نحو القرن العشرين

كان كل قطر من أقطار العالم في أواسط القرن التاسع عشر يستمع إلى دعوة من دعوات التغيير والتجديد، وكل دعوة من هذه الدعوات تُرادِف في مرماها الدعوة إلى مراجعة الماضي للانفصال عنه أو للعودة إليه، ولكنها على اختلاف تفهم أنها سائرة إلى مستقبل خير من الحاضر، وأنها لا ترضى عن بقاء الحاضر كما تراه.

واستمعت الأمة الإسبانية إلى هذه الدعوات، كما استمع إليها العالم الأوروبي من حولها، ولكنها لم تَسِرْ في حركة التجديد قُدُمًا بغير تردُّد — أو بقليل من التردُّد — كما سارت جاراتها من الأمم الأوروبية، وإنما كانت تسير إلى غَدِهَا، وتتلفت خطوة بعد خطوة إلى ماضيها لأن جذور الماضي في هذه الأمة أثبَت في مكانها من جذوره في جاراتها، ولعلها ثبتت هذا الثبوت لأن هذه الأمة صنعت ماضيها قريبًا، ولم تتطاول عليه العهود طبقة بعد طبقة حتى لحق بذمة الغيب المجهول.

كانت السلطة الدينية فيها أقوى وأوسع نطاقًا من نظائرها في جميع بلاد القارة الأوروبية؛ لأنها من القوى القليلة التي احتشدت لمقاومة العقائد الغالبة التي تخالف المسيحية، ثم احتشدت لمقاومة المذاهب التي نشأت في المسيحية نفسها بعد عصر الإصلاح وعصر النهضة، ثم احتشدت لمقاومة العلوم الحديثة التي تصدى لنشرها أُناس من غير رجال الدين.

وكانت السلطة السياسية تعتزُّ باعتمادها على هذه السلطة الدينية، وتضيف إليها سلطان الدولة الإمبراطورية التي تبسُط حكمها على ديارها وعلى ما وراء البحار من أقطارها، وتجمع بين يديها أَعِنَّةَ السيطرة المطلقة التي لا بد منها في أمة قلتية لاتينية جرمانية، تتنازع في داخلها ولا تتماسك بغير سلطان صارم يتغلَّب على عوامل التنازع بينها.

وكانت تقاليد المحكومين وعاداتهم أقوى من سلطان رجال الدين ورجال الدنيا سندًا للماضي وإقرارًا له وغيرة عليه، فلو أراد الحاكمون تغييرًا إلى الغد منفصلًا عن الأمس لحالت بينهم وبين ذلك إرادة المحكومين، ولا سيما المحكومين الذين تتجمَّع إرادتهم في الامتناع؛ فإنه يسير عليهم لا يكلفهم جهدًا يعجزون عنه.

واتفق في أواسط القرن التاسع عشر أن الأمة الإسبانية مُنِيَتْ بحكم الأجنبي على أثر الثورة الفرنسية، فأصبحت دعوتها إلى الحرية شعورًا وطنيًّا عارمًا تستطيع أن تذهب فيه إلى غاية مداه، ولكنها تُحَقِّقُ هذه الحرية، ثم تعود إلى استخدامها في تدبير أمورها، فلا تستغني عن رياضة الماضي على موافقتها، ولا ترى أن مقاومتها لسلطان التقاليد تسمح لها بتلك الحرية التي أعانتها على مقاومة السلطان الأجنبي، بل على مقاومة السلطان الوطني في حدود الدواوين والأنظمة الحكومية.

ولهذا حدث لبعض مفكريهم وقادة النهضة الأدبية بينهم أن يكون أحدهم على أشد ما يبلغه التطرُّف في الدعوة إلى الحرية، وهو مغترب عن بلاده منفيًّا أو متبرمًا بالحكم المستبد في وطنه، ثم يعود إلى الوطن ويأخذ في العمل، فينقلب من التطرف إلى المحافظة، ومن التغني بالأمل في المستقبل إلى الإشادة بالماضي وتجميله بصورة من صور الخيال وحلية من حلي الفخر والحماسة، وأشهر هؤلاء المتطرفين المنقلبين إلى المحافظة أنجيل سافدرا Saavedra المتوفى سنة ١٨٦٥ بعد أن ارتقى إلى منصب الدوقية، وقضى سنواته الأخيرة يتغنى بمفاخر القرون الوسطى ومآثر حماة الكثلكة من ملوكها.
ومن الشعراء الذين ترددوا بين نزعات الحرية والتجديد وبين الحنين إلى مجد السلف أديب من الأدباء (الموسوعيين) في معارفه ومطالعاته، هو مانويل جوزيه كونتانا Quintana الذي هجر مبادئ التطرف بعد أن بلغ الستين، وعكف على إحياء الأساليب السلفية في شعره، كما جرى عليها شعراء القرن الثامن عشر، قبل أن يتحول الجيل الجديد من السلفية إلى الرومانية (المجازية)، ومن هذه الرومانية المترددة إلى السلفية الجديدة.
وليس بالقليل من أدباء الإسبان الناشئين بعد حروب نابليون من يَثبُت على تطرُّفه، ويتطوح بدعوته «الجديدة» إلى أقصى الشمال، ثم يتكشف هذا التطرف عن معارضة للسلطة الدينية، وإيمان بوجوب التفرقة بين هذه السلطة وسلطة الحكومة السياسية، دون أن يتحول عن الإيمان بالدين أو عن الإيمان بالأفكار الدينية التي يقوم بها المجتمع في بلاده؛ فهو ممَّن يُطلق عليهم اسم «اللاكهنوتيين» Anticlericals، ولا يسمون باللادينيين أو الملحدين، وأغرب من هذه الطائفة أناس يحسبون أنفسهم من الملاحدة أو أصحاب المذاهب المادية، ولكنهم يصدقون ما يصدقه عامة الجهلاء ويتعوَّذون بالرقى والطلاسم التي يتعوَّذ بها العامة دفعًا للشر والمرض، وجلبًا للصحة والطالع السعيد.

•••

وتظهر مجاذبة الماضي لأفكار المجدِّدين من مدارسهم الفكرية التي يعلنونها، ولو لم تكن لها صبغة سياسية أو اجتماعية تتسم بسمات الثورة على نُظُم الحكم والتمرُّد على العُرف القديم، ومنها مدارس أدبية تُعلِنها فئة من الشعراء والكتاب، ولا يفهمها شاعران أو كاتبان على وجه واحد، وقد يعلنها أمام المدرسة ويتبعه فيها تلاميذه ومريدوه، ثم ينقلب عليها وينكر انتسابه إليها، ولا يعرف الناقد من أعماله أين هو فيصل التفرقة بين أدبه، وهو يبشر بمذهب تلك المدرسة، وبين أدبه وهو يُنحي عليه، ومن الأمثلة الكثيرة على التردُّد بين أنماط الشعر الغنائي — وهو الفن الإسباني الذي لا ينقطع في جيل من أجيال هذه الأمة — أن الشاعر جرمان بليبرج Bleiberg نشر أغانيه (في سنة ١٩٣٦)، فاتخذه شعراء الجيل الناشئ بزعامة أشهرهم في نظم الموشحة (نييتو) Nieto رائدًا للمدرسة السلفية الجديدة، وهي الهدف الذي صوَّب إليه بليبرج حملته العنيفة بعد صدور ذلك الديوان. ولم يلبث نييتو وزملاؤه أن اشتهروا تارة باسم الفرقة الزرقاء، وتارة باسم السلفية فوق الواقعية (السريالية)، وخالفوا أمثالهم من شعراء المدارس التي تحمل هذه العناوين في الأمم الأخرى.

وربما كانت ثورة إسبانيا الكبرى أصدق صورة للنفس الإسبانية في موقفها بين الماضي والحاضر، وبين روابط التاريخ وروابط الحياة العصرية؛ فإن هذه الثورة وُصِفَتْ على حقيقتها حين سُمِّيَتْ بالحرب الأهلية، وشاع عنها هذا الوصف بدلًا من وصفها بالثورة أو الانقلاب، كما شاع عنها فترة من الزمن بعد انتشار أخبارها في الصحف العالمية؛ إذ كان النزاع الأكبر بين المتقاتلين فيها نزاعًا بين القوميين والجمهوريين وكلاهما من أحزاب اليمين، ولم ينفرد الثائرون اليساريون في الطرف الآخر بقوة مستقلة تعتمد على أنصارها وحدهم لمقاومة خصومها، بل كان أكثر اليساريين متبرمين بالواقع غير منفصلين عن التراث القديم، وكان خروجهم على المجتمع أشبه شيء بخروج الإنسان من مكان ضَيِّقٍ ينقطع فيه عن موارد المعيشة، فهو أدنى أن يكون انتقالًا من مسكن مكروه أو منزلٍ وخيمٍ، ولم ينجح أصحاب المبادئ الثورية في ضَمِّ المتبرمين إليهم؛ لأنهم أقنعوهم وحوَّلوهم عن ماضيهم، ولكنهم نجحوا معهم لأنهم طلاب تغيير حيث كان، ومثل هذا الطلب يجيبه من يضيق بمكانه ولا يطيق الصبر على مقامه، ولو لم يفتح عينيه على مكان ينتقل إليه.

ولهذا يلاحظ أن الأدب المسمى بالأدب الموجَّه أو الأدب الهادف يفقد أنصاره من القائلين والمستمعين معًا بعد الحرب الأهلية وبعد الحرب العالمية الثانية؛ لأن محاولات التوفيق بين التراث الإسباني وبين مطالب الحياة الحديثة في كل وجهة من تلك الوجهات المتعددة لم تحقق أملًا من الآمال، ولم تُسْفِرْ عن يقينٍ يؤمن به طلاب التغيير والتجديد، ويكاد الساخطون ينشدون الرضا اليوم في أحضان الطبيعة وفي وداعة الفطرة، وينظرون في ريب شديد إلى تلك «الطوبيات» التي يتصدى لقيادتهم إليها دعاة الخطط والأهداف.

وبينما تظهر هذه الأسماء والعناوين وتحتجب، وبينما يتفق عليها الدعاة ويختلفون، كانت النفس الإسبانية الكامنة في أعماقها تواصل الترجمة عن نفسها بنشيدها العريق، الذي تعيد وتبدئ فيه على نغمتين خالدتين؛ لأنهما نغمة الحب والعبادة، نغمة المناجاة والصلاة، أو نغمة الحياة والخلود، وكانت الموشحة الريفية — أداة هذا الفن المطبوع — تزدهر في إبان عصر الاضطراب والجَيَشَان بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين؛ لأنه العصر الذي ابتعث كوامن الأمة من الأعماق، وقد سِيقَتْ شعوب الأقاليم خلال هذه الفترة إلى التآلف والاقتراب لاشتراكها في المحنة وفي المرافق الوطنية أمام السلطان الأجنبي والحوادث العالمية فاتصلت جليقية بقسطيلة، وانتقلت أغاني الريف بلهجتها الساذجة إلى الحاضرة الكبرى على يد شاعرة من الأقاليم أقامت في مدريد وفارقت موطنها، ولم يفارقها الحنين إليه ولا إلى ألحانه وموشحاته؛ لأن موشحات جليقية كما قالت: «كلها موسيقى، وخفاء، وشكاية، وتنهُّد، وابتسام لطيف.»

هذه الشاعرة روزاليا كاسترو ولدت سنة ١٨٣٧ وتُوُفِّيَتْ سنة ١٨٨٥، وكان مولدها ببلدة سنتياجو دي كومبستلا من بلاد جليقية، ومقامها بمدريد أكثر أيامها من نشأتها إلى وفاتها، وقد ولدت أمٌّ نبيلة لم تتزوج، فدفعتها إلى امرأة فلاحة تربيها بين أسرتها الفقيرة بإشراف أمها، وقد نظمت الشعر باللهجة الجليقية وباللغة الإسبانية، فكانت حياتها كلها موافقات عجيبة للتقريب بين الأطراف المتقابلة والنقائض التي لا بد لها من التجاور والمصاحبة.

أخذت بزمام مولدها من بواكير عصر الثورة إلى إبان حومتها قبل مطلع القرن العشرين، وعرفت بنشأتها وتربيتها معيشة القصور ومعيشة الأكواخ، فاستطاعت أن تنصف الفقير المحروم دون أن تُلَوِّثَ سريرتها بعداوة الميسر المجدود، بل استطاعت أن تعرف تقاليد المجتمع كما تعرف خبايا النفاق فيه ومدارج الخروج على تقاليده وقيوده، وكانت — بما نظمته في لغة إقليمها ولغة الأمم الإسبانية في موطنها وديار هجرتها — صلة حية توافق دواعي الوحدة القومية التي نشطت مساعيها من مطلع القرن إلى ختامه، وممَّا لا ريب فيه أن مكانتها التي كسبتها بهذه الموافقات العجيبة كان لها شأنها في تعميم قدوتها بين بنات جنسها في الشعوب الإسبانية وراء البحار، كما كان لها هذا الشأن في تنبيه الأذهان إلى استماع صوت الفقير المحروم في أندية الأدب الرفيع والفن المهذب، فتفتَّحت الأسماع بعد شيوع دواوينها للإصغاء إلى نوابغ الشعراء من أبناء الفقراء وأواسط الموسرين من غير النبلاء. وقد نبغت على آثارها فئة من الشواعر في أمريكا الجنوبية نالت إحداهن جائزة نوبل كما تقدَّم، ونبغت بعد جيلها فئة من أبناء الطبقة الفقيرة التي ندر قبل ذلك أن تنجب شاعرًا يُقرأ له كلام في الصحف السيارة والكتب المنشورة، ومن هؤلاء فكتوريو كريمر Cremer الذي بدأ حياته ببيع الصحف في الطرقات، ومانولو بيلارز Pilares الذي بدأ حياته عاملًا في منجم، ومنهم جوزيه هييرو Hierro، وكارلوس سالمون Salomon، وجوليو ماروري Maruri الذين كدحوا لأنفسهم في طفولتهم وصباهم، وآخرهم ظاهرة نفسية اجتماعية غير نادرة في البيئة الإسبانية؛ لأنه اعتزل العالم وهو يناهز الخامسة والعشرين ليسكن إلى حياة النسك والرهبانية.

•••

وعادت المسرحية الإسبانية إلى الازدهار مع الموشَّحة الريفية في حِقبة واحدة، وكان ينبغي أن يزدهرا معًا على هذا الاختلاف الظاهر بينهما في الأوضاع الفنية؛ لأنهما — على هذا الاختلاف — يستقيان من ينبوعين قريبين إن لم تَقُلْ إنهما ينبوع واحد، فالموشَّحة في إسبانيا وليدة الحب والعبادة، والمسرحية في إسبانيا وليدة البطولة والقداسة، وكلتاهما قريب من قريب في معدن النخوة والإعجاب.

ففي أواسط القرن التاسع عشر كثُر الإقبال على مسرحيات بريتون دي لوس هيروروس Herreros، وأديلاردو لوبيز Lopez، ومانويل تمايو Tamayo، وتبعهم جوزيه أشيجاري صاحب جائزة نوبل سنة ١٩٠٤، وبعد هذا الجيل بقليل خلَفهم جيل آخر من طبقة الأخوين الفارس كوينتيرو Alvarez Quintero، وجاسنتو جرو Grau، ومارتيني سييرا، وجاسنتو بينافنتي Benavente صاحب الجائزة سنة ١٩٢٢.
ثم غلبت روح المزح والسخرية في سياق النقد الاجتماعي على مسرحيات الجيل الناشئ قبيل الحرب العالمية الأولى من أمثال: إريات Iriat، وﭬﺎليجو Vallejo، وفريل Fraile، والديكوا Aldecoa، وفرلزيو Ferlosio، وغيرهم من كُتَّابِ الفكاهة والنقد الاجتماعي اللاذع على أسلوب الصحيفة الأسبوعية المسماة بالحجلة La Codorniz، التي تقارب في طريقتها بعض صحفنا الناقدة بأسلوب المويلحي في فصول عيسى بن هشام ومساجلات الكشكول.

ولقد كانت المسرحيات الناقدة والمازحة جميعًا إسبانية في الصميم حين تحوَّلت بالدراما من البطولة والقداسة إلى العبث والسخرية؛ فقد أصاب من قال: إن الجليل والمضحك لا يفرق بينهما غير لفتة صغيرة، كأنها عثرة البطل الذي يروع الناظرين، ثم تطرحه أمامهم مطرح الضحك عثرة صغيرة تمرغه بالتراب.

ولم يكن كتاب الجيل الناشئ بعد مطلع القرن العشرين أول من نقل البطولة هذه النقلة، أو عثر بها هذه العثرة، فعرَّضها للسخرية واللهو بعد الإعجاب والمهابة؛ إذ كان سرفانتيز إسباني الإسبانيين حين شيع عهد البطولة والفروسية بتلك المرثاة الضاحكة، التي خلَّد بها فارسه المسكين دون كيشوت وخادمه الأمين سانكوبانزا، ولم يفعل نُقَّادُ الأجيال الأخيرة من أدباء الأمة الإسبانية غير ما فعله رائدهم الكبير في إحساسه بالفروسية بعد عثرتها، وفي تحولُّه بالإعجاب إلى الرحمة والرثاء من خلَل الضحك والدعابة، ولم يغادر كتاب المسرح منذ أوائل القرن التاسع عشر حومة البطولة والفروسية، حين أقاموا قواعد النقد الاجتماعي على السخرية من أدعياء الوجاهة والرياسة؛ لأنهم أبطال مُدَّعُون وفرسان مزيفون؛ فإن الذي يسخر من الفارس المزيف يعجب بالفارس الصادق والبطل الصحيح.

•••

على هذا النحو يتغير أدب الأمة المتوطنة من أثر اختلاف الزمن، يتغير التعبير ولا يتغير فحواه أو معناه الذي يُرادُ التعبير عنه، وقد يكون هذا التغيير شبيهًا بالتشكُّل الذي يمر به الكائن الحي من طور إلى طور، وهو هو الكائن الحي بذاته وفصيلته في جميع أطواره، وكأنه مادة في داخل القالب تتغير، ولا يتغير القالب المحيط بها ولا قوام المادة التي يحتويها.

وعلى هذا النحو أيضًا يتغيَّر أدب الأمة المهاجرة من أثر اختلاف المكان، فيبقى على أصوله التي ترتبط بأصول الأمة ولا تحب هذه الأمة أن تغيره، بل لا تستطيع له تغييرًا بمحض مشيئتها، وإنما يطرأ التغيير على كل ما له علاقة بأحوال المعيشة في ديار الهجرة، فلا يختلف الإسباني في العالم العصري من سائر أبناء الأمم المعاصرين له إلا لسبب واحد، وهو اختلاف ماضيهم مع اتفاق الحاضر بينهم على جملته، ولولا أن الماضي شيء لا يزول لما اختلفت آداب الأمم في عصر واحد.

•••

إن أدباء اللغة الإسبانية في ديار الهجرة بالعالم الجديد قد أعلنوا في برامجهم منذ أوائل القرن التاسع عشر أنهم يريدون الانفصال في الحكم وفي التوجيه الفكري، ولكنهم لا يريدون الانفصال عن التاريخ ولا عن ميراث الأسلاف، وجمعوا شعارهم في كلمتين هما: الاستقلال والتراث، فذهبوا يحققون استقلالهم الفكري بالاتجاه إلى كل وجهة مع تيارات الثقافة في أرجاء العالمين القديم والجديد، وصدر البيان الأول لشاعر (فنزويلا) الأشهر من لندن في سنة ١٨٢٣ باللغة الإسبانية (Alacvcion a la Poesia)، ولكن هذا الشاعر قضى حياته مُقْبِلًا على دراسته الخاصة في نحو اللغة الإسبانية على أصوله العريقة، بعد إعلانه في ذلك البيان أنه نداء الاستقلال للشعراء، إلى جانب استقلال الرعية عن رعاتها الأولين في مدريد، ونظر الأدباء في أمريكا الجنوبية إلى أكثر من قِبلة واحدة في مبدعات النظم والنثر، فكان منهم من يعتبر الأمريكيين في الشمال زملاءَ لهم في حركة الاستقلال لأنهم سبقوهم إلى المطالبة بالانفصال من حكم القارة الأوروبية، كما سبقوهم إلى المطالبة بحرية التوجيه والابتكار، وكان منهم آخرون يميلون بقِبلتهم إلى باريس لأنها ثائرة مثلهم على الإمبراطورية داعية مثلهم إلى الجمهورية مشترِكة معهم في السليقة اللاتينية، بل اشتركت الأمة الإسبانية في موطنها الأصيل مع أبنائها المهاجرين إلى الغرب في موقف واحد إزاء السلطة الحاكمة، فنظرت إلى المجددين الأمريكيين نظرتها إلى شركاء في الثورة أتيحت لهم الفرصة التي تتمنى هي أن تتاح لها، ولم تنظر إليهم نظرتها إلى الخارجين عليها والمُنْشَقِّينَ عنها، وممَّا يعين القارئ على جلاء هذا الموقف المتراوح بين الانفصال والاتصال أن شعوب أمريكا الجنوبية لم تُحجِم عن إيفاد الوُفود منها إلى مدريد للاشتراك في ذكرى كولمبس، واختار بعضها مندوبين عنها يجمعون بين تمثيل الدولة وتمثيل الثقافة القومية، فكان روبين داريو Ruben Dario أشهر شعراء نيكارجوا وبيرو وشلي وجواتيمالا مندوب وطنه نيكارجوا في احتفال الذكرى، ووصل إلى العاصمة سنة ١٨٩٢، ثم عاد إليها بعد ست سنوات، فإذا هو قد أصبح أمام مدرسة من أكبر مدارسها ينتمي إليها أنامونو ومشادو Machado وخيمنيز الذي تكتب عنه هذه الرسالة.

•••

ولم تمض بعد استقلال الإسبان الأمريكيين فترة طويلة أو قصيرة خلت من معارك المنافسة بين الموطن الأصيل وموطن الهجرة في نطاق الجامعة الواحدة، وأشهرها تلك المعركة التي دارت حول «الجغرافية الفكرية» التي يحددون بها خط منتصف النهار عند مدريد وبرشلونة، أو عند البحر الكريبي وما يليه إلى المغرب، يقول كاباريللو Cabarello في الغازيتة الأدبية Gaceta Literaria إنه لا يبتعد عن مدريد، وتقول صحيفة مارتن فييرو Martin Fierro في الجمهورية الفضية ما فحواه أنها جغرافية قديمة وخريطة تحتاج إلى التنقيح في خطوط طولها وعرضها.
وقد يتغنى الشاعر في (بوﻟﻴﭭﻴﺎ) بوطنه الجديد، فيذكر بوﻟﻴﭭﺎر وواشنطون في شطر واحد، كما صنع أوتيرو ريش Otiero Reich في قصيدته الطويلة التي سماها «أمريكا»، ولم يصفها بالجنوبية ولا الشمالية.

لكن الحرب الأهلية في إسبانيا وسَّعت نطاق الجامعة الفكرية بمقدار ما ضيَّقت من حدود الأوطان السياسية؛ لأن ديار الهجرة رحبت بأدباء الوطن الأصيل الذين قذفت بهم حماستهم الوطنية من ديارهم، أو برمت نفوسهم بالمقام في تلك الديار لاضطرابها بزعازع السياسة والفتن الداخلية، فكانت حماستهم لوطنهم تُلازِمُهم في ديار الهجرة التي اتَّسعت لآرائهم، ولم تَضِقْ بحماستهم الفكرية أو الرُّوحية، وانطلقت أصداء بابل على اختلاطها في ميادين الأدب الهادف، أو الأدب الموجَّه كما يسميه أنصاره من دعاة اليسار أو اليمين، وكان اختلاط هذه الأصداء على أشُدِّهَا في أوطان الجامعة الإسبانية بين المشرق والمغرب، ولعلها اشتدت في تلك الأوطان هذا الاشتداد لِمَا طبع عليه أهلها من الاستجابة السريعة لدوافع الشعور وثورات الطموح والرجاء، ولكنه لم تلبث أن بلغت غايتها من الحِدَّة، ولم تبلغ غايتها من أهدافها الاجتماعية أو السياسية، فتراجعت إلى القرار الوحيد الذي تستقر عنده النفس الإسبانية إذا أعياها المخرج من القلق إلى عمل مستطاع أو أمل ناجح، وذاك هو ملاذُ الطمأنينة الخالد حيث تسكن إلى أحضان الطبيعة وأحضان الأسرة وبراءة الفطرة والطفولة.

وقد بقيت الأغنية هي الأغنية بما تُردِّدُهُ على الدوام من نغمات المناجاة أو الصلاة، ولكن الموضع الذي خلا بانهيار الأمثلة العليا التي تخيَّلها طلاب الأهداف الاجتماعية قد شغله الحنين إلى عالم آخر غير عالم الصناعة والفلسفة الاقتصادية، وهو عالم الإنسان الطفل في مهد الطبيعة أو الإنسان الطفل في مهد الأمومة، ولا بد للنفس البشرية من حنين إلى قرار تسمو إليه أو تستريح إليه حيث كان، فإن لم يكن حنينًا إلى رجاء تبلغه بالصراع والجهاد، فهو حنين الدعة الذي تبلغه حين تقتدي بالإنسان الوديع في حضن الطبيعة أو بالإنسان الوديع في بواكير الطفولة.

وممَّا يلفت النظر أن خيبة الرجاء في الأدب الهادف قد شغلت مكان هذا الرجاء في بلاد اللغة الإسبانية جميعًا بالحنين إلى الريف أو الحنين إلى الحياة الطيبة في ظِلِّ الطفولة، وقد يصادف القارئ ذلك الحنين إلى البراءة من ضوضاء الحياة المصنوعة، أو الحياة الصناعية حيث ينتظر الحنين والحنان في تعبيرات العاطفة ونفحات الشعر والبلاغة، فلا يصادفه بما يلفت النظر؛ لأنه حديث منتظر في مواضعه ومناسباته، ولكنه يعجب حتى تصادفه لفتات الكاتب إلى أيام الطفولة، أو إلى الحديث عن الطفل وعن الريف ومروجه ومراعيه بين فصول القصة وبين غضون المقالة في غير مناسبة تستوجبها وتستطرد إليها، كأنما يملأ بها الكاتب مكانًا خاويًا ليس في وسعه أن يتركه على خوائه، ولا أن يملأه بتلك الأهداف المعبودة التي تحطمت كما يتحطم الصنم المنبوذ في محرابه المهجور.

ومن الصعب بعد الحرب الأهلية والحرب العالمية أن نُفْرِدَ الأدب الإسباني بعنوان واحد أصدق من عنوان «أدب الفطرة»، بما تشتمل عليه من فطرة الطبيعة وفطرة الطفولة، فهذا هو الموضوع الذي يأخذ بقسطه الشائع في قصائد كل شاعر وفصول كل ناثر، ولكنه يوشك أن يستأثر بالشعر كله وبالكتابة كلها في أدب خيمينز بين مقامه بموطنه الأول ومقامه بديار الهجرة، فهو أديب الريف والطفولة غير مدافَع، وهو إمام هذه المدرسة بين أبناء قومه، ولا جَرَم يحسبه النقاد إمامها بين سائر الأقوام من أمم الغرب في العصر الحديث؛ لأن الموضوع «أندلسي إسباني» حيث ينتمي إلى أقرب مواطنه إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤