الإسبان المختارون

يقول الأستاذ آندرز أوسترلنج Anders Osterling أحد أعضاء اللجنة في الفصل الذي كتبه عن جوائز الأدب من كتاب (نوبل – الرجل وجوائزه):

لو أن أحدًا أراد بعد النظر في أسماء المختارين للجائزة أن يتتبع نموذجًا للتطور في الأدب العالمي خلال نصف القرن الماضي؛ لكان من العسير أن يجد أمامه نسقًا مطَّردًا للحركات الأدبية، وهو أمر لا يعود إلى غياب الأقطاب البارزين من أعلام الأدب وحسب، بل يعود كذلك إلى فقدان هذا النسق في الحركات الأدبية على المثال الذي تتبعه في آثار البحوث العلمية.

وهذا صحيح فيما يقال عن الآداب العالمية على إطلاقها؛ فليس هناك اطِّراد على نسق واحد في آداب الأمم، ولا في الخطة التي اتبعتها لجنة الجوائز عامًا بعد عام لاختيار الموضوعات أو اختيار الممتازين في كتابة تلك الموضوعات، ولكننا ننتقل من الآفاق الواسعة التي تحيط بالآداب العالمية إلى آداب الأمم التي تكرر اختيار الممتازين من أدبائها، فلا يعسر علينا أن نرى هنالك معالم النسق المطَّرِد الذي نبحث عنه في آفاق الآداب العالمية فلا نراه؛ إذ يكفي أن نسرد أسماء الفئة التي أصابها الاختيار من أدباء فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا أو أمريكا أو إسبانيا لنعلم على الأثر أن «تصنيف» أولئك الأدباء من كل أمة لم يكن من باب المصادفة، ولم يأتِ عفوًا بغير نظر إلى جوانب الثقافة ومظاهر تمثيلها في تلك الأمة. وحسبنا على سبيل المثال أن نُلِمَّ بالنماذج الأربعة التي تم اختيارها من أدباء اللغة الإسبانية — لغة خيمنيز موضوع هذا الكتاب — لنرى في الحق أنها نماذج ممثَّلة لجوانب أدبها في جوهره، وليست مجرد حالات فردية متفرِّقة لم يفكر من جمع بعضها إلى بعض على هذه الصورة في المقابلة بينها والنظر إلى فوارقها ومتشابهاتها، وإلى الصورة التامة التي تؤلفها في جملتها.

فقد اختارت اللجنة أربعة من الإسبان بين سنة ١٩٠٤ وسنة ١٩٥٦، كأنها اختارتهم في أربع سنوات متوالية لا تفرق بينها فجوة من السنين تزيد في مجموعها على الخمسين.

اختارت في سنة ١٩٠٤ جوزي أشيجاري، ثم اختارت بعد نحو عشرين سنة نظيره ونقيضه (جاسنتو بينافنتي)، وهما إسبانيان من الأمة الأصيلة بالقارة الأوروبية، ثم نظرت بعد أكثر من عشرين سنة إلى الضفة الأخرى من عالم اللغة الإسبانية، فاختارت أديبة من أمريكا الجنوبية هي جابرييلا مسترال، وعادت بعد إحدى عشرة سنة، فاختارت الشاعر خيمنيز المولود في إسبانيا والمقيم بجزيرة (بويرتريكو) في بحار أمريكا الوسطى، وكل من هؤلاء الأربعة يمثِّل جانبًا من جوانب العبقرية الإسبانية لا يمثله سائرهم، وهم جميعًا يبرزون هذه العبقرية على أتمها، ولا ننسى منها نهضتها النسوية.

إن روح العبقرية الإسبانية لم تتجَلَّ قديمًا وحديثًا في فن من فنون الأدب كما تجلَّت في المسرح والأغنية؛ فقد كان المسرح مرآتها التي تنظر فيها إلى أركان قوامها الاجتماعي من الكنيسة والقلعة والضيعة، أو مروج الريف بين غناه وفقره واتِّساعِه وضيقه، فعلى جذور الدين تفرعت موسيقاها وتراتيلها وأنباء قديسيها وأبطالها، وما تداولته من كرامات الأولياء والشهداء، أو مفاخر الأبطال والعظماء، وتألف منه ذلك النسيج الديني والدنيوي الذي يتقارب فيه الفارس المجاهد والقديس المتبتل، ويؤمن به الصالحون ولا يكفر به العصاة، ولو جرت على ألسنتهم فلتات النقمة والتجديف.

وفي الأغنية يودع الشاعر ابتهاله إلى عالم الغيب والإيمان، وابتهاله إلى عالم الحس والعاطفة: قريب من قريب في لغة الفن وفي لغة الحياة، وقريب من قريب في هيام المؤمن بالمعبود، أو هيام العاشق بالمحبوب.

وقد بلغ ارتقاء الفَنَّيْنِ أوجه في القرون الوسطى من أثر الثقافة العربية وأثر اليقظة القومية، وتمثلت عبقرية القصة والمسرح في أكبر أعلامها الخالدين أمثال: سرفانيتز، ولوب دي ڨيجا، وكلدرون. فتدفقوا بالفيض الزاخر من ألوان الرواية والملحمة كأنهم الظواهر الطبيعية التي تعطي من أعماق ينابيعها عطاء السيل الأَتِيِّ والبحر المائج، ولا تتأتى به مع قيود الفن أناة الحوض والساقية، وتشابهت مَلَكات هؤلاء الأفذاذ وظواهر الطبيعة في نضجها وخشونتها، فلم يعوزها نضج الخامات الصالحة للبناء والتعمير، ولم تفارقها كذلك خشونتها التي تنتظر الصقل ولا بساطتها التي تنتظر التسوية والتنسيق.

أما الأغنية فهي الفن الشائع الذي لا تنفد ذخيرته بين سواد الأمة ولا بين الملأ من العلية والسادة، إذ يكاد كل فتًى أن يشعر بفريضة العرف على فتوته وصباه، وأولها الغناء تحت نافذة الحبيبة والترتيل في مجامع الصلاة، ولا يخلو عصر متقدم أو متأخر من غناء يستطيبه أبناؤه وبناته، ولكنهم قد يرتضون الشائع المحفوظ في عصور النكسة والجمود، ويتطلعون إلى المبتكر المتجدِّد في عصور النهضة والطموح.

وبعد ثلاثة قرون غبرت على الأمة الإسبانية في سبات القرون الوسطى، تنبهت شيئًا فشيئًا على أصداء العالَمَيْن القديم والحديث بعد الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية، فلاحت فيها تباشير البعث والإحياء قُبَيْلَ ختام القرن التاسع عشر، وأدركت ركب الحضارة بعد ذلك في إبان الحركة الجياشة التي شغلت أمم الغرب بين مقدمات الحرب العالمية الأولى ومعقباتها التي تلاحقت إلى أيام الحرب العالمية الثانية، وحدثت في هذه الأثناء ثورتها الأهلية التي تمثل في جانبيها المتنازعين كلا المعسكرين المتقابلين في العالم الإنساني: معسكر الديمقراطية الحرة، ومعسكر الحكم المطلق بصورته الإسبانية. وقلما أخذ الإسبان في تاريخهم العريق صورة من صور الحكم، فلم تصطبغ عندهم بصبغتها القومية التي تميزها من جاراتها في القارتين.

في إبان عصر البعث والإحياء نبغ المهندس الرياضي الشاعر الأديب (جوزي أشيجاري)، فتحول إلى الأدب بمفاجأة من تلك المفاجآت العجيبة التي تلازم أطوار النوابغ ذوي الشخصيات النادرة في أعقاب القرون الوسطى، وألَّف للمسرح وهو يناهز الأربعين، فتدفقت الدرامات من قلمه على تلك الوتيرة التقليدية التي عُرِفَ بها أسلافه سرفانتيز ودي ڨيجا وكلدرون، وامتلأت دراماته بالعجيج الصاخب والحركة المتداركة على غير مهل، وعجز المسرح عن ملاحقة التأليف بالتمثيل، فاكتفى منها بما تيسر له إبرازه وإخراجه وهو في طبقة المنسي المغمور.

كان مسرح أشيجاري هو مسرح كلدرون يعود إلى الحياة في أزياء القرن التاسع عشر، فلما استوفى حظه من الذكرى ومن البعث الجديد، جاء بعد أشيجاري نده الذي يضارعه في قوام المردة، ودفعة العمل، وغزارة المحصول. واستطاع هذا الند الحديث — جاسنتو بينافنتي — أن يملأ الفراغ الذي تركه سلفه القريب، ولما يَكَدْ يتوارى وراء الستار، ولكنه ملأه بمحصول غير ذلك المحصول، وعلى أسلوب غير ذلك الأسلوب.

•••

كان فن أشيجاري كافيًا لإحياء التراث الغابر، وإشباع رواد المسرح قبل انتقال المشكلات العصرية إلى ساحة المجتمع الإسباني مع طوارئ الحرب العظمى وأزمات المصنع والمزرعة ومضانك التموين والتمويل، فلما انتقلت إليها تلك المشكلات من وراء حدودها غلبت على مسرح الفن كما غلبت على مسرح الحياة، ولم يفتقد طلاب الفن ضجة الفروسية وصخب المفاجآت التي تخلقها «الملودرامة» من نسج الخيال وافتعال الحوادث؛ لأن مشكلات الصناعة والعمل، وكفاح الطبقات ونوبات النفوس المشدودة بين بقايا الماضي وبوادر الحاضر، قد شغلت الأذهان بما هو أملأ لها من القوارع المولية والشواغل المدبرة على مثال قوارع المسرح وشواغله أيام كلدرون، وأيام أشيجاري خليفته في ثوبه الحديث!

وإلى هذا العهد — عهد «الملودرامة» والأغنية التي تعيش إلى جانبها — كان العرف المسلَّم به بين قادة الفكر، والذوق أن (خط نصف النهار) في عالم اللغة الإسبانية يمر بمدريد، ولا يتحول عنها مع الذين تحولوا عن أرض الوطن الأصيل إلى أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية. فلما نهضت تلك الجاليات الأمريكية بأعبائها في العالم الجديد نبتت لها مشاكلها، وجاشت معها بواعثها، وظهرت فيها مدارس الأدب المستقلَّة جنبًا إلى جنب مع مدارس التقليد والمحافظة على التراث الموروث، وأبى الإسباني النازح إلى عالمه الجديد أن يسلم لقرينه في الوطن بأصالة أصدق من أصالته، وغيرة أعمق من غيرته، وقدرة أوثق من قدرته على النهوض بأمانته القومية ورسالته الفنية، بل كاد الإسبان المقيمون أن يستروِحوا أنفاس الحياة الجديدة في لغتهم، وأنفاس الحرية في دعوتهم الاجتماعية من ناحية إخوتهم الذاهبين مع الشمس وراء البحر الأطلسي، فاستمعوا لغنائهم واستجابوا لهتافهم. ولو قام في الغرب الإسباني مسرحه الذي يقابل مسرح كلدرون وأشيجاري لا تنقل إليه «خط الزوال» الذي علَّقه أبناء الوطن الأصيل بمدريد، ولكن المسرح الإسباني على ما يظهر نبات تسري جذوره في أرض الوطن ولا تهجره مع المهاجرين من أبنائه، فراحت الأغنية وحدها تسري بين الوطن القديم والوطن الجديد سريان الطير المهاجر بين العدوتين، وانتقل المغني والأغنية معًا في طريق هذه الهجرة بعد الحرب الأهلية، فطاب هذا الاغتراب لأكثر من شاعر لا يطيق الوطن الأصيل، أو لا يطاق فيه.

وفي أمريكا الإسبانية تردَّدت الأغنية التي تعبر عن العبقرية الإسبانية في هذا الجو العالمي الفسيح، الذي لا يستوعبه التراث القديم، ولا يأبى الانطلاق مع دواعي الاستقلال، والمباراة في المجال العالمي حيثما اتصل بالغرب والشرق في الأمريكتين أو في القارة الأوروبية، وربما ترامت به الصلات العالمية إلى أطراف الصين وجزر البحار الشرقية حيث بقيت للغة الإسبانية بقية حية من عهود الكشف والاستعمار.

وأبلغ ما يكون الشعر تمثيلًا لهذه الطلاقة العالمية؛ إذ تُنشده امرأة باللغة التي لم يتعود أبناؤها أن يستمعوا صوتًا للمرأة من صفحات كتاب. فلم يكن عجبًا أن يشتهر النساء الشاعرات، ويبلغن من الشهرة ما لم يبلغه أندادهن الشاعرون، ولم يمضِ غير قليل على ظهور الباكورة الأولى من الشواعر الإسبانيات في أمريكا الجنوبية، حتى كانت أكبرهن وأنبغهن — جابرييلا مسترال — أشهر أعلام الأدب وأحبهن غناء إلى قُرَّاءِ لغتها، وقد نشأت في «شيلي» ولكنها لم تلبث بعد ذيوع ديوانها الأول أن نسبتها قرابة الأدب واللسان إلى كل أمة من أمم أمريكا اللاتينية، فدعاها المكسيكيون إلى زيارة بلادهم، ودعتها جامعة (بويرتريكو) للمحاضرة فيها وإلقاء أناشيدها على أسماع طلابها وطالباتها، وأتاحت لها الرحلة الطويلة خارج بلادها أن تمثل عبقرية قومها في أوسع آفاقها، وأن تحس ما حولها من مشكلات العصر الحديث في كل مجتمع تعيش فيه أو تسمع أخباره، فأصبحت بحقٍّ لسانًا ناطقًا بلواعج النفس الإسبانية كما ينبغي أن يهتف بها هاتف الشعر في القرن العشرين. وقد كانت جابرييلا — واسمها الأصيل لوسيلا — تقارب الستين حين خَصَّتْها لجنة نوبل بجائزتها عند نهاية الحرب العالمية الثانية (سنة ١٩٤٥)، وكان اسمها وأغانيها يومئذٍ على كل لسان يترنم بلغة الإسبان.

وفي (بويرتريكو) التي نضجت فيها عبقرية الشاعرة بعد الأربعين ثبت (خط نصف النهار) حتى استمع العالم الإسباني منها إلى صوت شاعره الجديد، الذي كتب له أن يمثل العبقرية الإسبانية بعد غاشية الثورة السياسية والحرب الأهلية؛ إذ كان لا بد لها أن تثوب — ولو في جانب من جوانبها — إلى فترة من فترات العبرة والتأمل أو من فترات التعب والسكون، وفي أمثال هذه الفترات تحن النفوس حنين السآمة والانقباض من معارك الصراع ودوافع اللجاجة والنزاع، فينجم بينها من هنا وهناك من يهيب بها تارة أن ترجع إلى الله، أو ترجع إلى أحضان الطبيعة، أو ترجع إلى بساطة الفطرة وسلامة الطفولة، وكذلك حدث في المغرب يوم سَئِمَ الناس قوارع الحروب والغارات بعد القرون الوسطى فتنادوا بالعودة إلى الدين، ويوم سئموا قوارع الثورات الصناعية فتنادوا بالعودة إلى الطبيعية، ويوم سئموا أخيرًا هذه النوازع المذهبية، وهذه الضلالة وراء الأهداف الكاذبة، فراحوا يتنادَوْن ما استطاعوا إلى تقشف الزهد أو وداعة الطفولة أو براءة الأمن والسلام في ظلال الريف.

فقد اختلطت في العالم الإسباني مذاهب الأدب ومذاهب الدعوات الثورية بين الحربين العالميتين وتباعدت الشُّقَّةُ بين أطراف المذاهب، كما يحدث دائمًا لكل مجتمع محافظ عريق التقاليد والموروثات يصطدم فجاءة بقضايا العصر الجديد على نطاق واسع يمتدُّ بين قارات العالمين القديم والجديد، فبرزت في اللغة الإسبانية دعوات المحافظين الذين لا يترخَّصون في نزع حجر واحد من بنائهم التالد المجلَّل بقداسة الدين والتاريخ، وقابلت فيه دعوات الهدم التي لا تريد أن تُبقِي على حجر واحد من ذلك البناء ولا من سواه. ومضت فترة ما بين الحربين في تجربة الثورات من كل طرف وتجربة الخيبة بعد كل ثورة، فرانت على النفوس فترة من الملل والحيرة توحي الشك في كل دعوة وفي كل داعٍ وتزعزع الثقة بالنيات، كما تزعزع الثقة بالأعمال والأقوال، وغلب على أصحاب المزاج الوادع الطيب من الفنانين والشعراء حب النجاة من غوائل هذه الفتن إلى الملاذِ الأمين من حياة البساطة، حيث تكون بساطة الإنسان الفطري، وبساطة الطفل البريء، وبساطة المحبة الصافية التي تشع بها أغاني الرعاة ونجوى الريفيين والريفيات. ولم يبرز هذا الملاذ الأمين صوتًا أعذب ولا أصدق ولا أقرب إلى الرضا بالأمل والغبطة بالحنين من صوت خيمنيز شاعر اللغة الإسبانية الذي وُلِدَ في أرض الوطن، وهاجر إلى الغرب فاستقر زمنًا، حيث يتوسط العالم الإسباني، وحيث أوشك «نصف النهار» في ذلك العالم أن ينقل خطه الأخير إلى هناك، متصلًا بين أدب المرأة الإسبانية والأدب الريفي المشوق إلى ظلال الريف.

وفي هذه الفترة ينظر نقاد السويد الباحثون عن ضالتهم «الإنسانية» بين مشتجر المذاهب والدعوات، فلا يجدون لها مثالًا أوفى بالشرط المطلوب من هذا المثال؛ لأنه أقربها جميعًا إلى حظيرة السلام والأمل، ولأنه الجهة الرابعة في هيكل العبقرية الإسبانية قد تمَّت عندها جهاته الأربع: جهة المسرح الموروث، وجهة المسرح المتجدد، وهاتان — بعد — جهة الغناء من صميم المجتمع، وجهة الغناء من صميم الريف.

إن خيمنيز يتقن الفن وهو يدعو إلى الطبيعة، وينتمي إلى الوطن الأصيل وهو ينتقل إلى وطن الهجرة، ويتَّصل بالحاضر وهو لا ينقطع عن التاريخ، فهو عنوان لا يتخطاه القارئ الذي يعرض أمامه أدب قومه، ولن يعرضه أمامه إلا رأى مكانه ثَمَّةَ خاليًا بعد أشيجاري وبينافنتي وجابرييلا مسترال.

ونحسب أن الناقد الأدبي كيفما كان لا يملك أن يغفل عن جوانب النظر في أدب الأمة الواحدة ليستوفي تمثيلها وإنصاف ممثليها كلما التفت إليها، فإذا كانت اللجنة السويدية لا تملك أن تستوفي هذا التمثيل في أدب العالم الإسباني كله، فهي مسوقة إلى استيفاء تمثيل الأدب في كل أمة على حدة حين تراجع السابقين واللاحقين من مرشحيها للجائزة، فلا تكرر نفسها في تزكية مذهب واحد، ثم تهمل غيره، وهو معروض لها موافق لشرطها، ونحسب أن شأن الآداب السكسونية عندها كشأن الأدب اللاتيني في هذه الخَصلة؛ فإن قائمتها الإنجليزية — مثلًا — تشمل: الشاعر، والفيلسوف، والقصاص، وشاعر الدولة، وشاعر الجزيرة المستقلة، وناظم الشخوص الاجتماعية، وناظم الشخوص الفنية. وقائمتها الأمريكية تشمل: أديب الشمال، وأديب الجنوب، وأديب المسرح والدرام، وأديب القصة والمقال، كما تشمل الكاتب والكاتبة، ومن يختار بيئته في دياره، ومن يختارها من ديار المشرق الأقصى في اليابان والصين، ويقال مثل هذا عن أدباء الألمان والسكندنافيين، كما يقال عن أدباء الفرنسيين والطليان، وهكذا تئول الشروط العالمية في منح الجوائز إلى تمييز «القوميات» بأجزائها وجوانبها على قصد لا مناصَ منه، ولعلها لا تحقق صفة «العالمية» في تقديرها إلا بما تحاوله من الموازنة العامة بين القوميات التي تعنيها، حسبما تراءى لها من أسباب العناية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤