مهرجان إشبيلية وديوان الفجر

وفي ديسمبر ١٩٢٧م، ينعقد في «إشبيلية» مهرجانٌ أدبيٌّ كان سببًا في إطلاق اسم جيل عام ٢٧ على لوركا وصحبه، تمييزًا لهم كجماعةٍ أدبيةٍ عن الجماعة الأدبية السابقة عليهم مباشرة، وهي جيل ١٨٩٨م الذي أشرنا إليه في مطلع هذا الكتاب، وقد استمد النُّقَّاد هذا الاسم من اجتماع معظم أفراد هذه الحركة الأدبية والفنية في «إشبيلية»، بدعوةٍ من «أتنيو إشبيلية» في مهرجان أُقيم لتكريمهم، وإتاحة الفرصة أمامهم لإلقاء أبحاثهم ومحاضراتهم وإنتاجهم الفني في ذلك المركز الثقافي، بوصفهم شباب حركةٍ فنيةٍ ناهضةٍ أرهصت أعمالهم بعصرٍ ذهبيٍّ جديدٍ للأدب الإسباني، يضارع العصر الذهبي الأول أيام سرفانتس ولوبي دي فيجا.

ويتفق النُّقَّاد الآن على أن أعضاء هذه الجماعة المؤسسين عشرة، هم: فديريكو غرسيه لوركا – بدرو ساليناس – خورخي جيين – خيراردو دييجو – داماسو ألونصو – فيثنتي الكساندري – رافاييل ألبرتي – لويس ثيرنودا – خوسيه برجامين – خوان تشاباس.

وكان أكثر ما يميِّز هذا الجيل وأفراده هو أنهم قد اتجهوا اتجاهًا مخالفًا للجيل السابق عليهم مباشرة، إذ عمدوا أساسًا إلى الرجوع إلى الموروث الأدبي والفكري الإسباني، محاولين ابتعاثه وسَبْر أغواره والخروج منه بالأفكار الإسبانية الأصيلة، وعادوا إلى دُرَر الأدب الإسباني في عصره الذهبي، يستلهمونها ويعيدون تقديمها بروحٍ تفسيريةٍ ونقديةٍ جديدة، مما أدى إلى ابتعاثهم مؤلفين، كان النسيان قد أسدل ستاره عليهم، أبرزهم «لويس جونجرا» (١٥٦١–١٦٢٧م)، شاعر القرن السادس عشر الميتافيزيقي الإسباني، وكانت الأبحاث التي قدمتها جماعة ٢٧ في مهرجان إشبيلية تدور حول ذلك الشاعر الغابر، بمناسبة مرور ثلاثمائة عام على وفاته، وقد وجد أعضاء الجماعة في شعره إرهاصات فكرية للنزعة السيريالية التي كانت في أوجها آنذاك، وكان أكثر ما عادوا إليه من التراث الإسباني — عدا أعمال «جونجرا» — أعمال سرفانتس ولوبي دي فيجا وكالديرون دي لاباركا وفراي لويس دي ليون ويوحنا الصليبي وجوستافو أدولفو بيكر وكيبيدو، وهم كلهم شوامخ الأدب الإسباني ممَّن صاغوا الضمير الإسباني في عصرهم وفي كل العصور، غير أن هذا لم يمنع أن يتأثر أفراد جيل ٢٧ في نفس الوقت بتيارات الحداثة، التي وفدت إلى إسبانيا من فرنسا وألمانيا أساسًا، فكلهم تأثروا بالسيريالية والدادائية والماورائية Ultraism، ومزجوا بينها وبين ملامح أفكارهم الإسبانية الأصيلة في وحدةٍ فنيةٍ منصهرة.

كذلك تميَّز أعضاء الجيل بالاستعمال الفريد للاستعارة والصور الفنية في أعمالهم، إذ إنهم قد تركوا لأنفسهم حرية مُطلَقة في ربط أيِّ شيءٍ بأيِّ شيءٍ آخَر يصل إليه خيالهم، وبحثوا في أعماق الشعور عن صلاتٍ خفيةٍ ذاتيةٍ بين الأشياء، فأنتجوا بذلك صورًا شعرية جديدة غريبة فريدة، وستكون هذه الصور الفريدة أهم ما يميِّز شعر لوركا في مرحلته التالية، والتي ستتخذ بعد ذلك منحًى مبالغًا فيه مع دخوله ذروة تلك المرحلة، مرحلة السيريالية الشعرية.

وقد قام لوركا بإعداد بحث عن شعر «جونجرا»، استغرق منه ثلاثة شهور، لإلقائه في مهرجان إشبيلية، وقد قال في ذلك البحث: إن الأساتذة يشيرون عادةً إلى «جونجرا» بوصفه شاعرًا عتيقًا، أصبح فجأة شاعرًا مغرقًا في الصفة، وأنه حمل اللغة إلى آخر ما تستطيع، فثنى المعاني واخترع قوافي وإيقاعات غريبة على الذهن العادي، وعكف لوركا على دحض هذه الأقوال، بتبيان كيف أن الصور التقليدية التي تجري على ألسنة الناس العاديين، لم تكن غريبة عن الصور التي ابتدعها «جونجرا»، مثل تسمية الطرف البارز من أسطح المنازل «فخًّا منصوبًا»، أو تسمية نوع من الحلوى بشرائح السماء، أو نهدات الراهبات، أو تسمية القبة بنصف برتقالة، وقال لوركا في بحثه: «على الشاعر أن يكون أستاذًا في الحواس الخمس، وهي كما أرتبها: الإبصار – اللمس – السمع – الشم – الذوق، وعليه، من أجل أن يصبح سيد أجمل الصور الشعرية، أن يفتح باب الاتصال بين جميع هذه الحواس، وعليه في أحيانٍ كثيرةٍ أن يطبع مشاعر حاسة منها على مشاعر حاسة أخرى، بل وحتى أن يغطي طبائعها ويخفيها …»

ما أقرب هذا إلى ما كتبه الدكتور «إحسان عباس» في كتابه «فن الشعر»،١ في الفصل الذي عقده للمدرسة الرمزية، من أن «ادجار ألان بو» — رائد الرمزية — «كان يريد أن يتخلَّص من أغلال الرومانطيقية ويدعو إلى خطةٍ مغايرة لها، فيدعو إلى عدم المحدودية في موسيقى الشعر، إلى انطلاقٍ إيحائيٍّ مُبهَم، لا بالخلط بين عالم الواقع وعالم الخيال، بل بالخلط بين وظائف الحواس نفسها، ونحن نجد «بو» في بعض قصائده «يسمع» قدوم الظلام، ويقول في قصيدةٍ أخرى: «ومن كل قنديلٍ انساب في أذني صوت رتيب ناغم لا ينقطع! ولذلك كان أول ما يبشِّر به الرمزيون إجراء الفوضى في مدركات الحواس المختلفة، ومحاولة الوصول بالشعر إلى اللامحدودية التي وصلها فن الموسيقى».

ومضى لوركا في بحثه الذي ألقاه عن «جونجرا» يقول:

«إن جونجرا في شعره يتناول الأشكال والموضوعات الكبيرة الحجم بنفس الحب والصدق الذي يتناول بهما صغار الأشياء، وبنفس العظمة الشعرية، فالتفاحة عنده تثير في النفس ذات الكثافة في الشعور التي يثيرها البحر، والنحلة مليئة بنفس الدهشة التي تمتلئ بها الغابة، وهو يرقب الطبيعة بعينٍ نفَّاذة، ويعجب بجمال هوية الأشياء التي تتساوى في جميع أشكالها؛ ولهذا السبب فإن التفاحة لديه تماثل البحر … فحياة التفاحة، من لحظة انبثاقها إلى الوجود كبرعمٍ صغيرٍ حتى سقوطها ناضجةً ذهبيةً من الشجرة إلى الأرض، هي عمليةٌ عظيمةٌ ومليئةٌ بالأسرار، كعملية إيقاعات البحر اللانهائية. وعلى الشاعر أن يدرك ذلك، فعظمة الشعر لا تعتمد على عظمة موضوعه، ولا على حجمه ولا على مشاعره، فالشاعر قد يصنع قصيدةً ملحميةً عن الصراع الذي يقع بين مختلف الخلايا النباتية وسط أغصان الكرمة، أو يعطي انطباعًا لا نهاية له للمُطلَق عن طريق شكل الوردة وعبيرها لا غير.» وهذا ما فعله لوركا نفسه في بعض أعماله مثل التراجيديا الشعرية، التي كتبها عن غرام صرصار بفراشة.

وقد صفَّق الحاضرون طويلًا للبحث الذي ألقاه لوركا في المهرجان، ودعوه في ليالٍ أخرى إلى تلاوة قصائد ديوانه «حكايا الغجر» عليهم، رغم أن تلك القصائد لم تكن قد صدرت بعدُ على شكل ديوان، وإنما كان صيتها قد طار بين أوساط الفنانين والشعراء جميعًا.

وقد ترك مهرجان «جونجرا» عام ١٩٢٧م أثرًا عميقًا في شعر لوركا أبعد وأعمق من أثر الدادائية والسيريالية، إذ جعله يقرن بتلك الحركات الطليعية أيامها انغماسًا رقيقًا في بئر الشعر الإسباني في ماضي العصور، واقترن كل هذا عنده بصورةٍ جديدةٍ من الشكل التركيبيِّ الهندسيِّ للقصيدة، واستخدامات جديدة أصيلة للفعل اللغوي، لا بُدَّ أنه استوحاها عن البناء العربي والإسلامي الذي فتح عينَيه عليه في ربوع غرناطة والأندلس، مثل قصور الحمراء التليدة ورياض جنة العريف، ويستبين في ثلاث قصائد طويلة للوركا، وهي «أنشودة إلى قدس الأقداس» و«أنشودة إلى وولت ويتمان»، و«القديسة لوسي والقديس عازر»، الاتجاه ناحية «الجنجورية» الجديدة التي سوف تنمو وتتطور لديه أكثر من ذلك، حين يخرج من إسبانيا في رحلته الأمريكية، وتصوغ نفسها في تركيبةٍ فريدةٍ يمكن أن يُطلق عليها «السيريالية الإسبانية»، هي ذات صلة وثيقة بلوحات دالي التي يمكن أيضًا إرجاع أصلها إلى فن الشاعر الإسباني جونجرا، لقد وضع لوركا في تلك القصائد الثلاث قدمه على أول الدرب، الذي سيقوده بعد ذلك إلى مرثية مصارع الثيران، ثم إلى قصائد «شاعر في نيويورك»، وقد نعى كثيرٌ من النقاد تلك النقلة الكبيرة في فن لوركا، من مرحلةٍ غنائية فولكلورية دافقة إلى مرحلةٍ سيريالية مُغرِقة في إبهامها، ولكن لوركا، كما بنيت الناقدة «ملدرد آدمز» بحق في كتابها عن الشاعر، قد أقام ما يكفي في صرح الغنائية الزاهي الراقد على أرباض قصر الحمراء، وأنه لم يكن من الممكن ألا يتأثر بالجو الفني والفكري السائد أيامها، فالوقت آنذاك كان وقت ثورة واضطراب في كل شيء، حين كان العالم يقرأ الأرض الخراب لإليوت وعوليس لجيمس جويس، وأشعار أندريه بريتون السيريالية.

ومضى لوركا بعد مهرجان «جونجرا» في تنقيح قصائد ديوان حكايا الغجر ووضعها في صورتها النهائية، محاولًا الجمع في حكاياه الشعرية بين الصورة الأسطورية للغجر، وبين الواقع الذي كان يراهم عليه في غرناطة، وقال في ذلك: «إن النتيجة غريبة، بيد أنني أعتقد أن بها جمالية جديدة».

ونشر الديوان أخيرًا عام ١٩٢٨م، فنال نجاحًا فوريًّا ساحقًا، ونفذت نُسَخه في أشهرٍ قليلة، وهو يتكوَّن من ١٨ قصيدة، اشتهر معظمها بعد ذلك وتناقلتها الأفواه في جميع البلاد الناطقة بالإسبانية، مثل قصائد: أخضر، كم أحبك يا أخضر، والحرس المدني، والزوجة الخائنة، أنطونيو الكامبوريو.

ويأتي عنوان الديوان Romancero، من كلمة رومانثة Romance، وهو شكلٌ أدبيٌّ انتشر في القرون الوسطى، ويعتمد على صياغة قصائد شعبية ذات حبكة قصصية (ولهذا آثرنا ترجمتها بكلمة «حكايا») مستقاة من موضوعاتٍ تاريخيةٍ ودينيةٍ وأليجورية غنائية، وتندرَّج موضوعات قصائد الديوان تحت أقسام ثلاثة عامة: قصائد تدور حول القوى الخفية الغامضة، وقصائد شعبية واقعية، وقصائدٌ من التراث التاريخي والديني، ومن قصائد النوع الأول قصيدة «الحلوة والهواء»، التي تنسج صورةً رائعةً لفتاةٍ غجرية حسناء تنطلق على سجيتها، وتمارس هوايتها في الدق على الدف، ولكن القوى الخفية المُعارِضة للغجر لا تتركها على حريتها، وتتمثَّل تلك القوى هنا في إله الريح الغاضب الذي يريد أن يُوقِع بالفتاة، ولا ينقذها منه إلا لمسة من لمسات العلم الواقعي، الذي يمزج الشاعر بينه وبين عالم القوى الخفية الفانتازياتي في براعةٍ ساحرة:
تخطر الحلوة
وهي تدقُّ الدف ذا جلد الغزال
في دربٍ من الجداول وأشجار الغار.
ويهرب من الموسيقى
الصمت الذي لا تقطعه النجوم
فيقع حيث يصطخب البحر ويغنِّي
لياليه التي تزخر بالأسماك
وعلى ذرى الجبل
نيام الخفراء
ويحرسون الأبراج البيضاء
التي يقطن فيها الإنجليز
أمام غجر المياه
فهم يشيِّدون تعريشات من الأصداف
ومن أفنان شجر الصنوبر الخضراء
للترويح عن أنفسهم.

•••

تخطر الحلوة
وهي تدق الدف ذا جلد الغزال
وعند مرآها
هبَّ الريح الذي أبدًا لا ينام
سان كريستوفر العاري
مُرصَّعًا بألسنةٍ سماوية
يرنو إلى الفتاة
تعزف لحنًا عذبًا مغيبًا.

•••

يا فتاتي
ارفعي ثوبك كيما أرى جسدك
وأنضو بأصابعي العتيقة
زهرته الزرقاء …

•••

وتُلقي الحلوة الدف
وتجري دون توقُّف
ويتبعها الريح الرجولي
مستلًّا سيفه الساخن.

•••

ويزوي البحر من حفيف أمواجه
ويشحب لون أشجار الزيتون
وتغنِّي بآيات الخمائل
وصفحة أجراس الثلوج الصقلية.

•••

اجري يا حلوة اجري؛
كي لا يدركك الريح الأخضر!
اجري يا حلوة اجري
احذري من أين يأتيك
«ساطيرا»٢ ذو الأنجم الدنيا
بألسنته الوضَّاءة.

•••

وغمر الفزع الحلوة
فدخلت ذياك البيت
فيما وراء أشجار الصنوبر
الذي يملكه قنصل الإنجليز.

•••

وجاء ثلاثةٌ من الخفر
وقد أفزعتهم الصرخات
يضمون عباءاتهم حواليهم
وقُبَّعاتهم مدلاة على الوجنات.

•••

ويقدِّم الإنجليزي للغجرية
كوبًا من اللبن الدافئ
وقدحًا من الخمر
لم تقربه الحلوة من شفتَيها

•••

وبينما هي تحكي باكية
قصتها لهؤلاء القوم
يهتاج الريح غيظًا
ويعربد على الأسطح الأردوازية.

ومن عالم الغجر أيضًا يقدِّم لوركا قصيدة الزوجة الخائنة، ويصوِّر فيها تصرُّفات غجري أصيل تجاه حبيبته، ومذهب الشهامة الغجري الذي حتَّم عليه ألا يعود إلى تلك الحبيبة؛ لأنه عرف أنها متزوجة:

اصطحبتها إلى النهر
وكنت أظن أنها فتاة
فاتضح أن لها زوجًا
كانت ليلة القديس جيمس
وكأنما عن اتفاقٍ سابق
انطفأت مصابيح الشارع
واشتعلت حدقات الجداجد
وعند المنعطفات الأخيرة
لمست نهدَيها النائمَين
فتفتَّحا لي على الفور
كأنها عيدان السنابل
ورنَّت في مسامعي
ثنيات قميصها المُنشَّى الناصع
كأنه قطعةٌ حرير
تحكُّها عشرات السكاكين.
وتطاولت الأشجار
دونما أنوار فضية في كئوسها
ونبح أفق من الكلاب
بعيدًا بعيدًا عن النهر.

•••

وفيما وراء شجيرات التوت البري
وخلف الحشائش والأشواك
افترشت لها مكانًا على الأرض
تحت خصلات شعرها
وخلعت رباط عنقي
وخلعت هي رداءها.
وطرحت زناري والمسدس
وخلعت هي صداراتها الأربعة
كانت بشرتها
أرق من الياسمين ومن العبير
ولم تكن لمرايا البِلَّوْرية
سطوع طلعتها البهية
وأفلتت ساقاها مني
كالسمكة المذعورة
نصفها يضطرم بالنيران
ونصفها الآخر بالبرودة.
في تلك الليلة
سرت في أفضل الدروب
وامتطيت أحسن الأمهار
دونما لجام أو سروج
وأنا رجل
ولن أقص عليكم ما أسمعَتْنيه من كلمات.
لقد غمرني نورٌ من العرفان
فأحالني رجلًا وديعًا
وحملتها بعيدًا عن النهر
وقد غطَّتْها الرمال والقبلات.
وتصارعت نصال الزنابق
حين أطاح بها الهواء.

•••

وتصرفت معها كما يليق
فبصفتي غجريًّا أصيلًا
أهديتها علبة تطريز كبيرة من الساتان
بلون القش
ولم أدَع نفسي تَهْوِي في غرامها
لأن لها زوجًا
رغم أنها قالت لي أنها فتاة
حين اصطحبتها إلى النهر.

وتكتمل صورة الغجريِّ الأصيل في قصيدتَين عن «أنطونيو الكامبوريو»، فيتراءى للقارئ فيهما وصف دقيق له، فهو سليل ألقاب عريقة في عالم الغجر، صوته قرنفلي رجولي، بشرته معجونة بزيت الزيتون والياسمين، واهتماماته هي اهتمامات الغجر، مشاهدة مصارعات الثيران، والقتال، ولكنه في القصيدة الأولى يخون نفسه وجنسه بالاستسلام دونما قتال أو جهاد لرجال الحرس المدني؛ لذلك فهو يستحق كلمات قاسية يوجِّهها له الشاعر بأنه ليس سليلًا لأحد، وإلا كان قد فجَّر نبعًا من الدماء ذا خمس نفثات، ولكن «أنطونيو» يعوض ذلك في القصيدة الثانية، حين يدافع عن نفسه ضد أبناء عمومته، الذين هاجموه بدافعٍ من حسدهم إياه، والحسد صفة دفينة في الإسبان عمومًا وبين الغجر على وجه الخصوص، وهم يهاجمونه فيصارعهم، ويتقافز بخفة الدلافين، ويلطِّخ ربطة عنقه بدماء أعدائه، وهو قد حقَّق ما يتوجَّب عليه بالجهاد وإسالة الدماء، فلا عيب عليه بعد ذلك أن يقهروه آخِر الأمر، بعد أن يتكالب عليه الأربعة وهو واحدٌ أمامهم.

أما قصيدة «الحرس المدني الإسباني» فهي تصويرٌ كاملٌ لصراع الغجر مع العالم الخارجي الذي يحيط بهم، ويمثل القانون واللوائح المدنية التي يضطرون إلى التسليم بها، ويصوِّر لنا الشاعر مدينة الغجر مليئة بالمتناقضات والمفارقات عن طريق صورٍ حادةٍ عجيبة، كما يقرِّب من أذهاننا عالم الغجر بكل ما فيه من غرائب واختلاف، ومزج بين العوامل الدينية والشعبية، وهو من الطباع التي يتميَّز بها الغجر، وفي مواجهة مدينة الغجر يقوم القانون، الذي تُمثِّله فرقةٌ من الحرس المدني تهاجمها وتعمل فيها القتل والنهب:

الجياد سُود
وسُودٌ حدواتها
وعلى العباءات
تلتمع بقعٌ من الحبر والشمع
جماجمهم من رصاص
لهذا لا يعرفون البكاء
ويخبون في طريقهم
بأرواحهم الجلدية البراقة
مَحنِيِّي الظهور، يتسترون بالليل
وحيثما يحلُّون
يفرضون صمت المطاط الأسود
ووَجَل الرمال النواعم
يمرُّون حين يبغون المرور
ويخفون في رءوسهم
آفاقًا غامضة
من مسدساتٍ لا هوية لها.

•••

آه يا مدينة الغجر!
الرايات في جوانب الطرقات
والقمر وثمار القرع
مع الكريز المحفوظ
آه يا مدينة الغجر!
مَن يراك وينساك؟
يا مدينة الأسى والمسك
والأبراج التي في لون القرفة.

•••

وحين يسدل الليل أستاره
الليل العميق الغميق الليلي
يصوغ الغجر في ورشهم
شموسًا وسهامًا
ويقرع جوار جريح على كل الأبواب
وتغنِّي ديوك من زجاج
في «شريش دي لافرونتيروه»
وتعرِّي الرياح جوانب الدهشة
في الليل، الليل الفضي
الليل العميق الغميق الليلي.

•••

أضاعت العذراء صاجاتها
والقديس يوسف
وطلبا من الغجر
أن يبحثوا لهما عنها.
واتشحت العذراء بثياب الحكام
من أوراق الشيكولاته المفضضة
وقلادات من اللوز
ولوَّح القديس يوسف بذراعَيه
من تحت عباءته الحريرية
خلفهما سار «بدرو دوميك»
بصحبة ثلاثة من سلاطين فارس
وكان الهلال يحلم بنشوة اللقالق
وغزت الرايات والقناديل الأسطح المنبسطة
ونوَّحت الراقصات العجفاوات أمام المرايا
مياه وظلال، ظلال ومياه
في «شريش دي لافرونتيره».

•••

آه يا مدينة الغجر!
الرايات في جوانب الطرقات
أخمدي أنوارك الخضراء
فرجال الحرس قادمون.
آه يا مدينة الغجر!
مَن يراك وينساك؟!

•••

ويتقدمون مثنى مثنى من المدينة في عيدها
وأحزمة الذخيرة
تخترق همسات النباتات النواضر
يتقدَّمون مثنى مثنى
ليلٌ مضاعف من الثياب
ويتصوَّرون أسماء
فترينة مهمازات المصارعة.

•••

وأحكمت المدينة أبوابها
متحرِّرة من الخوف
واقتحمها أربعون من رجال الحرس
ليعيثوا فيها فسادًا.
وتوقَّفَت الساعات،
والبراندي؛
كيما يزيل الشبهات عنه،
تنكر في زجاجاته على هيئة نوفمبر
وطارت صرخاتٌ حادة
من بين دورات الريح
وقطعت السيوف
النسمات التي وطأتها الخوذات
وعلى طول الطرقات المظلمة
تفر عجائز الغجر
على الجياد النائمة
باباريق النقود
وفي الطرقات المنحدرة
تمضي العباءات الشريرة
مخلفة وراءها
دوامات قصيرة من المقصات

•••

وعلى أبواب بيت لحم
اجتمع الغجر
وغطَّى القديس يوسف جثة فتاة
وقد أثخَنَتْه الجراح
وتدق بنادق حادة عنيدة
على طول الليل
وتضمد العذراء جراح الأطفال
برضاب النجوم
ولكن رجال الحرس
يتقدَّمون ناثرين الدمار
حيث يحترق الخيال العاري المُرهَف عن آخِره.
و«روز» سليلة «كامبريسو»
جالسة تنوح أمام بيتها
وثدياها الداميان على صفحةٍ أمامها
وصبايا أخريات يهربن
وضفائرهن تتطاير في الهواء
حيث تتفجر ورودٌ من الديناميت الأسود
حين كانت كل الأسطح أخاديد في الأرض
وهزَّ الفجر أكتافه
في جانبية حجرية طويلة.

•••

آه يا مدينة الغجر!
ويبتعد رجال الحرس
عبر نفق من الصمت
بينما الجمرات تحيط بالمدينة من كل مكان.

•••

آه يا مدينة الغجر!
مَن يراك وينساك؟!
فليبحثوا عنك على جبهتي
مزيجًا من القمر ومن الرمال.

وأشهر قصائد الديوان هي قصيدة «أخضر كم أحبك يا أخضر!» وعنوانها الأصلي «حكاية السائرين نيامًا»، والتي أوردناها كاملةً في بداية هذا الكتاب، وتدور أحداثها من خلال غنيمةٍ من الحلم أو من السحر، فتبدو وكأنها تتراءى من خلال ذهن أحد السائرين في نومهم، أو شخصية عجزت عن مواجهة الواقع فتراه من خلال عالَم أخضر من الهذيان، ونرى فيها غجريًّا يعمل في التهريب قد أصابه جرحٌ مميت، ويختفي من مطاردة رجال الدرك له، فيتوجَّه في الهزيع الأخير من الليل أو في مطالع الفجر إلى منزل الفتاة الغجرية، التي يحبها والتي انتظرته طويلًا، ويسأل والدها العون، ولكنه يجد الأب — لسببٍ ما — في حالة صدمة، ويصعد الرجلان إلى أدوار المنزل العُليا التي يغمرها القمر بضوئه، وهناك يجد أن الفتاة التي انتظرت حبيبها عبثًا وهي تطفو على سطح خزَّان المياه الذي يسبح في نور القمر، ونفهم من بين السطور أنها قد انتحرت غرقًا، وتعمل دقَّات رجال الدرك المخمورين على الأبواب آخِر الأمر على زيادة حدة الجو النومي الذي يهيمن على القصيدة، ويفتتن الشاعر بذكريات وخيالات وعواطف الشخصيات التي تضمها القصيدة، وهم كلهم في حالة أزمة شديدة.

ويزيد الناقد «ستانلي بيرنشو» على ذلك بأن الشاعر نفسه يزيد من حمى الموقف بانتحاله نفس موقف شخصياته والتحدُّث نيابةً عنهم. بالأبيات المتكرِّرة التي تتردَّد في ثنايا القصيدة، فكل الشخصيات منجذبة إلى نوعٍ من الاخضرار، وكذلك الشاعر أيضًا الذي تستبد به فكرة الخضرة دائمًا على طول القصيدة … وتتحرك الشخوص من تحت سحر ضوء القمر الجميل والنذير في نفس الوقت، فهم من ذلك المنطلق سائرون جميعًا في نومهم: المهرب الجريح، الأب الهَرِم الذي هزَّه الحزن على ابنته، فلم يعُد يشعر بنفسه، الفتاة التي انتحرت بعد أن جُنَّت من طول انتظار الأمل الأخضر، فألقت بنفسها في أحضان الموت الأخضر في خزَّان المياه، بل وحتى رجال الدرك المخمورين الذين اقتفوا أثر المهرب، وجاءوا يدقُّون على الأبواب.

وقد عمل النجاح الفوري لهذا الديوان على طير صيت لوركا وشُهرته في طول البلاد المتحدِّثة بالإسبانية وعرضها، وسرعان ما تُرجِمَت قصائده — التي حرَّكَت مشاعر القرَّاء وعواطفهم — إلى معظم اللغات الأوروبية ولغاتٍ أخرى.

١  دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، ١٩٥٩م.
٢  إله من آلهة الغابات عند الإغريق مشهورٌ بحبه للقصف واللهو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤