الفصل الثالث

تعليم العباقرة

إن علاقة العبقرية بالتعليم الرسمي أقل تعقيدًا، وإن كانت غير مستقرة بوجه عام، إذا ما قُورِنت بعلاقتها بالأسرة. خُذْ مثلًا الحياة المذهلة التي عاشها في مطلع القرن العشرين عالِمُ الرياضيات الهنديُّ سرينيفاسا رامانوجن، الذي يعتبره علماءُ الرياضيات المعاصرون أَحَدَ علماء الرياضيات العظماء في كل العصور، والذي ذُكِر في كتاب إريك تمبل بيل «عظماء الرياضيات» ضمن نفس الفئة التي شملت ليونهارت أويلر وكارل جاكوبي.

باختصارٍ بالِغٍ، كان رامانوجن، الذي وُلِد عام ١٨٨٧ لوالدين فقيرين، موظفًا براهميًّا متدينًا يعمل في إدارة ميناء مدراس، وعلَّمَ نفسه الرياضيات دون أن يحصل على شهادة جامعية، وكان يزعم أن علمه في الرياضيات يُوحَى إليه من الإلهة الهندوسية ناماجيري. كان يقول: «إن أي معادلة لا معنى لها بالنسبة لي ما لم تكن تعبِّر عن فكر الإله.» لما يَئِس رامانوجن بسبب قلة التقدير الذي قُوبِلت به نظرياته من جانب أساتذة الرياضيات الجامعيين في الهند، أرسل بعض النظريات، غير المبرهنة، بالبريد عام ١٩١٣ إلى جودفري هارولد هاردي، الذي كان أحد أهم أساتذة الرياضيات في جامعة كامبريدج (وملحدًا راسخًا في الإلحاد). ورغم غرابة معادلات رامانوجن الرياضية وعدم معقولية مصدرها بدرجة كبيرة، كانت شديدة الابتكار وفائقة البراعة إلى حد أنها جعلت هاردي يجر رامانوجن المتردد إلى كلية الثالوث بكامبريدج بعد أن كان مغمورًا، ويتعاون معه على نطاق واسع لينشرا معًا العديد من الأبحاث العلمية المشتركة في المجلات العلمية، ويثبت أنه كان عبقريًّا في الرياضيات. في عام ١٩١٨ اختير رامانوجن كأول زميل من الهند لكلية الثالوث والجمعية الملكية الحديثة، لكنه بعد أن أُصِيب بمرض غامض وحاول الانتحار تحت قضبان مترو أنفاق لندن، عاد مجدَّدًا إلى الهند للتعافي، وظل هناك ينتج نظريات جديدة مهمة من على فراش مرضه حتى وفاته المأساوية وهو لم يتجاوز بعدُ الثانية والثلاثين من عمره.

عقب وفاة رامانوجن كتب عنه هاردي في انبهار قائلًا:

كان القصور في أفكاره رهيبًا كعمقها … أفكاره فيما يتعلق بالبرهان الرياضي تتصف بأقصى درجات الغموض. لقد توصَّلَ لكل ما قدَّمه من نتائج، حديثة أو قديمة، صحيحة أو خاطئة، من خلال عملية تمتزج فيها الحجة والبداهة والاستقراء، والتي يعجز تمامًا عن تقديم أي تفسير محكم لها.

يقول روبرت كانيجل كاتب سيرة حياة رامانوجن في كتابه المتقن «الرجل الذي عرف اللانهاية» إن «حياة رامانوجن كانَتْ مِثْلَ الكتاب المقدَّس أو أعمال شكسبير، اكتشافًا غنيًّا بالمعلومات، مفعمًا بالغموض، يُعَدُّ مرآة لأنفسنا أو لعصرنا.» ويَضْرِب كانيجل على ذلك أربعةَ أمثلةٍ رائعةٍ؛ أولًا: إنَّ النظامَ الدراسيَّ الهنديَّ الفاشِلَ حَكَمَ على رامانوجن بالفشل في مراهقته، لكنَّ عددًا قليلًا من الأفراد في الهند لمسوا تألُّقَه وأنقذوه من على حافَّة الموت جوعًا بأن وفَّروا له وظيفةَ كاتبٍ. ثانيًا: إن هاردي أدرك عبقريتَه من رسالته التي بعثها إليه عام ١٩١٣، لكنه شقَّ عليه كثيرًا في العمل في إنجلترا بدرجة ربما عجَّلَتْ بوفاته. ثالثًا: إن رامانوجن لو كان تلقَّى تعليمًا رياضيًّا من طراز تعليم جامعة كامبريدج في بداية حياته لَكان من الممكن أن يبلغ ذُرًى أعلى من تلك التي بَلَغَها، لكن ربما أيضًا كان مِثْلُ هذا التعليمِ سيُثبِّط إبداعَه وابتكارَه. أخيرًا، إن هاردي باعتباره ملحدًا، كان مقتنعًا بأن الدِّين لا علاقة له بما يتمتع به رامانوجن من قوة فكرية، ومع ذلك، من المعقول على الأقل أن ما اشتهر به الهنود الهندوس من انجذاب صُوفيٍّ تاريخيٍّ لمفهوم اللانهاية كان مصدرًا أساسيًّا لإبداع رامانوجن. ويتساءل كانيجل قائلًا: «هل كانَتْ حياةُ رامانوجن مأساةً بسبب وَعْدٍ لم يتحقَّق؟ أم هل حقَّقت سنواتُه الخمسُ في كامبريدج هذا الوَعْدَ؟ … في كلٍّ من الحالتين، [تتيح] الأدلةَ مجالًا واسعًا للنظر للأمر بأي من الشكلين.»

fig5
شكل ٣-١: عالم الرياضيات العبقري سرينيفاسا رامانوجن عام ١٩١٩ قبل عودته إلى الهند ووفاته في سن مبكرة.1

إن تجربة التعليم الرسمي في حالة رامانوجن لا يمكن أن تُوصَف بأنها طبيعية على الإطلاق، لكن لا ينبغي أيضًا أن نغضَّ النظر عنها باعتبارها فريدةً من نوعها وغير ذات صلة بموضوعنا؛ إذ يمكن العثور على بعض عناصرها في تعليم جميع العباقرة. ففي حين أن بعض العباقرة قد تمتعوا بأيامهم في المدرسة واستفادوا منها، لم تكن هذه هي حال غالبيتهم. (حفنة منهم لم يلتحقوا قطُّ بأي مدرسة؛ مثل موتسارت والفيلسوف جون ستيوارت ميل اللذين نالَا بدلًا من ذلك تعليمًا منزليًّا صارمًا.) فالعديد منهم لم يذهبوا إلى الجامعة أو فشلوا في بلوغ مكانة متميزة فيها، وقِلَّة قليلة منهم هم الذين قَطَعُوا شوطًا طويلًا في التعليم العالي بالحصول على درجة الدكتوراه. صحيح أن هناك بعض الطفرات الإبداعية الهامَّة انبثقت من الكليات والجامعات، لا سيما في مجال العلوم، لكن لم يكن الوضع كذلك بوجه عام. ولعل ما يشهد على ذلك الدعابة التي قالها مارك توين: «لم أسمح قطُّ لدراستي بأن تشوِّش على ثقافتي.» ومثل ذلك، إحجام المصور الفوتوغرافي هنري كارتييه-بريسون عن قبول درجة الدكتوراه الفخرية التي عُرِضت عليه بعد مضي عقود على رسوبه في امتحان التخرج من مدرسته الثانوية. علَّق على ذلك قائلًا: «برأيك، في أي تخصُّص ستكون درجتي في الدكتوراه؟ في الإصبع الصغير؟» ما يقل عن ذلك طرافةً هو ما قاله توماس يونج مثقَّفُ القرن التاسع عشر الموسوعيُّ متعدِّدُ التخصُّصات — كان فيزيائيًّا وطبيبًا وعالم مصريات من بين أشياء أخرى كثيرة — عقب دراسته في ثلاث جامعات شهيرة؛ إذ صرَّح بأن «الحصول على الدرجات العلمية المرموقة ضروري للغاية للتعويض عن نقص الشغف والتفاني، لكن مَن يبلغون ذُرَى التفوُّق هم بالضرورة مَن علَّموا أنفسَهم بأنفسهم.» وقد وافق على هذا الرأي داروين وأينشتاين وغيرهم الكثير من العباقرة.

في الفترة من عام ٢٠٠٠ إلى ٢٠٠٢ أجرى جون توسا مذيعُ هيئة الإذاعة البريطانية والمسئولُ عن قِسْمها الفنيِّ مقابلاتٍ إذاعيةً تناولَتِ النهجَ الإبداعيَّ لثلاث عشرة من الشخصيات البارزة في مجال الفنون، ثم نشر محتوى هذه اللقاءات كاملًا في وقت لاحق في مجموعته المطبوعة التي صدرت تحت عنوان «عن الإبداع». ورغم أن مَن استضافهم توسا لم يكونوا من العباقرة، فقد كان كلٌّ منهم رائدًا في مجاله، رجلًا كان أم امرأة. شملت هذه الشخصيات: المهندس المعماري نيكولاس جريمشو، والفنَّانِين فرانك أورباخ وأنتوني كارو وهوارد هودجكين وبولا ريجو، والمصورة إيف أرنولد، والمخرج ميلوش فورمان، والملحِّنِين هاريسون بيرتويسل وإليوت كارتر وجورجي ليجتي، والكاتبَيْن توني هاريسون ومورييل سبارك، والناقد الفني ومنسِّق المعارض ديفيد سيلفستر. كان ما نالته هذه الشخصياتُ من تعليمٍ رسميٍّ متباينًا إلى حدٍّ كبير، وتراوَحَ بين التعليم العادي في حالتَيْ أرنولد وسيلفستر، والحصول على الدكتوراه في الموسيقى وما تلاها من مناصب أكاديمية لاحقة في حالة كارتر. وقد توصَّلَ توسا إلى أن ما من شيء مما قالوه جميعًا في هذه اللقاءات عن مشوارهم المهنيِّ أشار إلى أن التعليم الأساسي، ناهيك عن الشهادة الجامعية، شرط ضروري كي يكون الشخص مبدعًا.

أجرى ميهاي تشيكسنتميهاي عالم النفس بجامعة شيكاجو، الذي أسلَفْنَا ذِكْرَه، مقابلاتٍ مع عيِّنة أكبر بكثير شملت ١٠٠ فرد من المبدعين الاستثنائيين. لكن خلافًا لقائمة شخصيات توسا، كانت عينة تشيكسنتميهاي تضم إلى جانب أولئك البارزين في مجال الفنون عددًا كبيرًا من العلماء الذين يعمل معظمهم في الجامعات، وبعضهم حاصل على جائزة نوبل. كان ضيوف تشيكسنتميهاي نادرًا ما يذكرون شيئًا عن أيام المدرسة باعتبارها مصدرًا للإلهام، لكنَّ بعضًا منهم تحدَّثَ عن ذكريات الأنشطة المدرسية، من ذلك على سبيل المثال الجوائز الأدبية التي نالها الكاتبُ روبرتسون ديفيس أو جائزة الرياضيات التي نالها عالِمُ الفيزياء جون باردين في إحدى المسابقات المدرسية. ورَدَ أيضًا ذِكْرُ بعض المعلمين المميَّزين المُلْهَمين، ولو أن ذلك كان يَرِد بصفة خاصة على لسان العلماء. لكن عمومًا، فُوجِئَ تشيكسنتميهاي بكَمِّ ضيوفه الذين لم تحوِ ذاكرتُهم شيئًا عن أي علاقة مميزة بأحد معلِّمِي المدرسة.

يقول تشيكسنتميهاي في بحثه الذي يحمل عنوان «الإبداع: التدفُّق وسيكولوجية الاكتشاف والاختراع»: «من المستغرب للغاية مدى ضآلة التأثير الذي مارسته المدرسة — حتى المدرسة الثانوية — على حياة الأشخاص المبدعين. حتى إن المرء كثيرًا ما يستشعر أن تأثير المدرسة — إنْ وُجِد بالأساس — كان هو التهديد بإخماد جذوة الشغف والفضول اللذين يكتشفهما الطفل خارج أسوارها.» ويضيف:

تُرَى إلى أيِّ مدى ساهَمَتِ المدارسُ في إنجازات أينشتاين أو بيكاسو أو تي إس إليوت؟ إن سِجِلَّ المدارس قاحِلٌ وفاضِحٌ للغاية في هذا الصدد، لا سيما بالنظر إلى الكَمِّ الكبير من المجهودات والموارد والآمال التي تُهدَر في نظامنا التعليمي الرسمي.

بالانتقال من مرحلة المدرسة إلى مرحلة التعليم العالي والتدريب المهني يَكْتَشِفُ المرءُ نَمَطَ تجارب ذا معالم أقل تحديدًا؛ فبعض أصحاب الإبداع الاستثنائي لا يتلقَّون أي تعليم رسمي بعد تعليم المدرسة، لكن هذا الأمر باتَ غيرَ معتاد نسبيًّا في العقود الأخيرة في ظل ما يشهده جميعُ أنحاء العالم من توسُّعٍ في التعليم العالي على نحوٍ يكاد يكون مستحيلَ التصوُّر بالنسبة للعلماء. من بين عينة توسا من مبدعي القرن العشرين (والتي لا تحوي أي عالم) ثلاثة أشخاص — هم أرنولد وسبارك وسيلفستر — لم يحصلوا على أي تعليم أكاديمي في مجالهم، بل ولم يتلقَّوا أي شكل آخَر من أشكال التعليم الرسمي. وجميع أفراد هذه العينة باستثناء ثلاثة فقط — هم كارتر وكارو وهاريسون — لم ينالوا شهادة جامعية، وكان كارتر هو الوحيد الذي مضى قُدُمًا ونال درجة الدكتوراه. ارتادَ أورباخ وجريمشو وهودجكين وريجو مدارسَ فنيَّةً، أما بيرتويسل وليجتي فقد تدرَّبَا في أكاديميتين للموسيقى، ودرس فورمان بأحد معاهد السينما.

في مجال العلوم، تُلقِي ملحمةُ الكفاحِ التي خاضها أينشتاين لنَيْل درجة الدكتوراه الضوءَ على علاقة التعليم الأكاديمي بالإبداع. في صيف عام ١٩٠٠ تخرَّج أينشتاين من المعهد السويسري الفيدرالي للتكنولوجيا، لكنه لم يُمنَح وظيفةَ باحِثٍ مساعدٍ في قسم الفيزياء بسبب سِجِلِّه الذي حفل بالغياب عن حضور المحاضرات وموقفه الانتقادي من الأساتذة، الأمر الذي أدَّى إلى تأزُّم وضعه المالي وغموض مصيره المهني. ولما لم يفلح أينشتاين طيلة عام ١٩٠١ في جذب اهتمام أساتذة في معاهد أخرى بدرجةٍ تشجِّعهم على توظيف شخص غير معروف بالنسبة لهم، رأى أنه يحتاج إلى نَيْل درجة الدكتوراه لدخول مجال العمل الأكاديمي وقدَّم أطروحةً إلى جامعة زيورخ، لكن الجامعة خيَّبَتْ أَمَلَه ورفضَتْها. بعد ذلك، في صيف عام ١٩٠٢، عثر أينشتاين أخيرًا على أول وظيفة بدوام كامل في مكتب براءات الاختراع السويسري في برن، ونحَّى جانبًا فكرةَ الحصول على درجة الدكتوراه؛ فقد ذكر لصديق مقرَّب له في مطلع عام ١٩٠٣ أنه قد تخلَّى عن الفكرة برمتها «[لأنها] لن تقدِّم لي كثيرًا، ولأنني بدأت أشعر بالملل من هذه المسرحية الهزلية برمتها.» لكن في صيف سنة ١٩٠٥، «سَنَة حظِّه»، بعد الانتهاء من نظريته عن النسبية الخاصة، أَحْيَا مجدَّدًا مخطَّطَه لِنَيْل درجة الدكتوراه لنفس السبب الذي دَفَعَه إليها مِنْ قبلُ: أنه كان يحتاج لِنَيْلِ درجة الدكتوراه كي يترك العمل في مكتب براءات الاختراع ويعمل في الجامعة.

للمرة الثانية قدَّمَ أينشتاين بَحْثَه حول النسبية الخاصة إلى جامعة زيورخ، وللمرة الثانية أيضًا رفضته الجامعة! على الأقل هذا ما حدث وفقًا لما روته أخته التي كانت مقرَّبة منه، فقد كتبت تقول إن النسبية الخاصة «بدت غريبةً بعض الشيء بالنسبة للأساتذة أصحاب قرار البَتِّ في قبول البحث.» لكن ما من دليل على صحة ذلك، ولو أن اختيار أينشتاين موضوع بحثه ورَدَّة الفعل المتشكِّكة من جانب الأساتذة كليهما يبدو جديرًا بالتصديق، بالنظر إلى أنه من الواضح بجلاء أن النسبية الخاصة كانت نقطةً بالغةَ الأهمية بدرجة تؤهِّلها لِأَنْ تُشَكِّل موضوعًا لأطروحة، إلا أن المؤسسة العلمية لم تكن قد فحصتها ونشرتها بعدُ (وكانت ستظل مثارًا للجدل بعد نشرها، وسيجري رفضها من جانب لجنة الأكاديمية السويدية لجائزة نوبل في الفيزياء لسنوات عديدة قُدُمًا). أيًّا كان السبب، وقع اختيار أينشتاين في نهاية المطاف على عَمَلٍ بَحْثِيٍّ — بحث يتناول كيفية تحديد الحجم الحقيقي للجزيئات في السوائل، ويستند بجدارة إلى بيانات تجريبية، على عكس النسبية التي تقوم على حجج نظرية بحتة — أقلَّ تحدِّيًا، وإنْ ظلَّ مهمًّا، كان قد أتمه في شهر أبريل من عام ١٩٠٥ (قبيل عمله في بحث النسبية الخاصة مباشَرَةً) وقدَّم أطروحته للجامعة مرة أخرى. بحسب ما رواه أينشتاين، وربما بشيء من الدعابة، أبلغه أساتذة زيورخ أن نصَّ الأطروحة المطبوع قصير للغاية؛ لذا فقد أضاف أينشتاين جملةً واحدةً، فحازت هذه الورقة البحثية الأكثر امتثالًا للقواعد قبولَ الأساتذة في غضون أيام، وبحلول نهاية شهر يوليو عام ١٩٠٥ تمكَّنَ أخيرًا من نيل لقب «الدكتور أينشتاين». لكن كان يَشُوب الأطروحةَ خطأٌ صغيرٌ لكنه مهمٌّ لم يُكتَشَف إلا في وقت لاحق، وقد صحَّحه أينشتاين كما ينبغي في طبعة عام ١٩٠٦، ثم زاد الأطروحة تنقيحًا عام ١٩١٠ بعد أن توفَّرَتْ بيانات تجريبية أفضل.

بطبيعة الحال، الأمر اللافت للانتباه هنا هو أن الوسط الأكاديمي يتَّسِم بميل أصيل إلى تجاهُل أو رفض كل ما هو بالغ الابتكار من أبحاثٍ لا تماثل نمط الأبحاث السائد. فمن قبيل البداهة أن أينشتاين عام ١٩٠٥ قبل أن ينال درجة الدكتوراه كان مبتكرًا ومبدِعًا بقدر ما كان كذلك بعد أن نالها، بل إن الظاهر أنه كي ينالها كان مدفوعًا إلى إبداء قدر أقل، لا أكثر، من الابتكار. فهل يعني ذلك أن كثرة التدريب والتعلُّم تكون حجر عثرة في طريق المبدع الحقيقي؟ في عام ١٩٨٤ استقصى عالم النفس دين كيث سيمونتن المستوى التعليمي لما يزيد عن ٣٠٠ شخص من المبدعين الاستثنائيين المولودين في الفترة بين عامَيْ ١٤٥٠ و١٨٥٠؛ أي أولئك الذين تلقَّوا تعليمَهم قبل إدخال النظام الجامعي الحديث، أو في فترة ما قبل أينشتاين إنْ جاز التعبير. اكتشف سيمونتن أن كبار المبدعين — بمن فيهم بيتهوفن وجاليليو وليوناردو دافنشي وموتسارت ورمبرانت فان رين — قد نالوا قدرًا من التعليم يكافئ تقريبًا نِصْفَ ما يُقدَّم من تعليم في برامج الدراسة الجامعية الحديثة. وبصفة عامة، حقَّق مَنْ نالوا قدرًا يَفُوق (أو يَقِلُّ عن) هذا التعليم القديم الطراز مستوى أدنى من الإنجاز الإبداعي.

ومع ذلك لا ينبغي أن نعلِّق قدرًا كبيرًا من الأهمية على اكتشاف سيمونتن؛ نظرًا لصعوبة تقدير المستوى التعليمي لبعض الشخصيات التاريخية بالغة الإبداع، وصعوبة المقارنة بين مستويات التعليم في مجتمعات مختلفة في فترات تاريخية مختلفة. ومع ذلك فإن ما يدعم هذا الاكتشاف هو انتظام الوتيرة التي يَفْقِد بها المبدعون اهتمامَهم بالدراسة الأكاديمية أثناء فترة تعليمهم الجامعي، ويختارون بدلًا من ذلك أن يركِّزوا على ما يخلب ألبابهم. بل إن قلةً منهم يتسربون من التعليم الجامعي كي يتَّبِعوا ميولهم — ولو أن أيًّا منهم لم يكن من علماء المستقبل — مثل مبرمج الكمبيوتر بيل جيتس الذي ترك جامعة هارفرد في سبعينيات القرن العشرين كي يؤسِّس شركة «مايكروسوفت»، والمخرج السينمائي ساتياجيت راي الذي هجر كلية الفنون في الهند في أربعينيات القرن العشرين كي يصبح فنَّانًا في مجال الإعلان.

ربما يقدِّم اكتشافُ سيمونتن أيضًا مفتاحًا للوصول إلى تفسير يجعلنا نفهم لماذا — في مرحلة التعليم العالي — لم تتمخض زيادة أعداد حَمَلَة درجة الدكتوراه في مرحلة ما بعد الحرب عن بحوث أكثر إبداعًا على نحو استثنائي، هذا إذا كان سيمونتن محقًّا في رؤيته أن التعليم الأمثل للإبداع الاستثنائي لا يستلزم نيل درجة الدكتوراه. في مجال العلوم، تمخَّض ما شهده القرن العشرون من توسُّع في التعليم العالي على مستوى حَمَلَة درجة الدكتوراه عن انتشار تخصُّصات بحثية جديدة ومجلات علمية جديدة تنشر ما تصل إليه هذه التخصُّصات. فقد كتب عالم اجتماع العلوم جيه روجرز هولينجزوورث في مجلة «نيتشر» العلمية عام ٢٠٠٨، بعد أن أمضى عقودًا عدة يبحث في مسألة الابتكار في مختلف المجتمعات: «منذ عام ١٩٤٥، ارتفع عدد الأبحاث العلمية ومجلاتها في المجتمعات الصناعية المتقدمة — في الولايات المتحدة الأمريكية تحديدًا — أضعافًا مضاعَفَة تقريبًا، في حين شهدت نسبة القوى العاملة في مجال البحث والتطوير والنسبة المئوية المخصَّصة لذلك من الناتج القومي الإجمالي نموًّا أكثر تواضُعًا، ومع ذلك ظلَّ معدل ظهور الأعمال الإبداعية الحقيقية ثابتًا نسبيًّا. فبالمقارنة بكَمِّ الجهود البحثية المبذولة لتحقيق إنجازات علمية كبيرة، كانت المردودات متناقصة.»

لكن يوجد تفسير أكثر أرجحية لهذا الوضع، وهو أن العلماء والفنانين المبدعين إبداعًا استثنائيًّا في المجتمع المعاصر يختلفون من حيث فترة التعليم التي يحتاجونها، وهذا ناتج عن اختلاف طبيعة المؤسسة العلمية بالمقارنة بطبيعتها في أواخر القرن التاسع عشر وما قبله. فالفنانون المبدعون الاستثنائيون ليسوا بحاجة إلى الحصول على الدكتوراه الآن بقدر يفوق حاجتهم إليها في الأزمان السابقة، لكن هذا لا ينطبق على نظرائهم في المجال العلمي، الذين يجب أن يسبروا قدرًا أكبر من العمق المعرفي والتقني قبل أن يتمكَّنوا من التفوُّق في مجال تخصُّصهم وتقديم اكتشاف جديد.

العلماء في حاجة أيضًا لأن يكونوا طلَّابًا أفضل بكثير من الفنانين، وذلك من حيث أداؤهم في الدراسة وفي امتحانات الجامعة. ويشير سيمونتن إلى أن «الظاهر أن الاختلاف في الأداء الأكاديمي بين العلماء والفنانين يعكس الدرجة النسبية من التقيُّد الذي يجب أن يُفرَض على العملية الإبداعية في العلوم في مقابل الفنون.» أما إذا كانت هذه الحقيقة تَمِيل إلى الضغط الشديد على النظام بحيث يَطْرُد مَن يمكن أن يصبحوا مثل داروين وأينشتاين ويساند العلماء الأكاديميين المنتجين وحَسْب، فهذه مسألة لا ينتهي النقاش بشأنها، ولم يقدِّم لها أحدٌ حتى الآن إجابةً مُرْضِيَةً. لكن الأمر المتعارف عليه بوجه عام هو أن النمو الهائل في التعليم العالي من حيث الحجم والتنافسية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وما بعده لم يُسفِر عن زيادة عدد العلماء المبدعين إبداعًا استثنائيًّا.

إنَّ فكَّ طلاسم الكتابة الخطية «ب» المينوية على يد مايكل فنتريس عام ١٩٥٢ — وهو إنجاز ضخم في الفن والعلم على حدٍّ سواء أُطلِق عليه «إيفرست علم الآثار اليونانية» — مثالٌ يوضِّح جيدًا قدرًا كبيرًا مما ناقشناه للتو؛ فمثلما حدث في حالة نظريات رامانوجن الرياضية، كان اكتشافُ فنتريس المفاجئ بأن اللغة المكتوبة بالطريقة الخطية «ب» هي اللغة «الميسينية اليونانية» أمرًا يتطلب كلًّا من التعليم الذاتي والإبداع الاستثنائي، لكن ليس شهادة بكالوريوس أو درجة دكتوراه.

fig6
شكل ٣-٢: مايكل فنتريس عام ١٩٥٢، مهندس معماري محترف عمل خلال وقت فراغه على فك رموز الكتابة المينوية الخطية «ب»، وهي أقدم كتابة في أوروبا من الممكن قراءتها.2

ورغم أن التحدي المتمثل في قراءة الكتابة المينوية القديمة التي كشفت عنها تنقيبات آرثر إيفانز في مدينة كنوسوس عام ١٩٠٠ كان قد جذب اهتمام عشرات العلماء خلال النصف الأول من القرن العشرين، كانت الشخصيات الرئيسية الخمسة في إنجاز فك رموز هذه الكتابة هي: إيميت بينيت الابن، وأليس كوبر، وجون مايرز، وجون تشادويك، وفنتريس. كان بينيت اختصاصيًّا بالكتابات الأثرية وذا خبرة في الكتابة المشفرة والتي اكتسبها من زمن الحرب، وكان قد كتب أطروحة دكتوراه عن الكتابة الخطية «ب» تحت إشراف عالم الآثار في جامعة سينسيناتي كارل بليجن في أواخر أربعينيات القرن العشرين، ثم انتقل بعد ذلك بوقت قصير إلى جامعة ييل. وكانت كوبر اختصاصية في الدراسات الكلاسيكية، وحاصلة على درجة الدكتوراه في الأدب اليوناني من جامعة كولومبيا، وكانت قد اكتسبت اهتمامًا شديدًا بالكتابة الخطية «ب» في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين. أما مايرز المسن فكان أستاذًا في التاريخ القديم بجامعة أكسفورد حتى عام ١٩٣٩، وكان يُعَدُّ مرجعًا مهمًّا في الحضارة الإغريقية؛ يُضاف إلى ذلك أنه صار القيِّم على حراسة ألواح الكتابة الخطية «ب» والمسئول عن تحريرها عقب وفاة صديقه إيفانز عام ١٩٤١. وتشادويك كان قد حصل على شهادة جامعية في الدراسات الكلاسيكية من جامعة كامبريدج، لكنه لم يَنَلْ درجة الدكتوراه، وبعد أن عمل في التشفير خلال زمن الحرب، ثم عمل في جامعة أكسفورد ضمن فريق العاملين بإعداد قاموس أكسفورد للُّغة اللاتينية، صار محاضِرًا في الدراسات الكلاسيكية بجامعة كامبريدج عام ١٩٥٢، وهو العام الذي بدأ خلاله يتعاون مع فنتريس الذي — على عكس زملائه الأربعة الآخرين — لم يدرس قطُّ بأي جامعة، ولم يتلقَّ أي تدريب متخصص في مجال الدراسات الكلاسيكية، والذي كانت معرفته به مقتصرة على ما حصل عليه من معلومات من خلال المدرسة، حيث بدأ شغفه بفك رموز الكتابة الخطية «ب» في سن الرابعة عشرة. لكن فنتريس خاض تدريبًا في كلية الهندسة المعمارية في لندن خلال أربعينيات القرن العشرين — توقف بسبب التحاقه بالخدمة العسكرية — قبل أن يبدأ ممارسته المهنية في مجال العمارة.

كان بينيت وكوبر ومايرز وتشادويك جميعهم أكبر سنًّا من فنتريس؛ مما يجعلهم أفضل منه تدريبًا في مجال الدراسات الكلاسيكية، وأفضل منه حظًّا من حيث الفرصة السانحة لهم للتركيز على مشكلة حل رموز الكتابة الخطية «ب». لكنهم جميعًا فشلوا فيما نجح هو فيه، الأمر الذي يدفع المرء لأن يتساءل عن سبب ذلك.

توجد لذلك أسباب كثيرة (أطرحها للنقاش في كتابي عن فنتريس بعنوان «الرجل الذي فَكَّ رموز الكتابة الخطية «ب»»)، لكن أهمها الأسباب التالية؛ أولًا: أن فنتريس كان ذا معرفة بثلاثة مجالات مختلفةٍ اختلافًا كبيرًا؛ هي: الدراسات الكلاسيكية، واللغات الحديثة، والهندسة المعمارية. ثانيًا: أنه لكونه مهندسًا معماريًّا لم يكن لديه نفس الرصيد الموجود لدى العلماء المهنيين من التفكير التقليدي بشأن الكتابة الخطية «ب». فالعالم مايرز على سبيل المثال أُعِيق بسبب النظريات غير الدقيقة التي طرحها إيفانز صاحب النفوذ البالغ في هذا الشأن. وكوبر — مع منطقيتها الثاقبة — كانت بطبعها كارهةً للتخمينات الجريئة. فقد كتبت عام ١٩٤٨ عن الكتابة الخطية «ب» تقول: «عندما تتوفر لدينا الحقائق، تكون الاستنتاجات المؤكدة حتمية تقريبًا. ومن دون توفُّر الحقائق، لا سبيل للاستنتاج.» وبينيت، رغم ذكائه المُتَّقِد، عانى أيضًا على نحو كبير من القيود العلمية؛ مما جعل ترحيبه المعلَن بفك رموز الكتابة الخطية «ب» يتخذ شكل «مجموعة دقيقة من العبارات المتحفظة الفضفاضة التي لا تقيِّده بموقف معين.» (هذا ما اعترف به سرًّا إلى فنتريس). على نحو ما، لقد نجح فنتريس لأنه لم يكن يحمل شهادةً أو درجة دكتوراه في الدراسات الكلاسيكية. كان يمتلك ما يكفي من العلم في هذا الشأن، لكن ليس بالقدر الزائد عن الحد الذي يخنق فضوله وابتكاره. وكما يقول مُعاوِنُه تشادويك بشيء من اللطف في كتابه «فك رموز الكتابة الخطية «ب»»:

إنَّ عَيْنَ المهندسِ المعماريِّ لا ترى في المبنى الواجهةَ فحسب، وإنما خليطًا من الملامح الزخرفية والهيكلية؛ فهي ترى ما خلف المظهر وتميِّز الأجزاء المهمة من المبنى. وكذلك كان فنتريس قادرًا على أن يميِّز وسط التنوُّع المحير من العلامات الغامضة أنماطًا ونُسُقًا كَشَفَتْ عن البنية التحتية الأساسية للنص. إن هذه الموهبة تحديدًا، أعني القدرة على رؤية النظام في الفوضى الظاهرية، هي التي ميَّزَتْ عَمَلَ جميع الرجال العظماء.

يُضاف إلى ذلك، أن موقف فنتريس من أيام الدراسة يطابق موقف العباقرة بشكل عام. كان مستواه أعلى من المتوسط، لكنه ليس ممتازًا، بل إنه ترك المدرسة قبل أن يُنهِي دراسته، ولم يَسْتَمِدَّ من الدراسة إلا القليل من الإلهام، رغم أن له ذكريات طيبة بحق مع معلم واحد هو ذلك الذي علَّمَه الأدب الكلاسيكي، وعرَّفه بالصدفة على الكتابة الخطية «ب» في رحلة مدرسية إلى أحد مَعارِض لندن عن العالم المينوي. ولم يكن يهوى الأنشطة الجماعية، كالفِرَق الرياضية، مفضِّلًا أن يظلَّ بعيدًا ومنعزلًا عن الآخرين.

هل بإمكان التعليم الرسمي أن يغرس هذا النوع من الإبداع الاستثنائي؟ ما من شاهد يُعَدُّ دليلًا على ذلك من بين عباقرة الماضي. بعد أن تقاعَدَ العالم النفسي هانس آيزينك أطلَقَ رصاصة الوداع على النظام الأكاديمي في بحثه «العبقرية: التاريخ الطبيعي للإبداع»، حيث قال:

إن أفضل خدمة يمكن أن نسديها للإبداع هو أن ندعه يزهر دون عرقلة، ونزيل كل العوائق التي يمكن أن تعترض سبيله، وأن نرعاه أينما وحيثما وجدناه. نحن على الأرجح لا يمكننا ترويضه، لكننا نستطيع أن نَحُول دون تعرُّضه للخنق بفعل القواعد والأنظمة، وأصحاب القدرة المتوسطة الحاسدين.

مع الأسف، عدد قليل جدًّا من المؤسسات التعليمية أو الحكومات الوطنية، رغم كل جهودها ونداءاتها لتشجيع التميُّز والابتكار، تنجح في أن تعي هذا الدرس وتضعه موضع التنفيذ في المدارس والجامعات.

هوامش

(1) © The Granger Collection/TopFoto.
(2) © 2001 TopFoto.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤