الفصل الثالث

لو استطعتُ أن أقضي كلَّ حياتي في أحلامي لكنت رجلًا سعيدًا، ولكن أنَّى لي ذلك وأنا إنسان لا بدَّ لي من أن أصحو ومن أن أرى وأسمع وأسير؟ أنَّى لي أن أعتزلَ في أحلامي وأنا مرتبط بهذه الأرض وبأهلها ممن هم قريبون مني ومَن هم بعيدون عني؟ ولو كنت وحيدًا معتزلًا لهان عليَّ الأمر، ولكني أعيش في الناس ومع الناس ولا سيَّما إذا كانت لي امرأة مثل ريمة.

لقد سمعتِ امرأتي بما يقوله الناس عني في حبِّ علية، وكنت أحسَب أنها إذا سمعت ذلك أصلحت من شأنها وقوَّمت من اعوجاجها. ولكنها ما كادت تسمع ما يقوله الناس حتى ركِب الشيطان كتفَيها كأعنف ما ركبها منذ عرفتها، فلم تدَعْ نوعًا من أنواع الأذى إلا ألحقته بي، ولا صنفًا من صنوف الخبث إلا صبَّته على رأسي، وأرادت فوق كل هذا أن تذلَّني فأذاعت هي الأخرى أنها قد عزمت على الزواج من السلطان نفسه.

لكم ضحكتُ عندما سمعتُ الناس ينقلون إليَّ قولها! ريمة تريد أن تتزوج من السلطان! لم يُثِر قولها فيَّ إلا ضحكًا.

فلما رأت أن قولها لم يُثِر غيظي عمدت إلى حيلةٍ خبيثة للانتقام مني، فأثارت ضجة يتحدَّث بها العاطلون في ماهوش يومًا بعد يوم وشهرًا بعد شهر؛ فإنها أذاعت في الجيران أنها قد عزمت على الانتحار. ولو كان أمرُها قد أدَّى إلى غايته لكان ذلك قضاء الله وانتهى إلى نهايته. والزواج من مثل ريمة ما هو إلا سباق على الموت بين الزوجين، فإذا كان ولا بدَّ من الموت فليكن لها إذا شاءت، ولكن ريمة لم تهتدِ إلى ما يجب عليها أن تفعل، وقنعت بأن صاحت وسبَّت واصطرعت وتخبَّطت، ثمَّ خرجت من الدار تجري، ولم أدرِ ما كان قصدها من وراء هذا كله، فتركتها وقعدت في الدار هادئًا، وأحسست أنني استطعت أن أتنفَّس حُرًّا، وقد هدأ الجو بعد خروجها.

وانصرفت إلى صورة علية ابنة السلطان أناجيها، فلم أشعر بشيء حتى سمعتُ هيعةً عالية وأصواتَ ولولةٍ تطرق أذاني. فشردت أفكاري وقمت فزعًا، فإذا بالحارة قد غصَّت بمن فيها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، وما كادوا يرونني حتى علت منهم صيحةٌ عالية: «الْحَقْ يا جحا.»

فدهشت لهذه المفاجأة ولم أفهم المقصود من قولهم، وما الذي ألحقه؟ إنني رجل لم أستطِع في حياتي أن ألحقَ شيئًا، فكيف لي أن ألحقَ شيئًا لم يَقدِر كلُّ هؤلاء على أن يَلحقوه، ووقفت ثابتًا أقلِّبُ فيهم بصري.

فصاحوا بي مرةً أخرى صيحةً أعنفَ وأكثرَ حنقًا، ففتحت عيني وفمي وأشرت بيدي مستفهمًا، فعلَت منهم صيحةٌ ثالثة فقالوا: «الْحَق امرأتك!» فانطلق لساني قائلًا: «وكيف ألحقها؟»

فاختلطتِ الأقوال ولم أعرف كيف أجيب. قال قائل: «الحَقْها عند النهر.» وقالت جماعة: «إنها غرقت.» وصاح آخرون: «قد دقَّت علينا الأبواب.» وقال شابٌّ خبيث: «أتتزوج عليها؟ أما تخجل؟» فاندفع النساء يصرخن في وجهي: «يا سم! أغرِقْ نفْسَك وراءها يا قاتل.»

فلم أملِك نفسي وشعرت كأنني أجرمت، وعلاني خجلٌ واضطراب، واندفعت بين الجمع فإذا بي أنساق مع تيارٍ جارفٍ من الناس حتى بلغنا جانب النهر، وتفرَّق الجمعُ كلٌّ في جهة، فبعضهم يجري على الشاطئ، وبعضهم يخلع نعليه فيخوض في الماء، وصاحت امرأة: «غوصوا في الماء، فإنها تحته بلا شك.» وصاحت أخرى: «بل لقد حملها التيار معه، فانحدِروا أسفل النهر.»

وصاحت ثالثة سليطة اللسان: «ما لك واقفًا يا جحا كالحجر؟ انزل إلى الماء وابحث عنها.»

ولكني كنت أعلمَ الناس بامرأتي ريمة؛ فإن الناس إذا أرادوا الغرق قذفوا بأنفسهم في الماء، وأمَّا هي فلم يكن عندي شك في أنها تفعل غير ذلك. والناس إذا غرقوا نزلوا إلى القاع ولكنها لا يمكن أن تغوص، والتيار يحمل الغرقى معه إلى أسفل النهر، ولكنها إذا غرقت لم تنسَ العناد، فلا شك في أنها تجعل التيار يحملها مُكرَهًا إلى أعلى النهر. هذا ما أعرفه في امرأتي؛ ولذلك لم أبالِ شيئًا مما قاله الناس، ونزعت نفسي من بينهم، وأخذت أعدو نحو أعلى النهر. فلحق بي شُبَّان منهم يريدون أن يردُّوني إلى ناحية أسفل المجرى ظنًّا منهم أنني أخطأت في اتِّجاهي، وظن بعضهم أنني قصدت الهروب، فصحتُ فيهم وقد غضبت: دعوني أيها الحمقى، فأنا أعرف منكم بامرأتي، إنها إذا أرادت الغرق فلن تتجه إلا نحو منبع النهر.

وكان الموقف لا يحتمل ضحكًا ولا فُكاهةً، ولكني سمعت من الشبان ضحكًا كأنني كنت أمازحهم، فزاد غضبي، ونزعت نفسي من بينهم وجريت نحو أعلى النهر، وتركتهم في شغلٍ من ضحكهم يعيدون كلماتي ويتفكَّهون بها.

ولما وجدت نفسي وحيدًا سِرت على مهلٍ وتنفَّست مرتاحًا، وجعلت أقلِّب وجهي في شطآن النهر، وكانت الأعشاب تغطيها غضة خضراء، والزهر يوشِّيها والطير يزقزق فوق أغصان الصفصاف والسرو. وكان جمال المنظر يبعثني على إطالة السير، ولم يخجل قلبي من خطراتٍ خطرت عليه من ذكر الحبيبة ابنة علاء الدين. وفيما كنت سائرًا أُجيل بصري في هذا الحسن الباهر لاح لي سوادٌ تحت شجرة على نحو مائة ذراع مني. فظننت ذلك إنسانًا وقصدت إليه لعلي أرى جثةَ ريمة امرأتي صاعدة في النهر، وما كان أشد عجبي عندما بلغت الشجرة؛ إذ وجدت أن ذلك السواد هو امرأتي ريمة نفسها، وكانت جالسة على الشاطئ تدلِّي رجلَيها في الماء وتحكُّ قدمًا على أخرى، وفي يدها قطعة من قثَّاء تأكلها، فلم أتمالك أن صحت بها حانقًا: لقد صدق ظني!

فالتفتت إليَّ وكان وجهها يشع شماتةً وخُبثًا وصاحت: أيُّ ظنٍّ هذا الذي صدق؟

فقلت غاضبًا: كل الخلق يغرقون في الماء وأنت تغرقين فوق الشط، وكل الغرقى يحملهم التيار إلى أسفل النهر، وأمَّا أنت فإنك تصعدين إلى أعلاه.

فقامت واثبةً واستعدَّت لهجمةٍ من هجماتها، ولكني كنت ثائرًا والشرر يتطاير من عيني، فصحت بها: هلمِّي!

فلم تجرؤ على مهاجمتي، وسارت ورائي في انكسارٍ حتى عُدنا إلى القوم، وكانوا لا يزالون يبحثون عنها في الماء متجهين إلى أسفل النهر خطوةً خطوة، فلما رأونا مقبلين سارعوا إلينا، واختلطت أسئلتهم حتى لم أسمع منها سؤالًا، فقطعت عليهم سبيل الفضول، وقلت لهم في حزم: لقد كنت أعلم منكم بامرأتي.

فسكتوا ونظروا في شيءٍ من الغيظِ إلى ريمة، كأنها قد خيَّبت أملهم في غرقها، وسِرنا في موكبٍ متهامس حتى بلغنا ماهوش، وعُدت بامرأتي إلى داري.

هذه هي امرأتي التي لا تخجل من أن تضع نفسها إلى جانب صورة ابنة السلطان؛ صورة الملك الكريم الذي أسبح معه في أعلى الملكوت مترنِّمًا بالترتيل والتسبيح. هذه هي امرأتي التي لا ترضى أن يمرَّ بي يومٌ بغيرِ أن تُدخِل عليَّ حُزنًا جديدًا. هذه هي امرأتي التي لو شئت أن أثبت على القرطاس ما أعانيه من سوء عشرتها لضاقت بي الصحف، وتكسَّرت الأقلام وجف المداد.

وليتها إذ تنغِّص عليَّ عيشي بخلافِها وسوءِ عِشرتها تعرف شيئًا من معنى الكرامة أو الصدق. لقد عرفتُ من النساء مَن يشبهنها في حمقها وشراستها، ولكني عرفتهن يندفعن مع ما فطرهن الله عليه من حدة الطبع والسلاطة، وعرفت اندفاعهن صريحًا بسيطًا لا التواء فيه، فلهن العذر فيما لا حيلةَ لهن في خلافه. ولكن ريمة امرأة تستطيع أن تضحك وأن تمرح، وهي ذات حظوة عند لكيعات أهل الحي، فإذا اجتمعت بهن أو اجتمعن بها شغلن الملائكة في إحصاء حماقاتهن، وأحفين أقلامهم في كتابة أوزارهن، وهي إذ تريد أن تملأ قلبي غيظًا تدبِّر لغيظها تدبيرًا، وتمكر وتحتال وتُحكِم مكائدها في براعةٍ توحي إليها بها شياطينها.

وهي في كل مكرها تتعمَّد أن تذلَّني وأن تجعلني للناس سخرية، وتعين أشياعها من الشياطين على أن يهزءوا بي من وراء ظهري.

هذه هي ريمة امرأتي التي حكم القضاء عليَّ أن أقيم معها تحت سقفٍ واحد، وأن تكون لي منها ذريةٌ تشاركنا ما نحن فيه من شقاء.

فكيف أستطيع الحياةَ على مثل هذا؟ لمَن شرع الله الطلاق إذا لم يكن قد شرعه لمثلي ومثلها؟

أيها الناس، مَن كان منكم زوجًا لمثل امرأتي ريمة فليطلِّق، لقد عزمتُ على الطلاق ولن أعيش مع ريمة بعد هذا أبدًا.

ولكن أواه من قلبي؛ إن لي ولدَين من ريمة، وما ينبغي لي أن أشقيهما بشقائي. عفوك يا عجيب ولدي، وعفوك يا جميلة ابنتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤