محاولات لتطوير الموسيقى

كان لمؤتمر الموسيقى العربية الذي عُقد في مصر سنة ١٩٣٢ أثرٌ كبير؛ إذ يهدف الغرض منه إلى استحداث انتقال بموسيقانا من طورٍ قديم إلى طورٍ جديد، وكان بعض الناس بلا شك غير مطمئنين إلى ذلك الغرض؛ لأنهم يظنون أن في تهذيب الموسيقى العربية القضاء عليها، كما أنهم يعدُّون أيضًا الاستحداث فيها أمرًا فوق الإمكان فيجعلونها وراء سُنَّة التحول، ولا يخفى على البصير أن الموسيقى العربية تحوَّلت منذ منشئها، وداخَلها من العناصر الغربية عنها ما داخَلها، وكلنا يعلم ذلك، اللهم إلا إذا ركنَّا إلى نظريات المتصوفة وإلى أن التقاليد العربية تجعل «الحداء» أصل الغناء أيام الجاهلية، وما الحداء إلا لحنٌ بسيطٌ متشابه الأصوات، وزنه الرجز فيما يقول أبو الفرج الأصفهاني، ولربما ناسب أهلُ ذلك العهد بين النغمات مناسبةً بسيطة، فأتوا بالسناد على قول ابن رشيق.

ثم إن «الأبشيهي» يسوق في «المستطرف» (ج٢، ص٢٠٤) أن للعرب الأولين نوعًا آخر من الغناء يقال له «النصب»، وقد كان يعمد إليه الفتيان والركبان.

ولما أشرق الإسلام انزوى أهل الله عن الرفاهية، وشغلوا ساعات فراغهم عن وجوه اللذات بالعبادات، فكان الأذان وترجيع القراءة.

ولما انقلبت الأمة العربية إلى حالة أقرب إلى الجاهلية منها إلى الإسلام وَهَى أمر الدين، وهبط الترف قصور بني أمية حاملًا بين أعطافه كماليات الحياة، فجلَّ قدر الموسيقى، لكنها أمست وشأنها غير ما كان بالأمس.

أفلم يروِ لنا صاحب كتاب «الأغاني» (ج١٠، ص٢٥٠) أن «أبا محرز» أقبل على تلاحين الروم والفرس، وأخذ منها ما تستريح إليه الآذان العربية، ثم مزج هذه التلاحين بعضها ببعض فجاء بشيءٍ حسن.

ثم إن الموسيقى الفارسية أثرت في الغناء العربي إلى حدٍّ بعيد، فهذا «سائب خاثر» أول من عمل العود بالمدينة وأول من يغني بصوتٍ عربيٍّ متقن الصنعة، حذا فيه حذو «نشيط» الفارسي، وهذا «ابن سريج» قد رأى مع العجم الذين أتى بهم ابن الزبير لبناء الكعبة عودًا من صنعة عيدان الفرس، فضرب به على طريقة الغناء العربي ضربًا اهتزَّ له أهل مكة وطربوا.

لقد كان فن الموسيقى في عهد بني أمية وقفًا على غناء القصائد، والمساوقة بالعود والطنبور وبالدفِّ وغيرها، ولكن المغنين افتنوا في صناعتهم من طول ما تنافسوا فيها وتناقضوا وتنافروا، فأحدثوا فن النَّوح، ومالوا عن الوزن الثقيل بعض الميل؛ إذ جاءوا بالهزج والرمل فقصروا بهما الغناء، وما زالوا بالألحان حتى انتهوا بها إلى جودة أوشك الخلفاء والناس من ورائهم أن يُجنُّوا بها.

ثم كان عهد بني العباس، فنزلت الموسيقى منزل العلوم، وانتظمت بسلكها، فدوَّن رواة الألحان الأغاني، وألَّف الحكماء في أساليب الغناء والعزف، فكان من المدوِّنين «يونس، وأحمد بن المكي، وعمرو بن بانه، وبذل المغنية، وإسحاق الموصلي، وأبو الفرج»، وتصانيفهم من الأصول التي عوَّل عليها الناس وإليها رجعوا.

وكان من المؤلفين: «أبو يعقوب بن إسحاق الكندي، وأبو نصر الفارابي، وأبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، وصفي الدين، وإخوان الصفا».

إلا أن تقدم الموسيقى لم يكن مقصورًا على العلم دون العمل، فهذا اللحن الرقصي التمثيلي، وهذه آلات الرقص، وهذه «الكرَّج» التي يذكرها ابن خلدون في مقدمته ثم يشرحها فيقول: إنها تماثيل خيل من الخشب يمتطيها النساء ويقلدن بها الكرَّ والفرَّ والطعن والضرب … والغالب على الظن أن «الكرج» يرجع عهدها إلى الأمويين، أفلم يقلْ جرير:

لبست سلاحي والفرزدق لعبة
عليها وشاحا كرج وجلاجله

ولا ننسى أن نذكر في عهد بني العباس، ما طرأ على الموسيقى العربية من وراء ما صنع «إبراهيم بن المهدي» حين خرج على الغناء القديم فأنشأ مدرسةً جديدة عبثت بقواعد الفن وحذفت منه الكثير؛ إذ غنت غناءً قليل الصنعة سهل المأخذ، ثم قامت تناضل مدرسة إسحاق الموصلي وتعيرها باستمساكها بالقديم.

ثم لنذكر أيضًا كيف استقام فن القراءة على أيدي «الأباضي، وسعيد العلاف، وغيرهما»، وكيف دسَّ القوم في تلك القراءة بعض ألحان الغناء والحداء والرهبانية،١ ثم لنذكر كذلك ما ابتكره «زرياب» في منهج التعليم؛ إذ كان يبدأ بالصوت البسيط حتى يتدرَّج إلى الصوت المركب، ثم يُجزِّئ الصوت نفسه فيأخذ يطارح تلاميذه الوزن، ثم اللحن مجردًا، ثم يلحق باللحن من المدَّات والليَّات والعطفات.

ولقد عمد الأندلسيون إلى الموشحات فابتدعوا فيها ما شاء الله أن يبتدعوا، ثم جمدوا في مكانهم فلم تتقدم موسيقاهم شيئًا، وفي الأمر ما فيه من غرابة.

والتاريخ يسوق لنا أن موسيقى نصارى الإسبان ارتقت ارتقاءً حسنًا قبل سقوط غرناطة؛ إذ لحن القوم «قداديس» ذوات أربعة أصواتٍ مختلفة، وكان هذا النوع من التلحين بادئ أمر التأليف والموسيقى (هارموني) Harmonie، فكيف تغافل العرب عن هذه الموسيقى الرائعة مع رقيِّهم واستعداد عقولهم للفهم والاقتباس ومع لطف آذانهم؟

وقد علل بعض المستشرقين إعراض العرب عن الموسيقى المؤلَّفة بعجزهم عن التأليف الجمعي، ولكنا لا نرى رأيه لأن فلاسفة العرب نظروا إلى مناحي الحكمة نظرةً شاملة، والشمول أُسُّ التأليف الجمعي.

ثم إن الإخباريين والمؤرخين يروون لنا أن الخلفاء كانوا يقيمون حفلاتٍ موسيقية، يشترك فيها مائة من العازفين والمغنين، فلا سبيل لنا أن نتهم العرب بأنهم لم يعمدوا إلى الموسيقى المؤلفة، حتى تقع إلينا أصواتهم وتلاحينهم مدوَّنة فنتبصَّر فيها. ومما يؤسف عليه أن العرب لم يُدوِّنوا تلاحينهم، ولا سيما إذا علمنا أن الفرس كانوا يُدوِّنون ترانيمهم، وأن حكماء الإغريق أثبتوا ضبطًا موسيقيًّا notes في مؤلفاتهم التي اعتمد عليها المعلم الثاني وابن سينا.

ولقد حاول بعض المستشرقين أن يُعلِّل ذلك النقص بأقوال لا نراها سديدة؛ منها أن العرب كانوا يعدون صناعة الغناء منقصة؛ فلم يحملوا على ضبط تلاحينهم، وكيف لهذا القول أن يثبت على النقد إذا ذكرنا لطف مكان المغنين عند الخلفاء والوزراء والعمال؟!

تلك حال الموسيقى العربية منذ منشئها حتى اليوم، وإنك لترى أنها صُبغت بصبغاتٍ غريبة عن جوهرها مرارًا، وانتقلت من طور إلى طور، وزيد فيها وحُذف منها، فكيف لا يرضى الناس بأن تظل مطردة السعي في طريقها؟

إن الموسيقى تنقسم إلى قسمين: أحدهما فني، والآخر ابتداعي، أما القسم الفني فعلم يشمل قياس الأبعاد والمسافات والمقادير، وتحديد طبقات الآلات، وتعيين طريقة العزف عليها أو النفخ فيها أو النقر بها.

وأما القسم الابتداعي فخاص بالتلحين بين تأليف الأصوات بعضها إلى بعض، وبين تركيب النغمات بعضها في بعض.

١  كتاب المعارف لابن قتيبة، طبعة أوروبا، ٢٦٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤