفسيرًا.
أغنِّي فؤادك الفلكي الحنون
كورق اللعب الفرنسي، دون ما أية جراح.

•••

أغنِّي شوق التماثيل الذي تنشده دون ما كلل
الخوف من الانفعال الذي يترصدك في الطريق
أغنِّي حورية البحر التي تتغنى بك
ممتطية صهو دراجة من اللآلئ والأصداف.

•••

ولكني أغنِّي قبل كل شيء فكرًا مشتركًا
يوحِّد بيننا في الساعات الحالكة والذهبية.
ليس الفن هو النور الذي يعمي أبصارنا
بل هو أولًا الحب، الصداقة، المثاقفة.

•••

هم أولًا، قبل اللوحة التي تخطها في صبر
قبل نهدَي «تيريزا» ذات البشرة اليقظانة
قبل عقصة «ماتيلدا» ناكرة الجميل
صداقتنا الملونة كأنما هي لعبة السلالم والثعابين.

•••

آثارٌ للآلة الكاتبة من دماءٍ فوق الذهب
تسطِّر فؤاد قطلونيا الخالدة.

•••

فلتنيرك نجماتٌ كحفناتٍ خالية من البوازي
بينما تزدهر رسومك وحياتك!

•••

لا تُلقِ بالًا للساعة المائية ذات الأجنحة الغشائية
ولا لمنجل الأليجوريات القاسي،
بل عليك أن تكسي ريشتك وتعرِّيها في الهواء دومًا
أمام البحر الذي تعمره السفائن والبحَّارة.

وفي منتصف مايو عام ١٩٢٧م، يزور لوركا «دالي» مرةً أخرى، وينتقلان معًا إلى برشلونة للإعداد لتمثيل مسرحية «ماريانا بينيدا» هناك، وقد استقبل فنَّانو قطلونيا وكتَّابها «لوركا» بحماسٍ بالِغ، وتعرَّف على أفراد الحركة الطليعية، وعلى المجلة التي كانوا يصدرونها باللغة القطلونيَّة، بعنوان «مجلة أصدقاء الفنون»، كما تعرفوا هم عليه وعلى إنتاجه، وكثيرًا ما طاف لوركا ودالي — ومعهما الناقد القطلاني «سباستيان جاش» — بشوارع برشلونة وأزقَّتها الخفية، يتناقشون في صخبٍ وحماسٍ في شئون الأدب والفن، ويحكي جاش قصةً طريفةً اشتهرت عن لوركا، حين اصطحب «لوركا» يومًا إلى «أتنيو برشلونة»، حيث قدَّمَه إلى ندوةٍ تضم شيوخ الأدب والفن هناك، حيث سأله أحدهم في استهانة: «من أيِّ البلاد أنت أيها الشاب؟» فردَّ عليه الشاعر وهو يرفع يده عاليًا في رزانة: «أنا من مملكة غرناطة!» فإلى هذا الحد كان إحساس لوركا بالمجد الذي نالته بلدته أثناء وجود العرب فيها، ولا غرو أن يكون هذا الرد قد أدهش الحاضرين جميعًا، وزاد فيه ما كان على فديريكو من مسحةٍ شرقيةٍ وسَمارٍ عربي، بشعره الأسود وملامحه المُحدَّدة وخياله المتوقِّد.

وقد وضع لوركا أمله في ذلك الوقت في مسرحيته «ماريانا بينيدا»، التي عمدت فرقة الممثلة المشهورة «مارجاريتا شيرجو»، إلى تقديمها على مسرح جويا ببرشلونة في يونيو ١٩٢٧م، وقام بتصميم ديكوراتها سلفادور دالي، وكانت هذه ثاني مسرحية يكتبها لوركا، بعد مسرحيته الأولى، التي فشل عرضها في مدريد، وقد قوبلت «ماريانا بينيدا» بنجاح، ولاقت قبولًا من النقَّاد، وجُلُّهم من أصدقاء الشاعر، وهي وإن لم تكن قد ثبتت أقدام لوركا في المسرح، إلا إنها قد عوَّضَته عن فشل مسرحيته الأولى، وجعلته يستمر في الكتابة المسرحية، كيما يخرج بعد ذلك أعماله الناضجة الناجحة، وقد قال الشاعر عن ظروف كتابة تلك المسرحية: لقد كانت حياة «ماريانا بينيدا» فكرة من أشد أفكار طفولتي تسلُّطًا عليَّ، لقد كنا نلعب ونحن أطفال بأن نمثِّل المروحة وهي تنفتح وتنغلق ونحن ننشد:

آه، ما أتعس هذا اليوم في غرناطة
الذي يجعل الحجارة تبكي من الحزن
عند مرأى «ماريانا» وهي تموت
على المشنقة بدلًا من أن تعترف!

وتتبع المسرحية الخطوط الهامة للحياة الحقيقية لماريانا بينيدا، التي وُلدت في غرناطة عام ١٨٠٤م من أسرةٍ كريمةٍ وتزوَّجت أحد المناضلين من أجل الحرية، الذي مات بعد الزواج بثلاث سنواتٍ مخلفًا لها طفلين، واحتضنت هي آراء زوجها الثورية وكفاحه من أجل حرية الشعب، فمدَّت يد المساعدة إلى المناضلين والمطاردين في عصر استبداد الملك فرديناند السابع ملك إسبانيا، ونجحت بذكائها ومهارتها في إبعاد الشبهات عنها، وانشغلت ماريانا في تطريز علَم ضخم للثوَّار، يستخدمونه عند إعلان ثورتهم، كتبت عليه كلمات: «القانون، الحرية، المساواة»، ووشى بها أحد الخَوَنة، وسقط العلَم في يد حاكم غرناطة الذي بادر إلى اتهامها وسجنها، ولم يفلح التعذيب ولا المحاكمة في انتزاع أي اعترافٍ منها، إلى أن أُعدِمَت في ١٨٣١م، شهيدةً للحرية.

وقد شجع نجاح المسرحية في برشلونة على عرضها في العاصمة مدريد، حيث بدأت عروضها على مسرح «فونتالبا» في ١٢ أكتوبر ١٩٢٧م، ولاقت نجاحًا ملحوظًا.

وقد تزامن مع عرض هذه المسرحية للمرة الأولى في برشلونة افتتاح معرض لرسوم لوركا في المدينة في «جاليري دالماو»، وقد استمر المعرض من ٢٥ من يونيو إلى ٢ من يوليو ١٩٣٧م، وتضمن ٢٤ لوحة، منها لوحة رسم فيها لوركا صديقه «دالي»، وقد قدَّم دالي في مقالٍ له بمجلة «المجلة الجديدة» عرضًا نقديًّا للمعرض، وقدَّم «سباستيان جاش» عرضًا آخَر له، وانتهت إقامة الشاعر في برشلونة بمأدبة تكريم حافلة، أقامها له الفنَّانون هناك.

وقبل العودة إلى مدريد أمضى لوركا أيامًا في «قداقش» مرةً أخرى، عمل فيها مع دالي على وضع ما سمي «البيان اللافني»، وهو بيانٌ يعبِّر عن آراء أصحابه الطليعية السيريالية في الفن والأدب والحياة، ويعتمد على تقرير اللاشخصانية واللاهوية واللاموضوع في التعبير الفنيِّ عمومًا، وقد تم نشر البيان في أحد أعداد مجلة «أصدقاء الفنون» في أغسطس ١٩٢٧م، وترجمه لوركا ونشره عام ١٩٢٨م بالعدد الثاني من المجلة، التي أصدرها ذلك العام في غرناطة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤