ذكريات

نيويورك ٥ من أبريل

الفتاة الزنجية تنام وفي يدها وردة بيضاء.

والوردة والرؤيا تبددان ما تناثر من زينتها الحزينة كأنهما غشاوة من السحر منبسطة عليها: تلك الزينة من الجوارب المطرزة، والمئزر الأخضر، والقبعة الذهبية، بخشاخيشها الأرجوانية.

وإنها لتحلم — وهي مستسلمة للمنام — بالوردة البيضاء في يدها السوداء.

ما أشد قبضتها عليها!

لَكأنها تحلم بأنها تحميها وتحرسها، وإنها لتُعْنَى بها عناية السائر في نعاسه، وتتخيل — على ما يرى — أنها ولدتها في ذلك الصباح، وأنها أصبحت أمًّا والدة لروح وردة بيضاء. ومن حين إلى حين يخنق النعاس إكليل الوردة المطوي التي لو كانت ذهبية لسطعت في أشعة الشمس فتنغض رأسها وتلمس نهد الفتاة أو كتفها. فلا تلبث الكف التي تمسك بالوردة أن تذود عن كرامتها: كرامة حامل العلم لبواكير الربيع.

ويقابل هذا الحلم — غير منظور — واقع من الضجيج في الجوار القريب يغطي على كل شيء حيث يرين الحر والقدر وقَلَّمَا يحسان.

وكل من هنالك ألقوا صحفهم وتركوا المضغ والصياح في غاشية من الملل والشجن مستغرقين في النظر إلى تلك الوردة البيضاء، كأنها الوعي الباقي في ذلك الجدار.

والوردة — بين ذلك — تشع بنفحة جميلة كأنها روح لا جسد له، أو حضور شامل يحيط بكل ما هنالك، إلى أن يتسربل الحديد والفحم والصحائف، كرامة للوردة البيضاء، بربيع أجمل، في خلود غير محدود.

القمر

نيويورك ٢٣ أبريل

برودواي. المساء. روائع في السماء من صنوف الألوان تصيب النظر بالدوار.

… والقمر.

القمر …

لننظر. لننظر إليه بين ذينك الصَّرْحَيْن العاليين فوق النهر، على تلك الذروة الحمراء. ألا تراه؟ مهلًا لنرى.

أهو القمر يا ترى أم هو مجرد إعلان عن القمر؟!

ليحيى الربيع

نيويورك

العجوز ذات الأظافر الملوثة تتيقظ.

وأقبلت السفن الداكنة إلى هدسون المضطرب في حلقة من حديد، كأنها كواكب الليل تُقبل بعد الشفق نحو النور من جانب الظلام.

وجاء الربيع، بحنينه إلى الطهر، يعززه الفجر العائم في السماء، وعلى وجه الماء، نحو المدينة.

ويستوي النهار في مكانه، ويمينه على التليفون، من مركز برودواي.

وقضى — الربيع — ليلته كلها يتجمل ويزدان سابحًا في ضياء القمراء، تَنَدَّى وروده الدافئة برونق الفجر الذي لا يزال في طريقه يصارع (شركة الدخان والغبار والأوحال ليمتد) ليتلقاه مرشد بوغازها!

لكنه وا أسفاه! يعود الفجر فيسقط في الماء منهزمًا، حيث تمتد إليه أشعة من الشمس المحمرَّة لإنقاذه. فينتشلونه ويسعفونه بالتنفس الصناعي عند تمثال الحرية.

ويا للمسكين! ما أشد فرحته بالنجاة وهو مهزوم!

إن الذهب الشاحب من شعاع الساعة التاسعة كافٍ لتتويجه. نعم إن البراعم المتسخة على شجر الرصيف لَتبتسم في سمت وضيء، وإن العصافير على المداخن لتغني غناء تشوبه ذكريات الثلوج، ومقابر الشاطئ ترسل الغبار الأسود نثارًا كالشرار، وشريط من القرمز المشرق يصبغ أعالي الأبراج حيث تدق أجراس الخطر وأجراس المعابد في اختلاط.

انظر إلى الربيع الآن!

إنه الساعة قوي متجرد في ميدان واشنطون تحت القوس، يتأهب للمسير من الشارع الخامس نحو الحديقة، ثم لا يزال يدق قدميه تزجية لوقت الفراغ، ولا يتقدم!

إنه يحني رأسه، الآن.

وليحيى الربيع. وليحيى الربيع. وليحيى الربيع.

مقبرة برودواي

نيويورك

هذه المقبرة الصغيرة تؤدي إلى حي الأعمال، يصل إليها القادمون من أربعة مفارق متزاحمة، جو وترام وسيارات بالعداد ونفق. ولا يخذلها بين هذا كله صمتها الصابر الصغير.

ولا نهاية للعناوين المتألِّقة المتقابلة التي تعلن بالأحمر والأسود كل ما في نيويورك من (اﻟ … وشركائهم) تصوغها شمس الغروب، وتجمعها وتفرقها على أنماط وأشكال، بين اتصال وانفصال، فتصطبغ بها الأكتاف والظهور من حجارة الشواهد على القبور، وتتوشح هنا وهناك بوشائح من صبغ القلوب التي في الصدور.

مسكينة هذه البحيرة من عالم الفناء بما يلحق بك من معبد صغير — كأنه لعبة معبد — ترن أجراسه حالمة محاصرة؛ لما فيك من سكينة تحيط بها الأبواق والمطارق والصفافير.

إلا أن هذا الصفاء — على صغره وعلى انحصاره — خالد تحت ذلك العشب الحائل الذي نَمَّاه رفات جيل آفل. وما فيه غير زهرة واحدة ينحرف إليها شعاع الشمس الغاربة، فتغمر بالشعر هذه الرهبة من وحشة الساعة الخامسة، وتجلها التوأم الوحيد لشمس الغروب في جلالها السرمدي الذي انعزلت عنه المدينة العامرة.

مقبرة أيضًا

بين نيويورك وفلادلفيا

مرة أخرى نعم.

بل مائة مرة. إن أعظم ما يستهويني من أمريكا كامن في سحر مقابرها.

إنها قريبة منا، لا يحيط بها حائط من حولها، وكأنها البلد الوحيد في كل بلد، يستهوينا إليه وَحْيُه الشعري من سكينته المغردة بطيورها، أدنى إلى معترك الحياة من الحدائق والموانئ والمتاحف، تخرج الطفلة الصغيرة فتعبر بها من دارها إلى جوارها، وتتلبث هنالك هنيهة تلاعب عروسها، أو ترمق الفراشة التي تتطاير أمامها، وتنعكس صلبان الشواهد على زجاج النوافذ من حولها، فيجتمع البيت والضريح في ظِلٍّ واحد، ويطير العصفور من شاهد القبر إلى نافذة الدار، آمنًا أمان الطفلة الصغيرة في المقبرة.

يا له من نصر! هنا ينتصر به الجمال على الموت، ويا له من مَثَلٍ مطمئِن بين أمثلة شتى من العجلة والقلق فيما يليه!

أيتها الوردة طاب رياها.
أيها الماء ساغ شرابه.
أيها الحلم نعمت به أعين الحالمين.
ما أحرى الموتى أن تستريح بينك يا هضاب نيويورك، مطمئنة إلى الحياة الأبدية بين عوارض هذه الحياة اليومية!

مدريد

ما أقربها من الروح!

ما أقرب البعيد! البعيد، الذي لا يزال بعيدًا من الأيدي، قريبًا من الروح.

كأنه ضياء من كوكب سحيق.

كأنه صوت غير مسمى.

كأنه أحلام سارية، كأنه جواد نتسمع حوافره الراكضة بآذان على أديم الصعيد.

كأنه أصداء الموج من البحر المريج، في سماعة التليفون!

وتنشأ الحياة خلقًا جديدًا بين جوانحنا في ضياء لا يخبو، من نهار جميل يسطع في مكان ناءٍ عن هذا المكان القريب.

آه ما أحلاه ما أحلاه! ما أحلى الحق ولما يبرزه التحقيق!

الإصغاء إلى الماء

أظلم المساء، وجلست على مقربة من سلم الماء الصغير بجنة العريف من غرناطة (مدينة الرمان).

جلست متعبًا من مسرات الأصيل الذي انقضى في نعمة فردوسية متلاحقة، وهبطت كالطيف الذي لا ظل له ولا جسد، في أطوار الظلمة النامية التي تحلو لك كل لحظة، ولا تزال تشف عن سماء عَرَتْ فيها النجوم من سرابيلها.

وأَحْدَقَ الماء بي مُصطبِغ الأصداء، برودًا، قريبًا وبعيدًا، متسربًا جاريًا في كل قناة وكل جدول وكل شؤبوب، وكنت قريبًا منه حيثما كان، فملأ مسامعي وهجس لي بأخفى وساوسه، وكاد يتمثل لي معزفًا منسوق النغمات متجاوب الأصوات، بل لعله استغرق فغرق في نفسه موسيقى من الماء، بل موسيقى هي الماء.

وسمعت موسيقاه غامضة وواضحة: غامضة لأنها الآن لم تكن منعزلة عني، بل كامنة متنقلة في عروقي، ودمي الذي يسري في جوانبي، فمن خلال هذا الماء تمتزج بالدنيا الباطنة كل وشيجة منها إلى نفسي ومن نفسي إليها.

وواضحة لأنها صوت يعلو كلما راحت في الظلام شبحًا لا يرى، وكلما ترددت في السمع وتجاوبت بالترداد صفت روحي وغرقت في الصفاء، حتى لا تسمع ولا تقول؛ لأنها هي المسموع والمقول.

ولمحت من جانب العين ظلًّا مديدًا في قامة إنسان، منفردًا، مصغيًا، يجاور ظله على درج السلم، ويخطو رويدًا رويدًا مقتربًا مني، ويقول لي بصوت سمعته وسمعت الماء معه: تصغي إلى الماء؟

قلت: نعم. ونهضت قائمًا وأنا أتحدث إليه قائلًا: وأنت مثلي أراك تستمتع بالإصغاء إليه.

قال: لا حاجة بي أن أستمتع بالإصغاء إليه؛ فإنني أصغي إليه منذ ثلاثين سنة.

فهتفت به: ثلاثين سنة! وقلتها وأنا لا أذكر، ولا أعني أن أذكر، منذ كم من السنين كان إصغائي إليه.

ثم سمعته كأنه يقول: تخيل ما قد أخبرني به. وتخيل ما قد سمعت منه.

وانسرب في رفق فغاب في الظلماء، وغاب في الماء.

قنطرة

إلى قنطرة الهوى.
إلى الحجر الجاثم بين الصخرتين.
إلى موعد المواعد التي لا ينتهي موعدها.
أتيت ومعي قلبي.

•••

وما كان لي عند القنطرة من حبيب غير الماء.
أبدًا يجري ولا يخدع أبدًا.
وأبدًا يجري ولا يتغير أبدًا.
وأبدًا يجري ولا ينتهي أبدًا.

نهر هدسون

ولكي أذكر كيف عشت عدت إليك يا نهر هدسون من بحري «العذب كعذوبة هذا النور يتجلى حبًّا.»

وتحت هذه القنطرة التي احتوت من نيويورك أكثر ما تحتويه، يجري جدول طفولتي المذهبة. طفولتي؟! أي نعم؛ فقد أعود طفلًا مرة أخرى، وأنمو — كيفما أنمو — فيستوعبني صغيرًا ما هو أكبر وأعرق وأبقى.

أيتها الأسطورة التي لا انتظار لها، والتي تعذُب كعذوبة النور يتجلى حبًّا، إن نيويورك هذه لشبيهة بمقرة، شبيهة بإشبيلية، شبيهة بمدريد، وإني لأفتح الباب حيث أقيم لتدخل إليَّ الشمس حبًّا بهيجًا كبهجتها، وألقى أحدًا فأضحك، وأثوب كَرَّةً أخرى إلى ملاذي المدَّخَر من العزلة والصمت، سواء في الطبقة التاسعة أو الطبقة التي على الأرض تستقبل السماء، حبًّا وضياء، والحب حلو كالضياء.

الصور من صنع موريلو١ تنظر إليَّ خلل النوافذ، والعصافير العالمية تغرد على الأسلاك، وأنا والعصفور نتبادل الغناء ونتساجل الحديث، وأُصْغِي فتهب علي ريح العالم الواسع بصوت امرأة. فما أملحه شارعًا أرتضيه سكنًا لأطيافي وأشباحي وما يحوم في رأسي من الأخيلة والأوهام!

إن الشمس تحرق الجانب الجنوبي من ركني، وهذا القمر المنقوش على الحصير يوقظني لأهرب من هذا الفقر الموشى مبادرًا إلى قنطرة واشنطون، أصدق القناطر جميعًا في نيويورك حيث يجري جدول طفولتي الموشاة.

وشبعت نفسي فرجعت إلى الشارع، تفتح الريح معطفي كما تفتح قلبي، فأبصر الوجوه الحسان، وأرى أشجار الحور في حديقة يوحنا الرباني آتية من مدريد. وأتحدث إلى كلب هنا وقطة هناك بالإسبانية، وأسمع صبيان الكنيسة يرتلون الصلوات باللسان العالمي الذي يتناجون به في جنات الفردوس وفي أفق القمر، وأحذو حذو النواقيس مع أشعة الظهيرة، حيث تعوم السماء في بحر تمازج فيه البنفسج والذهب على وفاق، كأنه قوس قزح على أبدع مثال.

إن الحب حلو كالضياء.

١  مصور إسباني ١٦١٧–١٦٨٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤