الفصل الرابع

الذكاء والإبداع

إن السبب الأساسي وراء ميل الإبداع الاستثنائي والعبقرية إلى الهروب من التعليم المؤسسي هو أنهما ينشآن من عناصر عديدة كالحافز الداخلي والشخصية، في حين تصبُّ المدارس والكليات والجامعات تركيزها الرئيسي على عنصر واحد فقط هو الذكاء. وأيًّا ما كانت مكونات الذكاء — التي لم تتوافق الآراء بشأنها حتى الآن بعد مضي قرن على ظهور اختبارات الذكاء — فيبدو أنها ليست مطابِقةً لمكونات الإبداع. لا شك أن المهارات الفكرية (اللفظية، والرياضية، والمنطقية) والإبداع الفني لا يلغي أحدهما الآخَر، إلا أنهما لا يصاحب أحدهما الآخَر بالضرورة؛ فقد أشار العالم النفسي روبرت ستيرنبرج في كتابه «دليل الإبداع»، إلى أن باحثين مختلفين اعتمدوا على الشواهد المتوفرة وجادلوا بوجود خمس علاقات محتملة بين الذكاء والإبداع، هذه العلاقات هي: الإبداع باعتباره جزءًا من الذكاء، والذكاء باعتباره جزءًا من الإبداع، والإبداع والذكاء باعتبارهما شيئين متداخلين، والإبداع والذكاء باعتبارهما شيئين متطابقين (أي إنهما في الأساس الشيءُ نفسه)، والإبداع والذكاء باعتبارهما شيئين منفصلين (أي إنهما لا علاقة لأحدهما بالآخَر).

سيكون من المثير للاهتمام أن نعرف نِسَب ذكاء عينة كبيرة من عباقرة الماضي والحاضر في الزمن الذي لم يكونوا قد اشتهروا فيه بعدُ، خلال سنوات مراهقتهم. فهل ستكون نسبة ذكاء التلميذة البارعة كوري أعلى بكثير من نسبة ذكاء التلميذ البليد داروين؟ وهل ستكون لأينشتاين المفكِّرِ نِسْبَةُ ذكاءٍ تَفُوق نِسْبَةَ ذكاءِ كوري أم تَقِلُّ عنها؟ وهل ستكون نسبةُ ذكاءِ دا فينشي — الذي لم يرتَدْ مدرسةً لكنه موسوعيُّ المعرفة — مرتفعةً أم منخفضةً؟ وماذا عن موتسارت الذي كان عظيمًا لكنَّه محدود التركيز؟ وفيرجينيا وولف بالغة الفصاحة لكن المتحررة كليًّا من النهج العلمي؟ بطبيعة الحال، ما من معلومات عن نِسَب ذكاء هؤلاء الأشخاص؛ وذلك لأنَّ تطبيق اختبارات تحديد نِسَب الذكاء لم يبدأ إلا في العقد الأول من القرن العشرين، لكن هذا لم يمنع بعضَ علماء النفس من اقتراح تقديرات لنِسَب ذكاء هؤلاء العباقرة.

في عام ١٩١٧ حاول لويس تيرمان، بإلهام من كتاب «العبقرية المتوارثة» لفرانسيس جالتون، حسابَ نسبةِ ذكاءِ جالتون نفسِهِ. وكان المجلد الأول من بين أربعة مجلدات عن سيرة حياة جالتون من تأليف كارل بيرسون قد ظهر عام ١٩١٤ عقب وقت قصير من وفاة جالتون عن عمر يناهز التاسعة والثمانين في عام ١٩١١، الأمر الذي قدَّمَ لتيرمان معلومات وافرة حول طفولة جالتون وشبابه وحتى زواجه عام ١٨٥٣.

ما أثار ذهولَ تيرمان على وجه التحديد رسالةٌ كتبها فرانسيس وهو طفل في ١٥ فبراير عام ١٨٢٧ قبل يوم من عيد ميلاده الخامس. كانت الرسالة موجَّهَةً إلى شقيقته أديل التي كانت تبلغ في ذلك الوقت نحو ١٧ عامًا، والتي كانت معلمته المتفانية منذ طفولته المبكرة، كتب فيها:

عزيزتي أديل:

عُمُري أربعة أعوام وأستطيع أن أقرأ أي كتاب مكتوب باللغة الإنجليزية، وأستطيع أن أذكر جميع صيغ الصفة والموصوف والأفعال في اللغة اللاتينية، إلى جانب ٥٢ بيتًا من الشعر اللاتيني. وأستطيع أنْ أُوجِد حاصلَ جَمْعِ أيِّ رقمَيْن، وأن أُوجِدَ حاصلَ ضَرْبِ أيِّ عددٍ في ٢ أو ٣ أو ٤ أو ٥ أو ٦ أو ٧ أو ٨ أو [٩] أو ١٠ أو [١١].
وأستطيع أيضًا أن أسرد جدول تحويل البنسات إلى شلنات وجنيهات، وأقرأ الفرنسية قليلًا وأعرف الساعة.
فرانسيس جالتون
١٥ فبراير ١٨٢٧

كتب تيرمان يقول إن «الخطأ الإملائيَّ الوحيدَ في هذه الرسالة في التاريخ … والرقمين ٩ و١١ موضوعان بين أقواس؛ لأن من الواضح أن فرانسيس الصغير شعر بأنه أسرف في الادِّعاء، فشطَبَ أحد هذين الرقمين بسكِّين ولصق على الآخَر ورقةً!»

ثمة معلومات أخرى متصلة بموضوعنا من كتاب بيرسون تضمَّنَتْ ما يلي: أن فرانسيس استطاع التعرُّف على الحروف الاستهلالية في عمر اثني عشر شهرًا، وعلى الحروف الأبجدية كلها بعدها بستة أشهر، وبات يستطيع قراءة كتاب صغير — «أنسجة العناكب لاصطياد الذباب» — في عمر السنتين والنصف، ويستطيع التوقيع باسمه قبل أن يبلغ الثالثة. وأفادت والدته بأنه كان في سن الرابعة يستطيع أن يكتب رسالة بسيطة (أعاد بيرسون نسخها) إلى عمه تخلو من أي أخطاء في الكتابة والهجاء، ودون مساعدة. ثم ظهر أن قراءته ليست مجرد قراءة ميكانيكية عندما كان في الخامسة؛ فقد طلب منه صديق من المدرسة المشورةَ بشأن ما ينبغي أن يكتبه في رسالة لأمه عن والده الذي كان على ما يبدو معرَّضًا للقتل رَمْيًا بالرصاص بسبب بعض الشئون السياسية، فما كان من فرانسيس إلا أن اقتبس على الفور البيتين التاليين من شعر السير والتر سكوت: «وإذا عشتُ حتى أصير رجلًا، فَلَسَوْفَ أثأر لمقتل أبي.» في سن السادسة، كان فرانسيس على دراية تامة بملحمتَي «الإلياذة» و«الأوديسة» للشاعر هوميروس، وكان يقرأ أعمال شكسبير رغبةً في الاستمتاع، وكان قادرًا على ترديد صفحةٍ عن ظهر قلب بعد قراءتها مرتين. وفي سن السابعة، كان يجمع الحشرات والقواقع والمعادن ثم يصنِّفها ويدرسها على نحو يتجاوز الدراسة الصبيانية، الأمر الذي يشكِّل أمارةً قويةً على نضج اهتماماته. في وقت لاحق، حينما بلغ الثالثة عشرة من عمره، رسم سلسلةً من الرسومات لآلة طائرة تحمل ركَّابًا ومزوَّدةٍ بأجنحة خفَّاقة ضخمة يدعمها نوع من المحركات البخارية، أُطْلِقَ على هذه الطائرة «مشروع فرانسيس جالتون للرفع الهوائي الاستاتيكي».

إن القراءة في سن الثالثة — مقارنةً بأن العمر الطبيعي للقراءة هو ست سنوات — تعادِل ذكاءً نسبته تساوي ستة مقسومة على ثلاثة، ثم نضرب ناتج القسمة في ١٠٠ (نسبة الذكاء المتوسطة أو الأساسية، حسب التعريف)، فيكون الرقم الناتج هو ٢٠٠. والسن الطبيعية التي يُمارَس فيها التصنيف والتحليل لمجموعةٍ ما هي الثانية عشرة أو الثالثة عشرة؛ مما يشير إلى أن نسبة الذكاء تعادل نحو ١٨٠، حيث إن جالتون كان يصنِّف الحشرات والمعادن ويحلِّلها في عمر السابعة. بعد مقارنة كل سلوكيات جالتون المبكرة بالأعمار العقلية العادية لمثل هذه السلوكيات، خلص تيرمان إلى أنه يستطيع أن يقدِّر «بدرجة كبيرة من اليقين» الحد الأدنى لنسبة ذكاء جالتون التي من شأنها أن تبرِّر الوقائع الواردة في سيرة حياته التي كتبها بيرسون؛ إذ يقول: «كان هذا دون شك في حدود نسبة ذكاء قدرها ٢٠٠، وهذا رقم لا يحقِّقه أكثر من طفل واحد من بين كل ٥٠ ألف طفل بشكل عام.»

في وقت لاحق، حينما كان تيرمان مشرفًا على طالبة الدكتوراه كاترين كوكس، وسَّعَ نطاقَ هذه الدراسة المبدئية عن العبقرية التاريخية، بالتزامن مع بحثه الشهير طويل الأمد عن الأطفال الموهوبين، والذي بدأه في جامعة ستانفورد عام ١٩٢١. وفي عام ١٩٢٦ نشرت كوكس كتابًا من ٨٥٠ صفحة تحت عنوان «السمات العقلية المبكرة لثلاثمائة عبقري». لم يكن الكتاب يغطِّي فقط العباقرةَ في مجالَي العلوم والفنون، بل شمل أيضًا كثيرًا من مناحي الحياة الأخرى — كالفلسفة وتدبير شئون الدولة والقيادة العسكرية — التي تتسم بوجود عنصر فكري ملحوظ.

في تسعينيات القرن العشرين وصف علماءُ النفس دينُ كيث سيمونتن وكاثلين تيلور وفنسنت كاساندرو دراسةَ كوكس بأنها «أحد أبحاث القياس التاريخي الممتازة.» وأشاد هانس آيزينك أيضًا بهذه الدراسة باعتبارها «الدراسة الوحيدة اللائقة في هذا المجال.» وقال إنها «عمل رائع تردَّدَ ذِكْرُه على نحوٍ ربما يَفُوق تردُّدَ ذِكْرِ أيِّ كتاب آخَرَ عن العبقرية.» لكن البعض الآخَر من خارج مجال علم النفس كان حادًّا في نقده، مثلما فعل ستيفن جاي جولد في بحثه عن اختبار الذكاء «سوء قياس الإنسان»، فقد وَصَف كتابَ كوكس بأنه «كتاب غريب سطحي ضمن مؤلَّفات تَشُوبُها بالفعل اللامعقولية.»

واجهت كوكس وزملاؤها عقبات أكثر من تلك التي واجهتها الدراسة الوحيدة التي أعدَّها تيرمان عن جالتون. فعدد قليل فقط من الأفراد الذين وقع عليهم اختيارها هم مَن كانت حياتهم موثَّقَة توثيقًا كاملًا كحياة جالتون؛ فكان ما اكتشفته عن حياة شكسبير قليلًا للغاية بدرجة استوجبت استبعاده من الدراسة. جرى أيضًا استبعاد مقصود للأفراد الموجودين على قيد الحياة؛ لذلك لم يكن في هذه الدراسة وجود لكوري أو أينشتاين، ولا لجورج برنارد شو أو وليم بتلر ييتس مثلًا، يُضاف إلى ذلك أن كوكس اختارت أن تستبعد مَن وُلِدوا قبل عام ١٤٥٠، علاوةً على جميع الأرستقراطيين وأي شخص آخَر لم تكن نسبة إنجازاته إليه بمنأى عن التشكيك. كل هذا كان مفهومًا، لكنَّ بعضًا من الاستبعادات الأخرى كان من الصعب تبريره، منها على سبيل المثال من فئة العلماء: جان فرانسوا شامبليون، وكارل جاوس، وروبرت هوك، وأوجست كيكولي، وتشارلز لايل، وجيمس كلارك ماكسويل، وديمتري مندليف، ولوي باستير، وكريستوفر رين. ومن فئة الفنانين: جيان لورنزو برنيني، ويوهانس برامس، وبول سيزان، وأنطون تشيكوف، وفرانسيسكو جويا، وفرانتس شوبرت، وبيرسي بيش شيلي، وليو تولستوي، وأوسكار وايلد.

يمكن تقسيم الثلاثمائة عبقري تقريبًا الباقين إلى الفئات التالية: ٣٩ من العلماء (منهم نيوتن)، و١٣ من الفنانين التشكيليين (منهم ليوناردو)، و١١ من مؤلِّفِي الموسيقى (منهم موتسارت)، و٢٢ من الفلاسفة (منهم إيمانويل كانط)، و٩٥ من الأدباء (منهم بايرون)، و٢٧ من العسكريين (منهم أوليفر كرومويل)، و٤٣ من رجال الدولة (منهم أبراهام لنكولن)، و٩ من الزعماء الثوريين (منهم روبسبير)، و٢٣ من الزعماء الدينيين (منهم مارتن لوثر).

بعد أن نقَّبَتْ كوكس في السِّيَر الذاتية وغيرها من المصادر الوثائقية لاستخراج المعلومات، انتهى بها المطاف وبحوزتها ملفات وصل عدد صفحاتها إلى ٦٠٠٠ صفحة من المادة المطبوعة، وهذه هي المادة التي استخدمتها مع مساعديها لتقييم كلٍّ من الذكاء والخصائص الشخصية، ولإجراء مقارنات بين الفئات المختلفة. كان يجري حساب تقديرين اثنين لذكاء الفرد الواحد: نسبة ذكاء أ١ للفترة العمرية من الميلاد حتى السابعة عشرة، ونسبة ذكاء أ٢ للفترة العمرية من السابعة عشرة حتى السادسة والعشرين. كانت نسبة الذكاء أ١ تعتمد على تفوُّق الفرد قيد الدراسة في المهام العامة كالتحدث والقراءة والكتابة، وفي الأداء المدرسي، علاوةً على الشواهد التي تشير إلى إنجازات مميزة إبَّان الطفولة على غرار الإنجازات التي وَرَدَتْ في السيرة التي كتبها بيرسون عن جالتون. أما نسبة الذكاء أ٢ فكانت تعتمد أساسًا على السجل الأكاديمي للفرد وسيرته المهنية المبكرة، وكانت نوعية الشخصية تُحدَّد أساسًا من خلال تصنيف كل فرد من حيث ٦٧ سمة، وباستخدام مقياس من سبع نقاط.

قام فريق من خمسة زملاء، منهم تيرمان، بمهمة تقدير نِسَب الذكاء بأنْ جَعَلَ كلٌّ منهم بمفرده يقرأ الملفات ويمنح نقاطًا لكل فرد. لكن حينما قارنَتْ كوكس بين مجموعاتهم الخمس من النقاط، وجدت أن ثلاثة فقط من المقيِّمين الخمسة اتفقوا في تقييمهم بدرجة كبيرة، وأن الاثنين الآخَرين منَحَا نقاطًا لنِسَب الذكاء إما أعلى بكثير من النقاط التي منحها زملاؤهما الثلاثة الآخَرون، أو أقل منها بكثير. وانطلاقًا من أن هذه التقييمات المرتفعة والمنخفضة جدًّا كان من شأنها أن تلغي إحداها الأخرى، اتخذَتْ كوكس قرارًا مثيرًا للجدل بأن تستبعدها تمامًا وأن تعتمد كليًّا على ثلاثة تقييمات بدلًا من خمسة. وبحسب ما توصَّلَتْ إليه أخيرًا من متوسطات لنِسَب ذكاء كل فئة، حصل الجنود على أقل نسبة ذكاء (أ١ = ١١٥ وأ٢ = ١٢٥)، وحصل الفلاسفة على أعلى نسبة ذكاء (١٤٧ / ١٥٦). وجاءت تقديرات الفنانين التشكيليين والعلماء في مستوًى متوسط بينهما على النحو التالي: الفنانون التشكيليون (١٢٢ / ١٣٥) أي في مستوًى أدنى من مستوى العلماء (١٣٥ / ١٥٢). من هذا المنطلق، يمكن اعتبار الجميع باستثناء الجنود أفرادًا «موهوبين» (كلُّ مَن كان تقدير أ٢ لذكائه ١٣٠ أو يزيد). كان تقييم ذكاء داروين ١٣٥ / ١٤٠، وليوناردو ١٣٥ / ١٥٠، ومايكل أنجلو ١٤٥ / ١٦٠، وموتسارت ١٥٠ / ١٥٥، ونيوتن ١٣٠ / ١٧٠. أما أعلى التقييمات فكانت من نصيب جون ستيوارت ميل ١٩٠ / ١٧٠.

لكن حتى أكثر النقَّاد المعاصرين تعاطُفًا مع هذه الدراسة يشدِّدون على أنه من غير المستحسن تعليق أهمية كبرى على نِسَب ذكاء الأفراد ومتوسطات الفئات. كتب آيزينك يقول: «ليس هناك شك في أن دراسة كوكس أُجرِيت بعناية وضمير، وأنها غاية في الأهمية بالنسبة لكل دارس لهذا الموضوع، لكن من الضروري مقاومة الإغراء المتمثل في أخذ الأرقام الموجودة بها على محمل الجد على نحو كبير.» ويعقب في حيادية: «كلما زاد توفُّر البيانات، ارتفع تقدير نسبة الذكاء.» وهذا هو السبب في أن نسبة الذكاء أ٢ لكل فئة، ولمعظم الأفراد، أعلى من نسبة الذكاء أ١؛ إذ كان أعلى بأربعين نقطةً كاملةً في حالة نيوتن الذي يكتنف الغموضُ طفولتَه. فمن الحتمي أن تكون المعلومات المتاحة عن المراحل العمرية المتأخرة من حياة أي عبقري أكثر من تلك المتاحة عن مراحله العمرية المبكرة.

مُنِح فاراداي أيضًا نسبة ذكاء أ١ قدرها ١٠٥ (متوسط تقييمين قدرهما ١١٠ و١٠٠)، استنادًا إلى إفادات ضئيلة بشأن «أمانته» حينما كان يعمل ساعيًا، وتمتعه ﺑ «فضول كبير» في صغره، بالمقارنة بالخلفية المجهولة لوالديه المتواضعين ومحدودية ما ناله من التعليم الرسمي. لكن هذا التصنيف المنخفض لسنوات فاراداي المبكرة يقفز إلى نسبة أ٢ قدرها ١٥٠ بالنسبة لفترة مقتبل شبابه، وهذا ببساطة لأن هناك معلومات أكثر بكثير عنه توفَّرَتْ بعد أن جرى توظيفه وهو في الحادية والعشرين من عمره في المؤسسة الملكية من قِبَل همفري ديفي. وقد أقرت كوكس صراحةً بنقص المعلومات المتوفرة عن فاراداي وعن كثيرين غيره — مثل جنرال من أعظم قوَّاد نابليون بونابرت، هو جان أندريه ماسينا (ذو نسبة أ١ ١٠٠ فقط، مقابل ١٣٥ لنابليون نفسه) — لكن هذا الاعتراف لا يقدِّم شيئًا يزيد من الثقة في صحة تقييمات الذكاء التي قدَّمَتْها ككل. وربما على المرء أن يفترض أنها استبعدت شكسبير أساسًا؛ لأن النهج الذي كانت تتبعه كان ليجبرها على أن تمنح هذا الشاعر الفحل نسبة ذكاء أقل من المتوسط (تقل عن ١٠٠).

في الواقع، ما مِنْ ردٍّ على هذا الانتقاد الجوهري لنهج كوكس، حتى هي نفسها كانت على علم به؛ إذ قالت: «يبدو أنَّ كُلَّ نِسَب الذكاء منخفضة للغاية على الأرجح … وأنَّ نِسْبة الذكاء «الصحيحة» للفئة … أعلى بدرجة ملحوظة من النِّسَب التي أنتجتها هذه الدراسة؛ نظرًا لأن النِّسَب المقدَّرة معتمدة على بيانات غير موثوقة بدرجة تعمل باستمرار على تخفيض نسبة الذكاء المقدَّرة عن قيمتها الحقيقية.» وقد حاولت كوكس «تصحيح» الدرجات التي حصلت عليها من زملائها الثلاثة في العمل بأن عدَّلَتْها صعودًا كي تعوِّض من نقص المعلومات المتوفرة عن بعض الأفراد قيد الدراسة. قدَّم التصحيح الذي أجرته دفعة لمتوسط نسبة الذكاء أ١ لجميع الفئات من ١٣٥ إلى ١٥٢، ولذلك الخاص بنسبة الذكاء أ٢ من ١٤٥ إلى ١٦٦، لكنها لم تقدِّم مبررات مقنِعة لهذه الزيادة في النِّسَب التي تبدو أشبه بنتائج «عامل التصحيح»، وهذه استراتيجية يائسة نوعًا ما لربط ارتفاع نسبة الذكاء بالإبداع الاستثنائي، خلافًا للبرهان العلمي.

والحقيقة هي أنَّ المعلوماتِ المتوفرةَ غيرُ كافية لتقدير نِسَب ذكاء عباقرة التاريخ، وأنها بالتأكيد ليست دقيقة بما يكفي لِأَنْ تقول مجلةُ «أمريكان جورنال أوف سايكولوجي» عام ١٩٨٦ عن دراسة كوكس: «إن النتيجة النهائية كانت دليلًا واضحًا على أنه أيًّا كانت العوامل الأخرى التي ربما قد دخلت في تحقيق التفوُّق، كان ارتفاع نسبة الذكاء سمةً مؤكدةً في أولئك الذين برزوا في مجالات تدبير شئون الدولة والأدب والفلسفة والفنون الجميلة والعلوم، ولكن ليس في المجال العسكري.» وإذا افترضنا، جدلًا، أن نسبة الذكاء «المرتفعة» هي تلك التي تزيد على ١٣٥ (هذه هي عتبة البداية التي اختارها تيرمان)، فإن دراسة كوكس تُظهِر أن كل عباقرتها الذين انخفضت نسبتهم عن هذا الرقم حتى سن ١٧ قد زادوا عنه فيما بعدُ؛ لأن متوسطها (غير المصحح) لنسبة أ١ كان ١٣٥. وحتى هذا الاستنتاج يفترض أن تقييماتها لِنِسَبِ الذكاءِ موثوقة، وأنها أحسنت اختيار الأفراد محل الدراسة، لكن أيًّا من هذين الافتراضين ليس له ما يبرره حقًّا.

وإذا أردنا تحرِّي المزيد من الدقة ينبغي القول إن النتيجة النهائية لما جمعَتْه كوكس من بيانات مَهُولة ولتحليل هذه البيانات هو أننا نعرف أن كل العباقرة تقريبًا، عدا عباقرة المجال العسكري، تَفُوق نِسْبَةُ ذكائهم المتوسطَةَ (وهو ١٠٠) بكثير، لكن زيادة نسبة ذكاء الفرد عن النسبة المتوسطة بكثير لا تشكِّل دليلًا دامغًا على العبقرية. ورغم أن هذه النتيجة ليست مفاجئة للغاية، فإنها تكذِّب بالفعل أكْثَرَ التكهُّنات شيوعًا حول العباقرة، وهو أنهم: في منتهى الذكاء بالضرورة. فرغم كل شيء، يُعَدُّ الفيزيائي الأمريكي ريتشارد فاينمان نموذجًا من نماذج عباقرة المجال العلمي في أواخر القرن العشرين، ليس فقط في الولايات المتحدة بل في أي مكان تُدرَّس فيه الفيزياء حول العالم. ومع ذلك، بلغ قياس المدرسة لنسبة ذكائه حسبما أفاد هو بنفسه ١٢٥ نقطة، أي لم تكن مرتفعة بدرجة مميزة (أقل بعشر نقاط من ١٣٥، وهو متوسط أ١ الذي وضعته كوكس). على النقيض من ذلك، مَنَحَ تيرمان عالِمَه النفسيَّ المفضَّلَ جالتون نسبةَ ذكاءٍ مذهلة بحق (٢٠٠). لكن جالتون لم يُصنَّف عبقريًّا في رأي كوكس أو تيرمان، أو أيٍّ من مُعَاصِرِي جالتون في العصر الفيكتوري، أو نيكولاس جيلهام أَحْدَثِ كاتبٍ لسِيرَة حياتِه.

fig7
شكل ٤-١: ريتشارد فاينمان يُلقِي محاضرةً عام ١٩٦٥. رغم الاعتراف العالمي بعبقريته في الفيزياء، كانَتْ نِسْبةُ ذكائه عاديةً.1

إذا كان الحصول على درجة مرتفعة في اختبار الذكاء مؤشِّرًا ضعيفًا على العبقرية، فإن الحصول على درجة مرتفعة في اختبار الإبداع يكون مؤشِّرًا أقلَّ موثوقية للتنبؤ بالإبداع الاستثنائي. فاختبارات الإبداع من النوعية التي وضعها علماء النفس منذ خمسينيات القرن العشرين، في الولايات المتحدة بصورة أساسية، تهدف لاختبار التفكير المتباعد أو الجانبي، في مقابل التفكير المتقارب أو المنطقي الذي تهتم به اختباراتُ الذَّكاء. في اختبار التفكير المتباعد يوجد دومًا العديد من الإجابات «الصحيحة» للبند الواحد، وليس إجابة صحيحة وحيدة يجري استخلاصها بالأساليب المنطقية المتوقَّعَة عادةً في اختبار التفكير المتقارب. فبدلًا من طرح مسألة وسؤال الممتحَن أن يستنتج إجابة واحدة، عن طريق اختيار الكلمة الصحيحة أو الرقم الصحيح أو الرسم الصحيح من بين مجموعة من خيارات الحل، يتطلب الاختبار النموذجي للتفكير المتباعد أن يَذْكُر الممتحَنُ مثلًا أكْبَرَ عددٍ ممكنٍ من استخدامات مشبك الورق، أو اقتراح مجموعة من العناوين لقصة، أو عدد غير محدَّد من التفسيرات المعقولة لرسمٍ خطِّيٍّ تجريديٍّ. بعبارة أخرى، تبحث هذه الاختباراتُ عن القدرة على إظهار الابتكار والخيال، وفقًا لما يحدِّده المختبرون بطبيعة الحال. ويُعتبَر الفرد «مبدِعًا» — أعني من ناحية نهج القياس النفسي — إذا كان يستطيع أن يقدِّم دائمًا طيفًا من الاستجابات المتباينة لأي طلب، يختلف جزء منها اختلافًا ملحوظًا عن استجابات غيره من الأفراد، ولكنها لا ينبغي أن تختلف «كثيرًا»، وإلا لن يُعترَف بها كإجابات للطلب المطروح.

وقد كَشَفَ تطبيقُ اختباراتِ الإبداع طوال ثلاثة أو أربعة عقود — غالبًا على طلاب متطوعين في الكليات والجامعات — عن استنتاجات عديدة جديرة بالذِّكْر. الاختبارات موثوقة بدرجة مشجِّعة؛ أي إنه إذا خضع شخص لنفس اختبار التفكير المتباعِد مرتين، فإنه يحصل على درجة مماثلة بوجه عام في المرتين، وترتبط نتيجته ارتباطًا كبيرًا بدرجته في اختبارات التفكير المتباعد الأخرى. هذا ينطبق على اختبارات التفكير المتقارب أيضًا. الأمْرُ الأقلُّ تشجيعًا، على الأقلِّ بالنسبة للقائمين على تطبيق اختبارات الإبداع، أنَّ درجتَيِ التفكير المتقارب والمتباعد لا ترتبطان بعضهما ببعض ارتباطًا كبيرًا. بمعنى أدق، وفقًا لما أفاد به فرانك بارون الباحث في معهد بحوث الشخصية وتقييمها في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، فيما كتبه عام ١٩٦٣:

على النِّطاق الكامل للذكاء والإبداع تَسُود علاقةٌ طرديةٌ ضعيفةٌ بين الاثنين، ربما بنسبة ٠٫٤٠ تقريبًا، ولكن إذا فاقَتْ نِسْبَةُ الذَّكاءِ ١٢٠ تقريبًا، فمن الممكن إغفالُ عامِلِ نِسْبَةِ الذكاء، واعتبارُ المتغيِّرَيْن الدافعيِّ والأسلوبيِّ، اللذين ركَّزَ عليهما بَحْثُنا تركيزًا كبيرًا، هما المحدِّدَيْن الرئيسيَيْن للإبداع.

أقل الأمور تشجيعًا على الإطلاق هو انتفاء أي علاقة بين الحصول على درجات مرتفعة في اختبارات التفكير المتباعد من ناحية والإبداع الفعلي في الحياة الواقعية من ناحية أخرى، وهذا يتناقض بدرجة ملحوظة مع سجل نتائج اختبارات الذكاء المتقارب في التنبؤ بمستوى التحصيل الدراسي في المدارس والجامعات، وبنجاح الحياة المهنية في العديد من المهن؛ مثل: البحوث الأكاديمية، والوظائف الحكومية، والشرطة، والقوات المسلحة.

إن ما استنتجه بارون — وما اقترحه من وجود «عتبة قدرة» في نسبة الذكاء التي حينما يتم تجاوزها تنتفي العلاقة بين زيادة القدرة والإبداع — مثارٌ للجدل بين علماء النفس. ومن بين نقَّاد هذا الاستنتاج ديفيد لوبينسكي وكاميلا بنبو، وهما مشتركان في إدارة المشروع الممتد الأجل لدراسة «الشباب المبكر الموهبة في الرياضيات» الذي تأسَّس عام ١٩٧١ بهدف إتمام دراسة مدتها ٥٠ عامًا لخمس مجموعات تحوي أكثر من ٥ آلاف فرد من «الأفراد الموهوبين فكريًّا»، التي اختيرت على مدى ٢٥ عامًا (١٩٧٢–١٩٩٧). تُظهِر المهن التي يعمل بها أفراد هذه العينة وجودَ علاقة قوية بين الدرجة التي حصل عليها الأفراد في اختبار قياسي للذكاء كانوا قد خاضوه في سن الثانية عشرة، وما حقَّقوه فيما بعدُ من حيث نيل درجة الدكتوراه، والحصول على دخل مرتفع، ووظيفة ثابتة مرموقة بإحدى الجامعات الأمريكية رفيعة المستوى، وبراءات اختراع. وقد أشار لوبينسكي وبنبو عام ٢٠٠٦ إلى أنه «أمر رائع أن يستطيع اختبارٌ مدتُه ساعتان تحديدَ مَن سيحصلون على هذه المؤهلات التعليمية الممتازة [درجة الدكتوراه] من بين أفراد ما زالوا في سن الثانية عشرة، وبنسبة نجاح توقعات ٥٠٪.» وخلصا إلى أن هناك «عوامل أخرى مهمة دون شك إلى جانب مستوى القدرة. لكن في حال تساوي الأمور الأخرى، تكون زيادة القدرة أفضل في كل الأحوال.» وتؤكِّد الدراسةُ طويلة الأجل التي أجراها تيرمان من قبلُ على الأطفال الموهوبين الاستنتاجَ الذي خلص إليه لوبينسكي وبنبو.

لكن في حين تُظهِر مِثْلُ هذه الدراسات وجودَ علاقة بين زيادة الذكاء وزيادة الإنجاز، نراها لا تخبرنا شيئًا عن زيادة الذكاء والإبداع الاستثنائي أو العبقرية؛ وذلك لأن نيل منحة دراسية أو درجة زمالة أو منصب أكاديمي محترم أو براءة اختراع أو جائزة — ربما باستثناء جائزة نوبل والقليل من الجوائز الدولية الأخرى رفيعة الشأن — ليس في حد ذاته معيارًا مناسبًا للإبداع الاستثنائي. صحيح أن أفراد عينة دراسة «الشباب مبكر الموهبة في الرياضيات» ما زالوا شبابًا إلى حدٍّ ما، لكن أمارات عظمة إنجازاتهم في المستقبل ليست باديةً في النتائج التي نشرتها الدراسة. ودراسة تيرمان التي يبلغ عمرُها نِصْفَ قَرْنٍ لا تبعث على التفاؤل؛ إذ أوضح جويل شوركين (الصحفي الحائز على جائزة بوليتزر) جليًّا في دراسته «أطفال تيرمان» أن أيًّا من طلاب تيرمان الموهوبين — رغم كل ما أحرزوه من نجاح عملي كبير كمجموعة — لم يكد يقترب من «العبقرية» في أي مجال؛ إذ لم يَفُزْ أي منهم بجائزة بوليتزر أو نوبل على سبيل المثال، علاوة على أن اختبارات الذكاء المبدئية التي طبَّقها تيرمان رفضت ويليام شوكلي الذي صار فيما بعدُ أَحَدَ مُخْتَرعِي الترانزستور وحاز جائزة نوبل، بعد إخضاعه للاختبار مرتين، الأمر الذي تكرَّر مع عالم فيزياء آخَر حاز فيما بعدُ على جائزة نوبل في الفيزياء هو لويس الفاريز.

لكن الصعوبة الرئيسية في ربط الذكاء بالإبداع والعبقرية نظرية أكثر منها تجريبية. فعلماء النفس قد يستطيعون قياس الذكاء، لكنهم عاجزون — منذ زمن جالتون — عن الإجماع على تعريف ولو تقريبي لمفهومه.

عام ١٩٢١، عندما كان تيرمان يُطْلِق دراسته عن الأطفال الموهوبين، كانت كوكس تبدأ أبحاثها عن عباقرة التاريخ، وكانت اختبارات الذكاء على وشك أن تسود المدارس الأمريكية. نشرت مجلةُ «جورنال أوف إيدوكيشنال سايكولوجي» وقائعَ ندوة «الذكاء وقياسه»، التي طُلِب فيها من أربعة عشر من الخبراء تعريف مفاهيمِهم للذكاء، خمسة منهم لم يتناولوا هذه المسألة تناولًا مباشِرًا في ردودهم، ومن بين التسعة ردود الأخرى تميَّزَ ردُّ تيرمان؛ إذ قال إن الذكاء هو «القدرة على ممارسة التفكير المجرد.» وهو تعريف محدود على نحو غير متوقَّع من شخص يحب ربط الذكاء بالعبقرية. وذَهَبَ عالِمٌ نفسيٌّ آخَرُ إلى أن الذكاء هو «القدرة على المعرفة، والمعرفة المملوكة.» ربما كانت الإجابات السبع الأخرى متشابهة؛ لأن جميعها أخذ في الاعتبار القدرةَ على التعلُّم من التجربة والتكيُّف مع البيئة. لكن أيًّا من الخبراء لم يُشِرْ إلى أي علاقة بين الذكاء والإبداع. كان تركيز الخبراء — ربما باستثناء تيرمان ومفهومه عن التفكير المجرد — مُنْصَبًّا دائمًا على الذكاء باعتباره أمرًا تفاعليًّا، لا إبداعيًّا.

بعد نحو قرن من الزمان، ظلَّ التباين بين وجهات النظر حول الذكاء. كتب ستيرنبرج عام ١٩٨٧ يقول: «هناك اختبارات لا حصر لها لقياس الذكاء، لكن لا أحد يعلم تمام العلم ما هو الذكاء، أو يعلم حتى ذلك الشيء الذي تقيسه الاختبارات الموجودة.» ويعترف بهذا الأمر أيضًا باحث معروف آخَر، هو جيمس فلين، لكن كتابه الجذَّاب «ما الذكاء؟» الذي نُشِر عام ٢٠٠٧ لا يوضِّح اللَّبْس كثيرًا؛ إذ يقارن فلين بين الجدل بشأن طبيعة الذكاء والجدل القديم في الفيزياء بشأن طبيعة الضوء، والذي تم تسويته (على نحوٍ ما) بظهور نظرية الكم ومفهوم ثنائية الموجة-الجسيم؛ إذ كتب ما يلي:

لقد أُهدِر الكثير من الوقت قبل أن يُكتَشَف أن الضوء يمكن أن يتصرَّف مثلَ الموجة في بعض تجلياته، ومثلَ تيارٍ من الجسيمات في تجليات أخرى له. علينا أن ندرك أن الذكاء أيضًا يمكن أن يتصرف مثل مجموعة وثيقة الارتباط من القدرات على مستوًى، ومثل مجموعة من القدرات المستقلة وظيفيًّا على مستويات أخرى.

هذه المستويات هي: العناقيد العصبية في المخ، والاختلافات الفردية في الأداء، والمجتمع. يبدو هذا واعدًا، لكن فلين يستطرد مضيفًا بصدق ولو أنه لا يفيد كثيرًا: «أمامنا شوط طويل كي ندمج ما هو معروف في هذه المستويات الثلاثة في كيان نظري واحد.»

لكن بحث فلين يقدِّم بعض القرائن. صحيح أنه لا يستطيع أن يخبرنا أي شيء مباشَرَةً عن الإبداع الاستثنائي، لكنه يُلقِي ضوءًا جديدًا على المفهوم الملتبس للذكاء، وعلى السبب في أن الذكاء سبَّبَ لكوكس الكثيرَ من الإزعاج في دراستها، وربما يفسِّر لنا أيضًا السببَ في أن نسبة ذكاء فاينمان، التي جرى قياسها عام ١٩٣٠ كانت أقل بكثير مما كنَّا نتوقَّع من مفكِّر مثله متَّقِد الذكاء.

في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، اكتشف فلين حقيقةً مذهلةً وناسفةً بشأن متوسطات نسبة الذكاء، سرعان ما قُوبِلت باعتراف واسع النطاق، ثم أَطْلَقَ عليها علماءُ نَفْسٍ آخرون «تأثير فلين». في العقود التي أعقبت الحرب، كان متوسطُ نِسَب الذكاء يشهد تصاعدًا مضطردًا، ليس فقط في بلد أو اثنين، وإنما في جميع البلدان المتقدمة التي توفَّرَ فيها ما يكفي من البيانات عن نِسَب الذكاء، بما فيها: الولايات المتحدة، وبريطانيا، وبلجيكا، وهولندا، والنرويج، وإسرائيل، والأرجنتين. وطوال النصف الثاني من القرن العشرين؛ أي على مدار ما يقرب من جيلين، شَهِد متوسطُ نِسَب الذكاء نموًّا اقترب من ٢٠ نقطة في الولايات المتحدة وأوروبا. أشارت بياناتٌ أخرى، أقلُّ موثوقية، إلى أن هذا النمو يرجع إلى عام ١٩٠٠، وأن متوسط نسبة الذكاء عام ١٩٠٠ — والمحسوب وفقًا للقواعد المعمول بها في الوقت الحالي — من الممكن أن يكون قد تراوَحَ بين ٥٠ و٧٠، وهي نسبة ذكاء المتخلفين عقليًّا.

ازدادت الصورة تعقيدًا لأن هذا الارتفاع ليس موزَّعًا بالتساوي على مختلف مكونات اختبارات الذكاء التي يُحسَب متوسطها جميعها للحصول على نسبة واحدة؛ أي إن التغيرات في القدرات المختلفة لم ترتبط ببعضها ارتباطًا كبيرًا. من دون الخوض في التفاصيل، صار الأفرادُ الأصغرُ سنًّا أكثرَ ذكاءً في الاختبارات التي تقيس القدرة على مقارنة المفاهيم وتصنيفها، سواء على مستوى الكلمات أو الصور، لكنهم لم يُظهِروا أي تحسُّنٍ تقريبًا على مستوى المفردات اللغوية، والمعرفة العامة، والمقدرة الحسابية. بين عامَيْ ١٩٤٧ و٢٠٠٢، حصل الأمريكيون على ٢٤ نقطة في اختباراتِ قياسِ مقارنةِ المفاهيم وتصنيفها، و٤ نقاط في اختبارات المفردات اللغوية، ونقطتين فقط في اختبارَي المعرفة العامة والمقدرة الحسابية.

كان كل هذا مفاجِئًا تمامًا لأن اختبارات الذكاء تجري تهيئتها عن طريق اختبار فئة عمرية ما على فترات منتظمة، على نحو يجعل متوسط نسبة الذكاء يظل ثابتًا من جيل إلى جيل. ومن دون هذه التهيئة، سوف يخوض بعض الأفراد اختبارات عفا عليها الزمن، ومن ثَمَّ لن يُقارَنوا بمعاصريهم بل بأفراد جيل سابق. والارتفاع المحير في متوسط الذكاء يشير، على حد تعبير فلين، إلى أن: «إما أن أطفال اليوم أكثر ذكاءً بكثير من آبائهم، أو أن اختبارات الذكاء ليست صالحةً لقياس الذكاء، على الأقل في بعض الظروف.»

وقد تمخَّض اكتشافُه المحيِّرُ هذا عن قَدْرٍ كبيرٍ من النِّقَاش، وما من تَوافُقٍ حتى الآن بشأن سبب الارتفاع في متوسط الذكاء. لكن من الواضح أن القرن العشرين شهد تخرُّجَ عددٍ أكبر بكثير من الأطفال من المدارس إلى الكليات والجامعات، وهو أمر لا بد أنه يرتبط على نحوٍ ما بنسبة الذكاء. من الواضح أيضًا أن كل جيل جديد يكتسب مهارات — مثل التعامل مع الكمبيوتر — تتحدى ذكاء الآباء، ومما لا شك فيه أيضًا أن هناك زيادة مستمرة في كَمِّ المعلومات المتاحة للشخص العادي، الأمر الذي ربما يكون قد أثَّر في القدرات التي تشكِّل جزءًا من الذكاء. ويخمِّن عالم الأعصاب توركل كلينجبرج في كتابه «الدماغ المتدفِّق» أن «القدرة على تحسين الذاكرة العاملة بالتمرين قد تمثِّل المفتاح لفهم تأثير فلين فهمًا تامًّا.» وفلين نفسه يحطُّ من أهمية ارتفاع نسبة الذكاء أمام ما يُسمِّيه تزايُدَ اعتمادِ «النظرة العلمية»، التي تمكِّننا من مقارنة المفاهيم وتصنيفها على نحو سهل. فيقول:

خلال القرن العشرين استثمر الناس ذكاءهم في حل مشاكل معرفية جديدة، ولعب التعليم الرسمي دورًا سببيًّا مباشِرًا في هذا، لكن التقدير الكامل للأسباب يتضمن الوقوف على التأثير الكلي للثورة الصناعية.

وللتعبير عن المسألة التي أثارها فلين بطريقة أخرى، يبدو أن نسبة ذكاء فاينمان التي قاستها المدرسة (عام ١٩٣٠) ربما كان ليصل إلى ١٥٠–١٥٥ نقطة — وليس ١٢٥ نقطة — لو كان الاختبار أُجرِي في يومنا هذا. أما عباقرة دراسة كوكس، مثل ليوناردو وفاراداي، الذين ينتمون لفترة ما قبل عام ١٩٠٠ فَسَتَبْدُو نِسَبُ ذكائهم «الأحفورية» في حاجةٍ إلى التصحيح نتيجةً لأمور تتجاوز مجرد نقص معلومات كوكس عن سنوات عمرهم الأولى. يقول رئيس الجمعية الملكية البريطانية مارتن ريس: «لسنا أكثر حكمةً مما كان أرسطو.» بل إن ما وصلنا إليه عام ٢٠١٠ من تقدُّم تكنولوجي هو الذي يجعلنا نبدو أكثر ذكاءً من أجدادنا، ولا تزال العلاقةُ بين الذكاء المرتفع والإبداع الاستثنائي مَثَارَ جدلٍ محتدمٍ.

هوامش

(1) © CERN/Science Photo Library.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤