آراء وخواطر

في الولايات المتحدة، التي لا ترزح مثلنا بأثقال التقاليد من بقايا الأرستقراطية الخاوية أحيانًا، أو أثقال الديمقراطية المبهمة في كثير من بلاد العالم القديم، حيث لا حاجة إلى التخلُّص من بعض الصعوبات الموروثة للنفاذ إلى جوهر الحقيقة التي تحيط بها تلك التقاليد، يتسنى لي أن أوضح لنفسي ما موضع الاثنتين — الأرستقراطية والديمقراطية — في المجال الاجتماعي، وما هي الصفة التي لا تتوافر لهما على حسب المفهوم منهما في القارة الأوروبية.

إن الذي يسمونه الشعب هنا يترقى في درجات من المعيشة الحسنة، ويحصل على قسط عادل من الثقافة المُيَسَّرَة أثبت وأظهر ممَّا يتاح لأمثالهم في سائر أنحاء العالم التي أعرفها، حتى لو أدخلنا في حسابنا خطر التعرُّض للركود الذي يصيبهم من فقدان الأمثلة العليا والمبادئ الوجدانية، الذي يجنيه عليهم هذا الرخاء نفسه؛ إذ ينقلهم إلى طبقة برجوازية من قبيل الطبقات المعهودة في العالم القديم، ويبتعد بهم على السواء من الشعب ومن طبقة الوجهاء.

فالوجاهة، أو الارستقراطية الحقة — كما أفهمها — هي حالة يتفق فيها للإنسان على مثال رفيع أن يهذب وجدانه أو كيانه الباطن، وأن يؤمن ببساطة المعيشة الخارجية، فيجمع بين المثالية والتدبير المقتصد، وبهذا يصبح أنبل الوجهاء إنسانًا، أقل ما يكون افتقارًا إلى شيء يأخذه من العالم الخارجي، فهو لا يزهد في الضروريات، ولكنه كذلك لا يتعلق بالعوارض والنفايات.

أما الديمقراطية فما هي؟ إنها في مشتقات اللغة تعني حكم الشعب، ولا بد للشعب الحاكم من أن يصلح نفسه جسدًا وروحًا، ويعنى بصحة تكوينه وصحة تفكيره، ومتى تَمَّ للشعب هذا التهذيب فهو في الواقع نِدٌّ للارستقراطية، لا توجد معه طبقة دونه ولا منازعة بين طبقات. فإنما هي برجوازية متعفنة تلك التي تريد أن تحكم من دونها دون الشعب ودون السراة، وليس من العدل أن يظل الشعب كتلة جافية من الدهماء على حاله في كثير من البلدان بفضل الصخَّابين من حماته. فلست أومن بإنسانية متراصَّة على هذا المثال، متساوية بالمزية التي لا يحسن الاكتفاء بها والبقاء عليها، ولكني أومن بالمجتمع الذي تتلاقى الشخصيات الفردية فيه على سنة المساواة.

ولا أراني الآن بحاجة إلى تعريف الديمقراطية؛ لأنها — فيما أراه — سبيل متوسط، وطريق للوصول منه إلى ما بعده؛ للارتفاع بالشعب إلى الحالة المهذبة التي ينبغي أن يصير إليها. فإن كان لا بد من التعريف، فلتكن الديمقراطية الحقة هي صاحبة الصفات الأرستقراطية التي لم تتحقق لأدعياء هذه الطبقة.

وكثيرًا ما تخرج الأفكار إلى الحياة وتنتهي، وهي على خطأ وضلال وتلفيق مصطنع، كما حدث لفكرة «السلفية» مثلًا؛ فإن كل أثر فني يصبح (سلفيًّا) Classic إذا بلغ من قبوله أن يثبت ويعيش مع الأجيال، وبهذا كان أدب الإغريق في القرن الخامس (سلفيًّا)، ووجب إذن ألا يختلط العمل الذي تغلب على الزمن، والعمل الذي يدعي أصحابه مزية السلفية ولم يتغلب على شيء. ومما يزيد الاختلال أن يسمى عمل من الأعمال سلفيًّا جديدًا New Classic، وما هو في الحقيقة غير سلفي مدَّعًى، أو سلفي زائف.

وإن شيئًا شبيهًا بهذا لَيحدث على نحو آخر ووضع مختلف في أمر الديمقراطية والأرستقراطية.

فليس الديمقراطي ديمقراطيًّا، ولا الأرستقراطي أرستقراطيًّا؛ لأنه يحكي أحدًا قبله كما يحكي السلفي المدعي من أصبحوا سلفيين بحكم الغلبة على الزمن.

فالرجل الممتاز بجميع عيوبه — ولا يخلو إنسان ممتاز من عيوب — قد يستوفي حظه من الإدراك، على نحو ما اتَّفق لرجل مثل ليورنادو دافنشي جمع بين التهذيب وسعة الصدر، وحقق وعيه وحياته كل يوم عاش فيه، ولكن ذرية هذا الرجل لا يصبحون ممتازين لمجرد انتمائهم إليه ومحاكاتهم له في أحواله، فما من أحد يصير أرستقراطيًّا متقدمًا، أو ديمقراطيًّا متقدمًا إلا ذلك الذي يصير كذلك بمجهوده وتحقيقه لوعيه ووجوده. وإذا صح هذا بالنسبة إلى النوابغ الممتازين، فما بالنا بالذُّرِّيَّة الخاوية من النكرات التي تلتصق بأشجار النَّسَب عارية من الورق والثمر؟!

وأعيد وأكرر أن الأرستقراطي لا يسمى أرستقراطيًّا لأنه حلقة من سلسلة ميَّزها العرف في الأزمنة الغابرة، ولا يسمى الديمقراطي ديمقراطيًّا لمجرد دعوى يدَّعيها عن مبادئ التقدم في المستقبل، ولا بد من إعادة النظر في الحالتين لوضع الأرستقراطية والديمقراطية معًا على أسسهما القويمة، فالديمقراطية على نحوها الشائع بقية من الماضي؛ لأنها تَطَلُّعٌ إلى الغد يقوم على مظالم الأمس وسيئاته، والأرستقراطية — كما أفهمها — ينبغي أن تكون أملًا مُقبِلًا لأنها مصير الشعب الذي استوفى حقوقه وتهذيبه. وخليق بذلك أن يقنعنا بأننا لسنا أرستقراطيين لأننا سلالة بيت من أصحاب الأدمغة الثورية أو الثعبانية، وأصحاب الشارات الموسومة بالطنين دون أن توسم باللحن الموزون، أو سلالة سلف ملتبس الخلائق قتل كذا من العرب، أو أعان ملكًا من الملوك بالذهب المغتصب. كلا، ولن نكون ديمقراطيين؛ لأننا سلالة كائن مستذل من بقايا العجز والزِّرَايَة، ولكننا نصبح أرستقراطيين لأننا نرتفع أو نطمح إلى الارتفاع إلى حالة نصنعها جميعًا، ونرتقي بها إلى غاية الوسع من الرقي في الزمن المقبل، ولن نصبح أرستقراطيين بإسناد ظهورنا إلى ماضٍ يتراجع ويتهدم باسم بطل بهيمي من حملة السيف أو التابوت.

وليست الأرستقراطية — لغةً — إلا أن يُوَكَّل الحكم إلى الأحسن والأفضل ممن عُرِفت لهم هذه الصفة بالخبرة والتجربة، وينبغي أن تكون الديمقراطية بهذا المعنى؛ وإلا فهي كلمة خاوية بغير معنى إذ كان الشعب خليقًا أن يكون أحسن الطبقات وأفضلها.

وإذا قيل كما يقول الأرستقراطيون التقليديون: إن الله كان في البداية، فنحن جميعًا من عند الله، والله هو القِبلة التي علينا جميعًا أن نسعى إليها، وأن نجعله أمامنا غاية المسعى، أليس إلى الله مصيرنا أجمعين؟! أليس الله أمل الإنسان المأمول؟!

•••

في هذه المحاضرة أقصد البلاد الإسبانية بالكلام؛ لأنها البلاد التي أعرفها وأعرف بلاد العالم القديم من طريقها. فأقول: إن الفلاحين — ولا أذكر الصعاليك فإنهم جماعة أخرى — هم على العموم الأرستقراطية البدائية، وهم يمثلون الوجاهة والشعبية معًا، ويثبتون خطأ الذين يعرفون الطبقتين بالكلمات والمصطلحات، وقد عرفت بلدي وتنقلت في أرجائه، فلقيت في عزلة الريف نماذج حسنة للوجاهة التي تنشُد التقدم، وأعزو ذلك إلى التطبُّع العام في البيئة، وإلى الملابسة الفردية بين الإنسان وبين حياة طبيعية صاحية طيبة على مثال الحياة في جملة البلاد الإسبانية، وأنوِّه بهذه الملابسة — على وجه خاص — لاعتقادي أن الشرف إنما يتوافر لكل فرد، ولكل جماعة، ولكل أمة، بمقدار الوفاق فيما بينه وبين الحياة الطبيعية من وشيجة متصلة، أو فيما بينه وبين الطبيعة على الجملة؛ لأننا عند الطبيعة — في الواقع — نلتقي بالعواطف والمعاني التي تترجمها إلى لغة الحياة الاجتماعية المثلى، فلا شيء كالطبيعة يروض النفس على اعتدال المزاج وحفظ التناسب بين الأمور، ولا شيء مثلها يلغي الخسة ويبطلها، كما أنه لا شيء مثلها يميزنا ويرفعنا إلى العظمة. وقد يلوح لنا أننا عند الطبيعة أصغر منَّا عند المدنية (خلافًا لكم في نيويورك حيث المدنية مأوى طبيعي من النبات)، ولكننا نحس على هذا بأننا نضارع طبيعتنا التي نعيش فيها سعة وكبرًا، ويحس هذا كل من وهب نفسه للطبيعة، وقابل بين موقفه منها إنسانًا أمام اتساعها وكبرها. وإن الإنسان الحضري لَكالشجرة المقتلعة التي تنمي الورق، وقد تنمي الزهر والثمر، ولا تزال كل ورقة وكل زهرة وكل ثمرة آية من آيات الحنين إلى أمه الأرض التي فارقها.

وإنَّ الفلاح الإسباني في شعوره بالحلول الطبيعي والبواطن الخفية يتسم باللطف والدعة والكرم؛ لأنه يحب. وليس الشعور بالوحدة بين الإنسان وبواطن الطبيعة إلا شعورًا بألفة الحب، وهو هو سمة النبل الصحيح.

إنه يحب عناصره من الأرض والهواء والنار، وبهذا الحب تتناسق حياته والسماء الزرقاء، وإذا أراد أن يتمم وجوده بالعدل الاجتماعي، فليس يتطلب إلا أن يوضع في وضع اقتصادي له كرامته وبساطته على نحو يختلف بعض الاختلاف من تلك العناصر التي ينفخ فيها كل يوم من مدد حياته، والشعب الإسباني — من ثَمَّ — يكمل كما يكمل اليوم شعب هذه البلاد بنهجه على سبيله المثالي من وحي شعوره العميق ومسلكه المطبوع.

ولكن ما أقل ما نفهم نحن الإسبان عمَّا يقال له طبقة عليا؟! وما أسوأ ما نجري مجرانا مع تلك الطبقة الخارقة منا؟!

ما أقل ما نصنعه بعون الجماهير النبيلة لمعاونتها على إنشاء حريتها وتقريرها؟!

•••

إن الكاتب الإسباني الأندلسي سلفادوري رويدا الذي حاول جهده أن يصور بالشعر حياة الحضر والريف في إسبانيا، قد كان أخلق أن يعظم فوق عظمته بين الأمة لو أنه — وهو ابن الشعب — حاول أن يصوغ نفسه في هذا القالب بدلًا من صوغها في القالب الأجنبي الذي هو غريب عنه. وقد ذهب مرة إلى حفل شعبي بمدريد فسُرَّ به سرور الطفل، وبذل جهدًا جهيدًا لكي يبدو مع الشعب في حفله ولا يلوح غريبًا عنه كما أخبرني، ولمَّا وضع نفسه في هذا الزي لم يشأ أن يزورني لأنه حسب أنه يجرح بهذا الزي ما يسميه بذوق الأرستقراطية عندي، وقلت في خاطري: أي رأي لهذا سلفا دوري رويدًا الذي يظن أنه يجرح شعوري إذا لبس النِّعال، ويجرح شعور الشعب إذا لبس الحذاء؟!

ولقد كنت يومئذٍ ناشئًا، وكان هو في الخمسين، فاجترأت مع ذلك أن أقول له: إنني أوثر أن تحضر لي وفي قدميك نعال إن كنت ترى أنها لائقة بك، ولا يسرني أن تدوسها لمجرد اعتقادك أنها مناسبة للمقام. وأحسب أن المكان الذي لا ينبغي أن تذهب إليه بذلك النعال إنما هو ذلك الحفل الذي كنت فيه. والحق أنه لم يبدُ كأنه واحد من آحاد الشعب لأنه لبس نعالهم، ولكنه بدا كذلك لتلك الملامح الطيبة التي تشبه ملامح الصناع، ولا تتفق وما كان يتزيَّا به ليذهب إلى المحفل الأدبي الذي رأيته فيه عند دون جوان ﭬﺎليرا، ذاك الكاتب الذي كانوا يعُدُّونه من أبناء الطراز الأرستقراطي في معيشته وفي القصة كذلك، ويا للأسف والأسى!

كلا. يا رويدًا حيث أنت الآن تُرى في ثرى وطنك ولديك روح الشعب الذي لم يتمثل فيك … كلا. لا بالنعال لتبدو في زي الشعب، ولا بالحذاء الأنيق لتبدو في زي النخبة من السادة المجمعيين. فلا حاجة بك إلى الرياء لمجاراة الشعب، ولا إلى الرياء لمجاراة النبلاء، ولا حاجة بك إلى الرياء لمجاراة نفسك؛ فإن النعال البسيطة المريحة النظيفة التي تعيش أطول زمن هي التي نحتاج إليها جميعًا من ديمقراطيين وأرستقراطيين.

إن الرجل الشاعر بكيانه ووعيه يُبدِي نُبله بغير إخفاء نفسه بين الشعب، وبغير شعور منه بفقدان الاحترام الواجب لذلك الشعب الذي عليه أن يعاونه في هذه الشئون وفي سواها، وعلى الإنسان أن يبدو حيث كان كما كان، وكما صنعته ثقافته وتربيته، غير نازل عن حقيقته من أجل شارة لم يبدعها بمشيئته، وإن اجتناب حب الظهور لَعلامة حسنة في الإنسان، ومثلها في الحسن أن يلتزم الإنسان ما يناسبه ولو تعرض لاعتزال غيره.

إن دون ميجويل دي أنامونو، وهو رجل عظيم ونصير عظيم للفردية، كان بنشأته القسطلية مزيجًا من الشعبية والأرستقراطية على نمط مرعب لا يتقبل التبديل، وكان منذ رأيته لأول مرة يلبس جاكتة تُزرَّر إلى العنق، ولا يلبس معها قلادة، ولا يضع على رأسه غير قبعة صغيرة مفرطة في الصغر، كأنها مشط نحيل مغروس في حمالة ضخمة، وكنا نراه ونتمثله على هذه الصورة دون أن نلقي بالنا كثيرًا إلى غرابة فيها. وحدث ذات يوم قُبَيْلَ وفاته وبعد أن تقرر مكانه وتقررت تصانيفه، أن دُعِي أثناء قيام الجمهورية الإسبانية الثالثة إلى القصر لمقابلة رئيس الجمهورية، فخلع تلك الجاكتة وتلك القبعة، ولبس الطوق والقلادة وما كان قط يلبسهما في عهد الملك — الذي سماه مرة في دار الحكمة: ملكي — لدهشتي ودهشة سامعيه يومذاك.

وقد لاح لي أنامونو مبتذلًا ممسوح الملامح يوم رأيته في صورته الشمسية، يحف به الصحفيون وهو خارج من قصر الرياسة، متنكرًا على ذلك المَثَّال من صورته المعهودة، غريبًا في مرآه عن كل ما ألفناه، وما اقترن بصورته من جهاده وتجاريبه.

كلا، يا دون ميجويل أنامونو الذي أضر به كثير من الناس وأضر بنفسه!

ما كان بك من حاجة أن تخدع أولئك العلية بخداعك لسواد شعبك، وإن كسوة بسيطة كالتي يلبسها كل أحد، أو كالتي تبررها منزلتك الشخصية في غير أناقة ولا كلفة لَتصلح لك في كل قصر وفي كل مقصورة، ما دام هناك قصور ومقاصير. وما كان بك من حاجة إلى لبس القلادة أو خلعها أنت الذي علَّمتنا كثيرًا، والذي كنت طوال أيامك محاسِبًا لنفسك، ما أغرقت في ضحك قط، ولا أغرقت في نحيب قط، وما زدت على أن تبتسم أو تتأوَّه في سمت الأرستقراطية الصحيحة. كيف نسيت كل هذا؟

نعال، جكتات، قلائد، أطواق … تلك على ما يظهر أشياء ضرورية جوهرية لوجودنا.

ونذكر الآن اللحية الإسبانية؛ فإن اللحية في إسبانيا مَحَكٌّ آخر وعلامة أخرى، وما أكثر ما عرف الإسبان من اللحى التقليدية. ما أكثر اللحى فيمن نعرفهم من طبقات الشعب والعلية! ولِمَ لا؟ لِمَ يجوز للغني أن يحمل لحية ولا يجوز للفقير أن يحملها؟! لِمَ يجوز ذلك للطبيب ولا يجوز للنجار؟ لِمَ يجوز لراسم السحب ولا يجوز لراسم الأبواب؟ إن كاتبًا إسبانيًّا في الخمسين الآن نشأ في بيئة برجوازية، وعاش أيامًا كثيرة من حياته بين طبقات الشعب، يحمل لحيته كما يُرى من الصورة التي رسمها له يواقين سوين في مدريد. ولما نشبت الحرب غير المدنية وغير القومية خلافًا لمن يسمونها بالمدنية والقومية مع ما قذفتنا به من البرابرة من كل نوع ومن كل صوب ليمزقوا إسبانيا ويُمعنوا في طعنها. لما نشبت تلك الحرب الوحشية كان بعض الموظفين يحملون اللحى شعارًا أرستقراطيًّ؛ أعني شعارًا كاذبًا لأن الطرف الآخر كان فيه كثير من القادة والرهبان يحملون اللحى. وجعل الفوضيون الذين يرون في الصور بلحاهم، أو مهملين الحلاقة، ينظرون شزرًا إلى جماعة الملتحين بأعين تطل من وجوه بقيت فيها من اللحى بقية كبقية أعواد السنابل المحصودة في حقولها، وإني الآن لتالٍ عليكم نبذة مسلية من رواية — حربية — بقلم أرنستينا دي شمبرشين حيث تقول:

في عرف بعض الأذكياء الأَلِبَّاء أن كل من عبَّر عن نفسه بأسلوب مصقول وعلى نحو مهذَّب، فلا بد أن يكون من جماعة الفاشيين، وأستطيع أن أذكر لذلك مثل الشاعر الذي انضوى من اللحظة الأولى بباعث نفساني كريم إلى صفوف الدهماء، واهبًا قواه الروحية والمادية بلا قيد ولا شرط في سبيل تلك القضية، ولم يكن في الواقع إلا ضحية لاختلاط ذهني محزن، وقد سألته أفريقية صديقته المعجبة به أن يزور ملجأ الأطفال ليسليهم بأحاديثه؛ إذ كان مشهورًا بالإفاضة والتجلِّي حين يشعر حوله بالأطفال الصغار، إلا أن العاملين في الملجأ لم يقدروا جميعًا قيمة هذا التبرع الصغير، وحدث أن الحرس الجديد الذي حل في نوبته محل الحرس السابق وصل إلى الملجأ في تلك الساعة وليس فيه من يعرف الشاعر، فاستقر في روعهم أن إنسانًا بهذا المظهر المقبول وهذه اللحية السوداء الممشوطة لا يمكن أن يكون إلا واحدًا من زمرة الفاشيين. فقال أحد الحراس: إذا لم يذهب هذا الرجل توًّا فإني حالق لحيته لا محالة. وقلقت إفريقية نفسها من هذه السخافة، فبسط الشاعر جناحيه وطار يبغي له مطارًا أصلح من هذا المطار.

وكذلك نرى الشاعر — على حسب هذه الرواية — لا يعنى بإخفاء نفسه بين قومه، بعد أن قضى حياته الأولى متشبهًا بالأرستقراطيين، فلم يخطر له — وقد رآهم في حرب — أن يزيل لحيته؛ لأنه عد إزالتها عملًا من أعمال الجبن والنذالة، سواء أكان بين فوضيين أم غير فوضيين. والعجيب كما جاء في الرواية أن (لنين) كان يحمل لحية، وكذلك كان ماركس، وإن كان أصحابه لم يروهما بأعينهم. وقد نشأت بعد الحرب أزياء مختلطة وتقاليد متشابهة، فحمل الفريقان اللحى غير مستثنى منهم حتى (كامبزنيو) نفسه. وقد قال كاتب آخر إنه لا يبالي أن يحلق لحيته اتِّقاء للخطر، فإذا هو يعود إلى إرسال اللحية بعد شيوع اللحى مرة أخرى في كل مكان، لعله يخدع الثائرين وغير الثائرين.

وهذه الشواهد وغيرها مما لم أقرأه عليكم إنما أسوقها للعبرة النافعة، ولا أعني بها مجرد التسلية والفكاهة.

إننا نعيش بالأمثلة، ولأجل الأمثلة أكتب محاضراتي لأفكر فيها قبل إلقائها، وأجعلها محاضرات بالمعنى الصحيح. فلنعلم أن المعركة في إسبانيا تدور حول أمثال تلك الصغائر، فلا يتغير هنالك شيء ذو بال، وإنما هي صيحات وأراجيف حول إرسال اللحية وحلاقة اللحية، وحول ربط القلادة والاستغناء عنها، وحول النعال الساذجة أو الحذاء الملمع. ويجري مثل هذا — على ما أحسب — في بلاد العالم القديم الأخرى. فهل يا ترى تسري هذه العدوى أيضًا إلى بلاد العالم الجديد؟

الشعر والأدب

الشعر المكتوب — فيما لاح ولا يزال يلوح لي — إنما هو نمط من أنماط التعبير، كالموسيقى وما إليها، عن المعاني التي لا تدرك ولا يحيط بها الوصف، وأرجو المعذرة إذا لجأت إلى الكلمات الطنانة فقلت إنَّه عبارة عمَّا يفوق العبارة ولا تلحق به الأوصاف.

أما الأدب فهو التعبير عن المحسوس وعمَّا يُدرك ويُنال.

ولما كنت ممن يدينون بأن الروح شيء لا يُدرك ولا يوصَف، فمن البديه إذن أن يكون الشعر فيما أحسبُ تعبيرًا غير محسوس أو محصور، وإن الأدب لا يفرض ذلك على نفسه ولا يحاوله؛ لأن له مجالًا غير هذا المجال.

وموضوعات التعبير عمَّا يفوق الوصف هي وحدة الوجود، والصوفية ولا أقصرها على الصوفية الدينية، والحب وأعني به النفاذ إلى أعماق الطبيعة وكشف الحجاب عنها لرؤية ما يُرى وما لا يُرى، وإلى الازدواج في كل شيء حيث يكون لكل شيء موجود ظله الذي ليس له وجود.

وإن الإنسان لمفطور على الجنوح إلى هذه الأشياء بالشعور والتأمُّل والطموح، ونتيجة ذلك — صامتة أو مكتوبة — هي العاطفة الشاملة، وندع هنا كلمة الكونية لأنها من ألفاظ المشاع في الآونة الحاضرة.

ويكون الشعر إذن امتزاجًا حميمًا — عاليًا عميقًا — بيننا وبين أنفسنا ليلتقي فينا الصحيح الذي نحسب أننا نعرفه وندركه، والبعيد الذي نحسب أنه أرفع وأنزه من أن يحده الإدراك؛ ومن ثَمَّ يصبح في وقت واحد مزيجًا من الغنيمة والفقدان.

هذه حالة موزونة متردِّدة كالقافية، ومن هنا وجب أن يكون الشعر موزونًا مقفًّى، ولا يكون صورة منظورة؛ لأن الموسيقى والرقص يتطلبان الإيقاع، وتدور فيهما العين إلى أنفسنا لا إلى الأشياء المرئية. ولا يخفى أن الوعي لا يعمل في هذه الحركة المستغرقة، وأن الشعر يجب — من ثَمَّ — أن يكون إلهاميًّا وأن يكون بسيطًا؛ لأنه هو موضوع نفسه، ولا حاجة به إلى التزويق واستعارة الزينة، وسواء كتب الشاعر أم لم يكتب فهو في الحالتين راقص مثالي، أو راقص في حالة التجريد، تقتضي المطابقة بينه وبين هذه الحقيقة أن يظل صامتًا ولا يكتب، وإنما هي حالة ضعف تدعوه إلى الكتابة التي هي من عمل الأديب.

إن الأدب — وكل كتابة ضرورية — يعتمد على العين كالتصوير، ولا غنى له عن الزينة والفهم والمظهر؛ لأنه ليس بخلق ولكنه مقارنة ومشابهة.

الأدب ترجمة، والشعر أصيل، فإذا وُكِّل الشعر بالبواطن العميقة، فالأدب خليق أن يُوكَّل بالظواهر العارضة، وإذا كان الشعر وحيًا بديهيًّا موجزًا ملمومًا كالزهرة والثمرة، فلا جُناح على الأدب أن يستقصي ويفصل ليدمج فيه الظواهر، ويتصيد المتناسق منها والمتنافر.

وأعتقد أن الفنون — والعلوم أيضًا — تنقسم إلى قسمين: خَلَّاقة ومُقلِّدة أو ممثلة. فالخلَّاقة هي الشعر والرقص، وفلسفة ما وراء الطبيعة؛ إذ كانت هذه الفلسفة أقرب إلى الفنون منها إلى العلوم.

أما الفنون المقلَّدة أو الممثَّلة فهي التصوير والنحت والقصة، ويتراوح التمثيل بين الخلق والتقليد، فهو خلاق إذا وُكِّلَ بالمجردات والمعاني، ومقلد إذا وُكِّلَ بالنوادر والحكايات.

والشعر المكتوب — كسائر الفنون الخلَّاقة — طبيعي كائنًا ما كان حظه من الإتقان، أو هو متقن كامل في الواقع لأنه طبيعي، على حين أن الأدب لا يكون إلا مصنوعًا يزداد إتقانًا كلما ازداد من الصنعة، ويستطاع بلوغ الأدب صفة الجمال النسبي، على حين أن الشعر ينبغي أن يطمح أبدًا إلى الجمال المطلق، ولن ندرك شأوه إلا إذا تَنَزَّلَ علينا، وأصبحنا أهلًا له بالطموح وحماسة الروح، وهذا الذي يراد به — على الأسلوب الأفلاطوني — أن الشاعر ممسوس، أي مصاحب لإله يستولي على وجدانه. وإنه لممسوس حقًّا ما دام هذا الإنسان يحتوي قبسًا من الإلهية وهي الحق، ويخيل إليه أنه قادر على الحق، وأن صوره على صورته.

وواضح أن الشعر المكتوب لا يتسنَّى له أن يدرك الكمال؛ ولهذا يتعذَّر بلوغ الغاية فيه، وإن لم يكن بلوغها متعذرًا في كتابة القصة أو صُنع التمثال فإنهما مما يصلح للاستيفاء وللختام أعني للموت؛ ولهذا السبب عينه لا نرى الشاعر الحق يترخَّص كثيرًا لمطابقة الأنماط السارية، بل يحدث أكثر الأحيان — أو يحدث حين يحسن ذلك — أن يخترع نمطًا جديدًا، أو يحول الأنماط التي تواضع عليها أهل الأدب من الصيغ الجامدة إلى صيغة بيِّنة المرونة.

وقد جعل الأدب هذه الأنماط مسألة معقَّدة، وربما وقع الشاعر أحيانًا في الأنماط المعيبة لقلة اكتراثه للظواهر، وهو شرَك يعده له حسدته الطامعون من أهل الأدب والنقاد، فيستبدلون الشين الرديء بالزين الحسن.

إن بين الشعر والأدب لفارقًا يشبه الفارق بين الحب والشهوة، أو بين الحساسية والرغبة الجنسية، أو بين الكلام والثرثرة؛ إذ كان الأدب يميل إلى الدعوى والمبالغة، و(الدون جوانية) ويخلق مواضع التوكيد والإلحاح عنده من مصطلحات جَوِّهِ، أو يُفصِّل عرفه على حسب أزيائه، ولكن الشعر لا يتعقَّد ولا يصعب إلا إذا كانت بلاغته وليدة الكلمة والقلم، ولم تكن وليدة الفكرة والروح؛ ولهذا خَلَقَ الأدب صناعة البيان والبديع، وهما لعبة حواة يخترعها مَهَرَةُ الكتاب، وإن الشاعر ليعبث بنفسه أحيانًا — غفلة منه — فيقع فريسة لتلك الآفة، ويتورط في تمثيل دور الأدباء بديلًا من دوره، فيدرك من المعجزات ما يقصرون عنه؛ فإن الأديب قَلَّمَا يخطئ في أحكام الصنعة، ولا يزال قديرًا على تلقُّف الأطباق التي يقذف بها في الهواء، فإن سقط واحد منها سقط على رءوس الآخرين، ولكن الشاعر قد يفقد طبقًا من أطباقه فلا يسقط على رأس أحد، بل يغيب متواريًا في آفاق الفضاء، لتلك الصداقة التي بين الشاعر وبين سعة الآفاق.

وإن في الدنيا لكثيرًا من البُلَغَاء الحواة الذين يتوهمون أنهم — لعلمهم بالقواعد التي هي بضاعتهم — يمدون للشعر طعمًا مغريًا، فيقبضونه روحًا وجسدًا بين أيديهم، ويجدونه قلبًا وقالبًا، ويكتبونه ويسجلونه ويقيدونه، ولكن الشعر — لحسن الحظ — لا يقيد ولا يقبل التحقُّق والضبط باليدين، والشاعر الحق هو الذي يدعه يفلت من الأوهاق؛ لأنه إنسان صادق يعيش مع الصدق، وما كانت النعمة الشعرية: نعمة النشوة الجياشة، والمعجزة النابضة التي ينجم منها النغم الصادق، إلا عملًا من أعمال الطيران، وصورة من صور الحرية والطلاقة.

وليس يناقض الشعر والحب شيء، كما يناقضه الأدب المحكم المحبوك الذي يدَّعي الحق في الحب الكامل، فالأديب يسخر من العاطفة الجياشة في عمقها، ويستبدل بها مظهر العاطفة ليقول إن الشاعر — ذلك المخلوق المسكين الذي لا جدوى له — قلما يتحرك ويتقدم، ويسمع الناس ما يقال، فيبهرهم اللمعان الهازل والرنين الخالب، ويقولون كذلك إن الشاعر — البلبل — مخلوق مسكين لا نفع فيه.

والشعر الصادق إنما يُعرف بعطفه العميق وتياره الزاخر وسبحاته الفطرية إلى ما وراء الطبيعة، وإذا قيل إن الناقد العليم أعمق من الشاعر المبدع، فالقائلون لذلك ينسون أن العمق أنواع وضروب؛ فهناك عمق الإدراك، وعمق الفكر، وعمق التخيل، وعمق الشعور، إلى غير ذلك من ضروب الأعماق. ومن قال ذلك فمَثَلُهُ كمثل من يقول إن البطيخة أعمق من الوردة، ولا وجه للمقارنة بين غير الأشباه التي تقبل المقارنة، فقد يكون الأدب غنيًّا بالعمق في الأسلوب وفي الصور والتشبيهات والأشباح والمجسمات، إلا أن هناك أعماقًا أعمق وأبعد غورًا من ذاك، هناك أعماق لا يسبر لها غور، ولا يدرك لها قرار؛ لأنها بغير قرار.

ولما كان الأدب يستمتع بالطنين الفخم ويشبه الأرستقراطية من هذه الوجهة؛ فلا عجب يتراءى بريش الطاووس وريش الببغاء، ويترك الشاعر البسيط يقنع بريش البلبل الذي أفلت من القفص، وهو البلبل الذي قال بعض الشعراء إنه ولد قبل مولد الأفعال والأسماء والحروف.

وليس في الوسع أن نستطرد في هذا الموضوع لأنه موضوع لا يؤدي الاستطراد فيه إلى نهاية، فليكن ختام الحديث تلخيصًا لما قلت في كلمات معدودات، فأقول إن الأدب حالة من حالات الثقافة المصنوعة، وإن الشعر سمت لا كلفة فيه، يسبق التثقيف المصنوع ويتلوه.

التجديد في الأدب

كل من تقدم في مطلب من مطالب التهذيب، كالشعر — مثلًا — أو الفقه، أو الفن، أو العلم، وغيرها وغيرها؛ فإنه متقدم لا محالة في سائر المطالب، وإن لم يعتبرها من مطالبه التي يعنى بها ويتفرغ لها. فإذا أراد أن يضيف مطلبًا منها إلى مطالبه المحصلة فإنه سيبلغ فيه الطبقة التي ارتفع إليها في سائر المطالب، ولعله لا يحيط بالمطلب الجديد إحاطته بما عنده من قبل، ولكنه ولا شك يعامله ويخوِّله من الحق مثل ما تعوَّده مع فنه الذي توفَّر عليه؛ فإن الرجل المتقدم ينظر إلى العالم كله نظرته إلى مرتقى واحد، يستريح إلى صعوده، ويفرح برياضة نفسه عليه لإحساسه بقدرته على ارتقائه وإحساسه — مع هذه القدرة — بأن ارتقاءه هو الارتقاء العالمي في جملة نواحيه، ومن دأب الإنسان المطبوع على التقدُّم أن يدفع العالم إلى الأمام، وإن لم يخطر له أن يفعل ذلك، وهذه هي عقيدتي منذ صباي، ومنذ صباي عملت على تحقيق ما اعتقدت.

إن الشاعر المتقدم — أي الشاعر المتجدد — ابن عصره وأوانه إنما يصلح كذلك — أولًا — بفضل روحه، لا بفضل بيئته العلمية أو الفنية على الإطلاق، ولا بفضل الموضوع الذي يشتغل به في عمله، وإنما يحدث التغيير في البيئة، أو في موضوع العمل أفقيًّا، ولا يحصل صعودًا وارتقاء، ولا تزال الصنعة كفيلة بارتقاء التكوين المادي، دون أن تجاوز ذلك إلى ما بعده، وأن الشاعر ليستطيع أن يترنم كل يوم بلذة من لذات الحب المادية، كما يستطيع أن يترنَّم بلذة من لذات الطعام والمعدة، دون أن يرتبط ذلك بوشيجة من الوشائج الروحية أو الذهنية، أو الظواهر المثالية، أو يكسبه نصيبًا من الثقة والكرامة، وإذا أخفق إنسان في إثبات نفسه بوسيلته الذاتية، فليس في الوسائل العالمية ما يعينه على إنتاجه وخلقه. والشاعر الذي لا عمل له إلا أن يحقق الواقع اليومي من شئون معيشتنا بغير تطلُّع إلى الأمور الموجودة أو المفقودة التي تخلقها بصيرته الأخلاقية بكهربائها النافذة، أو بغير الواقع الذي لا يكون على الأقل إلا من قبيل الواقع السحري؛ فليس في وسعه أبدًا أن يصبح شاعرًا جديدًا.

وتقول حكمة إسبانية إن الواقعي يعني السلفي — الكلاسيك — يعني «الأبدي الخالد». فعلى الشاعر أن يكون أبدًا جديدًا؛ لأن الجِدَّة هي الاستمرار بلا انقطاع، ومن العسير أن تتصور البقاء والدوام بغير تصور الحاضر الراهن، وأن الدوام — وإن تفرَّق في كل وجهة — لن يهرم ولن يرى نفسه هرمًا؛ ومن ثَمَّ يقال عن الأبدية مجازًا إنها الوجود الذي لا يشيخ ولا يفنى، وإنما الشاعر تقدم باطني وخارجي في مجرى فترة من الزمان والمكان، ومن أحس أن الزمن أو الأبد قديم، فهو ذلك الذي لا يحس بزمنه،ولا يحس بما في استطاعته أن يدركه من دوام الخلود، أو هو ذلك الذي لا يحس برسالته في الحياة، وربما كان الشاعر التقليدي شاعرًا حسنًا يحسن المتاع بشعره، ولكنه لن يؤدي رسالته التي تعطي النور، وتنقل المشعل في يده من أمسه إلى يومه إلى غده، أو تنقل المشعل منه إلى غيره، وما كانت أسطورة الرجعة الأبدية، أو أسطورة الربيع الأبدي، إلا الشعر نفسه في الصميم.

والحياة إن لم تكن طموحًا إلى الخلود ماتت، وهي تحيا وقتلتها الواقعية الراهنة في إبانها؛ ولهذا ترى كثيرًا من الموتى راضين بأنهم موتى، راضين بموتهم لرضاهم بالحصر بين جدران أنفسهم، لا يتوقون إلى الخروج منها، ولا يتطلعون إلى التقدُّم في بواطنهم، ولا إلى التقدم في غيرهم، ولا بد لمن يريد أن يكون حيًّا وأن يستحيي نفسه أبدًا وأن لا يزال جديد أبدًا؛ أن يدرك ذلك بغريزة تسمو إلى المثالية الروحية وإن كانت لا تغفل عن تهذيب يوم بعد يوم وساعة بعد ساعة، وإلا فهو ناكص عن الصف الأول إلى الصفوف التي تليه.

وإنما الروح دوام في حركة لا تنقطع، ولن تفهم الحياة إلا أن تكون حركة تنتقل من الكينونة إلى الصيرورة، كأنها أمواج البحر التي لا تهدأ دون أن تفارق ماءها ودون أن تفارق سواحلها، وإنما هي جديدة لأنها لا تَكُفُّ عن الحركة ولا تنثني عن التقدُّم، والشاعر الروحاني الذي يفهم الناس ويفهم نفسه بما في طويته من إشراق يسمو بذاته، ويسمو بموضوعه هو وحده الذي ينفذ ببصره إلى دخائل الحياة، ويوفق بين جوانبها ويسيطر عليها.

وقد بالغت الإنسانية خلال هذه الأعصر الأخيرة في «الواقعية» ممَّا يرادف قولنا إنها شاخت وفقدت سجية الدوام وانحصرت في الزمن الذي هي فيه.

المثالية

المثل الأعلى، ولنتدبر ذلك لنعلم أن الإنسان أو المجتمع الإنساني لن ينتهي أحدهما إلى الغاية القصوى؛ لأن كلًّا منهما يجوز أن يصبح خيرًا مما هو، ويرتفع إلى حالة أسمى من الحالة التي أدركها. وينبغي أن يرتفع إلى تلك الحالة لأن كل مرحلة ينتهي إليها تفتح مطارح النظر إلى ما وراءها، وما زال الوهم — على كونه مخالفًا للحقيقة — كأنه من الجهة الأخرى مرآة، تعرض لنا جانبًا من حقيقة منشودة إذ كانت النتيجة المادية أن نسعى إلى غايتها، وعلينا أبدًا أن ندور وندور حول هذا الكوكب من أُفُقٍ إلى أُفُقٍ ما دمنا نحوم في فضاء هذا الكون، ولا نصطدم هنالك بالكارثة القاضية، وليس الإنسان ولا المجتمع الإنساني في الواقع إلا مرحلة دائمة من مراحل التقدُّم والنقلة الموقوتة بين حاضر وحاضر، وهذا هو مصدر قوة الإنسان العظمى.

وإن فضيلة الشوق إلى التقدُّم جديدة أبدًا، فكل ما يشوقنا يتمثل لنا بمغناطيسية جديدة، فلا سبيل إلى بلوغ المثل الأعلى؛ لأننا نحن أيضًا نتجدد وننتقل من جديد إلى جديد، سواء شعرنا بذلك أو لم نشعر، وسواء انتفعنا بهذه الجدة أم تركناها تذهب سدى.

المساواة والآراء

إن أعلى صورة من صور المساواة بين الناس نفهمها من طريق الشعور، أو نعبر عنها بلغة الشعور، وربما صَحَّ أن الغريزة التي يروضها التقدم الصناعي تسمو على الغريزة التي لا رياضة لها غير ضرورات الساعة، إلا أن الذكاء لا يصح أن يُتَّخَذَ سببًا لشعورنا بالتفوق على سوانا، ولا للشعور بهذا التفوق على حساب غيرنا، أو للتفرقة بيننا وبين الآخرين؛ إذ الواجب على الذكاء والفهم أن يكونا سببًا لفهم الآخرين والتفاهم بيننا وبينهم من طريق التهذيب الباطني والنفاذ إلى أدب السريرة. ولا يحسن أن يتخذ الفهم سببًا لانقسامنا إلى عناصر أو أجناس أو ألوان أو طبقات أو درجات من الثقافة والعرفان، بل الحسن من الفهم أن يكون سببًا للتعاطف بيننا وبين الناس بكل وسيلة من وسائل العطف والمودة. وإذا كانت حواسُّنا الخمس سواءٌ نحن بني الإنسان، فكيف يشق علينا أن يماثل بعضنا بعضًا؟ إن حقًّا علينا أن نبذل لكل أحد ما كسبناه من التقدُّم المختار، ولا نخفيه أو نموِّهه على أولئك الذين يلوح لنا أنهم «عمليون» واقعيون غير متقدمين، وأن نتقبل جهلهم ونسوسه، ونرضي فيهم نزعة التطلُّع الساذج كما نصنع في معاملة الأطفال — أطفالنا على الخصوص — ولا ينبغي أن نحكم عليهم بما يبدو من تقلُّب أطوارهم،على مثال من الطفولة النابية التي تُمعِن في نُبُوِّهَا كلما تشبهوا بنا على جهل منهم بمعنى هذا التنبُّه أو بالغاية منه.

وإنه لمن الشائق أن نستطرد في هذا البحث لعلَّنا نرى أن الذي يفرق الناس ليس هو الذكاء والفهم على وجه اليقين، وإنما هو ما يسمى بالمبادئ سواء منها ما يعتقد للخير أو للشر؛ لأن المبدأ الذي يُقال عنه إنه خير يعزل الإنسان الذي يقال عنه إنه شرير، كما يعزل المبدأ السيئ من يوصفون بالخير، والظاهر أن المبادئ السيئة أو الأفكار السيئة هي التي تثير الحروب بين الناس، وأن الشعور وحده هو الذي يستطاع تنبيهه لتلطيف الشر الذي ينجم من تلك المبادئ أو الأفكار، فإذا كانت الغازات الخانقة — مثلًا — لم تُستخدم في القتال، فإنما امتنع استخدامها احترامًا للشعور ممَّا يصح أن يفهم منه أن الشعور يفوق الذكاء، وأن من اليسير علينا أن نقترب من الآخرين بالاحتكام إلى الشعور، وأن المذاهب الفكرية — أي الأيديولوجية — هي التي تحتاج إلى المعالجة لتيسير الاتصال من جانبها، فلا يخفى أن الأفكار والمبادئ لذاتها، لا تكون خيرًا أو شرًّا، ولا توصف الأسلحة والسموم لذاتها بالخير أو بالشر، وإنما يأتي خيرها أو شرها من جانب المفكِّرين أو الأيديولوجيين الذين عجزوا عن الشعور، وإن الديانات لهي خير — جد خير في الحياة العملية — كلما رجعت إلى الشعور وليست كذلك لأنها ترجع إلى «الأيديولوجية» والتعليلات الذهنية. وما يعتري الديانات من تخلُّف وهبوط إلا أن يكون ذلك إلى العلوم الكهنوتية أي إلى المحاولات العقيمة للتخريج والتفسير وتمثيل العواطف الباطلة على صورة تلائم مصيرها. ومن ثَمَّ يمكن أن يقال إن التقريب بين الناس مستطاع من طريق العلوم قبل الفنون، وإننا ينبغي أن تتطلع إلى فهم العلم الأجنبي والمخترعات الأجنبية، كما رأينا أننا نستطيع أن نعتمد على الشعور لتحقيق هذه الغاية، ويبقى — بعد هذا — أن نوجه أنفسنا راشدين.

إن جميع الأفكار التي يدين بها جميع الناس جديرة بالاعتبار صالحة لأن يُستفاد منها على أسلوب الاستفادة من الفكرة المشتركة على وفاق، ولا شك أن الديمقراطية إذا نظرنا إليها على أنها أمل ميسور التحقيق فكرة رفيعة، أو أنها هي الفكرة الإنسانية الرفيعة التي ينبغي أن تقوم عليها حياة الإنسان الكاملة كما لخَّصَها مفكرنا الواقعي أرسبرست دي هيتا Arcipreste de Hita حيث قال إنها هي الحصول على العيش والعشرة الرَّضِيَّة. وكذلك تكون الديمقراطية المترقبة تحوُّلًا مستمرًّا إلى الشرف الصحيح شرف الأرستقراطية الجديرة بالكرامة التي تورث كل إنسان ميراثًا من الثقافة الروحية والمادية، فلا تكون الديمقراطية على هذا الاعتبار مرضًا متقدمًا كما يراها بعضهم في العصر الحاضر، بل تكون هي المناعة المتقدمة، وتستمد عناصرها جميعًا من الصحة والقوة واللطف والسمت والجمال، ولن تنال الديمقراطية حقًّا إذا طلبناها على أنها مَزِيَّةٌ لأمة خاصة أو لأناس معلومين، ولكنها تُنال وتستحق الطلب حين تفهم أنها حق لجميع الأمم وجميع البلاد. وسيكون الديمقراطي — أو أرستقراطي المستقبل بعبارة أخرى — هو الإنسان من سواد الناس أو عامة الناس. وفي كلمة العامة دليل على مدلولها المستكن فيها، وهو معنى العموم والتعميم (أي المعنى الذي لا يتفق مع التخصص والتمييز).

واجب الشباب

خير قدوة يستطيع الإنسان الكبير أو الصغير أن يقدمها للدنيا التي يعيش فيها — كما يلوح لي — هي التفوُّق الذي يأتي من طريق المحبة العالمية الواعية، فإذا تقدم بهذه القدوة لم يكن اتباعه فيها مقصورًا على شركائه في العاطفة والشعور، بل يتبعه كذلك من هم دونه في عالم الأحياء.

وقد سألني منذ فترة قصيرة طائفة من الطلاب الشبان في برجواي: ما هو واجب الشبان في العصر الحاضر؟ هل يجب عليهم أن يصبحوا مناضلين مجاهدين أو أن يقفوا موقف المراقبين المتفرجين؟

فأجبتهم قائلًا: إن الدنيا تدور في فلكها إلى القبلة الوحيدة التي يؤدي إليها دورانها، وهي قبلة التقدُّم والمثالية، وكل ما عدا ذلك فهو جولة تائهة أشبه شيء بالتمرينات الرياضية، ولكن كل دورة عضلية تضيف قوة مثالية إلى القوة المادية الزائدة.

وأهم الطوائف اليوم — بحكم كثرتها — هي جمهرة الشعب، كما يرى كل من فتح عينيه على الواقع، وهي الجمهرة التي لم تدخلها الطائفتان الأخريان في حسابها من قبلُ، وهما طائفة الأرستقراطية وطائفة البرجوازية.

وقليلًا ما تستطيع السياسة أن تدفع حركة التطوُّر، أو حركة الثورة في بلادها، أو في البلاد الأخرى. ولكن جمهرة الناس هي التي تخلق ذاتها، وإنما الجمهرة في عملها شبيهة بالكوكب الأرضي في عمله، تارة هي زلزال واضطراب وبروق ورعود، وتارة هي تطور وانتقال من حال إلى حال، وإن شبان برجواي، بل شبان أمريكا الإسبانية جميعًا، بل شبان العالم بأسره لمنساقون بمشيئتهم، أو بغير مشيئتهم، إلى القيام بحركة التطور، كما يحتمل أن ينساقوا أحيانًا إلى حركة الاضطراب والزلزال. والمهم في جميع الأحوال أن يشعروا بما هم فيه، وأن يساعدوا جهدهم على الاتجاه إلى قبلة التطور، إلا في حالة الاختناق والكظم، فلا حرج من الاتجاه إلى الوجهة الأخرى، وماذا عسى أن يبقى من علاج غير هذا العلاج؟!

على أننا حَرِيُّونَ أن نذكر أن الارتقاء الإنساني قد يحدث — فرديًّا — في بعض الأحايين دون أن يحتاج الأمر إلى شيء محسوس مجسَّم، كأنه ظاهرة كهربية في الكيان الاقتصادي. وعلينا ألا ننسى كلمة الهنود الحمر: إنك إذا رفعت قبضتك فقد ودعت عقلك.

ونحن منذ منتصف القرن ننتقل إلى فترة من (الدينامية) أو الدفعة العاجلة، يكاد تكرار الكلام فيها أن يكون من قبيل تكرار القوالب المحفوظة والجمل المعادة. فليست هي مسألة أفكار بل وقائع وأفعال، ولا ينقضي يوم دون أن نهرول فيه من هنا وثم كيفما كان الاتجاه؛ إذ تصوغ الفترة الجديدة ذاتها بلهيبها الصاعد وبطولتها الصاعدة، وإن بطولة الرشد في ثباتها وحريتها وتضامنها — على مثال غاندي — قد تصنع الكثير، وقد تكون في ترقبها أفضل ثورة وأقربها إلى الصحة والإقناع، ولا يسعني — وقد ذكرت غاندي — أن أغفل الذكريات التي تعلق بذهني من تحية مجلة الجنوب Sun في مدينة بوينس أيرس لهذا الرجل، الذي ينتمي إلى قوم آخرين في ظروف أخرى، فإن القلب ليحزن حين يقابل بين هذه التحية وبين التعقيب الذي شفع به بعض الأوروبيين على غير وعي منهم نعي غاندي ملخصين إياه بقولهم: إنه ختام الصراع بين وجبة اللحم — الروستبيف — وبين الطبخة الهندية!

فهو عندهم صراع طبقات آخر هذا الصراع بين الروستبيف وبين الطبخة الهندية!

إن واجبنا — نحن بني الإنسان في مسعانا نحو أنفسنا نحو مصيرنا — أن نتعاون على تكوين وعي جامع شامل بين تلك الأمم. المفروض أنها على حظ وافر من الثقافة، وتلك الأمم المفروض فيها أن الثقافة تعوزها؛ لندرك العالم بهذا الوعي إدراكًا يلائم الزمن الذي يحيا فيه إنسان اليوم في جميع الأوطان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤