الفصل الخامس

كنت أسيرُ في طريقِ ماهوش — وما أعجب طُرق ماهوش! ففيها النقيضان؛ الجمال والقبح، والغنى والفقر، والنظافة والوَسَخ، والفن والفوضى. ورأيت فيما رأيت كلبًا مسكينًا نستطيع أن نَعُدَّ أضلاعه البارزة من تحت جلده، وكان كل شيء فيه يستدرُّ الرحمة، وكان كلما اقترب منه إنسان انحرف عنه مسرعًا يتمايل من الضعف، وقد وضع ذيله بين فخذيه؛ فقد تعوَّد النفور من أشباح البشر. وكان في ركن الطريق كومٌ من الزبالة اعتاد الناس أن يرموا عنده فضلات منازلهم، فاتجه الكلب نحوه يطلب منه رزقًا. مسكين أيها الكلب؛ فإنك لا تجد في ماهوش ملجأً آخرَ غير ذلك الكوم. فلما بلغ ركن الطريق رأيته فزع وتردَّد؛ فقد رأى عنده شبح إنسان، ولكنه لم يلبث أن هزَّ ذيله وتجرَّأ على الاقتراب منه؛ إذ لم يكن ذلك الشبح سوى فتاة مسكينة مثله. فتحوَّل نظري إلى الفتاة، وكان وجهها أسودَ مما علاه من القذر، ويداها كأنهما عودان من حطب، ووجهها النحيل كأنه جمجمة في مقبرة.

ونظر الكلب إليها كأنه يحييها تحيةَ الصباح قائلًا: «يا زميلتي.» فلم تخيِّب المسكينة رجاءه ورمت إليه بِعظْمة؛ نعم فلم تكن العظْمة نافعةً لها.

ووقف الكلب يأكل عظْمته، على حين كانت الفتاة تقلِّب في الكوم باحثة عن قشرة فاكهة أو قطعة خبز أو خرقة من ثوبٍ بالٍ. ولم أستطِع أن أطيل النظر إليهما، فانصرفت وقلبي يدمى، ولكني لم ألبث أن وجدت قلبي يحملني إليهما، حتى إذا ما بلغتُ الفتاةَ ألقيت إليها بدرهمٍ كان معي، ولم أجد عندي عظْمةً أخرى أرميها لصاحبها. أواه! أهكذا تنطوين على القسوة يا ماهوش؟ ولما انصرفت عن الفتاة رآني رجلٌ يجلس في حانوتِ فاكهاني قريب، فقال لي: ألا تعطيني درهمًا يا جحا؟

وكنت حزينًا فلم أجبه. فأعاد قائلًا: أتُؤثِر النصرانية؟ إنها نصرانية تلك التي رميت إليها الدرهم.

فلم أجبه إلا بنظرةِ أسف، ومضيت في طريقي أفكِّر في هذه النصرانية المسكينة. ولو ملكتُ أكثر من ذلك الدرهم لعُدْت فرميته إليها. إن الله يطل على الكون بعين الرحمة، لا يفرِّق بين الناس والحيوان؛ فلكل حي في هذا الوجود مكانٌ في رحمته. وإذا نحن وقفنا بين يديه يوم الحساب لم يكن لنا أملٌ إلا في رحمته؛ وما أجدرنا — نحن البشر — أن نرحم، لعلنا نكون أهلًا للدخول في رحاب الله. أي بلدتي الحبيبة ماهوش، ألا تحبين أن تكوني أهلًا لرحاب الرحمن؟

لقد عشتُ ما عشتُ في وطني أحب هواءه وشمسه وقمره، وأتمتَّع بماء نهره وخضرة حقوله وغناء طيره، ولكني مع ذلك لم أستطِع أن أعيش بين أهله. ويُخيَّل إليَّ أحيانًا أنني قد أتيت إلى هذا العالم لكي أكون عبْرةً لغيري. لستُ أَصْلُح لشيء غير أن أعيش في خيالي هائمًا في عالمي، لا أبصر شيئًا مما حولي، ولا أعرف لي سبيلًا في هذه الأرض التي لا أرى فيها إلا صوَرًا وأشباحًا. كاد يُخيَّل إليَّ أن عالَم الوهم هو الحقيقة، وأن هذا العالَم الذي ألمسه وأراه وأسمعه وأشمه وأذوقه ليس سوى خيال.

تصدمني الحياة كلَّ يوم صدمةً تذهلني، فأعود إلى عالمي الخيالي وأقنع بما فيه مكرهًا؛ لأنه هو العالَم الذي أستطيع أن أعيش فيه، فإذا ما حاولت أن أقترب من زحمة الناس تبيَّن لي عجزي ونقصي.

ولو كنت لا أحمل إلا همومي لهان الأمرُ عندي؛ لأنني ألقى قضاء الله راضيًا. هكذا أنا، وهذا قضائي، ولا أملِك إلا أن أرضى بحظي. لا أستطيع أن أكابر في نصيبي؛ فأنا لا أستحق إلا هذا النصيب عند العادل المهيمن على الكون.

لو كنت لا أعاني إلا ما يجره عليه طبعي لهان الأمرُ عندي، ولكني كلما تلفتُّ إلى ما مضى وما حضر من أيامي لم أجد إلا أحمالًا حملتها لم يكن لي وزرٌ فيها. كانت كلها أحمالًا أُلقيت على كاهلي إلقاءً؛ لأنني لم أقوَ على ردِّها عن عاتقي.

وقد شبَّهت نفسي بصديقي العزيز «البطل الصامت» الذي يسمِّيه الناس «حماري»؛ فهو يقضي كل حياته يحمل أحمالًا ليس له في حمْلها مصلحة، ويقطع عمره في جهدٍ قاطعٍ متصلٍ لا يصيب منه لنفسه خيرًا.

لقد تعوَّد الناس أن يسبَّ بعضُهم بعضًا بوصف الحمار؛ ولهذا فلست أرضى أن أشارك الناس في سوء الأدب، فلا أسمِّي ذلك الحمار إلا «البطل الصامت»؛ فهذا ما يقتضيه العدل مني. والناس يعجبون مني إذا سمَّيته كذلك ويضحكون ويسخرون ويحسبون أنني أريد أن أسوق إليهم فكاهة. يا للغباء! ولكن ما ضرَّني إذا هم ضحكوا وسخروا؟ فلعل هذا يُدخِل إلى قلوبهم شيئًا من السعادة البلهاء.

إن صديقي البطل الصامت أكرمُ عندي من كثيرٍ من هؤلاء الذين يحمِّلونه أحمالهم ولا يتورَّعون عن إلحاق الأذى به ضربًا ووخزًا وشتمًا؛ وهو مع ذلك يبذل جهده صامتًا صابرًا قويًّا، حتى إذا ما تهدَّم وخارت قواه بَرَك على الأرض، وتجلَّد على الضرب القاسي. وهؤلاء الجيران لا يزالون كلَّ يوم يقصدونني لكي يستعيروا مني صديقي ليحمل لهم أحمالهم، فأخجل أن أردَّهم، فأذهب إليه أسأله عن رأيه، فإذا بهم يضحكون مني ويحسبون أنني أمازحهم، فإذا ما رأيته صامتًا لا يجيب أذِنت لهم به نائبًا عنه؛ فإني أعرفه صديقًا كريمًا. ولست أظن أنني خيرٌ منه حالًا؛ فإن جيراني يأتون إليَّ في كل يوم يسألونني أنا أن أحمل لهم أحمالهم، فلا فرق بيني وبين البطل الصامت، إلا أنني أحمل أشياءَ من صنفٍ آخر غير ما يحمل. ولا أذكر يومًا أن جاءني واحد منهم ليؤدي ما عليه من دَين، أو ليتطوع بإحسان أو مواساة. ووالله لو تطوَّعوا بالإحسان إليَّ لما رضيت منهم إحسانًا؛ فإن نفسي تأنف أن تكون يدي السفلى.

ولكني أصف الحال كما هي، وأفضي إلى هذه الكراسة بما في نفسي.

قد يكون لي على بعضهم دَين فأحتاج إليه وأسعى في طلب الوفاء، حتى لا أكلِّف المَدين مشقة السير إلى داري، فإذا عثرتُ عليه يومًا أزاغ بصره عني كأنه لم يرني.

كانت لي عند الشيخ عماد الدين أمانةٌ من مالي أقرضته إياها في أيام محنته، فلما عادت إليه الدنيا قلتُ في نفسي إن هذه فرصة لي وأنا أقاسي مرَّ الحياة وضيقها. فلما ذهبت إليه عثرت عليه في حلقةٍ من الناس يُلقي عليهم درسًا. فما وقعت عينه عليَّ حتى أخذ يهزُّ لحيته في عنف ويبربر كما يبربر الأسد.

ومضت ساعةٌ حتى فرغ الشيخ من درسه، ولكن بقي حيث كان حتى أتت طائفةٌ أخرى فتحلقت حوله. وكان الشيخ ممن يعتقد الناس فيه، فكانوا يذهبون إليه طلبًا للبركة وإن لم يأخذوا علمًا.

فلما طال بي الانتظار ضِقتُ ذرعًا وثارت نفسي، وكنت أسمع حديثه على مضضٍ ولا أفهم منه حرفًا؛ فقد كان الرجل يلقي هراء.

ورأيت بقائي عنده سفهًا؛ فإن ساعةً أقضيها في ضوء الشمس أجدى عليَّ وأشرح لصدري. وثار غضبي فصحت قائلًا: يا سيِّدي الشيخ.

فنظر إليَّ مُغضِبًا كأنه لا يعرفني. فزاد غضبي وثار الدم في رأسي، فقلت له: أما تعرفني؟ أما رأيتَ من قبلُ وجهي ولحيتي؟

فهزَّ الشيخ ذقنه ولمعت عيناه لمعةً مخيفة، ثمَّ نظر إليَّ نظرةً قصيرة وعاد إلى الحلقة يريد أن يمضي في درسه.

فغاظني ذلك وصحت به: لا بأس على هؤلاء إذا غبتَ عنهم ساعةً يا سيِّدي، فتعالَ معي إلى الدار لتردَّ إليَّ أمانتي، ولا ضيرَ على تلاميذك أن يهزَّ أحدهم لحيته في مكانك حتى تعود إليهم.

ولست أدري كيف أغضب الحقُّ هؤلاء، وقد كنت أحسبهم يشكرون صنيعي، فقاموا جميعًا في وجهي يشتمونني ويسفِّهون رأيي.

فلم أجد بُدًّا من الخروج، ونظر الشيخ إليَّ شامتًا، وانصرفت وتركته يهزُّ لحيته هزًّا عنيفًا.

وما كدت أعود إلى منزلي حتى سمعت طارقًا على الباب، فقلت في نفسي: «مَن يكون هذا؟» وما فتحت المصراع حتى رأيت جاري جمال الدين يطل برأسه باسمًا؛ وقد كان آخر عهدي به يوم جاء يطلب مني البطل الصامت ليحمل له بعض التبن، فأذِنت له به، ثمَّ اتفق أن مررت بداره عند غروب الشمس فرأيت منظرًا يذيب القلب حسرةً؛ إذا كان من طبعه أن يذوب. رأيت البطل الصامت المسكين واقفًا عند باب البيت وعليه حِملٌ من التبن يبلغ علوُّه قامتين، وقد تربَّعت فوقه امرأته، وكان رأسها يبلغ نافذة الدور الأعلى من الدار. وكان الشيخ واقفًا من وراء البطل الصامت يدفعه ويضربه ليدخله في الباب قسرًا، وكان يصيح به وهو يضربه: حا حا! يا حمار الكلب. حا حا! لعنك الله ولعن صاحبك.

وكان البطل الصامت يحاول جهده أن يدخل من الباب، ولكن حِمل التبن كان لا يريد أن يدخل، وكانت المرأة في أعلاه تصيح من فوقٍ قائلة: اثنِ رجليه حتى يبرُك فيقدر على الدخول.

فلما وقع نظري على صاحبي المسكين في تلك الحال غضبت وجريت لنجدته. ولكن جاري لم يرضَ عني إذ تدخلتُ في أمره، ثمَّ غضب فأمر امرأته أن تنزل، وألقى الحمل عن البطل الصامت وهو يبرطم، ثمَّ دفعه إليَّ في غضب.

عادت إليَّ تلك الصورة عندما رأيت رأس جاري يطلُّ باسمًا من وراء مصراع الباب.

ولم ينتظر حتى آذن له في الدخول، فحيَّا ودخل وسار أمامي متَّجِهًا إلى المنظرة، فلم أجد بُدًّا من السير وراءه، ولم أملِك نفسي أن نطقت بكلمات الترحيب والتأهيل.

ولما استقر به المجلس جعل يحدِّثني عن أحزانه وآلامه، وما نكبه الزمان به، حتى نسيتُ كلَّ أحزاني وآلامي وامتلأ قلبي له رقةً ورحمة. ثمَّ قصَّ عليَّ قصة بقرته وقد ولدت منذ ليلة، وكان ابنها عِجلًا مُشوَّهًا له صورة القرد وذيل الخنزير وحوافر البغل؛ فأحسست ألمًا ممضًّا من الحزن لهذا العِجل المسكين، حتى اسودَّت الدنيا في عيني. ثمَّ تنبَّهتُ إلى أن الذي يحدِّثني إنما هو جاري جمال الدين الذي رأيته يضرب صاحبي البطل الصامت ويشتمه ويسمِّيه حمارًا؛ فداخلني الجحود وقلت لنفسي: «وما لي أنا إذا كانت عجول الناس شائهة الخلقة؟ إن هذا لا ينبغي له أن يهمَّني.»

وقواني ذلك الخاطر، فقلت لجاري في جمود: ليس هذا من شأني، وإن كان لك أن تحزن عليه وتضيق به.

فدهش الحاج جمال الدين وخجل، ولكني بقيت على جمودي وقلت له: أتريد مني شيئًا يا سيِّدي؟ فإنني في حاجة إلى الراحة.

فقال الحاج واتَّسعت بسمته: ألا تساعدني أيها الجار العزيز؟

فقلت فاتِرًا: إذا كان ذلك في طاقتي.

فقال ولا يزال باسمًا: لا شك في أنك تستطيع يا سيِّدي.

ثمَّ طلب إليَّ أن أعيره «حماري».

هكذا قال، وسمَّى صاحبي البطل الصامت «حِمارًا» أمام عيني.

فقلت وقد علا الدم في رأسي: سآخذ رأي «البطل الصامت» أوَّلًا.

فقال ضاحكًا: «البطل الصامت؟!»

فقلت: نعم، هو «البطل الصامت»، وأحبُّ منك إذا عُدتَ إلى ذكره مرةً أخرى ألا تسبه فتدعوه «حِمارًا».

فتبسَّم الرجل ولمعت عينه خبثًا، ثمَّ قال: سأفعل يا سيِّدي، وإذا شئت فقم إليه فخذ رأيه.

فلم أبالِ خبثه، وقمت إلى المِذود فمسحت رأس البطل الصامت وظهره، فرفع رأسه إليَّ وجعل يتشممني، فملتُ عليه وسألته بصوتٍ مسموع: أتحب أن تخدمَ هذا الجار الذي عرفته؟

ولست أدري ماذا فهم البطل الصامت من قولي، ولكنه نظر إلى الحاج جمال الدين وأخذ ينهق نهيقًا عاليًا.

فقلت لجاري: إنه لا يرضى.

فقال الجار وقد لمعت عيناه بخبث أشد: ألا تسأله عن السبب؟

فملت على البطل الصامت فهمست له همسة، ثمَّ رفعت رأسي.

فقال الحاج: بماذا أجابك؟ أراك تفهم لغته.

فلم أبالِ سخريته وقلت له: لقد قال لي إنه سمع في صباه حكمةً من شيخٍ في قومه.

فضحك الرجل ضحكةً مبتذلة، ولكني لم ألتفت إليه وقلت في غير تردُّد: خير لك أن تأخذ الحكمة حيث تجدها. «حمار ما هو لك ظهره شديد.»

فنظر الرجل إليَّ نظرةً تنفث سُمًّا، ثمَّ قام سريعًا وأدار ظهره وخرج من الدار بغير أن يقرئني سلامًا.

ألا ليتني أستطيع ألا أحمل سوى هموم نفسي.

ألا ليتني أقدر ألا أسعى إلا لخيري، ولا أنظر إلا في مصلحتي وتدبير أمري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤