أجناسُ الغِنَاء

في «الأغاني» (ج٥، ص٥٢ وص٥٣: تصحيح إسحاق الموصلي أجناس الغناء): وكان قبلًا يقال الثقيل، وثقيل الثقيل إلخ، فأخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني علي بن يحيى المنجم قال: «كنت عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فسأل إسحاق الموصلي، أو سأله محمد بن الحسن بن مصعب، بحضرتي، فقال له: يا أبا محمد، أرأيت لو أنَّ الناس جعلوا للعود وترًا خامسًا للنغمة الحادة التي هي العاشرة على مذهبك، أين كنت تخرج منه؟ فبقي إسحاق واجمًا ساعةً طويلة مفكرًا، واحمرَّت أذناه، وكانتا عظيمتين، وكان إذا ورد عليه مثل هذا احمرَّتا وكثر ولوعُه بهما، فقال لمحمد بن الحسن: الجواب في هذا لا يكون كلامًا، إنما يكون بالضرب، فإن كنت تضرب أريتك أين تخرج؛ فخجل وسكت عنه مغضبًا؛ لأنه كان أميرًا وقابله من الجواب بما لا يحسن، فحلمَ عنه.

قال علي بن يحيى: فصار إليَّ به، وقال لي: يا أبا الحسن، إن هذا الرَّجُل سألني عما سمعت، ولم يبلغ علمه أن يستنبط مثله بقريحته، وإنما هو شيء قرأه من كتب الأوائل، وقد بلغني أنَّ التراجمة عندهم يترجمون لهم كتب الموسيقى، فإذا خرج إليك منها شيءٌ فأعطنيه، فوعدته بذلك، ومات قبل أن يخرج إليه شيئًا منها.»

وإنما ذكرتُ هذا بتمام أخباره كلها ومحاسنه وفضائله؛ لأنه من أعجب شيء يؤثرُ عنه أنه استخرج بطبعه علمًا رسمته الأوائل، لا يوصل إلى معرفته إلا بعد علم كتاب «أقليدس الأول» في الهندسة، ثم ما بعده من الكتب الموضوعة في الموسيقى، ثم تعلم ذلك وتوصل إليه واستنبطه بقريحته، فوافق ما رسمه أولئك ولم يشذ عنه شيء يحتاج إليه منه، وهو لم يقرأه، ولا لهُ مدخل إليه ولا عرَفه.

ثم تبيَّن بعد هذا، بما أذكره من أخباره ومعجزاته في صناعته، فضله على أهلها كلهم، وتميزه عنهم وكونه سماءً هم أرضها، وبحرًا هم جداوله.

وأمُّ إسحاق امرأة من أهل الري يقال لها: «شاهك»، وذكر قوم أنها «ذو شار» التي كانت تغني بالدف، فهويها إبراهيم وتزوَّجها، وهذا خطأ، تلك لم تلد من إبراهيم إلا بنتًا، وإسحاق وسائر ولد إبراهيم من «شاهك» هذه.

وفي (ص٥٤) منه أيضًا «كلام في أجناس الغناء وأنغامه» جاء فيه: تناظر المغنُّون يومًا عند «الواثق» فذكروا الضُّرابَ وحذقهم، فقدم إسحاق زلزلًا على ملاحظ، ولملاحظ في ذلك الحين الرياسة على جميعهم، فقال له الواثق: هذا حيفٌ وتعدٍّ منك. فقال إسحاق: يا أمير المؤمنين، اجمع بينهما وامتحنهما، فإن الأمر سينكشف لك فيهما؛ فأمر بهما فأُحضرا، فقال له إسحاق: إن للضراب أصواتًا معروفة أفأمتحنهما بشيء منها؟

قال: أجل افعل، فسمى ثلاثة أصوات كان أولها «علَّق قلبي ظبية السيب»، فضربا عليه، فتقدم زلزل وقصر عنه ملاحظ، فعجب الواثق من كشفه عما ادعاه في مجلسٍ واحد، فقال له ملاحظ مما ناله: يا أمير المؤمنين يحيلك على الناس، ولِمَ لم يضرب هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لم يكن أحد في زماني أضرب مني، إلا أنكم أعفيتموني فنُقلت مني، على أن معي بقية لا يتعلق بها أحد من هذه الطبقة، ثم قال: يا ملاحظ، شوش عودك وهاته، ففعل ذلك ملاحظ، فقال إسحاق: يا أمير المؤمنين، هذا يخلط الأوتار تخليط مُتعنِّت فهو يفسدها، ثم أخذ العود فجسَّه ساعة حتى عرف مواقعه، فغنى ثم قال: يا ملاحظ، غنِّ أيِّ صوتٍ شئت، فغنى ملاحظ صوتًا وضرب عليه إسحاق بذلك العود الفاسد التسوية؛ فلم يخرجه عن لحنه في موضعٍ واحد حتى استوفاه عن نقرةٍ واحدة ويده تصعدُ وتنحدرُ على الدَّساتين.

فقال الواثق لإسحاق: لا والله ما رأيت مثلك ولا سمعت به، اطرح هذا على الجواري.

فقال إسحاق: هيهات يا أمير المؤمنين، هذا شيء لا تعرفه الجواري ولا يصلح لهن، إنما بلغني أن «الفهليذ» ضرب يومًا بين يَدي كِسرَى فأحسن، فحسده رجل من حذاق أهل صنعته، فترقبه حتى قام لبعض شأنه ثم خالفه إلى عودِه فشوَّش بعض أوتارِه، فرجع فضرَب وهو لا يدرِي، والملوك لا تُصلَح في مجالسها العيدان، فلَم يزل يضربُ بذلك العود الفاسد إلى أن فرغ، ثم قام فأخبر الملك بالقصة، فامتحن العودَ فعرف ما فيه، ثم قال مستحسنًا: زه … زه، ووَصله بالصلة التي كان يصل بها من خاطبه هذه المخاطبة.

ثم قال إسحاق: فلما توطأت الرواية بهذا، أخذت نفسي وروَّضتها عليه، وقلت: لا ينبغي أن يكون الفهليذ أقوى على هذا مني. فما زلت أستنبطه بضعَ عشرة سنة حتى لم يبقَ في الأرض موضع على طبقة من الطبقات إلا وأنا أعرف نغمته كيف هي، والمواضع التي تخرج النغم كلها منها، من أعاليها إلى أسافلها، وكل شيء منها يجانس شيئًا غيره، كما أعرف ذلك في مواضع الدساتين، وهذا شيء لا تغني به الجواري.

قال له الواثق: صدقت ولئن متَّ لتموتن هذه الصناعة معك.

وأمر له بثلاثين ألف درهم.

وفي (ص٥٧) منه: استخراج إسحاق للحنٍ رومي غنوه به، وتعجبهم من معرفته ذلك.

وفي (ص٦١) منه «تحريك الغناء وهو أن يكون كثير النغم»: سمع محمد بن راشد الخفاف؛ علويَّة يقول لإسحاق بن إبراهيم الموصلي: إن إبراهيم بن المهدي يعيبك بتركك تحريك الغناء. فقال له إسحاق: ليتنا نفي بما علمناه فإنا لا نحتاج إلى الزيادة فيه. قال له: فإنه يزعم أنَّ حلاوة الغناء تحريكه، وتحريكه عنده أن يكون كثيرَ النَّغم، وليس يفعل ذلك إنَّما يسقط بعض عمله لعجزه عنه، فإذا فعل ذلك فهو بالإضافة إلى حاله الأولَى بمنزلة الاسكدار للكتاب، وهو حينئذٍ جدير بأن يسمى المحذوف أشبه منه بأن يسمَّى المحرك؛ فضحك علويَّة ثم قال: فإن إبراهيم يسمِّي غناءكم هذا «الممسك المدَّادي»، قال إسحاق: هذا من لغات الحاكَةِ لأنهم يُسمونَ الثوبَ الجافيَ الكثيرَ العرض والطول «المدَّادي» وعلى هذا القياس ينبغي لنا أن نسمي غناءهُ «المحرك الضرابي» وهو الخفيف السخيف من الثياب في لُغة الحاكة؛ حتى ندخلَ الغناءَ في جملة الحياكة ونخرجه عن جملة الملاهي.

ثمَّ قال لعلوية: بحياتي عليك إلَّا ما أعدت عليه ما جرى؟ فقال: لا وحياتك لا فعلت؛ فإنَّه يعلم ميلي إليكم، ولكن عليك بأبي جعفر محمد بن راشد الخفاف، فكلَّمه إسحاق وأقسم عليه أن يؤيِّده فقبل، وسار إلى إبراهيم فأخبره … فجعل كلما أخبرَه شيئًا، تغيَّظ وشتم إسحاق بأقبح شتم ثمَّ رجع ابن راشد إلى إسحاق فأخبره، فجعل كلما أخبره بشيء من ذلك ضحك وصفق سرورًا لغيظ إبراهيم من قوله.

وفي (ص٧٩) منه: إسحاق أوَّل من أحدث التخنث في الغناء ليوافق صوته.

(١) ما يُستحسَن من الغناء

وفي «نهاية الأرب» للنويري (ج٥، ص١٢٢–ص١٢٤): «ما يحتاج إليه المغني ويضطر إلى معرفته، وما قيل في الغناء والقيان من جيد الشعر» ومنه:

قال مالك بن أبي السمح: سألت ابن أبي إسرائيل عن المحسن المصيب من المغنين، فقال: «هو الذي يُشبع الألحان، ويملأ الأنفاس، ويعدِّل الأوزان، ويفخم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويُقيم الإعراب، ويستوفي النغَمَ الطوالَ، ويحسن مقاطعَ النغم القصارِ، ويصيبُ أجناسَ الإيقاع، ويختلسُ مواضع النبراتِ، ويتوقَّى ما يشاكلها من النقرات.» فعرضت ما قال على «معبد» فاستحسنه وقال: «ما يقال فيه أكثر من هذا.» وقد رويت هذه المقالة عن «ابن سريج».

وقال إبراهيم الموصليُّ: «الغناء على ثلاثة أضرب: فضربٌ مُلْهٍ مُطرِبٌ يُحرِّكُ ويستخفُّ، وضربٌ ثانٍ له شجًى ورقَّةٌ، وضربٌ ثالثٌ به حكمةٌ وإتقانُ صنعة.» وقال: كان هذا كله مجموعًا في غناء ابن سريج.

وقال أبو عثمان الناجم: بُحوحة الحلق الطيب تشبه مراضَ الأجفان الفاترة …

وقال الناجم «شعرًا»:

ما صَدَحت عاتبٌ ومزهرها
إلا وثقنا باللهو والفرح
لها غناءٌ كالبرء في جسد
أضناه طول السقام والترحِ
تَعبُدُها الراح فهي ما صدحت
إبريقنا ساجدٌ على القدحِ

وقال أيضًا:

ما تغنَّت إلا تكشَّف هَمٌّ
عن فؤادٍ وأقشعتْ أحزان
تفضل المُسمعين طيبًا وحسنًا
مثلما يفضلُ السماعَ العِيانُ

وقال أبو عبادة البُحتري:

وأشارتْ على الغِناءِ بألحا
ظٍ مراضٍ من التصابي صحاح
فطرِبْنا لهن قبلَ المثاني
وسِكرْنا لهن قبل الرَّاح

وانظر «خلاصة الأثر» (ج٢، ص٣٩٧–ص٤٠٤): «قطعة نظمها السيد عبد الكريم النقيب في ذكر الندماء وأرباب الغناء من المشاهير» والقطعة هي هذه:

كُلما جدد الشجيُّ ادِّكارَهْ
أزعج الشوقُ قلبه واستطارَهْ
ليت شِعري أين استقلَّ عن اللهو
بنوهُ وكيفَ أَخلَوْا مزارهْ
بعدما راوحتهم صفوةُ العيش
ونالُوا وَفق الهوَى أوطارَهْ
وجروا في مطارد الأنس طلقًا
واجتلوْا مِن زمانِهمْ أبكارَهْ
بيْن كأس وَرَوضة وغدير
وسماع وَلذة وغَضارَة
أينَ حلُّوا … فمُعشِبٌ ومقيلٌ
أو أناخُوا … فوردةٌ وبهارَة
من مليك زَفتْ بحضرته الكا
سَ قِيانٌ يعزفن خلف الستارة
ووزير قد بات يسترق اللذا
تِ وهْنا، واللَّيلُ مُرخٍ إزارهْ
وأمير مُمنطق بنداماهُ
وكأسُ الطلا لديهم مُدارة
كم فتًى مِن بني أميَّةَ أمْسى
وخيول الهوَى به مستطارَة

(٢) طريقة (معبد)

وفي «الأغاني» (ج١، ص٢١) بيان كيف كان معبدُ يصوغ الغناء، قال: حدثنا أبو غسان عن يونس الكاتب قال: أقبلتُ من عند معبد، فلقيني ابن محرز فقال: من أين أقبلت؟ قلت: من عند معبد، ثم لقيني ابن أبي عباد فقال: ما أخذتَ عنه؟ قلت: غنَّى صوتًا فأخذته، قال: وما هو؟ قلت:

ماذا تأمَّل واقفٌ جملًا
في رَبع دار عابهَ قِدمُه

والشعرُ لخالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد، فقال لي: ادخل معي دار ابن هرمة وألقه عليَّ، فدخلتُ معه فما زلت أرَدِّده عليه حتى غناه، ثم قال: ارجع معي إلى ابن عباد، فرجعنا إليه، ثم لم يبرح ابن محرز حتى صنع فيه لحنًا آخر:

ماذا تأمَّل واقف جملًا
في رَبع دارٍ عابه قِدَمهْ
أقوى وأقفرَ غيرَ منتصبٍ
لبد الوسادة ناصع حممهْ

غنَّاه معبد، ولحنه ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى، وفيه خفيفٌ ثقيل أول بالوسطى ينسبُ إلى «الغريض» وإلى ابن محرز، وذكر عمر بن بانة أن الثقيل الأول «للغريض»، وذكر «حبش» أن فيه «لمالك» ثاني ثقيلًا بالوُسطى، وفيه رمل بالوسطى يُنسب إلى «سائب خاثر» وذكر «حبش» أنه «لإسحاق».

قال ابن الكلبي: قدم «ابن سريج والغريض» المدينة، يتعرضان لمعروف أهلها ويزوران من بها من صَديقهما من قريش وغيرهم، فلما شارفاها تقدما ثقلهما ليرتادا منزلًا، حتى إذا كانا بالمغسلة — وهي جبانة على طرف المدينة يغسل فيها الثياب — إذا هما بغلامٍ ملتحف بإزار، وطرفه على رأسه، بيده حُبالةٌ يَتصيَّد بها الطيرَ وهو يتغنَّى ويقول:

القصرُ فالنخلُ فالجمَّاءُ بينهما
أشهى إلى النفس من أبوابِ جيرونِ

وإذا الغلام معبد، قال: فلما سمع «ابن سريج والغريض» معبدًا، مالا إليه واستعاداه، فأعاد الصوت، فسمعا شيئًا لم يسمعا بمثله قط، فأقبل أحدهما على صاحبه فقال: هل سمعت كاليوم قط؟ قال: لا والله، فما رأيك؟ قال ابن سريج: هذا غناء غلام يصيدُ الطير، فكيف بمن في الجوية — يعني: المدينة — قال: أما أنا فثكلتني والدتي إن لم أرجع.

قال: فكرَّا راجعين.

وقال «معبد»: قدمتُ مكة فذهب بي بعض القرشيين إلى «الغريض» فدخلنا عليه وهو متصبح، فانتبه من صبحته فقعد، فسلم عليه القرشي وقال له: هذا «معبد» قد أتيتك به، وأنا أحبُّ أن تسمع منه، قال: هات، فغنَّيته أصواتًا، فقال: إنك يا معبد لمليحُ الغناء، فجثوت على ركبتي ثم غنيته من صنعتي عشرين صوتًا لم يسمع بمثلها قط، وهو مطرقٌ واجمٌ قد تغير لونه حسدًا وخجلًا.

قال إسحاق: أخبرت عن (حكم الوادي) قال: كنت أنا وجماعة من المغنين نختلف إلى «معبد» نأخذ عنه ونتعلم منه، فغنانا يومًا صوتًا صنعه وأعجب به وهو:

القصرُ فالنخلُ فالجمَّاءُ بينهما
أشهى إلى النفس من أبواب جيرونِ

فاستحسناه وعجبنا منه، وكنت في ذلك اليوم أول من أخذه عنه واستحسنه مني، فأعجبتني نفسي، فلما انصرفت من عند «معبد» عملت فيه لحنًا آخر وبكرت على «معبد» مع أصحابي وأنا معجب بلحني، فلما تغنَّينا أصواتًا قلت له: إني قد عملت بعدك في الشعر الذي غنيناه لحنًا، واندفعت فغنيته صوتي، فوجم «معبد» ساعة يتعجب مني، ثم قال: قد كنت أمس أرجَى مني لك اليوم، وأنت اليوم عندي أبعدُ من الفلاح. قال حكم الوادي: فأنسيت يعلم الله صوتي ذلك منذ تلك الساعة فما ذكرته إلى وقتي هذا … اﻫ.

(٣) مدن «معبد» وحصونه

وفي «الأغاني» (ج١، ص٣): مدن معبد سبعة أصوات جعلت بإزائها سبعة أصوات لابن سريج.

وفي (ج٨ منه، ص١٠٩): ومن مدن معبد صوت، وقد أضيف إليه غيره من القصيدة:

سَلا هل قلاني مِن عشيرٍ صحبته
وهل ذمَّ رَحلي في الرفاق رفيقُ
وهل يجتري القومُ الكرامُ صحابتي
إذا اغبَرَّ مغشيُّ العجاجِ عميقُ
ولو تعلمين الغيبَ أيقنتِ أنَّني
لكم والهدايا المشعراتِ صديقُ
تكاد بلادُ الله يا أم معمرٍ
بما رحُبت يومًا عليَّ تضيق
أذودُ سَوام الطرِف عنْكِ وهل لها
إلى أحدٍ إلَّا إليك طريق
وحدثتني يا قلبُ أنكَ صابرٌ
على البيْنِ مِن لُبنى فسوف تذوق
فمت كمدًا أو عش سقيمًا فإنما
تُكلفني ما لا أراكَ تطيق
بلُبنى أنادِي عندَ أوَّل غشية
وَلو كنت بينَ العائدات أفيقُ
إذا ذُكرت لبني تجلَّتْكَ زَفرَةٌ
ويُثني لكَ الداعي بها فتفيق

عروضه من الطويل، الشعر لقيس بن ذريح، والغناء لمعبد، في اللحن المذكور ثقيلٌ أول بالخنصر في مجرى البنصر، وعند إسحاق في الأول والثاني والثالث.

وذكر في موضعٍ آخر أن معبد له في هذا اللحن ثقيلٌ أول بالبنصر في مجرى الوسطى أوله (صوت):

أتجمعُ قلبًا بالعراق فريقهُ
ومنه بأطلال الأراك فريق
فكيف بها لا الدار جامعةُ النوَى
ولا أنتَ يومًا عن هواكَ تُفيق
ولو تعلمينَ الغيْبَ أيقنتِ أنني
لكم والهدايا المشْعرات صديقُ

البيتان الأوَّلان يُرويان لجرير وغيره، والثالث لقيس بن ذريح أضافه إليهما «معبد».

وذكر عمرو ويونُس أن لحن معبد الأول في الأبيات الخمسة الأولى من الشعر، وذكر عمرو بن بانة أن (بذل) الكبيرة لها خفيف رمل بالوسطى في الرابع من الأبيات، وبعده:

دَعونا الهوى ثم ارتمينا، قلوبُنا
بأعين أعداءٍ وهن صديق

وبعده الخامس من الأبيات وهو:

أذودُ سوام الطرف عنك وهل لها
إلى أحد إلَّا إليك طريق

وزعم «حبش» أن لابن سريج خفيف رمل بالبنصر في لحن «معبد» الثاني الذي أوله «أتجمع قلبًا بالعراق …» وذكر أيضًا أن للغريض في الأول والثاني والسابع ثاني ثقيل بالبنصر، ولابن مسجح خفيف رمل بالبنصر، وفي السادس وما بعده «لحكم الوادي» ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، وذكر «حبش» أن للغريض فيها ثقيلًا أول بالوسطى.

وفي ص١١١ منه صوت من مدن معبد، جمع معه سائر ما يُغنَّي فيه من القصيدة وهي:

هل غادَرَ الشعراءُ من متردَّمِ
أم هل عَرَفتَ الدار بعد توهُّمِ
يا دارَ عبلةَ بالجواء تكلمي
وعِمى صباحًا دار عبلة واسلمي
وتحلُّ عبلة بالجواء وأهلنا
بالحزن فالصِّمَّان فالمتثلِّم
كيف القرارُ وقد تربَّع أهلها
بعنيزتَين وأهلنا بالغيلم
حُيِّيتَ من طللٍ تقادم عهده
أقوى وأقفر بعد أمِّ الهيثم
ولقد نزلتُ فلا تظني غيره
مني بمنزلة المحب المكرم
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدُر
للحرب دائرة على ابني ضمضَم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما
والناذرين إذا لم ألْقَهُما دَمِي
ولقد شفَى نفسي وأبْرأ سُقْمهَا
قيلُ الفوارس وَيْكَ عنترَ أقدمِ
ما زلت أرميهم بثغرة نحْره
ولبانِه حتَّى تسربَلَ بالدم
هلَّا سألتِ الخيل يا ابنة مالك
إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
يخبرْك من شهد الوقيعة أنَّني
أغشى الوغى وأعفُّ عِند المغنم
يدعون عنتر والرماح كأنها
أشطان بئر في لبان الأدهم
فشككت بالرمح الطويل ثيابه
ليس الكريم على القنا بمحرَّم
فإذا شربتُ فإنني مستهلك
مالي وعرضي وافرٌ لم يُكلم
وإذا صحوتُ فما أقصِّرُ عن ندى
وكما علمت شمائلي وتكرُّمي

الشعرُ لعنترة بن شداد العبسي، وغنى إسحاق في البيت الأول — على ما ذكره ابن المكي — خفيف ثقيل أول بالوسطى، وما وجدت هذا في رواية غيره.

وغنى معبد في البيت الثاني والثالث خفيف ثقيل أول، بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق، وهو الصوت المعدود في مدن معبد، وغنى سلام الغسال في السابع والثامن والثالث والعاشر رملًا بالسبابة في مجرى البنصر، ووجدت في بعض الكتب أن له أيضًا في السابع وحده ثاني ثقيل أيضًا، وذكر عمرو بن بانة أن هذا الثقيل الثاني بالوسطى لمعبد، ووافقه يونس، وذكر ابن المكي أن هذا الثقيل الثاني للهندلي، وذكر غيره أنه لابن محرز، وذكر أحمد بن عبيد أن في السابع ثقيلًا أول للهذلي، ووافقه حبش، وذكر حبش أن في الثاني ثقيلًا أول وأن لابن سريج فيه رملًا آخر غير رمل ابن الغسال، وأن لابن مسجح أيضًا فيه خفيف ثقيل بالوسطى، وفي كتاب أبي العنبس: له في الثالث لحن.

وفي كتاب أبي أيوب المدني: لابن جامع في هذه الأبيات لحن، ولمعبد في الحادي عشر والثاني عشر والخامس عشر والسادس عشر خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى، عن إسحاق أيضًا.

وفي (ص١٣٥) منه: نسبة الأصوات التي جعلت مكان بعض هذه الأصوات في مدن معبد ومنها «صوت»:

تقطَّعَ من ظلَّامةَ الوصل أجمعُ
أخيرًا على أن لم يكن يتقطَّع
وأصبحتُ قد ودَّعت ظلَّامَة التي
تضر وما كانت مع الضر تنفعُ

الشعر لكثير، والغناء لمعبد: خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو ويونس.

(٤) المسايرة والهنكرة

في «بغية الملتمس» (ص١٩٠) قال «محمد بن الحسن»: كان «أسلم» من أجمل من رأته العيون، وكان يجيء معنا إلى محمد بن خطاب؛ أحمد بن كليب، وكان من أهل الأدب البارع والشعر الرايق، فاشتد كَلَفه بأسلم وفارق صبره، وصرف فيه القولَ مستترًا بذلك، إلى أن فشت أشعاره فيه وجرت على الألسنة وتنوشدت في المحافل، فلعهدي بِعُرْس في بعض الشوارع بقرطبة، والنكوري الزَّامر قاعدٌ في وسط الحفل، وفي رأسه قلنسوة وشي، وعليه ثوبُ خز عبيدي، وفرسه بالحلية المحلاة، وغلامُه يمسكهُ، وكان فيما مضى يزمر لعبد الرحمن الناصر، وهو يزمر في البوق.

يقول أحمد بن كليب «في أسلم»:

وأسلمني في هواه أسلمُ هذا الرشا
غزال له مقلة يصيب بها من يشا
وشى بيننا حاسد سيسأل عمَّا وَشى
ولو شاء أن يرتشي على الوصل روحي ارتشى

ومغنٍّ محسن يسايره فيها، فلما بلغ هذا المبلغ انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب، ولزم بيته والجلوسَ على بابه، وكان أحمد بن كليب لا شغل له إلا المرور على باب دار أسلم سايرًا مقبلًا نهارَه كله … فانقطع أسلم عن الجلوس على باب داره نهارًا، فإذا صلى المغرب واختلط الظلام خرج مستروِحًا وجلس على باب داره، فعيلَ صبر أحمد بن كليب فتحيل في بعض الليالي ولبس جبة من جباب أهل البادية، واعتم بمثل عمايمهم، وأخذ بإحدى يديه دجاجًا، وبالأخرى قفصًا فيه بيض، وتحين جلوسَ أسلم عند اختلاط الظلام على بابه، فتقدم إليه وقبل يده وقال: يأمر مولاي بأخذ هذا، فقال له أسلم، ومن أنت؟ فقال: صاحِبك في الضيعة الفلانية، وكان قد تعرف أسماء ضياعِه وأصحابه فيها، فأمر أسلم بأخذ ذلك منه، ثم جعل أسلم يسأله عن الضيعة، فلما جاوبه أنكرَ الكلام، وتأمله فعرفه، فقال له: يا أخي، إلى هذا بلغت بنفسك وتبعتني إلى هنا! أما كفاك انقطاعي عن مجالسي … وعن القعود على بابي نهارًا حتى قطعت عليَّ جميعَ مالي؟!

وفي (ص٢٢٤) من «بغية الملتمس» ترجمة لزرياب في «من اسمهُ أسلمُ» قال: هو أسلم بن عبد العزيز بن هاشم أبو الحسن، له أدب وشعر، من أهل بيت علم وجلالة، وله كتابٌ معروف في أغاني «زرياب»، وكان زرياب عند الملوك بالأندلس كالموصلي وغيره من المشهورين، برز في صناعته وتقدَّم فيها، ونفذ بها، وله طرائق تُنسب إليه، وأسلمُ هذا هو الذي ذكرنا قصته مع أحمد بن كليب، وكنيته «أبو الجعد»، وقد ولي قضاء الجماعة بالأندلس لعبد الرحمن الناصر، وكانت له رحلةٌ روَى فيها عن يونس بن عبد الأعلى وأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى، وأبي محمد الربيع بن سليمان، وسمع محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وغيره، وله سماعٌ بالأندلس من تقي بن مخلد ومحمد بن عبد الرحمن الخشني، وقاسم بن محمد ونحوهم، وكان جليلًا في القضاء ثقة من الرواة، يميل إلى مذهب الشافعي، ومات في يوم السبت، وقيل يوم الأربعاء لِتسع بَقين من رجب سنة ٩٣٩ﻫ، وهو أخو أبي خالد هاشم بن عبد العزيز، وروى عنه جماعة، منهم خالد بن سعد.

وفي «الأغاني» (ج١٧ ص١٢٣): من المغنين طبقة الخيناكرين، والخنكرة هي: الهنكرة، ومنها: فلان يهنكر في الفرح.

حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال: كان سبب دخولي في الغناء، وتعلمي إياه أنِّى كنتُ أهوى جارية لعمتي رُقية بنت الفضل بن الربيع، فكنت لا أقدر على ملازمتها والجلوس معها خوفًا من أن يظهر ما لها عندي؛ فيكون ذلك سبب منعي منها، فأظهرت لعمتي أنني أشتهي أن أتعلم الغناء ويكون ذلك في ستر عن جدِّي، وكان جدِّي وعمتي في حال من الرِّقة عليَّ والمحبة لي لا نهاية وراءها؛ لأن أبي تُوفِّيَ في حياة جدي الفضل، فقالت عمتي: يا بُنيَّ، وما دعاك إلى ذلك؟ فقلت: شهوةٌ غلبتْ على قلبي، إن مُنعتُ منها مِتُّ غمًّا، وكان لي في الغناء طبعٌ قويٌّ، فقالت لي: أنت أعلم وما تختاره، والله ما أحب منعك من شيء، وإني لكارهةٌ أن تحذقَ ذلك وتسهر به فتسقط ويفتضح أبوك وَجدُّك.

فقلت: لا تخافي ذلك، فإنما آخذُ منه مقدار ما ألهو به، ولازَمت الجارية لمحبتي إياها بعلَّة الغناء، فكنت آخذ عنها وعن صواحباتها، حتى تقدمتُ الجماعة حذقًا، وأقررن لي بذلك، وبلغتُ ما كنت أريد من أمر الجارية، وصرت ألازم مجلس جدي، فكان يسر بذلك، ويظنه تقربًا مني إليه، وإنما كان وجدي فيه أخذ الغناء، فلم يكن يمر لإسحاق ولا لابن جامع، ولا للزبير بن دحمان ولا لغيره صوت إلا أخذته، فكنت سريع الأخذ، وإنما كنت أسمعه مرتين أو ثلاثًا، وقد صح لي وأحسست من نفسي قوةً في الصناعة فصنعتُ أولَ صوت صنعته في شعر العرَجيِّ:

أماطت كساء الخز عن حرِّ وجهها
وأدنت على الخدين بردًا مهلهلًا

ثم صنعت صوتًا آخر، في قول الشاعر:

أقفرَ من بعد حلة سَرَفُ
فالمنحني فالعتيق فالجرفُ

وعرضتهما على الجارية التي كنت أهواها وسألتها عما عندها فيهما؛ فقالت: لا يجوز أن يكون في الصنعة شيء فوق هذا، وكان جواري الحارث بن بشخير وجواري ابنه محمد يدخلن إلى دارنا فيطرحن على جواري عمتي وجواري جدي ويأخذن أيضًا مني ما ليس عندهن من غناء دارنا، فسمعنني ألقي هذين الصوتين على الجارية، فأخذنهما مني، وسألن الجارية عمن صنعهما فأخبرَتْهن أنهما من صنعتي، فسألنها أن تصححهما لهن، ففعلتْ، فأخذنهما عنها ثم اشتهرا حتى غنى الرشيد بهما يومًا فاستظرفهما وسأل إسحاق: هل تعرفهما؟ فقال: لا، وإنهما لمن أحسن الصنعة وجيدها ومتقنها. ثم سأل الجارية عنهما، فتوقفت خوفًا من عمتي، وحذرًا أن يبلغ جدي أنها ذكرتني فانتهرها الرشيد، فأخبرته بالقصة، فوجَّه من وقته فدعا بجدي، فلما أحضر قال له: يا فضل، أيكون لك ابن يغني ثم يبلغ في الغناء المبلغ الذي يمكنه معه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق وسائر المغنين، ويتداولهما جواريَّ القيان، ولا تعلمني بذلك؟ كأنك رفعت قدره عن خدمتي في هذا الشأن.

فقال له جدي: وحق ولائك يا أمير المؤمنين ونعمتك، وإلا فأنا نفي منهما بريء من بيعتك وعلى العهد والميثاق والعتق والطلاق، إن كنت علمت بشيء من هذا قط إلا منك الساعة، فمن هذا من ولدي؟

قال له الرشيد: هو عبد الله بن العباس، فأحضرنيه الساعة.

فجاء جدي وهو يكاد ينشقُّ غيظًا، فدعاني، فلما خرجت إليه شتمني وقال: يا كلب، بلغ من أمرك ومقدارك أن تجسر على أن تتعلم الغناء بغير إذن ثم زاد ذلك حتى صنعت، ولم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجواري في داري ثم تجاوزنهن إلى جواري الحارث بن بشخير، فاشتهرت وبلغ أمرك أن أمير المؤمنين تَنكَّر لي ولامني، لقد فضحت آباءك في قبورهم، وسقطت الأبد إلا من المغنين وطبقة الخيناكرين.

فبكيت غمًّا بما جرى، وعلمت أنه قد صدق، فرحمني وضمني إليه وقال: قد صارت الآن مصيبتي في أبيك مصيبتين: إحداهما به وقد مضى وفات، والأخرى بك وهي موصولة بحياتي، ومصيبتك باقية العار عليَّ وعلى أهلي بعدي، وبكى …

وفي «نهاية الأرب» للنويري (ج٤، ص٣٥٦، س١٢): إذا خنكرت فخنكر لمثل هؤلاء.

وفي «إرشاد الأريب» (ج١، ص٣٨٣): «خيناكر: للمغني» خفيف ثقيل. في الأغاني (ج١٣ ص١١٨): الابتداءات والأجوبة، وفي (ص١٢٨) نشيد خفيف ثقيل أول بالوسطى … إلخ. أما خفيف الثاني بالوسطى فكان الناس زمن المؤلف يسمونه الماخوري وهو نوع من أناشيد الأغاني (الجزء السادس ص١٥١)، وفي الأغاني (ج١٩ ص١١٩): «غناء خفيف الثقيل، وهو مذموم؛ لأنه ينسب إلى الطبقة الدنيا من مرتادي المواخير.»

(٥) إسحاق الموصلي وألحانه

وفي الأغاني (ج٥ آخر ص٥٨): علي بن هارون حدث عن محمد بن موسى اليزيدي قال: حدثتني «دمن» جارية إسحاق الموصلي، وكانت من كبار جواريه وأحظى مَن عنده، ولقيتها فقلت لها: أي شيء أخذت من مولاك من الغناء؟

فقالت: لا والله ما أخذتُ عنه شيئًا ولا أخذتْ عنه واحدة من جواريه صوتًا، وكان أبخل بذلك، وما أخذتُ منه قط إلا صوتًا واحدًا، وذلك أنه انصرف من دار الخليفة وهو مثخن سكران فدخل إلى بيت كان ينام فيه، فرأى عودًا معلقًا، فأخذه بيده وقال لخادمه: يا غلام صِحْ لي بدمن، فجاءني الغلام، فخرجت، فلما بلغت الباب إذا هو مستلقٍ على فراشه والعود في يده، وهو يصنع هذا الصوت ويردِّده، وقد استخفر في نغمة وتنوَّق فيها حتى استقام له (صوت):

ألا ليلك لا يذهب
ونيط الطرف بالكوكب
وهذا الصبح لا يأتي
ولا يدنو ولا يقرب

فلما سمعته علمت أني إن دخلت إليه أمسك، فوقفت أستمعه حتى فرغ منه وأخذته عنه، فلما فرغ منه وضع العود من يده، وذكر أنه طلبني فقال: يا غلام، أين دمن؟ فقلت: ها أنا ذا، فقال: مذ كم أنت واقفة؟ فقلت: منذ ابتدأت بالصوت، وقد أخذته، فنظر إليَّ نظر مغضبٍ أسِف، ثم قال: غنِّيه، فغنيته حتى استوفيته، فقال لي وقد فتر وخجل: قد بقيت عليك فيه بقية أنا أصلحها لك، فقلت: لست أحتاج إلى إصلاحك إياه، وقد والله أخذته على رغمك، فضحك.

ولحن هذا الصوت من الهزج بالبنصر، والشعر والغناء لإسحاق.

(٦) الصيحة في اللحن

في «أزاهير الرياض المريعة» للبيهقي (ص١٥٤): الألحان عند المغنين، هي الطرق والجماعات من الغناء، وفي «الأغاني» (ج٥ ص٩٣): الصياح: رمل نادر وابتداؤه صياح.

وفي (ص١٠٢): وصف صنعة إسحاق وغنائه، وفيه كلمات من اصطلاح الغناء مثل: الصياح والإسجاح.

وفي الأغاني أيضًا (ج١٣ ص١٧٠): الصيحة التي في لحن «حنين» من الصدر، ثم من الحلق … إلخ. (صوت):

لمن الدار أقفرت بمعان
بين شاطئ اليرمُوك فالصَّمان
فالقريَّات من بلاس فداريَّا
فسكاء فالقصور الدَّواني
ذاك مغْنى لآل جفنة في الدا
ر وحقٌّ تصرُّفُ الأزْمان
صلواتُ المسيح في ذلك الديـ
ـر دُعاء القسيس والرهبان

والشعر: لحسان بن ثابت، والغناء: لحنين بن بلوع، خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى، وهذا الصوت من صدور الأغاني ومختارها، وكان إسحاق الموصلي يقدِّمه ويفضِّله، ووجدت في بعض كتبه بخطه، قال: الصيحة التي في لحن «حنين»: لمن الدار أقفرت بمعان، أخرجت من الصدر، ثم من الحلق، ثم من الأنف، ثم من الجبهة، ثم ثبرت فأخرجت من القحف، ثم بوئت إلى الأنف ثم قطعت … اﻫ.

(٧) المقرون والنصب

وفي «العقد الثمين» للفاسي (ج٣ ص٩٣): قلت: ثم استوطن القاهرة وساءت أخلاقه فالله يغفر له. اﻫ، وصح لي عن الشيخ شهاب الدين أحمد بن لولو المعروف بابن النقيب، مؤلف شرح «مختصر الكفاية» «لابن الرفعة» أنه قال ما معناه: رجلان من أهل عصرنا: أحدهما، يؤثر الخمول، جهده؛ وهو الشيخ عبد الله بن خليل المكي — نعني المذكور — وآخر يؤثر الظهور جهده؛ وهو الشيخ عبد الله اليافعي. وسمعت شيخنا الشريف عبد الرحمن بن أبي الخير الفاسي يقول: إن الشيخ عبد الله بن خليل هذا أعطاه دريهمات لما رآه بمنزله بسطح جامع الحاكم بالقاهرة، قال: فاشتريت منها وريقات وكتبت في بعضها قصصًا بأمور أردتها، فيسر الله قضاها وعددت ذلك من بركة الشيخ رضي الله عنه، وذكر أنه: كان يميل إلى سماع الغناء الذي يسميه أهل الحجاز «المقرون» وهو نوع من النصب١ الذي كان بعض السلف تغنى به، وبلغني أنه: كان يأتيه شيء من غلة ماله بوادي مر (من أرباض مكة) وتوفي يوم الأحد ثاني جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وسبعمائة بمنزله بسطح الجامع الحاكمي بالقاهرة، ودفن بالقرافة الصغرى بالقرب من الشيخ تاج الدين بن عطاء الله.

(٨) صوت من المائة المختارة

في «الأغاني» (ج١ ص١٢٥–١٢٦): وصف الغناء الجيد كيف يكون، وهو الثالث من الثلاثة المختارة:

أهاج هواك المنزلُ المتقادمُ
نعم، وبه مما شجاك معالمُ
مضاربُ أوتاد، وأشعث داثر
مقيم «وسُفْعٌ» في المحلِّ جواثمُ

عروضه من الطويل، الشعر لنصيب، والغناء في اللحن المختار لابن محرز، ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، وله فيه أيضًا «هزجٌ» بالسبابة في مجرى البنصر، وذكر جحظة عن أصحابه أنه هو المختار، وحكى عن أصحابه أنه ليس في الغناء كله نغمة إلا وهي في الثلاثة الأصوات المختارة التي ذكرها، ومن قصيدة نصيب هذه مما يغني فيه قوله:

لقد راعني في البين نوحُ حمامة
على غصن بانٍ جاوبتها حمائمُ
هواتفُ، أما من بكينَ فعهدُه
قديمٌ، وأما شجوُهن فدائم

الغناء لابن سُريج، ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن يونس ويحيى المكي وإسحاق، وأظنه مع البيتين الأولين، وأن الجميع لحنٌ واحد ولكنه تفرق — لصعوبة اللحن وكثرة ما فيه من العمل — فجُعلا صوتَين …

(٩) غناء الإمام مالك

في الأغاني (ج٢ ص٧٨): حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: سمعت إبراهيم بن سعد يحلف للرشيد وقد سأله عمن بالمدينة يكره الغناء، فقال: مالك بن أنس، ثم حلف له أنه سمع مالكًا يُغني في عرس رجل من أهل المدينة يُكنَّى «أبا حنظلة»:

سليمى أزْمعت بينَا
فأيْنَ بقوْلها أينا

وفي (ج٤) منه (ص٣٩) قصة مالك في تصحيحه لحنًا، وهذا نصها: قال «صاحب الأغاني»: أخبرني محمد بن عمرو العباسي القرشي قال: حدثني إسحاق بن محمد بن أبان الكوفي قال: حدثني حسين بن دحمان الأشقر قال: كنت بالمدينة، فخلا لي الطريق وسط النهار فجعلت أتغنى:

ما بال أهلك يا رَباب
خُزْرًا كأنَّهمُ غِضاب

قال: فإذا خوخة قد فُتحت، وإذا وجه تتبعه لحيةٌ حمراء، فقال: يا فاسق أسأتَ التأدية، ومنعتَ القائلة، وأذعتَ الفاحشة، ثم اندفع الفاحشة، ثم اندفع يغنيه، فظننتُ أن «طويسًا» قد نشر بعينه، فقلت له: أصلحك الله من أين لك هذا الغناء؟ فقال:

نشأت وأنا غلام حدثٌ أتبع المغنين، وآخذ عنهم، فقالت لي أمي: يا بني، إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يُلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلب الفقه فإنه لا يضر معه قبح الوجه، فتركت المغنين، واتبعت الفقهاء فبلغ الله بي عزَّ وجلَّ ما ترى.

فقلت له: فأعد جعلت فداك، قال: لا، ولا كرامة، أتريد أن تقول أخذته عن مالك بن أنس، وإذا هو مالك بن أنس ولم أعلم.

(١٠) غناء الوليد بن يزيد

في «الأغاني» (ج٨، ص١٦١): كان للوليد بن يزيد أصوات «صنعها» مشهورة، وقد كان يضرب بالعود، ويوقع بالطبل، ويمشي بالدف على مذهب أهل الحجاز، كما أخبر الحسن بن علي عن محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد عن القطراني عن محمد بن جبر، قال: حدثني من سمع خالد بن صامة يقول: كنت يومًا عند الوليد بن يزيد، وأنا أُغنِّيه «أراني الله يا سلمى حياتي»، وهو يشرب حتى سكر، ثم قال لي: هات العودَ، فدفعته إليه، فغناني أحسن غناء، فنفستُ عليه إحسانه، ودعوت بطبل فجعلت أوقع عليه وهو يضرب، ثم دفع العود وأخذ الطبل فجعل يوقع به أحسن إيقاع، ثم دعا بدف فأخذه ومشي به وجعل يغني أهزاج طويس، حتى قلت: قد عاش، ثم جلس وقد انبهر، فقلت: يا سيدي كنت أرى أنك تأخذ عنا، ولكنا الآن نحتاج إلى الأخذ عنك، فقال: اسكت ويلك، فوالله لئن سمع هذا منك أحدٌ ما دمتُ حيًّا لأقتلنك.

قال خالد: فوالله ما حكيته عنه، حتى قُتل.

(١١) غناء إبراهيم بن المهدي

في «الأغاني» (ج٦، ص١٦٦): إبراهيم بن المهدي كان يغني (الأهزاج).

وذكر أحمد بن المكي عن أبيه: أن حكمًا لم يشهر بالغناء ويذهب له الصيت به حتى صار الأمر إلى بني العباس فانقطع إلى محمد بن أبي العباس أمير المؤمنين، وذلك في خلافة المنصور، فأُعجب به واختاره على المغنين، وأعجبته أهزاجه.

وكان يقال: إنه من أهزج الناس، ويقال: إنه غنى الأهزاج في آخر عمره، وأن ابنه لامه على ذلك وقال له: أبعد الكبر تغني غناء المخنثين؟ فقال له: اسكت فإنك جاهل، غنيتُ الثقيلَ ستين سنة فلم أنل إلا القوت، وغنيتُ الأهزاجَ منذ سنياتٍ فأكسبتكَ ما لم ترَ مثله قط.

وفي «الأغاني» (ج٩، ص٧١): حدَّث بعض الكتَّاب عن «ريق» قال: خرجت يومًا إلى سيدي — يعني إبراهيم بن المهدي — وقد صنع لحنه في:

وإذا تُباعُ كريمةٌ أو تُشترى
فسواكَ بائعها وأنتَ المشتري
وإذا صنعتَ صنيعة أتممتها
بِيدين ليسَ نداهما بمكدَّرِ

وجاريةٌ لنا روميةٌ أعجميةٌ لا تُفصحُ، في أقصَى الدار تكنسُ، وهو يطرحُ الصوتَ على جاريته شادية، والأعجمية تبكي أحرَّ بكاء سمعته قط، فجعلت أعجبُ من بكائها وأنظر إليها حتى سكتُّ، فلما سكتُّ قطعت البكاءَ، فعلمتُ أن هذا من غلبته بحسن صوته لكلِّ طبع، فصيح وأعجميٍّ.

وفي «الأغاني» (ج٩، ص٧٢): كان محمد بن موسى المنجم يقول: حكمت أن إبراهيم بن المهدي أحسن الناس كلهم غناءً ببرهان؛ وذلك أني كنت أراه بمجالس الخلفاء — مثل: المأمون والمعتصم — يغني، فإذا ابتدأ الصوتَ لم يبق من الغلمان والمنصرفين في الخدمة وأصحاب الصناعات والمهن الصغار والكبار أحدٌ إلا تركَ ما في يده، وقرُبَ من أقرب موضع يمكنه أن يسمعه، فلا يزال مصغيًا إليه، لاهيًا عما كان فيه ما دام يغني، حتى إذا أمسك وتغنى غيره، رجعوا إلى التشاغل بما كانوا فيه ولم يلتفتوا إلى ما يسمعون.

ولا برهان أقوى من هذا في مثل هذا، من شهادة العصبة له، واتفاق الطبائع — مع اختلافها وتشعب طرفها — على الميل إليه والانقياد له.

(١٢) تعليم ضرب الطبل

في «الأغاني» (ج١٤، ص٥٢): أخبر جحظة أنه حدثه أبو حشيشة قال: كنت يومًا عند عمرو بن بانة، وعنده طبل يحبه، وطلب في الدنيا كلها من يضرب عليه فلم يجد أحدًا، فقال له جعفر الطبال: إن أنا غنيتك اليوم على عود يضرب به عليك أي شيء لي عندك؟ قال: مائة درهم ودن نبيذ، وكان جعفر حاذقًا متقدمًا نادرًا في بذل الهمة، فقال: أسمعني مخرج صوتك، ففعل، فسوى عليه طبله كما يسوي الوتر واتكأ عليه بركبته ووقع عليه، ولم يزل عمرو يغني بقية يومه على إيقاعه، لا ينكر منه شيئًا حتى انقضى يومنا، ودفع إليه مائة درهم، وأحضر الدن فلم يكن له من يحمله، فحمله جعفر على عنقه، وغطاه بطيلسانه، وانصرفنا.

قال أبوحشيشة: فحدثت بهذا إسحاق بن عمرو، وكان صديق إبراهيم بن المهدي، فحدثني أن إبراهيم قال لجعفر: حذِّقْ فلانة جاريتي ضرب الطبل ولك مائة دينار، أُعجل لك منها خمسين، فقبل وعُجِّلتْ له الخمسون.

ولما حذقت الجارية الضرب، طالب جعفرُ إبراهيمَ بتتمة المائة، فلم يعطِه، فاستعدى عليه أحمد بن أبي داود الحسني خليفته فأعداه، ووكل إبراهيم وكيلًا، فلما تقدموا للقاضي مع الوكيل، أراد الوكيل أن يكسر حجة جعفر فقال: أصلح الله القاضي، سله من أين له هذا الذي يدعي وما سببه؟

فقال جعفر: أصلح الله القاضي، أنا طبال، وشارطني إبراهيم على مائة دينار على أن أُحذق جاريته فلانة، وعجَّل لي خمسين دينارًا، ومنعني الباقي بعد أن رضي حذقها، فيحضر القاضي الجارية وطبلها، وأحضر أنا طبلي، ويسمعنا القاضي، فإن كانت مثلي قضى لي عليه، وإلا حذقتها فيه حتى يرضى القاضي.

فقال له القاضي: قم عليك لعنة الله وعلى من يرضى بذلك منك ومنها.

فأخذ الأعوان بيده فأقاموه.

(١٣) مناظرة بين إسحاق وإبراهيم

في «الأغاني» (ج٩ ص٧٣–٧٧): (المناظرة التي كانت بين إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي في الغناء، مع مكاتباته في ذلك وغيره)، قال: حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال: حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال: قلت للمعتصم: كانت لأبي أشياء لم يكن لأحد مثلها، فقال، وما هي؟ قلت: شادية المغنية، وزامرتها معمعة.

فقال: أما شادية فعندنا، فما فعلت الزامرة؟ قلت: ماتت.

قال: وماذا غيرهما؟ قلت: ساقيته (مكنونة) ولم يرَ أحسن وجهًا ولا ألين ولا أظرف منها، قال: فما فعلت؟ قلت: ماتت.

قال: وماذا؟ قلت: نخلة كانت تحمل رطبًا، طول الرطبة منها شبر. قال: فما فعلت؟ قلت: جمرتها بعد وفاته.

قال: وماذا؟ قلت: قدَحُه (الضحضاح)، قال: وما فعل؟ قلت: الساعة والله حجمني فيه أبو حرملة، فسألته أن يهبه لي ففعل، ووجهت به إلى منزلي فغُسل ونُظِّف وأعيد إلى خزانتي.

قال هبة الله بن إبراهيم بن المهدي: فرأيت أبي فيما يرى النائم في ليلتي تلك، وهو يقول لي:

أينزع «ضحضاحي» دمًا بعدما غدت
عليَّ به (مكنونة) مترعًا خمرًا
فإن كنت مني، أو تحب مسرَّتي
فلا تغفلنْ قبل الصباح له كسرًا

فانتبهتُ فزعًا، وما فرق الصبح حتى كسرته.

قال صاحب «الأغاني»: فأما المناظرة التي كانت بين إبراهيم بن المهدي وبين إسحاق، فقد مضى في خبر إسحاق منها طرفٌ، ونذكر ها هنا منها ما جرى مجرى محاسن إبراهيم والقيام بحجته إن كانت له، وعذره فيما عيب عليه؛ لأنه بذلك حقيق.

فمن ذلك ما نسخته من كتاب أعطانيه أبو الفضل العباس بن أحمد بن ثوابه رحمه الله، بخط إسحاق في قرطاس، وأنا أعرف خطه، وجواب لإبراهيم بن المهدي في ظهره بخطٍّ ضعيف، وأظنه خطه لأنه لو كان خط كاتبٍ آخر لكان أجوَدَ من ذلك الخط، وقد ذهب أول الكتاب وذهب أول الابتداء والجواب، ونسخت بقيته، فكان ما وجدته من ابتداء إسحاق قوله:

وكنتَ — جُعلتُ فداءك — كتبت في كتابك إلى محمد بن واضح تذكر أنك مولًى وسيدٌ، فمتى دفعتُ ذلك؟ وهل لي فخرٌ غيره، أو لأحد عليَّ وعلى أبي رحمه اللهُ من قبلي نعمةٌ سواكم؟ وما أحب ذلك أن يكون، وأرجو أن أموت قبل أن يبتليني الله بذلك إن شاء الله، فأمَا ذكرك — جعلت فداءك — الصناعة، فقد أجلَّ الله قدرَكَ عن الحاجة إلى دفعها والاعتذار منها، وأما أنا المسكين فأنت تعلم أني لم أتخذ ما نحن فيه صناعةً قط، وأني لم أردها إلا لكم شكرًا لنعمتكم وحبًّا للقرب منكم وإليكم، فليس ينبغي أن يعيبني ذلك عندكم، ولا يجوز لأحد أن يعيبني به إذ كان لكم، وقد علمت أنَّك لم تضعني من «علوية» و«مخارق» بحيث وضعتني إلا بغضب أحوجك إلى ذلك، وإلا فأنت تعلم أنهما لو كانا مملوكَين لي لآثرتُ تعجيل الراحة منهما بعتقهما أو تخلية سبيلهما، على ثمن أصعبه ببيعهما، أو حمد أكتسبه بثمنهما، فكيف أظن أني عندك مثلهما، أو أنك تقربني إليهما وتذكرني معهما، أو تلومني الآن على أن أخرس فلا أنطق بحرف، وأن أفرَّ من الغناء فرارك من الخطأ فيه، وأمتعض منه امتعاضك ممن يخفي عليك شيئًا من علومه؟! كيف ترى — جُعلتُ فداءك — الآن سبابي، وأنت ترى أن أحدًا لا يحسن السب غيرك، وقد أحدثت لي — جعلت فداءك — أدبًا، وزدتني بصيرةً فيما أحب من تركه وترك الكلام فيه، فإن ظننت أن هذا فرار من الحجة، ونفض يد من المناظرة كما قلت؛ فقد ظفرت وصرت إلى ما أصبت، وإلا فإنه لا ينبغي للحر أن يتلهَّى بما لا تقوم لذاته بمعرفته، ولا لعاقل أن يبذل ما عنده لمن لا يحمده، ولعله لا يقلب العين فيه حتى يلحقه ما يكره منه.

وأما ما قاله أبي رحمه الله من أنه لم يزل يتمنى أن يرى من سادته من يعرف قدرَه حق معرفته، ويبلغ علمه بهذه الصناعة الغاية العظمى حتى رآك فقد صدق، وما زال يتمنى ذلك، وما زلت أتمناهُ، فهل رأيت — جعلت فداءَك — حظِّي منه إلا أن ساويت فيه من لم يكن يساوي شسعه، ولعلكَ لا ترضى في بعض القوم حتى تفضله عليه، لا تنفعه عندك معرفة به ولا رعايةٌ لطول الصحة والخدمة، ولا حفظٌ لآثارٍ محمودةٍ باقيةٍ تذكرُها وتحتجُّ بها؛ ثم ها أنا من بعده تضعني بالموضع الذي تضعني به، وتنسبني إلى ما تنسبني إليه؛ لأني توخيتُ الصواب، واجتهدت في البذل والمناصحة، لا يدفعك عني حفظٌ لسلف، ولا صيانةٌ لخلف، ولا استدامة لقديم ما تعلم، ولا مصانعةٌ لما تطلب، ولا ولاء مما أكره أن أقوله.

فما أرى — جعلت فداءَكَ — من معرفتك بما في أيدينا إلا تجرُّع الحسرات وتطلبك لنا العثرات، والله المستعانُ.

كيف أصنعُ — جعلتُ فداءَكَ؟ إن سكتُّ لم تقبل ذلك، وإن صدقتُ كذبتني، وإن كذبتُ ظفرتَ بي، وإن مزحت لأطربك وأضحكك وأقرب من أنسكَ وآخذ بنصيبي من كرمك؛ غضبتَ وسببتَ، ولو كنتُ قريبًا منك لضربت، وليتَك فعلتَ، فكان ذلك أيسر من غضبك.

ثم مِن أعظم المصائب عندي: أمرُكَ إيايَ أن أسأل محمد بن واضح عن قول قلته فِيَّ عند عمرو بن بانة! فوالله — جُعلتُ فداءَكَ — إني لأبْشَعُ بذكره، فكيف أحب أن أذكره وأذكر له، وإني لأرثي لك مِن النظر إلَيه، وأعجبُ من صبرك عليه، مع أني أعوذ بالله من ذلك، ولو رغبت في هذا منه ومن مثله لكفيتكَ ونفسي ذلك بأن أكسوه ثوبين أو أهبَ له دينارَين، أو أقولَ له: أحسنت في صوتين حتى يبلغ أكثر مما أردتَ لي، أو أريده لنفسي.

فالحمد لله الذي جعل حظي منك هذا ومثله، غير مستصغر لشأنك، ولا مستقل لقليل حُسن رأيك، والله أسأل أن يطيل بقاءك، ويحسن جزاءك، ويجعلني فداءك.

قد طال الكتاب وكثر العتاب، وجملة ما عندي من الإعظام والإجلال اللذين لا أخاف أن أجعلهما عندك، والمحبة التي لا أمتنع منها، ولا أعرف سواها، والسمع والطاعة في تسليم ما تحب تسليمه، والإقرار بما أحببت أن أقرَّ به، وسأُشهد على ذلك محمد بن واضح وأشهد لك به من أحببت، وأؤدي الخراج، ولكن لا بد مِن فائدة؛ وإلا انكسر، فهات — جعلت فداءك — وخذ، وأوفِ واستوفِ، فإنك واجد صحة واستقامة إن شاء الله. مدَّ الله في عمرك، وصبرني عليك، وقدمني قبلك، وجعلني من كلِّ سوء فداءكَ.

(١٤) غناء الموصلي للرشيد

في «الأغاني» (ج٥، ص٣٩): حدثني مزيد قال: حدثني حماد عن أبيه قال:

حدَّث إبراهيم الموصلي قال: قال لي جعفر بن يحيى يومًا، وقد علم أن «الرشيد» أذن لي وللمغنين في الانصراف يومئذٍ: صرْ إليَّ حتى أهبك شيئًا حسنًا، فصرت إليه فقال لي: أيما أحب إليك: أهب لك الشيء الحسن الذي وعدتك به، أو أرشدك إلى شيء تكسب به ألف ألف درهم؟

فقلت: بل يرشدني الوزير — أعزه الله — إلى هذا الوجه، فإنه يقوم مقام إعطائه إياي هذا المال.

فقال: إن أمير المؤمنين يحفظ شعر ذي الرمة حفظ الصبا، ويعجبه ويؤثره، فإذا سمع فيه غناء أطربه أكثر مما يُطرِبه غيره مما لا يحفظ شعره، فإذا غنَّيته فأطربته وأمر لك بجائزة فقم على رجليك قائمًا، وقبِّل الأرض بين يديه وقل له: حاجة لي غير هذه الجائزة أريد أن أسألها أمير المؤمنين، وهي حاجة تقوم عندي مقام كل فائدة ولا تضره ولا ترزؤه.

وسيقول لك: أيُّ شيء حاجتك؟ فقل: قطيعة تقطعينها، سهلة عليك لا قيمة لها ولا منفعة فيها لأحد.

فإذا أجابك إلى ذلك، فقل له: تقطعني شعر ذي الرمة أغني فيه ما أختاره، وتحظر على المغنين جميعًا ألا يداخلوني فيه؛ فإني أحب شعره وأستحسنه فلا أحب أن يُنغِّصه عليَّ أحد منهم، وتوثق منه في ذلك.

فقبلت ذلك القول منه، وما انصرفت من عنده بعد ذلك إلا بجائزة، وترقبت وقت الكلام في هذا المعنى حتى وجدته، فقمت فسألت كما قال لي، وتبينت السرور في وجه الرشيد وقال: ما سألت شططًا، وقال: أقطعتك سؤلك.

قال الموصلي: فجعلوا يتضاحكون من قولي، ويقولون: لقد استضخمتَ القطيعة، والرشيد ساكت، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، أتأذِنُ لي في التوثقِ؟ قال: توثق كيف شئت، فقلت: بالله وبحق رسوله، وبتربة أمير المؤمنين المهدي، ألا جعلتني على ثقة من ذلك، بأنَّك لا تعطي أحدًا من المغنين جائزةً على شيءٍ يغنيه في شعر ذي الرمَّة، فإن ذلك وثيقتي.

فحلف مجتهدًا بهم، لئن غناه أحدٌ منهم في شِعرِ ذي الرِّمة، لا أثابه بشيء ولا برَّة، ولا يسمع غناءَهُ، فشكرتُ فعله وقبَّلت الأرض بين يديه وانصرفنا.

قال الموصلي: فَغنيت مائة صوت وزيادة عليها من شعر ذي الرُّمة، فكان الرشيد إذا سمِعَ منهَا صوتًا طربَ وزادَ طرَبه ووصلني فأجزَل ولم ينتفع بِهِ أحد منهم غيري، فأخَذت منه والله بِها ألفَ ألفِ دِرهم وألفَ ألفِ دِرهم.

«وفي الأغاني» (ج٨ ص٢٠): ما غنى إبراهيمُ الموصليُّ في شعر أكثر من شعر ذي الرُّمة — أخبرني جعفر بن أبي قدامة بن زياد الكاتب قال: حدثني هارون بن عمرو الجرجاني قال:

قال إبراهيم الموصلي: أُرْتجَ عليَّ فلم أجد شعرًا أصوغ فيهِ غناءً أغني فيه الرَّشيد، فدخلت إلى بعض حُجر داري مغمومًا، فأسبلت السُّتور عليَّ وغلبتني عيني، فتمثل لي في البيت شيخٌ أشوهُ الخلقة فقال لي: يا موصليُّ، ما لي أراك مغمومًا؟ قلت: لم أصب شعرًا أغني فيه الرشيد الليلة، قال: فأين أنت من قول ذي الرُّمَّةِ:

ألا يا اسْلَمِي يا دَارَ ميِّ على البلى
ولا زَال مُنهلًّا بجرعائك القطرُ
وإن لم تكوني غيرَ شام بقفرةٍ
تجرُّ بها الأذيالَ صِبْغِيَّةٌ كدرُ
أقامتْ بها حتى ذوى العود في الثرى
وساقَ الثريَّا في ملاءته الفجرُ

قال: وغناني فيه بلحن، وكرره حتى عقلته، فانتبهتُ وأنا أديره، فناديت جارية لي وأمرتها بإحضار عود، وما زلت أترنَّم بالصوت، وهي تضرب حتى استوى؛ ثم صرت إلى الرشيد، فغنيته إياه، فسكَّت المغنين، ثم قال: أعد؛ فأعدت، فما زال ليلته يستعيدنيه، فلما أصبح أمر لي بثلاثين ألف درهم، وبفرش البيت الذي كنت فيه، وقال: عليك بشعر ذي الرمة فغنِّ فيه، فصنعت غناءً كثيرًا، فكنت أغنيه به ويجزل صلتي.

(١٥) التخنُّث في الغناء

في «الأغاني» (ج٥، ص٧٩): حدثني جحظة قال: حدثني محمد بن المكي قال: قلت لزرزورَ الكبير: كيف كان إسحاق يتقدم عند الخلفاء معكم، وأنت وإبراهيم بن المهدي ومخارق أطيب أصواتًا وأحسن نغمةً؟ قال: كنا والله يا بني نحضر معه فيجتهد في الغناء أشياء من مرانه وحذقه ولطفه، حتى يسقطنا كلنا، ويقبل عليه الخليفة ويصغي إليه دوننا، ونرى أنفسنا اضطرارًا دونه.

وقال محمد بن أحمد المكي: حدثني أبي قال: كان المغنون يجتمعون مع إسحاقَ الموصلي، فكلهم أحسن صوتًا منه، ولم يكن فيه عيبٌ إلا صوته، فيطمعون فيه، فلا يزال بلطفه وحذقه ومعرفته حتى يغلبهم وينبذهم جميعًا، ويفضلهم ويتقدمهم. قال: وهو أَوَّل من أحدَثَ التخنيث ليوافقَ صوته ويشاكله، فجاء معه عجبًا من العجب، وكان في حلقه نبوٌّ عن الوتر.

وأخبر أبو العنبس بن حمدون أن إسحاق أول مَنْ جاء بالتخنيث في الغناء، ولم يكن يُعرَفُ، وإنما احتال به بحذقه لمنافرة حلقه الوترَ، حتى صار يجيبه ببعض التخنيث، فيكون أحسن له في السمع.

(١٦) إعجاب المأمون بإسحاق

في «النوادر والذيل» (ج٢، ص٩٠): كان إسحاق الموصلي لكثرة علمه وفنونه موضع إعجاب المأمون. قال صاحب النوادر: حدثني أبو الحسن قال: سمعت ميمون بن هارون يقول: قال حميدُ الطوسي: كنت حاضرًا دهليز المأمون، فدعا بالناس لقبض أرزاقهم، فكان أول من دخل إسحاق الموصلي مع الوزراء، ثم دعا بالقواد، فكان أول من دخل إسحاق الموصلي مع القواد، ثم دعا بالقضاة، فكان أول من دخل إسحاق، ثم دعا بالفقهاء والمعدلين، فكان أول من دخل هو، ثم دعا بالشعراء فكان أول من دخل هو، ثم دعا بالمغنين، فكان أول من دخل هو، ثم دعا بالرماة في الهدف، فكان أول من دخل هو.

فأُعجب المأمون أيما إعجاب لكثرة علمه وفنونه.

قال: وحدثنا أبو الحسن قال: أنشدني خالد الكاتبُ لنفسه:

كتبتُ إليك بماء الجفون
وقلبي بماء الهوى مُشرَبُ
فكفِّي تخطُّ وقلبي يُملُّ
وعيناي تمحو الذي أكتبُ
فليس يتمُّ كتابي إليك
لشوقي فمن ههنا أعجبُ

(١٧) حذق إسحاق في الضرب على العود

وحدث يحيى بن معاذ قال: كان إسحاق الموصليُّ وإبراهيم بن المهديِّ إذا خَلوَا فهما أخوان، وإذا التقيا عند خليفة تكاشحا أقبح تكاشح، فاجتمعا يومًا عند المعتصم، فقال لإسحاق: إن إبراهيم يثلبك ويغضُّ منك ويقول إنك ترى أن مخارقًا لا يحسن شيئًا، ويتضاحك منك.

فقال إسحاق: لم أقل يا أمير المؤمنين إنَّ مخارقًا لا يحسن شيئًا، وكيف أقول ذلك وهو تلميذ أبي، وتخريجه وتخريجي، ولكن قلت: إن مخارقًا يملك من صوته ما لا يملكه أحدٌ، فيتزايد فيه تزايدًا لا يبقي عليه، ويغيِّر في كل حال، فهو أحلَى الناس مسموعًا وأقلهم نفعًا لمن يأخذ عنه، لقلة ثباته على شيء واحد، ولكني أفعل الساعةَ فعلًا إن زعم إبراهيم أنه يُحسِنه فلست أحسن شيئًا، وإلا فلا ينبغي له أن يدعي ما ليسَ يُحسِنه.

ثم أخذ عودًا فشوَّشَ أوتاره، وقال لإبراهيمَ: غنِّ على هذا، أو يغني غيرك وتضرب عليه.

فقال المعتصم: يا إبراهيم قد سمعتَ، فما عندك؟ قال: ليفعله هو إن كان صادقًا، فقال له إسحاق: غنِّ حتى أضرب عليكَ، فأبى، فقال لزرزور: غنِّ، فغنى، وإسحاق يضرب على العود المشوشة أوتاره، حتى فرغ من الصوت وما علم أحدٌ أن العود مشوشٌ.

ثم قال إسحاق: هاتوا عودًا آخرَ، فشوَّشه، وجعل كل وتر منه في الشدة واللين على مقدار العود المشوش الأول فلما استوفى ذلك قال لزرزور: خذ أحدهما، فأخذه، ثم قال: انظر إلى يدي واعمل كما أعمل واضرب. ففعل.

وجعل إسحاق يغني ويضرب، وزرزور ينظر إليه ويفعل كما يفعل، فما ظن أحدٌ أن في العود شيئًا من الفساد لصحة نغمهما جميعًا، إلى أن فرغ من الصوت، ثم قال لإبراهيم: خذ الآن أحد العودَين فاضرب به مبدأ أو عمود طريقة أو كيف شئت إن كنتَ تُحْسن شيئًا، فلم يفعل وانكسرَ انكسارًا شديدًا، فقال له المعتصم: أرأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله ما رأيت ولا ظننت أن مثله يكون.

(١٨) أثر الغناء في غير الإنسان

في «الأغاني» (ج٩ ص٥٦): قال هبة الله بن إبراهيم المهدي: حدثني عمي منصور بن المهدي أنه كان عند أبي في يوم كانت عليه فيه نوبةٌ لمحمد الأمين.

فتشاغل أبي بالشرب في بيتهِ ولم يمضِ، وأرسل إليه عدةَ رسلٍ فتأخرَ، قال منصورٌ: فلما كان من غد قال: ينبغي أن تعملَ على الرَّواح إليَّ لنمضي إلى أمير المؤمنين فنترضاهُ، فما أشكُّ في غضبه عليَّ، ففعلت ومضينا، فسألنا عن خبره فأعلمنا أنه مخمور، يتفقد ما عنده من الوحوش، وكان من عادته ألَّا يشرب إذا لحقه الخمار، فدخلنا وكان طريقنا على حجرة تصنع فيها الملاهي، فقال لي أخي إبراهيم: اذهب فاختر منها عودًا ترضاه وأصلحه غاية الإصلاح حتى لا تحتاج إلى تغييره البتَّة عند الضربِ، ففعلت وجعلته في كمي، ودخلنا على «الأمين» وظهره إلينا، فلما بصرنا به من بعيدٍ قال لي إبراهيم: أخرج عودَك، فأخرجته، واندفع يغني:

وَكأسٍ شربت على لذَّةٍ
وأخرَى تداوَيتُ منها بها
وشاهدنا الجلُّ والياسميـ
ـن والمسمعات بقصابها
وإبريقنا دائم معملٌ
وأي الثلاثة أزْرَى بها

فاستوى الأمين جالسًا، وطرب طربًا شديدًا وقال: أحسنت والله يا عم، وأحييتَ لي طربًا، ودعا برَطلٍ فشربه على الريق، وامتدَّ في شربه.

قال منصور: وغنى إبراهيم يومئذٍ على أشد طبقة يتناهى إليها في العود وما سمعت مثلَ غنائه يومئذٍ قط، ولقد رأيت منه شيئًا عجيبًا، لو حدثتُ به ما صُدِّقتُ، كان إذا ابتدأ يغني أصغت الوحش إليه، ومدت أعناقها ولم تزل تدنو منا حتى تكاد أن تضع رءوسها على الدكان الذي كنا عليه، فإذا سكتَ نفرت وبعدت منا حتى تنتهي إلى أبعد غاية يمكنها التباعد فيها عنا، وجعل الأمين يعجبنا من ذلك، وانصرفنا من الجوائز بما لم ننصرف بمثله قط.

وفي «الأغاني» (ج٦، ص٧١) نسبة بعضهم صوتًا إلى أنه أخذه من الجن مع أنه أخذ من ابن جامع، قال إسحاق عن بعض أصحابه: كنا عند أمير المؤمنين الرشيد يومًا، فقال الغلام الذي كان على الستارَة: يا ابن جامع تغنَّ بأبياتِ السعدي:

فَلو سألتْ سرَاة الحيِّ سَلمَى
عَلَى أن قد تلوَّن بِي زَمانِي
لخبرَّها ذَوو الأحسابِ عني
وأعدائي فكلٌّ قد بلانِي
بأني لا أزال أخا حَروب
إذا لم أجْنِ كنت مِجَنَّ جانِ

قال: فحرَّك ابن جامع رأسه، وكان إذا اقترح عليه الخليفة شيئًا قد أحسنه وأكمله طار فرحًا، فغنَّى به، فاربدَّ وجه إبراهيمَ لما سمعه منه.

وكذا كان ابن جامع أيضًا يفعل، فقال له صاحب الستارة: أحسنتَ والله يا أميري أعد، فأعاد، فقال: أنت في حلبة لا يلحقك أحد فيها أبدًا.

ثم قال صاحب الستارة لإبراهيم: تغنَّ بهذا الشعر، فتغنَّى، فلما فرغ قال: مرعى ولا كالسعدان، لِمَ أخطأتَ في موضعِ كذا وفي موضع كذا؟

قال إبراهيم: فلما انصرفنا قلتُ لابن جامع: والله ما أعلم أن أحدًا بقي في الأرض يعرف هذا الغناء معرفة أمير المؤمنين، فقال: حق له والله، لهو إنسان يسمع الغناء منذ عشرين سنة مع هذا الذكاء الذي فيه.

قال إسحاق: كان ابن جامع يحب أن يغني في هذا الشعر (صوت):

من كان يبكي لما بي
من طول سقم رسيس
فالآن من قبل موتي
لا عطرَ بعدَ عروسِ
بنيتمو في فؤادي
أوْكار طَير النحوس
قلبي فريسُ المنايا
يا ويحهُ من فريس

الشعر لرجل من قريش، والغناء لابن جامع في طريقة الرمل.

(١٩) الجن تعلم الغناء

وفي «الأغاني» (ج٢، ص١٣٥): أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أيوب بن عباية عن مولًى لآل الغريض قال: حدثني بعض مولياتي وقد ذكرن الغريضَ فترحَّمنَ عليه وقلنَ: جاءنا يومًا يحدثنا بحديث أنكرناه عليه، ثم عرفنا بعد ذلك حقيقته، وكان من أحسن الناس وجهًا، صغيرًا وكبيرًا، وكنا نلقى من الناس عنتًا بسببه، وكان ابن سُريج في جوارنا، فدفعناه إليه فلقنه الغناء، وكان من أحسن الناس صوتًا، ففتن أهل مكة بحسن وجهه مع حسن صوته، فلما رأى ذلك ابن سريج نحَّاه عنه.

وكانت بعض مولياته تُعلِّمه النياحة فبرز فيها، فجاءني يومًا فقال: نهتني الجنُّ أن أنوح، وأسمعتني صوتًا عجيبًا قد ابتنيتُ عليه لحنًا، فاسمعيه مني، واندفع يغني بصوت عجيب في شعر المرار الأسدي:

حلفتُ لها بالله ما بينَ ذِي الغضا
وهَضب القيانِ من عوانٍ ومِن بكر
أحبُّ إلينا مِنك دلًّا، وما نرَى
به عند ليلى من ثواب ولا أجر

فكذبناه، وقلنا: شيء فكر فيه، وأخرجه على هذا اللحن، فكان في كل يوم يأتينا فيقول: سمعت البارحة صوتًا من الجن بترجيعٍ وتقطيعٍ وقد بنيت عليه صوت كذا بشعر فلان، فلم يزل على ذلك، ونحن ننكر عليه، فإنا لكذلك ليلة وقد اجتمع جماعة من نساء أهل مكة في جمع لنا سهرنا فيه ليلتنا، والغريض يغنينا بشعر «عمر بن أبي ربيعة»:

أمِن آل زينبَ جدَّ البكور
نعم فلأيِّ هوَاها تصير

إذ سمعنا في بعض الليل عزيفًا عجيبًا وأصواتًا مختلفة ذعرتنا وأفزعتنا، فقال لنا الغريض: إن في هذه الأصوات صوتًا إذا نمت سمعته، وأُصبحُ فأبني عليه غنائي، فأصغينا إليه، فإذا نغمته نغمة الغريض، فصدقناه تلك الليلة.

وفي «الأغاني» (ج٢، ص١٤١): قال إسحاق: سمعت جماعة من البصراء عند أبي يتذاكرون الغريض وابن سريج، فأجمعوا على أن الغريض أشجى غِناءً، وأن ابن سريج أحكم صنعة.

قال إسحاق: حدَّثني أبو عبد الله الزبيري قال: حدثني بعض أهلي قال: حججنا، فلما كنا بجمع سمعنا صوتًا لم نسمع أحنَّ منه ولا أشجَى، فأصغى الناسُ كلهم إليه تعجبًا من حسنه، فسألت: مَنْ هذا الرجل؟ فقيل لي: الغريض، فتتابع جماعة من أهل مكة، فقالوا: ما نعرف أحدًا أحسنَ غناء من الغريض، ويدلُّك على ذلك أنه يعترض بصوته الحجاجَ وهم في حجهم فيصغون إليه، فسألوا الغريض عن ذلك، فقال: نعم، فسألوه أن يغنيهم فأجابهم، وخرج فوقف حيث لا يُرى ويُسمع صوته، فترنَّم ورجَّع صوته وغنى في شعر عمر بن أبي ربيعة:

أيها الرائح المُجِدُّ ابتكارا
قد قضَى مِن تهامةَ الأوطارا

فما سمع السامعون شيئًا كان أحسن من ذلك الصوت، وتكلم الناس فقالوا: طَائفة من الجن حجاج.

وفي «الأغاني» (ج٢، ص١٤٨) قال إسحاق: حدثني محمد بن سلام عن أبي قابيل — وهو مولى لآل الغريض — قال: شهدت مجتمعًا لآل الغريض إما عرسًا أو ختانًا، فقيل له: تغنَّ، فقال: ابن زانية أنا إن فعلت، فقال له بعض مواليه: فأنت والله كذلك، قال: أوَكذلك أنا؟ قال: نعم. قال: أنت أعلم بي والله، ثم أخذ الدف فرمى به وتمشَّى مشية لم أرَ أحسن منها، ثم تغنَّى:

تشرَّب لون الرازقيِّ بياضه
أو الزعفران خالط المسك رادغه

فجعل يغنيه مقبلًا ومدبرًا حتى الْتوَت عنقه وخرَّ صريعًا، وما رفعناه إلا ميتًا، وظننا أن فالجًا عاجلهُ.

قال إسحاق: حدثني ابن الكلبي عن أبي مسكين قال: إنما نهته الجنُّ أن يتغنى بهذا الصوت، فلما أغضبه مولاه تغناه، فقتلته الجن في ذلك.

وفي «الأغاني» (ج٢، ص٢٠): حدثني عبد الله بن أبي سعد قال: حدثتني نشوة الأشنانية قالت: أخبرني أبو عثمان يحيى المكي قال: تشوَّق يومًا إبراهيم الموصلي إلى سرداب له، وكانت فيه بركة ماء تدخل من موضع إليه وتخرج إلى بستان، فقال: أشتهي أن أشرب يومي وأبيت ليلتي في هذا السرداب، ففعل ذلك، فبينا هو نائم في نصف الليل إذا سنورتان قد نزلتا من درجة السرداب: بيضاء وسوداء، فقالت السوداء: هو نائم، واندفعت فغنت بأحسن صوت:

عفا مُزَحٌ إلى لصقٍ
إلى الهضبات من هُكَرِ
إلى قاع البقير إلى
قرار حِلال ذي حذر

قال: فمال إبراهيم فرحًا وقال لنفسه: يا ليتهما أعادتاه مرارًا حتى آخذه، ثم تحرك فقامت السنورتان، وسمع إحداهما تقول للأخرى: والله لا يطرحه على أحد إلا جُنَّ، فلما كان من غدٍ طرحه إبراهيم على جارية له فجُنَّت.

وقيل: إن البيتين اللذين أخذ إبراهيم لحنهما عن السنورتين هما:

وتفاحة مِن سوسَنِ صيغ نصفها
ومِن جلِّنارٍ نصفها وشقائِق
كأنَّ الهوَى قد ضمَّ مِن بَعد فرقة
بِها خَدَّ معشوقِ إلى خدِّ عاشِقِ

وفي «الأغاني» (ج٩، ص٥٣): حدثني عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي عن أبيه قال: غضب عليَّ محمد بن الأمين في بعض هناته، فسلَّمني إلى كوثرَ، فحبسني في سرداب وأغلقه عليَّ، فمكثت فيه ليلتي، فلما أصبحت إذ أنا بشيخ قد خرج عليَّ مِن زاوية السرداب، ودفعَ إليَّ طعامًا وقال: كُلْ، فأكلت، ثم أخرج قنينة شرابٍ وقال: اشرب، فشربتُ، ثم قال لي: غنِّ:

لي مدة لا بدَّ أبلغها
معلومة فإذا انقضت مت
لو ساورتني الأسد ضارية
لغلبتها ما لم يجِ الوقت

فغنَّيته، وسمعني كوثر فصار إلى محمد، قال: قد جُنَّ عمك وهو جالس يغني بكيت وكيت، فأمر محمد بإحضاري، فأُحضرتُ وأخبرته بالقصة فأمر لي بسبعمائة ألف درهم ورضي عني، اﻫ.

(٢٠) مجلس المغنين مع إبليس

وفي «حلبة الكميت» (ص١٥٦ : ١٦٠)، حكى أن إسحاق الموصليَّ قال: بعث إليَّ الرشيد يومًا فذهبت إليه، فإذا بين يديه ثماني عشرة مغنية، وعنده إبراهيم بن المهدي، فجلست وسمعت غناءَهنَّ كلهن، فقال لي الرشيد: ما تقول يا إسحاق؟ قلت: خطأ كله يا أمير المؤمنين، فقال: ولِمَ ذلك؟ فقلت له: إن أذنت لي غنيتك يا أمير المؤمنين، فقال: نعم افعل.

قال إسحاق: فأخذت العود وغنيته بطريقة أعرفها، فلم يملك نفسه أن دعا بالشراب، ولم يكن عزم على ذلك، ومرَّ لنا يومٌ طيب، وأقمنا حتى دخل الليل فغنيت الرشيد حتى طرب ونام، فوضعت العود من يدي أنتظر انتباهه، إذ دخل عليَّ شاب حسن الوجه طيب الرائحة، فسلَّم وجلس، ثم ضرب بيده إلى الشراب فشرب ثلاثة أقداح، ثم أخذ العود فجسه وأصلحه أحسن ما يكون ثم غنَّى:

ألا غنياني قبل أن تَتَفرَّقا
وهات اسقني صرفًا شرابًا مطهرًا
فقد كاد ضوء الصبح أن يفضح الدُّجى
وكاد قميص الليل أن يتمزَّقا

فوالله لقد أذهلني ولم أسمع مثله قط، ثم وضع العود بين يده وقال: إذا غنَّيت الخلفَاءَ فغنِّهم هكذا، وقام وخرج، فقمت في إثره وقد كاد أن يذهب عقلي حيرة من حسن غنائه، فلم أجده، فقلت لأصحاب الستارة: مَنْ هذا الرجل الذي خرج؟ فقالوا: ما دخل أحد حتى يخرج، فرجعت إلى موضعي وعلمت أنه إبليس!

وانتبه الرشيد فحدثته الحديث، وغنيته الصوت، فلم يزل يستعيده طربًا حتى نام، فلما أفاق قال: وددت والله لو أمتعنا هذا الرجل بغنائه من غير أن يعرِّفنا بنفسه، وأمر لي بجائزةٍ ما أمر لي بمثلها قط، واصطبحنا على الصوت أيامًا.

وحكى إسحاقُ عن أبيه إبراهيم الموصلي نظير ذلك، قال إبراهيم: استأذنت الرشيد أن يهب لي يومًا من أيام الجمعة لأنفرد فيه بجواريِّ وإخواني، فأذن لي يوم السبت، وقال: هو يوم أستثقله فالْهُ فيه بما شئتَ، قال: فأقمت يوم السبت بمنزلي، وأخذت في إصلاح طعامي وشرابي بما احتجت إليه، وأمرت البواب أن يغلق الأبواب وألَّا يأذن لأحد في الدخول عليَّ، فبينما أنا في مجلسي والحرم قد حففن بي، إذا أنا بشيخٍ ذي هيئة وجمال عليه خفَّان قصيران، وقميصان ناعمان، وعلى رأسه قلنسوة، وبيده عكازة مقمعة بفضة، وروائح الطيب تفوح منه حتى ملأت الدار والرواق، فدخلني غيظٌ عظيمٌ لدخوله عليَّ، وهممت بطرد بوابي، فسلم عليَّ أحسن سلام، فرددت عليه، وأمرته بالجلوس، فجلس وأخذ في أحاديث الناس وأيام العرب وأشعارها، حتى سكن ما بي من الغضب، وظننت أن غلماني تحروا مسرتي بإدخال مثله عليَّ لأدبه وظرفه، فقلت: هل لك في الطعام؟ قال: لا حاجة لي فيه، قلت: فالشراب؟ قال: ذلك إليك، فشربت رطلًا وسقيته مثله، فقال: يا أبا إسحاق، هل لك أن تغنينا شيئًا فنسمع من صنعتك ما قد فقت به عند الخاص والعام؟ فغاظني قوله، ثم سهلت الأمر على نفسي فأخذت العود فجسست ثم ضربت وغنيت، فقال: أحسنت يا إبراهيم، فازددت غيظًا وقلت: ما رضي بما فعله في دخوله بغير إذن، واقتراحه عليَّ حتى سماني باسمي، ولم يجمل مخاطبتي، ثم قال: هل لك أن تزيد ونكافئك؟

قال إبراهيم: فتعجَّبت من قوله، وقلت في نفسي: بم يكافئني؟ ثم أخذت العود فغنيت وتحفظت بما غنيته، وقمت به قيامًا تامًّا لقوله لي: أكافئك؛ فطرب وقال: أحسنت سيدي، ثم قال: أتأذن لعبدك في الغناء؟ فقلت: شأنك، لكن استضعفت عقله في أن يغني بحضرتي بعد ما سمعه مني، فأخذ العود وجسه؛ فوالله لقد خلت أن العود ينطق بلسان عربي فصيح في يده، واندفع يغني:

ولي كَبِدٌ مقروحةٌ من يبيعني
بها كبدًا ليست بذات قروح؟
أباها عليَّ الناس لا يشترونها
ومن يشتري ذا عِلَّةٍ بصحيح؟
أئِنُّ من الشوق الذي في جوانحي
أنين غصيصٍ بالشراب قريح

قال إبراهيم: فوالله لقد ظننت أن الحيطان والأبواب والسقوف وكل ما في البيت يجيبهُ ويغني معه من حسن صوته، حتى خلت والله أني أسمع أعضائي وثيابي تجاوبه، وبقيت مبهوتًا لا أستطيع الكلام ولا الحركة لما خالط قلبي من اللذة التي غيبتني عن الوجود، فلما رآني كذلك أخذ العود ثانيًا واندفع يغني بقوله:

ألا يا حمامات اللَّوى عدن عودة
فإني إلى أصواتكنَّ حزينُ
فعدن فلما عدن كدن يُمتنني
وكدت بأسراري لهن أبين
وعُدن بترداد الهدير كأنما
شربن الحميَّا أو بهنَّ جنون
فلم ترَ عيني مثلهن حمائمًا
بكيْن ولم تدمع لهن عيون

فكاد عقلي أن يذهب طربًا، ثم غنى:

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
لقد زادني مسراكَ وجدًا على وجد
أئِن هتفت ورقاءُ في رونق الضحى
على غُصُنٍ غَضِّ النبات من الرَّند
بكيت كما يبكي الحزين صبابة
وذبت مِن الوجد المبرح والجهد
وقد زعموا أن المحب إذا نأى
يملُّ وأن النأي يشفي من الوجدِ
بكلٍّ تداوَينا فلم يشفِ ما بنا
على أنَّ قربَ الدار خير من البعد

ثم قال: يا إبراهيم، هذا الغناء الماخوري، خذه وانحُ نحوَه في غنائك وعلِّمه جواريك، فقلت: أعده عليَّ، فقال: لستَ بمحتاج، قد أخذتَه وفرغتَ منه، ثم غاب من بين عينيَّ؛ فارتعت لذلك، وقمتُ إلى السيف فجرَّدته ثم عدوت نحو أبواب الحرَم فوجدتها مغلقة، فقلت للجواري: أي شيء سمعن عندي؟ فقلن: سمعنا غناء لم نسمع قط أحسن منه، فخرجت مُتحيِّرًا إلى باب الدار فوجدته مغلقًا، فسألت البواب عن الشيخ الذي خرج، فقال: أي شيخ؟ والله ما دخل اليوم عليك أحد! فرجعت لأتأمل أمري فإذا هو قد هتف بي من بعض جوانب البيت: لا بأس عليك يا إسحاق، أنا أبو مرَّة إبليس، وقد كنت نديمك اليوم، فلا تُرَع، فركبت إلى الرشيد وأخبرته بالحديث، فقال: ويحك، أعد الأصوات التي أخذتها، فأخذت العود وغنيتها كما هي راسخة في صدري، فطرب الرشيد، وجلس يشرب ولم يكن عزم على الشراب، وقال: كان الشيخ أعلم بما قال أنك قد أخذتها وفرغت منها، فليته أمتعنا بنفسه يومًا واحدًا كما متعك، وأمر لي بصلة فأخذتها وانصرفت.

وقال كشاجم الكاتب في كتابه المسمى بأدب القديم: إنما سمي الماخوري لأن إبراهيم بن ميمون الموصلي كان يكثر الغناء في المواخير، والخبر الذي يذكره العوام عن إسحاق وتمثل إبليس له وتعليمه إياه هذه الطريقة حديث خرافة.

وفي «المنتقى من جامع الفنون» (ص٩) نكتةٌ غريبة هي: زعم قومٌ أن النبات له حسٌّ وحركة إرادية، وذلك لمَّا رأوا منه ما يميل مع الشمس، كالشقايق والخبَّازي.

وزعم آخرون أن له مع الحس والحركة الإرادية عقلًا وفهمًا. ومما يوهم صحة دعواهم وما زعموه، ما حكاه جمال الدين محمد بن إبراهيم الوراق الملقب بالوطواط قال: حكى لي القاضي فخر الدين إبراهيم بن علي قال: مررت بقرية من قرى بعلبك تسمى «الرمانة»، فرأيت في بقعة منها نبتًا يشبه المنثور في لونه ونوره، فوقفت متعجبًا من حسنه، فقال لي بعض الظرفاء: إنَّه يريك منه عجبًا، قلت: وما هو؟ قال: يُغنَّى له بيتان معروفان، فلا يزال يهتز حتى تسقط أوراقه ويذبل، وسأريك ذلك، ثم اندفع يغني البيتين ويوقِّع بكفه:

يا ساكنًا بِالبلد البلقعِ
ويا ديار الظاعنينَ اسمعي
ما هي أطلالي ولكنها
ديار أحبابي فنوحي معي

قال فخر الدين: فوالله لقد رأيت ما حولنا من ذلك النبات يهتزُّ كأنما أصابته ريحٌ عاصفةٌ حتى تناثرت ورقاته وذبلت طاقاته.

(٢١) دنانير مولاة البرامكة

في «الأغاني» (ج١٦، ص٣٦) أن «دنانير» مولاة يحيى بن خالد البرمكي كانت صفراء مولدة، وكانت من أحسن النساء وجهًا، وأظرفهن وأكملهن أدبًا، وأكثرهن رواية للغناء والشعر، وكان الرشيد لشغفه بها يكثر مصيرَه إلى مولاها، ويقيم عندها ويبرُّها، ويفرط؛ حتى شكته «زبيدة» إلى أهله وعمومته فعاتبوه على ذلك، ولدنانير هذه كتاب في الأغاني مشهور، وكان اعتمادها في غنائها على ما أخذته من «بذل» التي خرجتها، وقد أخذت أيضًا عن أكابر أهل الصناعة الذين أخذت «بذل» عنهم مثل: «فليح» و«إبراهيم بن المهدي» و«ابن جامع» و«إسحاق الموصلي» ونظرائهم، (أخبرني) جحظة قال: حدثني المكي عن أبيه قال: كنت أنا وابن جامع نناظر دنانير جارية البرامكة، فكثيرًا ما كانت تغلبنا.

(٢٢) غناء ابن جامع

في «الأغاني» (ج١٤ ص١٠٢) غناء أوله نشيد وقصته، قال: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن موسى قال: حُدِّثت عن المدائني أن زيادًا الأعجم دعا غلامًا له ليرسله في حاجة، فأبطأ، فلما جاءه قال له: «منذ دَأوتك إلى أن كُلْتَ لابيْكا، ما كنت تسنأ؟» يريد: «منذ دعوتك إلى أن قلت لبيك ماذا كنت تصنع؟» فهذه ألفاظه كما ترى في نهاية القبح واللكنة، وهو الذي يقول يرثي المغيرة بن الملهب:

قل للقوافل والقريِّ إذا قروا
والباكرين وللمجدِّ الرائح
إن المروءةَ والسماحة ضُمتا
قبرًا بمروَ على الطريق الواضح
فإذا مررت بقبره فاعقرْ به
كُوم الهجان وكلَّ طرف سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها
فلقد يكون أخا دمٍ وذبائح
يا من لبعد الشمس من حَيٍّ إلى
ما بين مطلع قربها المتنازح
مات المغيرة بعدَ طول تعرُّض
للموت بينَ أسنة وصفائح
والقتل ليسَ إلى القتال ولا أرى
حيًّا يؤخَّر للشفيق الناصح

وهي طويلة، وهذا من نادر الكلام ونقي المعاني ومختار القصائد.

وهي معدودة من مراثي الشعراء في عصر زياد ومقدمها. ولابن جامع في الأبيات الأربعة الأُول: غناء أوله نشيد كله، ثم تعود الصنعة إلى الثاني والثالث في طريقة الهزج بالوسطى، وقد أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن محمد بن حبيب، أن من الناس من يروي هذه القصيدة للصلتان العبدي، وهذا قولٌ شاذ، والصحيح أنها لزياد قد دوَّنها الرواة غير مدفوع عنها.

وفي «الأغاني» (ج٦، ص٧٠): ابن جامع كان يعد صيحة الصوت قبل أن يصنع عمود اللحن. وقال حماد عن أبي يحيى العبادي قال: قدَّم حواره غلام حماد الشعراني، وكان أحد المغنين المجيدين.

قال: حدثني بعض أصحابنا قال: كنَّا في دار أمير المؤمنين الرشيد فصاح بالمغنين: مَنْ فيكم يعرف أن يغني بشعر الأعشى:

وكعبة نجرانَ حتمٌ عليكِ
حتى تُناخي بأبوابها

فبدرهم إبراهيم الموصلي فقال: أنا أُغنِّيه، وغنَّاه فجاء بشيء عجيب، فغضب ابن جامع وقال لزلزل: دع العود أنا من جحاش وجرة لا أحتاج إلى بيطار، ثم غنى الصوت فصاح به مسرورًا ثلاث مرات: أحسنت يا أبا القاسم.

(٢٣) بين معبد وابن سريج

في «الأغاني» (ج٨، ص١٤٧): ذكر أن الصنعة لبعض من كثرت دربته بالغناء، وعظم علمه، وأتعب نفسه حتى جمع النغم العشر في هذا الصوت، وذكر أن طريقته من الثقيل الأول، وأنه ليس يجوز أن ينسبه إلى إصبع مفردة، إلا أن ابتداءه على المثنى مطلقًا، ثم بسبابة المثنى، ثم وسط المثنى، ثم بنصر المثنى، ثم خنصر المثنى، ثم سبابة الزبر ثم وسطاه ثم بنصره، ثم خنصره، ثم النغمة الحادة وهي العاشرة.

وفيه (لابن محرز) ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر، وفيه (لابن الهرمز) رمل بالوسطى (عن عمرو)، وهذا الصوت من الثقيل الثاني، وهو الذي ذكر إسحاق في كتاب «النغم وعللها» أن لحن ابن محرز فيه يجمع ثمانية من النغم العشر، وأنه لا يعرف صوتًا يجمعها غيره، وأنه يمكن من كان له «علم ثاقب» بالصناعة أن يأتي في صوتٍ واحد بالنغم العشر بعد تعبٍ شديد ومعاناةٍ شديدة.

وذكر عبيد الله أن صانع هذا الصوت الذي كنى عنه فعل ذلك، وتلطَّف له حتى أتى بالنغم العشر فيه متوالية من أوَّلها إلى آخرها، وأتى بها في الصوت الذي بعده، متفرقة على غير توالٍ إلا أنها كلها فيه.

وذكر أن ذلك أحسن مسموعًا وأحلى، وحكى ذلك عن يحيى بن علي بن يحيى في كتاب النغم.

وإذ فرغت من حكاية ما ذكره وحكاه عبيد الله في نسبة هذا الصوت، فقد ينبغي ألا أجري الأمر فيه على التقليد، دون القول الصحيح فيما ذكره وحكاه.

والذي وصفه من جهة النغم العشر متوالية في صوتٍ واحد، لا حقيقة له، ولا يمكن أحدًا بتة أن يفعله، وأنا أُبيِّن العلة في ذلك على تقريب إذ كان استقصاء شرحها طويلًا، وقد ذكرته في رسالة إلى بعض إخواني في علل النغم، وشرحت هناك العلة بأنه قسَّم الغناء قسمَين وجعله على مجريين: الوسطى والبنصر، دون غيرهما؛ حتى لا تدخل واحدة منهما على صاحبتها في مجراها قرب مخرج الصوت، إذا كان على الوسطى منه أو إذا كان على البنصر، وشبهه به، فإذا أراد مريد إلحاق هذا بهذا لم يمكنه بتة على وجه ولا سبب، ولا يوجد في استطاعة حيوان أن يتلو إحداهما بالأخرى، وإذا أتبعت إحداهما بالأخرى في ناي أو آلة من آلات الزمر انفصلت إحداهما من الأخرى، وإنما قلت النغم في غناء الأوائل لأنهم قسَّموها قسمَين بين هاتين الإصبعين فوجدوها إذا دخلت إحداهما مع الأخرى في طريقتها، لم يمكن ذلك إلا بعد أن يفصل بينهما بنغمٍ أخرى للسبابة والخنصر يدخل بينهما، ثم لا يكون ذلك الغناء ذا ملاحة ولا طيبًا للمضادة في المجريين، فتركوه ولم يستعملوه.

فإن صحَّ لعُبيد الله عمل النغم العشر في صوت، فلعله صحَّ له في الصوت الذي ذكر أنه فرقها فيه، فأما المتوالية وعلى ما ذكره ها هنا فمُحال، ولست أقدر في هذا الموضع على شرح أكثر من هذا، وهو في الرسالة التي ذكرتها مشروح.

(٢٤) غناء الحنين

في «الأغاني» (ج١٤، ص٤٢): الحسنين، نسب إلى أحدهم وهو محمد بن حمزة بن نصير الرصيف مولى منصور، ويكنى أبا جعفر ويلقَّب «وجه القرعة»، وهو أحد المغنين الحذاق الضراب الرواة، وقد أخذ عن إبراهيم الموصلي وطبقته وكان حسنَ الأداء، طيب الصوت لا علة فيه، إلا أنه إذا تعرَّض للحنين في جنسٍ من الأجناس، فلا يصح له فيه، فذكر محمد بن الحسن الكاتب أن إسحاق بن محمد الهاشمي حدَّثه عن أبيه أنه شهد إسحاق بن إبراهيم الموصلي عند عمه هارون بن عيسى، وعنده محمد بن الحسن بن مصعب، قال: فأتانا محمد بن حمزة (وجه القرْعَة) فسمى به عمي، وكان شرِسَ الخُلق، أبيَّ النفس، فكان إذا سئلَ الغناءَ أباه، فإذا أمسكَ عنه كان هو المبتدئ به، فأمسكنَا عنْه حتى طلب العود فأُتي به فغنى:

مرَّ بي سرْب ظباءِ
رائحات مِن قباءِ

قال: وكان يحسنهُ ويجيده، فجعل إسحاق يشرب ويستعيده، حتى شرب ثلاثة أرطال: ثم قال: أحسنت يا غلام، هذا الغناء لي وأنت تتقدمني فيه، ولأدعن الغناءَ ما دام مثلك ينشر لحنه.

١  نوع من الغناء أوله نشيد لعله من النوع المعروف بالمقرون؛ أي المذهب كدهليز الدخول في الغناء المذكور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤