ﭼﻮان رامون خيمنيز١

يقول الشاعر الكوبي الحديث سنتيو فيتير Cintio Vitier عن خيمنيز: «إنه أبونا الشعري: أبونا في الأدب الذي فتح لنا أبواب الحياة الحقة، وأرانا الريف وخلائقه الطالعة من ضباب فجرها الأصيل، وسمى لنا الأشياء بأسمائها، ووضعها في أيدينا المتلهفة المرتجفة، تلك الأشياء في أصباغها الطيفية، حزينة أو سعيدة بكونها في هذه الدنيا كما هي كائنة … فإذا كان داريو قد صنع لنا لغة من ذهب فقد صنع لنا خيمنيز لغة من ضياء.»

هذه مكانة «للشاعر الأب» تُولِيها إياه أذهان المعجبين به، كما تمحضها له قلوب المحبين الشاكرين له من تلاميذه ومريديه، وقد يزاحمه في هذه المكانة جهابذة من أدباء عصره، وشعراء جيله يضارعونه في العلم والبلاغة ويفوقونه في الأثر والشهرة، ولكن تاريخ الأدب الإسباني الحديث لم يعرف أحدًا يزاحمه في المكانة الأبوية التي جاءته من فيض الود، ولم يطلبها بسعيه واختياره؛ لأنه لم يكن يعلم أحدًا غير ما تعلَّمه واستفاده وبدا فيه لتلاميذه كأنه التلميذ الأول الذي يردِّد لنفسه ما يسرهم أن يردِّدوه، وإن لم يسألهم ترديده ولم يدعهم إليه إذا خالفوه.

أبوة أدبية أو أستاذية فنية نالها من تلاميذه؛ لأنهم شاركوه كما شاركهم في دروسها الطيعة التي سبقهم إلى اقتباسها بخبرته واجتهاده، ولم يُسلمها إليهم إلا كما يتسلم التلاميذ في حلقة المذاكرة توفيقات زميلهم السابق الذي يحسبون نجاحه من نجاحهم، ويضيفون اجتهاده إلى اجتهادهم، ولو قالوا إنه أخ لهم يحل منهم محل الأب المحبوب باختيارهم وعطفهم لما جاوزوا الصواب.

فالأستاذ الأب أو الأستاذ الأخ قد نشأ في عهد المدارس المتعددة، وكان تلميذًا لكل مدرسة منها في أوانها، ثم شفعت له المشاركة في التجربة بعد التجربة عند الناشئين الذين سبقهم قليلًا إلى معاناتها فأعفاهم من أكثر العناء وأقنعهم لأنه سلم قبلهم للتجربة الغالية فلم يحسبوا أنهم يسلمون له بهداية لم يشتركوا فيها، وكلهم — صفًّا بعد صفٍّ — متلاحقون في التقدُّم وفي التسليم.

ونحن لم نقرأ للشاعر الناقد كتابًا كاملًا غير كتابه عن بلاتيرو الذي اقتبسنا منه طرفًا صالحًا في الصفحات التالية، فكل ما قرأناه له مقصور على المختارات المترجَمة له إلى اللغة الإنجليزية، وجملتها لا تزيد على كتاب واحد معتدل الصفحات، ولكننا نحس ونحن ننتقل من إحدى قصائده إلى الأخرى، ومن إحدى مقالاته إلى المقالة التي تليها أننا ننتقل بين الجهات الأربع في غير اتجاه واحد إلى اليمين أو إلى اليسار وإلى الأمام أو إلى الوراء. فلولا الوحدة الروحية التي تتشابه في أساليبه على تنوُّعها وتبدُّلها لخطر لنا أن المجموعة خليط من المختارات لأشتات من الشعراء والأدباء، وربما سَرَت في الأساليب المتعددة روح أخرى تلحقها بوحدة فنية مشتركة غير الوحدة التي تحافظ عليها سليقة الشاعر في أدوار حياته وفي تجارب فكره وقلمه؛ فإن روح العصر الحديث أظهر في جملة منظوماته ومنثوراته من أن يختلط بأساليب الشعر والنثر في عصر آخر من عصور الآداب الإسبانية أو الآداب الأوروبية على عمومها، ولكن الاختلاف بين الأساليب — بعد ما يشملها من تشابه السليقة وتشابه العصر — وشيك أن يفرقها بين الجهات الأربع ولو في مكان محدود.

•••

وقد تعددت مناهج الشاعر الناثر ومدارسه القلمية على قدر تعدُّد مطالعاته في الآداب المأثورة بين أبناء زمنه، وقد كانت له مطالعات تكثُر كلما اقتربت من العصر الذي عاش فيه. فربما كان محصوله من المطالعات السلفية من تراث اليونان واللاتين وأدباء القرون الوسطى أقل من المألوف بين جلة الأدباء القراء في جيله، ولكنه كان أوفر محصولًا من أدب القرن السابع عشر بعد عصر النهضة وفي مقدمته أدب شكسبير، وكان محصوله من أدب القرن التاسع عشر في القارة الأوروبية برُمَّتِهَا أوفر من كل محصول تجمع له من بقايا القرون الغابرة. فاطلع على آداب المدارس الفرنسية المعاصرة وآداب الأمريكتين في لغاتها المختلفة، ولم يَفُتْهُ الاطِّلاع على أدب تاجور وبعض المترجمات عن المأثورات الأسيوية، وجمعت بينه وبين الشاعر الهندي قرابةٌ نفسية لا تخفى على من يقرأ الشاعرين في وقت واحد، فإنهما زميلان في مدرسة التصوف الحديث وإن يكن تصوف تاجور أقرب إلى الروح وقداسة الدين، وتصوف خيمنيز أقرب إلى الذوق وجمال الفن والسكون إلى جوار الطبيعة، ولكنهما مدرسة واحدة في خليقة الطيبة والدماثة التي يتسم بها المتصوفة من كل قبيل.

وكانت هذه الدماثة في روح الشاعر أشبه شيء بخاصة السلاسة التي تجعل الجسم الطبيعي مطواعًا للتشكُّل بشكل الوعاء الذي يحتويه، وكأنها كانت في أثرها المزدوج سر تلك السهولة أراحته من مقاومته للناس ومن مقاومة الناس إياه، فلم يَكُنْ من طبيعة أدبه أن يقاوم المخالفين أو يثير المقاومة من جانبهم، وقَمِينٌ بهذه السلاسة أن تقترن في النظر بملامح السلامة والسلام.

إلا أنه على كثرة المناهج القلمية التي انتسب إليها، وهو يتطور بفكره من صباه الباكر إلى كهولته لم يُولَع بمنهج منها، كما أولع بالمنهجين الغالبين عليه لاقترابهما من سجيته واستعداده، وهُمَا مدرسة التنميق التي تتلمذ فيها على أدب: وليام باتر الإنجليزي، وجوتييه الفرنسي، ومدرسة المحدثين المتأخرين التي مزج فيها بين الرمزية وما فوق الواقعية Surrealism، وتطرف بها غاية التطرف فترة قصيرة حتى أوشكت كتابته فيها أن تكون إشارات إلى الأفكار الطائرة كإشارات الخرس إلى الكلمات المتناثرة في معاجم اللغة، وقد أكثر من الكتابة على هذه الطريقة في صوره القلمية التي رسمها بالحروف والألفاظ، وكاد يرسمها بالخطوط والنقاط كما صنع في تصويره — القلمي — للشاعر بكوير، وليس هو بأغمض الصور عنده، ولا السطور التي ننقلها هنا بأغمض ما في سائر السطور، كما يظهر من المقابلة بين الترجمة الحرفية بالعربية والترجمة الحرفية بالإنجليزية.
ففي تلك الصورة يقول:

وحول بكوير كالخلاصة الصفراء الفضية من الزهرة المثالية، وبين العصافير المتجمعات لتتويجها، والمنقار الغيور يغرد بها، تطير الأوزان والألحان في أحوال شتى قبل وبعد المبتذل من الأشياء، فريدًا صادقًا فيه؛ إذ ليست هي إلا سجعاته القاسية الشمطاء.

جرس وقافية — حقًّا — تمر السنون في إسبانيا ولا يستخدمان بغير رجعة إلى بكوير.

جرس. قافية. قافية. جرس. قافية. قافية النهد الأسود والأبيض المحفوظ على صفحة الطغراء، طغراء الرواق على حجر القبر، على جدار الدير، على الغرفة المغلقة بسماء إشبيلية الغربية خضراء وقرنفلة ومعها الماء والشمس على صفحة الزجاج.

وترجمتها بالإنجليزية تدل من يعرف تلك اللغة على تأصل الغموض واللغو في ذلك الأسلوب، وأنهما لم يتطرقا إلى المعنى عَرَضًا لافتراق وسيلة الأداء بين اللغة العربية واللغة الإسبانية.

وهذا نص الترجمة الإنجليزية كما وردت في المختارات:
All around Becquer, Like the Yellow and silver sum of the ideal flower, among birds all united to crown it, the ardent beak chirping at it, Rhyme flies, in so many cases before and after a vulgar thing unique and authentic in him as it is only his hard grey assonance. Sound, Rhyme, indeed for many years they will not be used in Spain without a return to Becquer. Sound, Rhyme, Rhyme, Sound, Rhyme, the Rhyme of the Black and white breast preserved on the escutche on of the portico on the stone of the tomb, on the wall of the convent, on the closed balcony with the Western Sky of Seville, green and pink with water and sun, on its pane of glass.

ومن حسنات الملكة المطبوعة — ولا ريب — أن الشاعر نجا من محنة التقليد تجربة بعد تجربة من تلك التجارب التي ساقه إليها إغراء الجديد وحب امتحان قوته، فيما تستطيع على عادة كل من يشعرون بقوة فكرية أو جسدية على مقربة من ساحتها المفتوحة للمِراس أو المباراة، وقد كانت ساحته المفتوحة أمام عينيه أوسع ساحة يرتمي البصر بين آفاقها من أقطار العالم القديم إلى أقطار العالم الجديد. وهي محنة لو ابتُلِيَ بها أديب من أصحاب التقليد لضاع بين غواياتها المتعددة، أو غاصت به تجربة منها إلى أعماقها، فسكن في القاع أو طفا على وجهها وهو غريق.

ولكن شاعرنا تَوَرَّطَ في هذه التجارب تورُّط القادر على امتحانها وامتحان نفسه، فخرج منها إلى فن قوام بينها يلائمه ويأبى عليه أن يعدل به منهجًا من مناهج الدعوى والمحاكاة. فعاد يقول أن المدارس الأدبية تجود بالفن الرفيع كلما استغنى فيها عن الانتساب إلى مدرسة من المدارس، فلم تكن له صفة غير صفة الفن الجيد الذي لا تلحق به علامة من علامات الأزياء الموقوتة والجدائل المتقلبة. فهو يرى أن المدارس السلفية والمثالية والواقعية وما فوق الواقعية والمستقبلية وغيرها وغيرها من مدارس الفنون التي تتعدد عناوينها، أو تتعدد موضوعاتها، قد تأتي بالجيد النفيس من المنظوم والمنثور، ولكنه لا يوصف بالجودة إلا لأن صفة الجودة وحدها تغنيه عن كل صفة أخرى، فلا يقال إنه جيد واقعي أو جيد مثالي أو جيد سريالي أو جيد رمزي إلى غير ذلك من النُّعوت والتصنيفات، بل يقال إنه جيد لأنه ارتقى إلى مرتبة الفن الخالد الذي يرتضيه كل زمن، ويتقبله كل ذوق وتشمله صفة العالمية أو صفة الإنسانية في أوسع نطاق، كلما اتسع النطاق فاحتوى القاعدة الشاملة، ولم يترك بعدها بابًا للاستثناء غير الاستثناء الذي لا بد منه ولا مَحِيدَ عنه في قاعدة من قواعد الفنون والآداب.

ومقاييسه التي يعرف بها هذا الفن الوحيد الغني عن الأوصاف تبلغ من الدقة أحيانًا مبلغ التعاريف الرياضية والقوانين العلمية؛ فلا يلتبس معناها على القارئ البصير بتعبيرات الفن ومقاييس الأدب التي تتراوح أبدًا بين الواقع والخيال.

فالشعر الجيد هو الشعر الذي يُبقيه ناظمه كله ولكن بعد جهد جهيد؛ فقد يكون فيه ما هو حقيق بالحذف والإلغاء، ولكن إبقاءه أسهل من حذفه بعد طول المراجعة والموازنة والتعديل.

وليست البساطة الفنية عنده أن يُعْفِي الشاعر قريحته من الجهد والكلفة، ولكنها هي تدبير المفاجأة التي يخيل إليك أنها وثبت إلى الشاعر بغير طلب؛ لأن المجهود الوحيد المحمود فيها أنه عناء يُبذل لإخفاء العناء!

ومن أوابده البارعة في تعريف الحسن من القديم والجديد أن للحسن من الفن جذورًا وأجنحة، ولكنها الجذور التي ينبغي أن تطير، والأجنحة التي ينبغي أن تنبت لها جذور.

وهو يفرق بين التقليد والمشابهة فيتقبل مشابهة «العدوى»، وينكر مشابهة المحاكاة، ولا ضير من «عدوى» الجمال لأنها خلق متكرر أو خلق منقول!

وقد يفرق بين الشعر والأدب في هذه الخصلة، فيتقبل الحكاية في الأدب ويأباها في الشعر؛ لأن مقاييس الأدب عمل من أعمال الفكر يأذن بالتطبيق والاحتذاء ويتبع الإنتاج المبتكر أحيانًا ليقاس عليه، وليس من الشعر الأصيل شعر يقصد به القياس والتطبيق.

وله في هذه التفرقة معنى يشبه معنى شاعرنا أبي الطيب في تفرقته بين الجمال الموهوب والجمال المكسوب، أو بين حسن البداوة وحسن الحضارة:

حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وللبداوة حسن غير مجلوب

وقد يجعل حسن «المصادفة» خاصة من خواص الشعر يعول عليها ولا يستغني عنها، ولا تصلح المصادفة عنده أساسًا من أسس الأدب الخالق أو الأدب الناقد؛ لأنه في الحالتين محتاج إلى أعمال الروية وانتظام التفكير.

وأصح ما في مقاييسه للشعر أو للأدب أنه عرف بها حدود فنه وحدود مَلَكَتِهِ أو حدود المسموح به وغير المسموح به لشعره وأدبه، فانصرف إلى الشعر والأدب الذي تُغني فيه الريشة غناء القلم، وتنقله الألوان من متناول الضمير إلى متناول العِيان، فهو مصور في كل سطر من سطوره وكل بيت من أبياته، وهو مصوِّر ألوان قبل أن يكون مصور أشكال أو مصور حركات، وعالمه كله من العوالم التي يحيط بها نظر الجالس على سجيته في ظلة من ظلل الطبيعة، ويده على منظاره يرفعه إلى عينه، كلما أراد أن يقرب ويستوثق دون أن ينتقل إلى بعيد، وسواء هنا بعيد الأمكنة والمطارح، وبعيد الأزمنة والأفكار.

ومن عادته في تصوير اللون أن يستقصي كل مسحة، وألا يدَع في الصورة شية من الشِّيَات البارزة أو المطوية بين الجوانب الخفية بغير إشباع وتثبيت؛ فلا يكفيه أن يقول عن الزهرة الصغيرة أنها حمراء، أو ذهبية، أو ذات لون غالب عليها يدل على ما عداه، بل يحصر النظر فيها ولا يحوله عنها إلا إذا فرق عليها ألوانه، وقال لنا كيف تكون حمراء هنا، وصفراء هناك، وضاربة إلى الخضرة أو السواد في هذه الحاشية، أو تحت تلك الزاوية إلى غاية من التدقيق والاستقصاء تمل القارئ أحيانًا لولا ما يتخللها من لمسات العطف ونفحات البهجة بالجمال.

وطريقته في فهم شيء من الأشياء — بل في فهم إنسان مجهول أو إنسان معروف — أن يعطيه صورة ويُسبغ عليه ألوانًا ويرمز إلى أفكاره الباطنة بهيئة من الهيئات التي تقع تحت الحس، أو تقع تحت المنظار من بعيد، في وضوح تارة، وفي غموض لا وضوح فيه تارات.

وكذلك يرسم نقده لمشاهير الأدباء رسمًا تدركه العين، ثم تدرك معناه من طريق الرموز والإشارات، وفلتات التعبير على انقطاع بينها يكاد يلحقها بالخطوط والنقاط، ويخرجها من عداد الكلمات والحروف، ولكنه تخفِّف من هذه الرموز في صوره الأخيرة، واستعاض منها بأشكال الخيال التي يبث فيها الحياة، ويرسلها أشباحًا في الظلام تستغني بالظلال عن الألوان.

من قبيل هذه الصور التي تنوب فيها الأشباح عن الألوان صورةُ النوافير في جنة العريف التي ترجمنا سطورًا منها في الصفحات التالية؛ فهو إذا وصفها تحت جنح الليل لم ينظر إلى شيء منها يفيض عليه ألوانه وشياته كما تعود أن يصنع بكل منظور تحت أشعة النور، ولكنه يستمع إلى أصوات الماء في صعوده وهبوطه، وفي أنينه وزئيره، وفي انسيابه واندفاعه، فيرسلها ظلالًا ويجعل الظلال أشباحًا، ويطلق حولها من أوهام الخوف والهرب، أو أصداء الضحك والمرح، أو صرخات الذعر والجنون، أو وسوسة الندم والإعياء، فنونًا من القصص تلائم أصوات الظلام، وتتوارى فيها الأطياف غير أشباح وأوهام؛ فهو في تصويره إما ناظر يغرق مناظره في أقواس قزح، وأما سامع تختفي أمامه الألوان، فينتقل بها من عالم النور إلى عالم الظلال، ويصور الظلال من جانب السمع بعد أن خفيت عليه من جانب العيان.

وغاية ما يُقالُ عن دنياه وعن الطبيعة كلها في دنياه إنها خِلقة فنية يقيسها بمقاييس الذوق، ولا يعرف لها تقسيمًا غير تقسيم الحسن والقبح وجودة الأداء وسوء الأداء، وغاية ما تبلغ من رضاه أنها تدعو إلى إعجاب، أو تدعو إلى امتعاض وانقباض، ولكنه امتعاض لا يشتد عنده ولا يثور أبدًا ثورة السخط والاشمئزاز؛ لأنه في حدود الذوق يقنع بالاستحسان أو الاستهجان، ولا يتَّسع وجدانه الفني لثورة من ثورات الشعور تدفعه إلى ما وراء ذلك، فليس عنده لما ينكره الذوق درجة من السخط وراء حد الإعراض، أو تحويل الوجه عن المنظر الدميم!

وهو يسمي هذه العلاقة الفنية بينه وبين الطبيعة وبينه وبين الدنيا كلها بوحدة الوجود.

وتصدُق هذه التسمية جد الصدق على اعتبار واحد، وهو اعتبار الوجود كله متحفًا واسعًا يجري فيه الخير والشر، والحق والباطل، والقدرة والعجز، والإحسان والإساءة على سُنَّةِ الذوق بمعيار الفن الجميل، ثم يتساوى فيه كل مخلوق وكل شيء، كما تتساوى صورة المَلَك وصورة الشيطان، أو تتساوى صورة الحورية وصورة الغول في عمل الفنان القدير، إذا نظرنا إليه بمقياس الإتقان وصدق الأداء. فلا محل في هذا المتحف لتنازُع البقاء، ولا لعبادة القوة، ولا لسورة البطولة، ولا للصراع بين ما يستحق البقاء وما يستحق الفناء؛ لأنها جميعًا في مكانها من المتحف سواء، وكل منها صالح في النهاية لأنْ يستخرج منه شيء للفن يوضع فيه حيث يضعه الفنان الكبير.

وقد عاش خيمنيز حياته يتعبَّد بوحدة الوجود، ويتذوَّق الإيمان بعقيدة الفنان والمتفرج في آنٍ، وارتضى من حياته ما يرتضيه المتفرج الذي يتقبل من الدنيا كل ما تلقاه به غير ما يقطع عليه الفرجة، وينغِّص عليه متعة التأمل وسكينة العابد الناسك في هذا المحراب، ولم يحفل بوجود قط وراء هذا المتحف المزدحم أمامه بالصور والألوان.

ولقد كان من القدر المتاح لهذا الشاعر الوديع أن ينشأ في بلاده، وهي مِرْجَلٌ من مراجل الشر والبغضاء وميدان من ميادين الحروب الأهلية كأعنف ما تضطرم بها ميادين الأمم في عصر من العصور، وسميت فتنتها بالحرب الأهلية لأنها أعنف من الثورة وأشد اختلاطًا من عداء ينفجر بين ظالم جائر ومظلوم غاضب؛ إذ كان مثار النزاع بين المتنازعين كأنه برج بابل من المبادئ والعقائد والأغراض، والشكايات والمقاصد التي يعلنها دُعاتُها والمقاصد التي يكتمونها أو يجهلونها ولا يدرون بواطنها وخفاياها، ففي كل طرف من الأطراف المتلاقية والمتعادية ملكيون وجمهوريون وزعماء من علية الأرستقراطية، وزعماء آخرون من أوساط الناس وعامتهم وجهلائهم وأراذلهم في العقول والأخلاق، وبين هؤلاء وهؤلاء متدينون ومنكرون، وبين المتدينين أناس من أنصار الكنيسة، وأناس آخرون من ألد الأعداء للقساوسة والرهبان … وبين المنكرين مؤمنون بالمُثُل العليا وآخرون لا يؤمنون بغير ضرورات المادة ومعيشة الحيوان.

ويسأل كل طرف من هذه الأطراف: ما المصير؟ وما المخرج؟ وأين القرار؟ وكيف يكون القرار؟ فلا يسمع لسؤاله جواب، ولا يستطيع الواقف بينهم موقف الحيدة أن يجرد هذه القضايا المشتبكة من أخلاطها وشوائبها أو يخلص منها إلى ناحية يجزم برجحانها على العلات.

وتلك حيرة عاتية شقي بها المتمرسون بعلاج المشكلات من دهاة السياسة في القوم، ومن قادة الاجتماع الذين ألِفوا ضراوة الأحداث، وعرفوا كيف يصابرونها إن لم يعرفوا كيف يقودونها ويُسلسون زمامها؛ فأحرى بهذه الحيرة الجهنمية أن تُشقي فنانًا وديعًا لا عهد له بمراسها، ولا طاقة له بالنظر فيها بله الصبر على مضانكها والأمل في تدبيرها.

وكل ما ثبت له عن يقين بين هذه الدعوات والشكوك أن الحرية جديرة بالانتصار، وأنه مطالب بالتشيُّع لها والسعي في سبيلها، ولكن أين هي الحرية؟ ومن هم الأحرار من قبل اليمين أو من قبل اليسار؟ إنه يرى بعينيه أن الحرية ضائعة، وأن العبودية واقعة كلما انتصر هذا الفريق أو ذاك الفريق؛ فالذين يطلبون الحرية لحماية النظام الاجتماعي باسم الأرستقراطية يدَّعون الشرف بغير حق من المعرفة ولا من الخلق ولا من الدراية العملية بسياسة الأمة وتدبير مرافقها، وغاية دعواهم أنهم بقية رثة من تراث قديم تخلَّفت قشوره، وذهب لبابه، وفقد فضائل أهله، ولم يكسب فضائل غيره. والذين يطلبون الحرية باسم الديمقراطية خنقوا الحرية، وجعلوا ديمقراطيتهم نقيضًا للإنسانية، فلم يعرفوا للإنسان حقًّا في الحياة غير حق الماشية، بل حق البهيمة الضارية التي انفردت بين الضواري بافتراس نظائرها في نوعها واستحقت أن تسمى باسم آكلي البشر، أو باسم «الكانيبال» كما سماها في مقام التفرقة بينها وبين دعوة الأحرار الآدميين.

•••

ولم يخذله إلهام الشاعر مع إخلاصه الإنساني في النفاذ ببصيرته إلى مقطع الحق من قضية الأرستقراطية وقضية الديمقراطية في المستقبل الذي يتطلع إليه طلاب الإصلاح من كل مذهب؛ فإنه وضع القضيتين في موضعهما الصحيح، وخرج بهما من ذلك الوضع المغلوط الذي جمد عليه أصحاب المصطلحات الاجتماعية والسياسية في أمَّته وفي كل أمة معاصرة بقيت فيها بقية من النزاع بين القضيتين.

فما زال الأكثرون من علماء الاجتماع والسياسة يقيمون القضيتين على خصومة دائمة بين المبادئ تكون في المستقبل كما كانت في الماضي، ولا تستقر إحداهما إلا إذا زالت الأخرى من الوجود وبطلت مبادئها في العقول وفي أطوار الحياة.

أما الأرستقراطية التي فهمها خيمنيز فهي كاسْمِهَا في اللغة حكومة الأحسن، ومناط الحسن فيها صفات الإنسان لا صفات آبائه وأجداده الحقةُ أو المُدَّعَاةُ. فأحسن الناس هو أصلحهم خُلُقًا وأصدقهم ذمة، وأوفرهم عقلًا، وأقدرهم عملًا، وأوسعهم علمًا بما ينفع الناس مجتمعين ومتفرِّقين، ومن الواجب على الأمم أن تعمم هذه الصفات ليشترك فيها الناس، ويبلغوا فيها غاية ما يبلغه أبناء الأمة من المساواة، ويختصوا الحاكم بالاختيار لأنه يتصف بأفضل صفاتهم، لا لأنه يحتكر أحسن الصفات لنفسه ولفئة من أقربائه ونظرائه في النسب والجاه.

والديمقراطية إذن حالة انتقال، ولا يصح بحال أن تكون أملًا تنتهي إليه الآمال؛ فإن الديمقراطية واحتكار الحكم نقيضان لا يجتمعان، وإذا أصبحت صفات الحكم غدًا ملكًا مشاعًا يعم أبناء الشعب جميعًا؛ فليس هناك أرستقراطية ولا ديمقراطية، وليس هناك شعب حاكم وشعب محكوم.

وإذا كانت الديمقراطية اليوم انتصارًا للشعب على من يسخرونه وينكرون حقوقه، فهي حالة تنتهي عند نهاية الفارق بين الحاكِمين والمحكومين في المزايا والكفايات؛ إذ ليس للحاكم يومئذٍ من دعوى يدَّعيها غير صلاحه للنيابة عن شركائه في جملة مزاياهم وكفاياتهم، وقد تتفاوت هذه المزايا والكفايات بين فردٍ وفردٍ وبين ألوف وألوف من الأفراد، ولكنه تفاوُت متداوَل بينهم جميعًا لا حكر فيه لطائفة محدودة ولا استئثار فيه لفريق دون فريق.

وعلى هذ الفهم الصحيح للديمقراطية والارستقراطية في المستقبل يتغير وضع القضيتين في ماضيهما، وتصبح الديمقراطية في حالة الانتقال قنطرة يعبرها الشعب كله إلى الأرستقراطية المرجوَّة التي تنتشر فيها أحسن الصفات، ويختار فيها للحكم أوفق أبناء الشعب لولاية الحكومة وأوفرهم نصيبًا من الصفات الحسنى بتزكية المحكومين.

وبهذا الوضع الصحيح تصبح الديمقراطية أرستقراطية المستقبل، وينقضي ذلك التاريخ العتيق الذي جعل الحكم الأرستقراطي مرادفًا للماضي المهجور أو مرادفًا للأنساب التي طواها التراب؛ فإنما الأرستقراطية المرجوَّة غدًا حق الأبناء والأحفاد، وليست هي بحق مدفون مع الآباء والأجداد.

•••

ويتجلى صدق الشاعر في هذا الإيمان بهذه العقيدة؛ لأنه الإيمان الوحيد الذي يلائم طبيعته الهادئة ويلائم ذوقه الفني وعطفه المطبوع. فلا إيمان له بالحاضر الضائع بين زعازع الفوضى ونقائض الولاء والعداء من كل فريق لكل فريق، ولكن إيمانه بالغدِ يقينٌ بأن الزمن معه وأن أطراف الخصومة في هذه الأيام لا يملكون فصلًا مرضيًا لما اختصموا فيه قبل موعده المنظور، وأن الأمل في التطور.

أتراه قد آمن بأن الجهاد في طرف من أطراف النزاع عبثٌ باطل؛ لأنه فطر على الوداعة والهدوء، ولم يفطر على الخصومة والجهاد؟

وقد تكون فطرته وراء إيمانه بتطوُّر الغد ووراء نفوره من صراع اليوم.

ولكن إيمانه بتطور الغد لا يبطُل لهذا السبب، وليس مما ينقضه أن خصوم اليوم فُطِرُوا على غير الوداعة والهدوء، فلعله أنهض منهم حجة؛ لأن إيمانه بالغدِ يبرئه من شبهة الغرض، ويدفع عنه تهمة التشيُّع لهذا المعسكر أو لذاك لمأرب موقوت يشغله عن النظر البعيد.

ولما انتهى إلى الإيمان الوثيق بالتطور وجد نفسه في أحضان الطبيعة بالمكان القرير الذي لا تعجله عنه صيحة من اليمين أو صيحة من اليسار.

وفي أحضان الطبيعة سكن إلى حياة الريف، وأيقن أن الأمل الكاذب هو الأمل الذي لا ينبت في هذه التربة ولا يترعرع فيها كما يترعرع النبت المثمر في أوانه، ولن تعجله صيحة من اليمين أو اليسار أن يثمر قبل الأوان.

ومن الريف شعاره الذي دانَ به في عمله وفي نصيحته لطلاب العمل من تلاميذه ومريديه: أنك إن تعجَّلت جرَى الزمن أمامك كالفراشة التي لا تدرك، وإن تأنيت أخذت بعِنان الزمن فمشى وراءك مشية المطية الذلول.

وعلى كُرْهٍ شديد كان ينصح تلاميذه ومريديه بغير هذه النصيحة إذا ألحفوا عليه بالسؤال، فعلى الشباب أن ينضوي أبدًا إلى جانب التطور المتقدم، كما قال لبعض سائليه من الأمريكيين الجنوبيين، ولكنهم في حِلٍّ من العجلة إذا اختنقوا؛ فإن التنفُّس هو الحركة التي لا تقبل الإرجاء، ولا بقاء بغيرها لحي من الأحياء.

•••

وربما كان خيمنيز هو الوحيد الذي نجا بسمعته القوية من غوائل الحرب الأهلية بين أنداده من أعلام الأدب في اللغة الإسبانية؛ فإن الحروب الأهلية كما نعلم من جميع تجاربها فتنة عمياء تصيب العدو والصديق، ولا يسلم منها الواقفون على الحِيدة بين المعسكرين؛ لأنهم قد يخرجون من الوسط بعداوة الفريقين إذا كانت حيدتهم مخالفة لمصلحة هؤلاء وهؤلاء، كما يحدث كثيرًا عند اضطراب الأمور وتفرُّق المصالح والغايات. وقد كان أناس من الواقفين موقف الحِيدة بين اليمين واليسار يتعرَّضون للاتهام بخذلان القضية القومية وفتور الغيرة على مصالح الشعب أو مصالح الأمة، وكان للشعب معنى غير معنى الأمة في إبان الفتنة؛ لأن المنادين باسم الشعب كانوا يحصرون الشعبية في طبقة واحدة من المحرومين في عصرهم، ولا يشملون بها طبقات الأمة جميعًا في حاضرها ومستقبلها وفي ماضيها العريق ومصيرها المنظور. ولكن حيدة خيمنيز لم تكن حيدة المصلحة التي تخالف مصلحة اليمين ومصلحة الشمال، وإنما كانت حيدة الزهد في المغانم اليمنى واليسرى واشتراك الشعور الإنساني بينه وبين المحرومين وطلاب الحرية حينما كان للشعور الإنساني صوت مسموع. فإذا خالف القسوة الكانيبالية — كما كان يسميها — لم يكن خلافه لها مشايعةً لأصحاب المغانم من المجدودين؛ لأنه كان ينحي على مساوئ الجشع عند هؤلاء أشد الإنحاء، ولكنه كان قريبًا إلى جانب العطف الإنساني في نفس المحروم المظلوم وفي نفس المجدود المظلوم، فخرج من بينهما بأخف التهم التي يتعرض لها الواقفون موقف الحيدة في معمعة الحروب الأهلية، وكان أقسى ما اتهم به أنه اتَّخذ أحضان الطبيعة في الريف «نقطة انتقال» في انتظار المستقبل الذي يُسفِر عنه «التطور» الموعود، وهو التطور الذي يأخذ في عصر الصناعة خير ما يعطيه، ولا ينفصل عن أحضان الطبيعة ولا عن «وحدة الوجود» الخفية التي تدب في عروق الأحياء، بل تسري في النبات والجماد مسراها في الكائن الحي من الآدميين وغير الآدميين. وقد كان خيمنيز يزور عواصم الحضارة في القارتين الأوروبية والأمريكية، ويشهد بعينيه معالم القوة والثروة ومعجزات العلم والفن التي تمخَّض عنها عصر الصناعة في تلك العواصم، فلا يجهل فضلها ولا يغمط حقها، ولكنه كان يزداد أملًا في ذلك التطور الإنساني الذي يحلم به كلما ازداد علمًا بما يتطلبه روح الإنسان، ويبحث عنه عبثًا بين معالم الحضارة المادية والعظَمة الصناعية، وربما أنس إلى منظر «مقبرة» في وسط المدينة يرف عليها الطير، وينبت في تربتها الزهر، ويتعهدها الأحباب والأقرباء بالزيارة مُقْبِلِينَ إليها من أرجاء الحاضر التي تعج بالأصداء وتموج برواد السلع والآلات؛ لأنه يلمس روحه هناك حيث يفقدها في ميادين الجلبة والزحام والتدافُع بالمناكب والأقدام على المال والحطام، ويرفع بصره إلى ما فوقه فلا يصدق أن ما يراه بعينيه هو قمر السماء، بل يكاد يحسبه إعلانًا عن القمر بين سائر الإعلانات المتلألئة بالأضواء!

•••

إن حياة خيمنيز في الطبيعة وأمله في الطبيعة، وحلمه بالطبيعة بين لجب الحضارة والصناعة، هو السر المكشوف في كل رسالة للفن، والإيمان يبشر بها شاعر «المقرة» وخليفة شعرائها الأندلسيين بعد ثمانية قرون.

وإذا كان أناس من مؤرخي الأدب يربطون بين مدرسته الشعرية ومدارس الشعر الأندلسي في القرن الثاني عشر، فالبساتين والعيون هي الملتقى المأنوس الذي يؤلِّف بينه وبين سليقة العربي المُقبِل من صحرائه القصية، الحالم بجنته الأبدية على هذه الصورة الدنيوية. فهذه حلة من قداسة السماء لبستها البساتين والعيون، واستعارتها من جنات تجري تحتها الأنهار منذ فتح العربي أعين الصحراء على جنة العشب والماء، وما كان لهذه الجنة رسم معهود في أخيلة الشاعر الأندلسي قبل تلك الهجرة العربية، ولا كان لها في وجدانه شوق يمتزج بحنين العشق وشهوة الغرام كذلك الشوق الذي يتغنى بها عاشق الحسناء في قصائد الشعراء من أبناء الصحراء.

•••

ولقد عاش خيمنيز حتى ناهز السابعة والسبعين، ولكنه أدرك رسالته في الفن ورسالته في الحياة وهو في إبان نضجه واستواء ملكاته، ولا نقول في عنفوان قوته وريعان صباه؛ لأنه لم يكن قَطُّ ذا عنفوان وريعان، ولم يَخْلُ قط من وعكة وانحراف منذ عرف معنى للصحة واعتدال المزاج، وحياته على نقيض صوره المثقلة بالألوان والظلال إلى حَدِّ الإرهاق، إنما ترسم للناظر أو المترجم صورة «ساكنة» تقل فيها الألوان الصارخة وما دونها من الألوان التي تَلْفِتُ إليها الأنظار، فلا حركة في ذلك العمرم المديد فيما عدا حركات الأسفار بين وطنه الأوروبي ووطنه الأمريكي، وبين وطنيه هذين ومقامه بأمريكا الشمالية، ولم تقترن رحلته إلى موطن من هذه المواطن بحركة مجهدة تقطع عليه سلسلة التأمُّل في سلام، فلا جرم تنجذب إليه في ختامها جائزة السلام!

•••

ولد خيمنيز في قرية المقرة بجنوب الأندلس، ونشأ في بيت أسرة ميسورة الحال بين البحر ومروج الريف، وتعلَّم في القرية صفوة ما يتعلمه الطفل القروي من معارف دينه ودنياه، ومن ثقافة الريف المطبوعة المتوارثة وثقافته المصنوعة التي تنقلها الدراسة والمطالعة، فلم يكد يبلغ الرابعة عشرة حتى كان له شعر ينشر في صحف إشبيلية ومدريد، ويمهد له السبيل إلى ندوة الأدب في العاصمتين، وقد تلقَّاه أدباء العاصمتين بالعطف والترحاب، فقضى سنواته الأولى بعد ظهور اسمه في الصحف الأدبية يتنقَّل بين الريف والحضر، ويسكن أكثر أيامه إلى المصحات وضواحي الاستشفاء بعيدًا من «شبكة» الدسائس الأدبية التي لا يبرأ منها جو الحواضر في عصور الفتنة والانتقال على الخصوص، ولعله عوفي بالمرض من لجاج التنافس والخصومة فدرج في نشأته على نهج مريح مأمون العثرات، وقد أخذ في إصدار دواوينه قبل أن يبلغ العشرين، واشترك في إصدار صحيفة الشمس Helios سنة ١٩٠٢، ثم في صحيفة النهضة أو المولد الجديد Renacimients سنة ١٩٠٧ التي أصبحت لسانًا ناطقًا لأنصار المدارس المستحدَثة في عالم اللغة الإسبانية، وعملت على توحيد جو الثقافة الشعرية بين الأمة الأصيلة وأمم أمريكا اللاتينية. وقد التقى وهو في نحو السابعة والثلاثين بالأديبة زنوبية كمبروبي في مدريد، ولحق بها في زيارته الأولى لنيويورك (سنة ١٩١٦)، حيث تم بينه وبين أسرتها الاتفاق على الزواج، وكانت زوجته الأديبة شريكته في ترجمة الشاعر الهندي رابندرانات تاجور من الإنجليزية إلى الإسبانية، وقد عاد الزوجان إلى وطنهما ولَبِثَا بين حواضره وقراه زهاء عشر سنوات، ثم أزعجتهما عنه الحرب الأهلية (سنة ١٩٣٦)، فرحلا إلى بويرتوريكو وإلى كوبا ثم إلى نيويورك وواشنطون، وبعد سنوات قضياها في الولايات المتحدة غلبهما الحنين إلى جو اللغة الإسبانية، فانتقلا إلى بويرتوريكو مرَّة أخرى (سنة ١٩٥٢)، واختارته جامعتها لإلقاء محاضراته عن الشعر والأدب والثقافة العامة، فأصبح مجلسه إلى جوار الجامعة قِبْلَةَ الرواد من ناشئة أمريكا اللاتينية، وشاءت المقادير بعد أربع سنوات من مقامه بالجزيرة التي تلتقي فيها الثقافتان الإسبانية والإنجليزية أن تأتيه بشرى الجائزة العالمية، وأن يُمنى بوفاة زوجته الوفية في أسبوع واحد، وقد أدركه الأجل المحتوم بعد عام.
أما مؤلفاته من المنظوم والمنثور فقد والى إصدارها نحو ستين سنة على انتظام تارة وفي فترات متباعدة تارة أخرى، وأكثرها من الشعر المنظوم على أوزان الأغاني والترانيم الاجتماعية، وبعضها فصول منثورة في النقد والآراء الاجتماعية والدينية على أسلوب سهل من البحث القريب، والإيحاء المستمد من الواقع والخيال يرجح فيه منهج الفن على منهج الدرس والتحقيق، وقد ظهرت دواوينه الأولى وهو يجاوز العشرين، فاشتهر منها ديوان الأحاديث الحزينة Apias Tristes، وديوان الجنات القصية Jardines Lejanos، وديوان أناشيد الرعاة، ثم لحقت بها وهو يقارب الثلاثين مجموعاته التي سمَّاها بالقصائد الصافية والقصائد الوسطى والقصائد الشجية، وبدأ في هذه الفترة تخطيط كتابه الأشهر عن حماره الذي سماه Platero أي الصائغ الفضي، وقال عنه ناقد «الفيجارو» الفرنسية: إنه قل في أدب العالم الحديث أن يوجد كتاب له قدرة هذا الكتاب على الرجوع بالإنسان إلى طفولة السن وطفولة الفطرة في أحضان الطبيعة، ويظهر أنه بدأ فيه ولم يقصد الانتهاء من كتابته لتوه، ليجعله بمثابة مفكرات فنية لحياته في الريف، فقضى في تدوين هاته المذكرات عشر سنوات، وأظهره بعد عودته من رحلته الأولى إلى أمريكا الشمالية (١٩١٧)، ولا شك أنه أَدَلُّ كتبه عليه.
وله مجموعات شتى من القصائد والمقطوعات والفصول والمحاضرات، آخرها وأهمها فصول عن «الله المريد Dios Deseado» أودعه خلاصة فلسفته في العقيدة والحياة، وزبدة هذه الخلاصة في عبارة وجيزة أن الله أقرب ما يكون إلى من يرقبون آيات الجمال في خلقه، ويؤثرون بساطة النعمة على كثافة المتعة في مطالب الحياة، وهي مبذولة لمن يقنع بها ويرتضيها.

وقد اخترنا للشاعر الناقد المتأمِّل نماذج من الشعر والنثر صالحة لتعريف القارئ العربي به في مراحل تطوُّره من بواكيره إلى خواتيمه التي استوى فيها على أوجه، ولم نرتبها على حسب الزمن؛ لأن القارئ يميز بينها في غير جهد ولا تردُّد، فكل ما كثرت فيه الصنعة وظهر فيه حب المحاكاة وتجربة الملَكة فهو من أعمال صباه، وكل ما اطمأنَّ فيه الشاعر إلى البساطة والسلاسة فهو من صنعة النضج والفكرة المستقلة، أو من الفن الذي قال عنه أنه يسمى «فنًّا» وكفى؛ لأن الجيد من كل مدرسة هو الفن الذي تتلاقى فيه مدارس الذوق والنقد، ويتخطى حدود الأوقات وفوارق الأذواق والآراء.

ولقد قيل إن «الاستحداث» وصل إلى الأدب الإسباني مع «داريو» وانفصل عنه مع خيمنيز، ولا بد من التفرقة بين الشعر المستحدث والشعر الجديد؛ فإن الاستحداث عُرضة لآفة الولع بالتغيير والابتداع مخالفة للمألوف على قياس وعلى غير قياس، وليس التجديد في كتبه في كثير من الأحيان غير تصحيح المقاييس التي يقاس بها الشعر الخالد السائغ للإنسان في جميع العصور.

١  Juan Ramon Jimenez.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤