الفصل السادس

العبقرية والشخصية

هل هناك شخصية تُحفِّز العبقرية؟ يبدو هذا التصور بعيد الاحتمال ظاهريًّا، وحتى إذا قصرنا تركيزنا على العباقرة الذين تزامَنَ عملهم في نفس المجال، فسيكون «التباين» في الشخصية هو النمط الأكثر وضوحًا الذي سنلاحظه. في مجال الفنون خُذْ مثلًا ليوناردو ومايكل أنجلو، شكسبير وكريستوفر مارلو، موتسارت وجوزيف هايدن، فان جوخ وجوجيه، تي إس إليوت وعزرا باوند، وفي مجال العلوم خُذْ مثلًا نيوتن وإدموند هالي، داروين وتوماس هنري هكسلي، ماري كوري وإرنست رذرفورد، أينشتاين ونيلز بور، فرانسيس كريك وجيمس واتسون.

علَّقَ على ذلك روبرت وايزبيرج في تحفُّظ قائلًا:

ربما لا تكون شخصيات المبدعين متنوعة تنوُّعَ المبدعين أنفسهم؛ أي إن من المرجح أن ثمة تكوينَ شخصيةٍ فريدًا من نوعه لكلِّ شخص مبدع. لكنْ ثمة سبب للاعتقاد بأن هناك على الأقل عددًا كبيرًا من الشخصيات الإبداعية، وربما يكون صحيحًا أن حتى الأشخاص الذين يعملون في ذات المجال الفرعي من الفنون أو العلوم قد ينتهجون في عملهم وجهات نظر غاية في الاختلاف؛ مما يعني أن شخصياتهم مختلفة على الأرجح.

ظلَّتِ الدراسةُ العلميَّةُ للشخصيَّة غيرَ ذات أهميَّة في علم النفس طوال عقود، ثم بَدَأها سيجموند فرويد منذ قرابة القرن بمفاهيمه عن الهوية، والأنا، والتحليل النفسي. لكن حتى فرويد نفسه كان يشك في أن التحليل النفسي عِلْمٌ. ثم قدَّم كارل يونج عام ١٩٢١ مصطلحَي «الانبساط» و«الانطواء» اللذين باتا أساسيين بالنسبة لدراسات الشخصية في الوقت الحالي. لكن خلال القرن العشرين، ما من اختبار معيَّن للشخصية حَظِيَ بما يشبه القبول الذي ارتبط بقياس الذكاء من خلال اختبار نسبة الذكاء.

كان يوجد بدلًا من ذلك عدد وافر من النظريات والاختبارات عن الشخصية في ظل دراسة علماء النفس هذا الموضوع. آيزينك مثلًا ظلَّ يُجادِل جدلًا قويًّا منذ خمسينيات القرن العشرين دفاعًا عن تحليل للشخصية يستند إلى أبعاد ثلاثة هي: الانبساط، والعصابية، والذهانية. يذكر دانييل نيتل في كتابه «الشخصية» (٢٠٠٧) أن في فترة الحيرة هذه «قد يَمْنَحُك أَحَدُ علماءِ النَّفْس نتيجةً بأنك تتَّسِم «بالاتكال على الإثابة» و«تجنُّب الضرر»، بينما قد يصنِّفك عالِمٌ آخَرُ على أنك من النوع المفكِّر، أو العاطفي، أو الحسَّاس، أو الحدسي.» لكن علم نفس الشخصية لو كان أُرِيدَ له أن يصبح تخصُّصًا علميًّا، لا شبيهًا باستبيانات الشخصية المُسَلِّية التي تُنشَر في المجلات العادية، لَتعيَّنَ على مُمارِسِيه أن يُقرِّروا أنَّ كُلَّ فرد له بالفعل شخصية ثابتة لا تتغيَّر مع سير الحياة اليومية والمواجهات الاجتماعية، تظل مستقرة من سنة إلى أخرى، ومن عقد إلى آخَر. لكن لو كان الأمر كذلك حقًّا، فما الأبعاد التي ينبغي استخدامها لقياس الشخصية ولتحديد نوعها؟ وكيف يمكن لعلماء النفس أن يتحقَّقوا من ثبات الشخصية أو عدمه؟ وكيف ينبغي لهم أن يكتشفوا أي هذه الأبعاد هي التي ترتبط بالإبداع؟

في الآونة الأخيرة، أُحرِز قَدْرٌ من التقدُّم على صعيد الإجابة عن هذه الأسئلة. ونتيجة لذلك، يشهد مجال بحوث الشخصية حاليًّا شِبْهَ تَوَافُق، على الأقل فيما يتعلَّق بشخصية الأفراد العاديين، وإن لم يكن الأمر يَشْهَد القَدْرَ نَفْسَه من التَّوافُق فيما يتعلَّق بشخصية المبدعين الاستثنائيين.

السبب الأول لذلك هو أن ما يُطلَق عليه «نموذج العوامل الخمسة» لاختبار الشخصية يبدو متوائمًا مع الأدلة المستمَدة من دراسات الأفراد والجماعات. كتب نيتل يقول إن هذا النموذج يبدو «الإطار الأشمل، والأعلى موثوقيةً، والأكثر فائدةً لمناقشة الشخصية البشرية التي عرفناها دومًا.» والآن يجري اختبار الشخصية على نطاق واسع اعتمادًا على خمسة أبعاد متمثلة في الصفات الشخصية التالية: الانبساط، العصابية، الاجتهاد، القبول، الانفتاح. (هذه هي العوامل التي حدَّدَها نيتل، لكن ثمة عوامل مماثلة يستخدمها علماء نفس آخَرون على نطاق واسع.) يقول نيتل إن ارتفاع درجة سمة الانبساط لدى فرد يدل على أنه «اجتماعي ونشيط»، في حين أن انخفاضها يدل على أنه «منعزل وهادئ». وإن ارتفاع درجة العصابية تدل على أن الفرد «ميَّال للتوتر والقلق»، وانخفاضها يدل على أنه «ثابت انفعاليًّا». وإن ارتفاع درجة الاجتهاد يدل على أن الفرد «منظَّم ومتحمل للمسئولية»، وانخفاضها يجعله «عفويًّا ومهملًا». وارتفاع درجة القبول يشير إلى أنه فرد «واثق في الآخَرين ومتعاطف»، وانخفاضها يجعله «غير متعاون وعدائيًّا». وأخيرًا — والمفترض أنه الأكثر ارتباطًا بِسِمَة الإبداع — فإن ارتفاع درجة الانفتاح تدل على أن الفرد «مبدع وواسع المخيلة وغريب الأطوار»، وانخفاضها يجعله «عمليًّا وتقليديًّا». وقد وجد أن درجات هذه العوامل الخمسة لدى الأفراد العاديين تظل ثابتةً إذا قِيسَتْ على مدى عشر سنوات أو على مدى أسبوع واحد.

تُوجَد أسباب أخرى للتوافق نابعة من علم الأعصاب، وعلم الوراثة، وعلم النفس التطوري. فتصوير الدماغ بالأشعة فوق الصوتية، الذي بدأ في تسعينيات القرن العشرين، يشير إلى أن الفروق الفردية في تركيب الدماغ وأدائه يمكن تمثيلها في خارطة أبعاد نموذج العوامل الخمسة، بمعنى أن عبارةً مثل «فلان لديه درجة انبساط مرتفعة» ينبغي أن يكون لها رابط بيولوجي في الدماغ، ربما في مركز منظومة المكافآت في منتصف الدماغ — الذي يفرز مادة الدوبامين — ولو أننا لم نحدِّد المكان بعدُ بدرجة مُرْضِيَة. ثم هناك الأدلة المستمدة من الجينوم البشري، الذي اكتمل اكتشاف تسلسلِه عام ٢٠٠١. فالظاهر أن الشخصية تتحدَّد جزئيًّا بفعل متغيرات الفرد الجينية. على سبيل المثال، أظهرت دراسة أُجرِيَتْ على أفراد بالغين في نيوزيلندا على مدى فترة من الوقت أن الأفراد الأَمْيَل إلى الاكتئاب — أي إن درجة العصابية مرتفعةٌ لديهم — تتخذ جينات نقل السيروتونين لديهم صورتين قصيرتَي الشكل، وليس الصورة قصيرة الشكل مع الصورة طويلة الشكل أو الصورتان طويلتا الشكل المتوارثين من آباء الأفراد محل الدراسة. وأخيرًا، تسرَّبَ التفكير التطوري إلى علم النفس منذ ثمانينيات القرن العشرين وما بعدها. لماذا كان ينبغي للانتخاب الطبيعي أن ينتج سمات الشخصية البشرية؟ إن التفسير التطوري لوجود مستوى مرتفع من العصابية لدى بعض البشر، هو أنه في الأزمان المبكرة كان الأفراد العصابيون للغاية يمتازون بقدرة على التحسب للخطر (كالتعرض لهجوم من حيوان ضخم مفترس) أعلى من نظيرتها لدى الأفراد منخفضي العصابية، رغم ما لذلك من تأثير سلبي عليهم في شكل زيادة القلق واحتمالات التعرض للاكتئاب. أما الأفراد ذوو الدرجات المرتفعة في الانفتاح فقادرون على التكيُّف — أي ماهرون في إيجاد حلول جديدة ومبتكرة للمشاكل غير المألوفة — رغم كونهم في الوقت نفسه عُرْضَةً للمعتقدات الغريبة والذهان (مثل حالة جون ناش في «عقل جميل»).

ومن سوء حظ أي شخصية يُظَنُّ أنها «مبدعة» أن «الانفتاح» هو أقل السمات الخمس حظًّا من التحليل الجيد؛ إذ يَصِفُها نيتل بأنها «غامضة وصعبة التحديد»، ويعترف بأن علماء نفس آخرين يختلفون إلى حدٍّ ما في تعريفها تحت مسميات مثل «الثقافة» و«الفكر». يُضاف إلى ذلك أن الطريقة المُقْنِعة لتحديد ما إذا كانت الخصائص الشخصية والأداء الإبداعي بينهما ارتباط سببي حقًّا، تكون باتخاذ مجموعةٍ من الشباب لم تظهر عليهم بعدُ أي علاماتٍ للتفوق، ثم دراسة شخصيتهم وإبداعهم على مدار حياتهم، مثلما فعل تيرمان في دراسة الذكاء. لكن حتى الآن لا وجود لأي دراسات طويلة الأجل من هذا القبيل.

وهذا الشَّرْط الأخير ينبغي أن ينطبق بالأَوْلى على المُبْدعين الاستثنائيين. يقول فرويد: «أمام الإبداع، يتعيَّن على المحلِّل النفسي أن يستسلم ويُلْقِي سِلاحَه.» و«طبيعة الإنجاز الفني لا سبيل للوصول إليها بالتحليل النفسي.» في الوقت الحاضر، لا شيء ذو أهمية لدى علم نفس الشخصية ليقوله عن العبقرية. فمثلًا كتاب «الشخصية» لنيتل لا يشير من قريب أو بعيد إلى هذا الموضوع، والدراسة التجريبية الوحيدة التي تناولت سمات شخصية المبدعين، مقارنةً بالمبدعين الاستثنائيين، هي المتمثِّلة في المَسْحِ التاريخيِّ الهامِّ الذي أَجْرَتْه كوكس تلميذةُ تيرمان عن العبقرية، ونحن نعلم من الفصل الرابع إلى أي حدٍّ هذا المسح معيب، علاوةً على أنه أُجرِي قبل تقديم نموذج العوامل الخمسة المعاصر. ومن المرجح أن يكون تجميع صورة لشخصية عبقري مات منذ أمد طويل إجراءًا خاصًّا وفقيرًا في قيمته العلمية. إن مائة فرد فقط من بين الثلاثمائة عبقري الذين درستهم كوكس، هم مَن يمكن تصنيفهم وفقًا لاختبار سمات الشخصية؛ وذلك لعدم كفاية الأدلة.

لكن قلة الأدلة ليست الصعوبة الرئيسية، وإنما تتمثل الصعوبة — في رأيي — في شبه اليقين بأن الأشخاص المبدعين الاستثنائيين ليس لديهم في حقيقة الأمر نوعية الشخصية المستقرة التي يستند إليها نموذج العوامل الخمسة. فكلما زاد الشخص إبداعًا، ازدادت شخصيته تنوُّعًا. كتب تيو فان جوخ حانقًا على شقيقه الأكبر فنسنت: «يبدو كما لو أن هناك شخصين مختلفين في داخله، أحدهما رائع الموهبة راقي المشاعر مرهف الإحساس، والثاني أناني متحجر القلب.» وهكذا قد لا يكون من المنطقي البحث عن شخصية مستقرة لدى فرد مبدع على نحو استثنائي؛ لأنها غير موجودة. أن يكون المرء مبدعًا إبداعًا استثنائيًّا، فهذا يعني أن له شخصية حربائية متلونة، فهو يغيِّر شخصيته لتتلاءم مع السياق المحيط.

وثمَّة تعليقٌ فَطِنٌ لكونستانز زوجة موتسارت على ألحانه، ويُظهِر هذا التعليقُ نزوعَ شخصيته للتلوُّن كالحرباء؛ فهي تقول:

عندما كانَتْ فِكْرةُ لَحْنٍ عظيمٍ تتبلْوَر في ذهنه كان يَصِير ذاهِلَ الفكر تمامًا، يَجُول في أرجاء الشقَّة ولا يدري بما يَدُور حَوْلَه، لكن ما إنْ يُرتِّب اللحن في عقله، لم يكن يحتاج إلى البيانو وإنما يتناول ورقة كتابة موسيقية ويشرع في كتابة اللحن، وهو يقول: «الآن، يا زوجتي العزيزة، هلَّا تلطفتِ وأعَدْتِ على مسامعي ما كنتِ تتحدثين بشأنه؟» ولم يكن حديثي يقاطعه قطُّ.

ثمة رواية مهمة رواها شاهد عيان توضِّح شخصية أينشتاين المتغيرة؛ إذ لم يحدث قطُّ أن جفل من النقاش المحتدم مع أصدقائه وزملائه العلماء (لا سيما الجدال مع نيلز بور وماكس بورن بشأن نظرية الكم)، ومن المقابلات الصحفية الجريئة والظريفة، ومن الشخصيات المشهورة، وهذا السلوك الانبساطي من بين أسباب الشهرة الفريدة التي حظي بها أينشتاين، إلا أن أكثر علمه إبداعًا كان يُنجَز في سرية وعزلة نسبية. هذه الأخبار وردت على لسان فيزيائيَّيْن اثنين من مُساعِدِي أينشتاين في ثلاثينيات القرن العشرين، هما بانيش هوفمان وليوبولد إنفيلد. يتذكر هوفمان قائلًا:

كلما كُنَّا نَصِل إلى طريق مسدود كُنَّا نَخُوض ثلاثتنا نقاشاتٍ حاميةً — باللغة الإنجليزية من أَجْلِي؛ لأنني لا أتحدَّث الألمانيةَ بطلاقة كبيرة — لكن حينما كان الجدل يستغلق حقًّا كان أينشتاين ينطلق، دونما وعي، متحدِّثًا باللغة الألمانية. كان يفكِّر بسهولة أكبر بلغته الأم، وكان إنفيلد ينضمُّ إليه في الحديث بالألمانية، بينما أكافح أنا بكل جدٍّ كي أتمكَّنَ من متابعة ما يُقال إلى حد أنه كان من النادر أن يتسنَّى لي الوقت للإدلاء بملاحظة قبل أن يَهْدأ حماسُهما.

حينما كان يتبيَّن — كما كان يحدث في الغالب — أن اللجوء للغة الألمانية لم يحلَّ الإشكال، كنا نلزم الصمت لوهلة، ثم يقف أينشتاين في هدوء ويقول بلغته الإنجليزية الطريفة: «سأفكر قليلًا.» ويبدأ عندها في المشي بخُطى واسعة أو وئيدة أو في حلقات، وهو يُبْرِم دائمًا خصلةً مِنْ شَعَرِه الأشيبِ الطويلِ حول سبَّابته. طوال هذه اللحظات عالية الدراما كنَّا أنا وإنفيلد نظل ساكِنَيْن تمامًا، لا نجرؤ على الإتيان بحركة أو إصدار صوت؛ خَشْيَةَ أنْ نَقْطَع حَبْلَ أفكارِه. تَمُرُّ دقيقةٌ وأخرى على هذا الوضع، بينما نَرْمُق أنا وإنفيلد أحدنا الآخَر في صمت، ويُواصِل أينشتاين مَشْيَه وبَرْمَه خصلة شعره. كانت تعلو وجهَه نظرةٌ حالمة شاردة وكأنها تنظر إلى داخله، دون أن تظهر عليه أي بادرة تدل على التركيز الحاد. وتمر دقيقة وأخرى، ثم تتراءى علامات الاسترخاء فجأةً على مُحَيَّا أينشتاين ويشرق وجهه بابتسامة، ويتوقَّف عن التجول وبرم خصلة شعره، ويبدو وقد عاد لإدراك ما يدور حوله والشعور بوجودنا من جديد، ثم يخبرنا بحلٍّ للإشكال، يكاد دائمًا يكون هو الحل الفعَّال.

من الصعب تصنيف شخصيتَيْ موتسارت وأينشتاين من هذين المشهدين القصيرين باستخدام نموذج العوامل الخمسة. فقد يحصل موتسارت على درجة مرتفعة لسمة «الانبساط» (اجتماعي ونشيط) عندما يعزف في حفلة أمام جمهور أو يقود إحدى أوبراته، لكنه سيحصل على درجة منخفضة لنفس السمة (منعزل وهادئ) عندما يلحن في منزله. وينطبق الأمر نفسه على حالة أينشتاين عندما يكون في إحدى جولاته الشهيرة في العشرينيات من القرن العشرين، مقابل حالته عندما يكون في منزله يعمل بالفيزياء. كثيرًا ما قيل عن أينشتاين، حتى على لسانه، أنه يبدو «بعيدًا» عن العالم؛ فقد كتب أينشتاين حينما كان يناهز الخمسين من عمره ما يلي: «إنني حقًّا «مسافر وحيد»، ولم أَنْتَمِ بكل قلبي قطُّ إلى بلادي أو بيتي أو أصدقائي أو حتى إلى أسرتي المقربة.» وهكذا، ربما يكون موتسارت وأينشتاين انبساطيَّيْن وانطوائيَّيْن في نفس الوقت، وأي محاولة لقياس درجة انبساطهما لن تُسفِر حتمًا عن شخصية مستقرة، وإنما شخصية متقلِّبة نوعًا ما.

سوف تتباين الصفات الأربع الأخرى في النموذج لدى موتسارت وأينشتاين تباينًا كبيرًا. فبالنسبة للاجتهاد («التنظيم وتحمل المسئولية»، في مقابل «العفوية والإهمال») والانفتاح على الخبرات («الإبداع وسعة الخيال وغرابة الأطوار» في مقابل «العملية والتقليدية»)، سيحصل موتسارت وأينشتاين غالبًا على درجات عالية في معظم الأحوال. لكن، من الواجب أن نلاحظ أن موتسارت كان لديه مَيْل إلى الارتجال العفوي خلال العزف في الحفلات، وأن والده ليوبولد كان كثيرًا ما يُعنِّفه لقلة انضباطه وعدم اكتراثه بالمال، وأن أينشتاين فقط، دون موتسارت، هو الذي يمكن أن يُوصَف بشكل عام بأنه غريب الأطوار.

وبالنسبة للعصابية، قد يحصل كلا الرجلين على درجة منخفضة (أي إنهما يتمتعان بِسِمَة «الثبات الانفعالي» وليسا «ميَّالَيْن للتوتر والقلق»)؛ إذ لم يُعانِ أي منهما من الاكتئاب أو انفلات الأعصاب، أو كان قَلِقًا بطبيعته، وإلا لما عاشا كشخصيتين مستقلتين مبدعتين، لا سيما موتسارت الذي افتقد الأمان الذي يُمنَح لملحِّني البلاط الملكي. كان كلا الرجلين واثقًا تمام الثقة في موهبته؛ مما مكَّنَهما من مجابهة التحديات التي كانت لتثبط عزيمة أي شخص أقل منهما ثقةً. لكن أينشتاين ذَكَر عن أبحاثه في النسبية العامة ما يلي:

إن سنوات البحث القَلِق في الظلام، بما سادها من رغبة متلهِّفة، وما تخلَّلها من تأرجُح بين الثقة والإنهاك، ثم الخروج في نهاية المطاف إلى النور، لا يستطيع أن يدركها إلَّا أولئك الذين عاشوها.

بالنسبة للقبول، ستبدو الصورة أكثر اختلاطًا. فموتسارت، الذي بدأ حياته عازفًا طيِّعًا حريصًا على إرضاء أوليائه، قد يحصل على درجة مرتفعة نسبيًّا («واثق من الآخرين ومتعاطف») — هذا بالتأكيد من وجهة النظر المتحيزة لأبيه الكاره للبشر ليوبولد — عدا فيما يتعلق بتعاملاته المتعنتة والمريرة مع مستخدمه في سالزبورج، المطران كولوريدو، الذي أقَالَه بطريقة تخلو من اللياقة. على النقيض من ذلك، قد يحصل أينشتاين على درجة أقرب إلى الحد الأدنى للمقياس («غير متعاون وعدائي»)، فعلى الرغم من أنه كان مهذَّبًا بوجه عام، كان هناك خط مسيطر من الاستقلالية والأنانية اللتين كانتا لِتَدْفَعَانِه إلى عدم الاكتراث أو الرفض للأشخاص الذين كانوا مقرَّبين منه في وقت سابق. هذا تسبَّبَ في فشل الزواج الأول لأينشتاين، وتوتُّر علاقته بولَدَيْه، وتَأَرْجُح زواجه الثاني على حافَّة الفشل. وقد أسَرَّتْ زوجةُ أينشتاين الثانيةُ لصديقةٍ لها عَقِب وقت قصير من الوفاة المأساوية لابنة أينشتاين الكبرى من زواجه الأول بأن «ما من أمر مأساوي يهمُّ بالَه حقًّا، فهو في وضع سعيد؛ لأنه قادر على أن يطرح وراء ظَهْرِه كُلَّ ما يزعجه، ولهذا السبب أيضًا يستطيع أن يعمل على أفضل نحو.» إن انخفاض درجة القبول أمر شائع للغاية لدى الأشخاص المبدعين إبداعًا استثنائيًّا. وتلخيص نيتل لموقف القبول هذا مُفَاده أن «عليك أن تكونَ متحجِّر القلب، وتَضَعَ نَفْسَكَ وتَقَدُّمَكَ في المقام الأول إذا كُنْتَ ترغب في استمرار النجاح.» ويُضِيف لذلك تعقيب أوسكار وايلد في رسالته «من الأعماق»: «لم يحدث حقًّا خلال أي فترة من حياتي أنْ كان هناك شيء له أي أهمية تُذكَر مقارنةً بالفن.»

مما لا شك فيه أن أينشتاين كان ليتفق مع هذا القول فيما يتعلق بالعلم. فعزمه المخلص في عمله لم يَلِنْ قطُّ؛ إذ ظلَّ يُجرِي العمليات الحسابية في المستشفى حتى قبل وفاته بيوم واحد، خلال سعيه طوال عقود مديدة إلى إنتاج نظرية مجال موحدة للجاذبية والكهرومغناطيسية. وينطبق الأمر نفسه على كوري، التي واصلت العمل مع العناصر قوية الإشعاع دون وقاية حتى وفاتها، على الرغم من أنها كانت تعي تمام الوعي إلى أي حدٍّ ألحق هذا العمل الضرر بعينيها وجلدها. وكان داروين يصف عمله العلمي بأنه «المتعة الوحيدة في الحياة»، ويقول إنه «لا يسعد أبدًا إلا عندما يكون منهمكًا في عمله.» على الرغم من القلق والسقم اللذين يبدو أن عملَه قد سبَّبَهما له. وفي مجال الفنون أيضًا، واصل العباقرة بوجه عام العمل طالما وسعهم ذلك؛ فموتسارت ظلَّ يؤلِّف لحنَ القُدَّاس الجنائزيَّ حتى مساء اليوم الذي تُوفِّي فيه، وفان جوخ ظل يرسم إلى اليوم الذي أَرْدَى فيه نَفْسَه قتيلًا، وفيرجينيا وولف تخلَّصَتْ من حياتها الخاصة حينما أحسَّتْ أنَّ عودة مرضها العقلي اللعين قد تَحُول بينها وبين الكتابة.

وتُبَيِّن حياةُ داروين بوضوح بالغَ مدى تقلُّب شخصيات المبدعين إبداعًا استثنائيًّا، وكيف أن شخصيات العباقرة تتباين عن بعضها إلى حدٍّ بعيد. فمن الصعب للغاية أن نظن أن الشخص الذي خاض المغامرات الرومانسية الخيالية ووَصَفَها في «رحلة بيجل» في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، هو نفسه الشخص الذي استقرَّ في «داون هاوس» في أربعينيات نفس القرن، ونشر أطروحته «في أصل الأنواع» التي تخلو من الرومانسية على نحوٍ واضح في عام ١٨٥٩.

تأمَّلْ هذه الفقرة، المعبِّرة تمامًا، من «رحلة بيجل» لداروين في مايو ١٨٣٥، في وصف رحلته عبر جبال الأنديز بحصان وبغل:

في المساء، كنتُ أنا والكابتن فيتسروي نتناول الطعام مع السيد إدواردز، مستوطن إنجليزي يشتهر بحسن ضيافته بين كل مَن زار كوكيمبو، حينما وقع زلزال قوي. سمعت القعقعة الهادرة، لكن صرخات السيدات، ووَقْع عَدْوِ الخَدَم، واندفاع العديد من السادة إلى الباب، لم يجعلني أتمكَّنُ من تمييز الحركة. فيما بعدُ كان بعض النسوة يَبْكِين في هلع، وقال شخص ما إنه لَنْ يَسَعَهُ أن ينام الليل بِطُولِهِ، وإنه إنْ فَعَلَ فلن يخلو ذلك من رؤية انهيار المنازل في أحلامه. كان والد هذا الرجل قد خسر مؤخرًا جميعَ ممتلكاته في تالكاهوانو، وكان هو نفسه قد نجا لِتوِّه من انهيار سقف في فالبارايسو عام ١٨٢٢. راح يتحدث عن مصادفة غريبة حدثت بعد ذلك. كان يلعب بأوراق اللعب، عندما نهض شخص ألماني من بين المجموعة، وقال إنه لن يجلس أبدًا في غرفة مغلقة الباب في هذا البلد؛ وذلك لأنه حينما فعل ذلك كان على وشك أن يخسر حياته في كوبيابو، ومن ثَمَّ قام ففتح الباب، وما كاد يفعل هذا حتى صرخ «ها قد حدث مرة أخرى!» وبدأ الزلزال المعروف. هربت المجموعة برمتها، لكن خطر الزلزال ليس نابعًا من الوقت الذي قد يضيع في فتح الباب، وإنما في احتمال أن يَنْسَدَّ الباب بفعل تحرُّكِ الجدران من أماكنها.

بعد أقل من عشر سنوات، في «داون هاوس»، ما كانت أمسية اجتماعية صاخبة كهذه لتخطر على بال داروين. ففي أربعينيات القرن التاسع عشر، كان قد وضع روتينًا شديد الانتظام محوره العمل منفردًا لساعات طوال في مكتبه — الذي كان يمنع أسرته من دخوله — وفي حديقة منزله، يتخللها تناول وجبات الطعام، والقراءة الخفيفة، والمشي لمسافة طويلة دون صحبة، والاستقبال المجدول مسبقًا للزوَّار، مع رحلات من آنٍ لآخَر إلى لندن وبعض الأماكن الأخرى في بريطانيا. في الحقيقة، كان هذا الروتين نابعًا من رغبته في السيطرة على ما يعانيه صحيًّا من اعتلال مُزمِن كان قد بدأ في حوالي عام ١٨٤٠، لكنه كان إلى جانب هذا سياسة مدروسة تهدف للحفاظ على أقصى قدر ممكن من الوقت من أجل البحث. في رحلة بيجل، انفتح داروين طوعًا على أكبر عدد ممكن من المواجهات والتجارب الجديدة — علمية وأنثروبولوجية وحتى بشرية — التي تصادفه. لكن في «داون هاوس»، ازدهر إبداعه في جوٍّ من «عدم» الانفتاح على التجارب، وفي اللحظة المناسبة صار أشبه بناسك. بالطبع ظل داروين منفتحًا على بحوث غيره من العلماء وآرائهم من خلال سعة اطلاعه وامتداد شبكة اتصالاته، لكنه تعمَّدَ أن يتجنَّبَ مختلف اللقاءات العرضية والتجمعات التي تشبه تجمعات أيام جامعته وتجواله حول العالم.

fig10
شكل ٦-١: لوحة لتشارلز داروين بريشة جورج ريتشموند، عام ١٨٤٠، تقريبًا في الفترة نفسها التي توصَّلَ فيها داروين إلى مبدأ الانتخاب الطبيعي.1

كان هناك أيضًا تغيير في درجة عصابيته. فداروين الشاب كان يُدْهِش القارئَ بكونه شخصًا باردَ الأعصابِ، تَقِلُّ لديه المخاوفُ أو الثوراتُ الانفعالية. (وربما هذا هو سبب الاتهام المخزي الذي وجَّهَه والده له بقوله: «أنت لا تعبأ لأي شيء سوى الرماية، والكلاب، واصطياد الفئران، وسوف تكون عارًا على نفسك وعلى عائلتك كلها.») لكنه في منتصف عمره صار شديد القلق حتى إزاء أمر عادي مثل اللحاق بالقطار المتجه إلى لندن، وكان مرض أبنائه، الذين تُوفِّيَ اثنان منهم في سن الطفولة، مبررًا يسهل تفهمه لقلقه هذا. يضاف إلى ذلك المالُ، وهو مبرِّر لا يسهل تفهُّمه بالقدر نفسه؛ نظرًا لما كان يَجْنِيه مِنْ دَخْلٍ خاصٍّ مُحترَم. لكن قلقه الطاحن أثَّر على نظريته التطورية وما كان يمكن أن تُحدِثه من ردود فعل جماهيرية قد تكون مخزية، وهذه العصابية تحديدًا كانت هي على ما يبدو التي جلبت عليه مرضه الشديد العضال. ولهذا دوَّن نظريته عام ١٨٤٤ وأعطى ما كتبه إلى زوجته إيما مُوصيًا إيَّاها بنشره في حال وفاته فجأةً. بعد ذلك، حتى عام ١٨٥٩، كانت عصابيته هي التي حفَّزَتْ برنامجَه البحثيَّ المتلهِّفَ على الأدلة العلمية التي ستدعم النظرية المثيرة للجدل.

بوجه عام، من الواضح أن ليس هناك تكوين محدَّد من السمات ولا نِسَب محددة منها — بعبارة أخرى، لا وجود لشيء اسمه «الشخصية المبدعة» — وراء الإبداع الاستثنائي. لكن جميع العباقرة يتشاركون شخصية تتسم بأنها شديدة الحماس للعمل وعازمة على النجاح في مجالها، ومع ذلك فإن مصدر هذا الحماس وهذه العزيمة لا يمكن تحليله وفقًا لأي نموذج عادي، فالعبقري يحتاج قدرًا من الانبساط والعصابية والاجتهاد والقبول والانفتاح، إلى جانب عوامل أخرى، كالقدرة الفكرية والموهبة. لكن التفاعل بين جميع هذه العوامل يبدو أكثر تعقيدًا وتباينًا وحساسيةً للسياق لدى العباقرة منه لدى الأشخاص العاديين.

هوامش

(1) Down House. © 2003 TopFoto.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤