بلاتيرو وأنا

بلاتيرو: حمار صغير وافر الشعر ناعم الملمس، يخيل إليك من فرط نعومته أنه مصنوع من القطن بغير عظام، لولا مرآتان لامعتان من الكهرباء السوداء كأنهما جُعْلَانِ بلوريان، هما عيناه!

أرسله فينطلق إلى المرج يتنسَّم بأنفه الأزاهير اللِّطَاف مورَّدة ولازوردية ومذهَّبة، وأدعوه مترفقًا: بلاتيرو! فيقبل إليَّ في ركضة مرحة كأنها ضحكات خفية مترنمة.

يأكل كل ما أعطيه، ويلتذُّ البرتقال واليوسفي، والعنب العنبري، والتين القرمزي تنديه قطراته العسلية.

إنه كالطفل ودود رقيق، ولكنه كالصخر صُلب متين. أمتطيه أيام الآحاد وأسعى به في دروب القرية فيرمقه الفلاحون، وهم يمشون على مهل ويقولون: إنه لمن حديد!

أي نعم. من حديد، ومن فضة كشعاع القمراء سواء!

الفراش الأبيض

يهبط الليل في غبش ذي وهج، وتتخلف وراء برج الكنيسة ومضات مخضرَّة زاهية، وترتفع الطريق ملأى بالظلال والأجراس ونفحات العشب، ملأى بالسآمة والشوق، ويخرج علينا من جانب الخص المحتجب في أكياس الفحم شبحٌ قاتم في يده شوكة يلتمع وجهه لمحة في ضوء سجارته الأحمر، فيخاف بلاتيرو ويسأل الرجل: أمن شيء تحملون؟

– انظر تر بعينيك. فراشات بِيضًا!

ويهم الرجل أن يغرز شوكته في السلة فلا أمنعه، وأفتح له الجراب فلا يرى فيه شيئًا، ويذهب غذاء الأرواح حرًّا خالصًا، لا مكوث عليه!

ألعاب الشفق

في شفق المساء وقد كدنا نيبس من البرد، تقدَّم بلاتيرو — وأنا — في الظلام البنفسجي إلى الزقاق الوضيع قبالة مجرى النهر الناضب، فالتقينا بأطفال القرية — من أبناء الفقراء — يصطنعون التمثيل ويتبادلون التخويف والتهويل، ويحكون أبناء السبيل: هذا يغطي رأسه بجراب وهذا يتعامى، وذاك يظلع في مشيته، وفي لمحة عين — على دأب الطفولة من سرعة التقلب وسهولة الانتقال من حال إلى حال — يعودون فيزعمون أنهم أمراء؛ إذ هم على الأقل لابسون منتعلون، أطعَمتهم أمهاتهم، وما يدري أحد غيرهن كيف زودنهم بالطعام:
أبي عنده ساعة فضية!
أبي عنده حصان!
أبي عنده بندقية!

نعم، ساعة توقظه في مطلع الفجر، وبندقية لا تقوى على قتل الجوع، وحصان يحمله إلى الشقاء.

ثم تشتبك الأكف ويدورون في حلقتهم راقصين، وتغني في الظلمة بنية صغيرة كأنما صوتها النحيل بلور سائل فتصيح في كبرياء:

أنا الأرملة الفتية.
أرملة الكونت أوريه!

نعم. نعم. يتغنى أطفال الفقراء، وعما قريب في يقظة الشباب، يخيفكم الربيع كأنه ابن سبيل يتستر بزي الشتاء!

– هلم بنا يا بلاتيرو!

الكسوف

على غير قصد منا دسسنا أيدينا في جيوبنا، وأحسسنا على جباهنا لمسة ظل برود، كأننا نخطو إلى غابة من الصنوبر غبياء،١ وطفقت فراريج الدار تصعد إلى الأكمة التي تؤويها واحدة بعد أخرى، والتفَّت جوانب القرية بوشاح مضرَّج كأنه حجاب المحراب، وبدا البحر من بعيد كأنه حُلم، وتراءت هنا وهناك نجيمات شاحبات، ويا للعجب! أي بياض هذا الذي اكتست به السقوف بعد بياضها المألوف!

وجعلنا نحن على السقوف نتنادى بما يخطر على اللسان من مقال، أشباحًا صغارًا في سكون الكسوف المحيط بنا أجمعين.

ومضينا ننظر إلى الشمس بكل ما اتفق لنا: منظار المسرح، ومجهر الرصد، وزجاج القوارير، وزجاج مغشي بالدخان، وندير النظر من كل زاوية وإلى كل وجهة، تارة من جانب المخدع، وتارة من جانب السُّلَّم، خلال ألواح الفضاء بين حمراء وزرقاء.

وعندما احتجبت الشمس — وهي التي كانت منذ لحظة تضاعف كل شيء حسنًا وبهاء، مثنى وثلاث، بل مائة مرة بما تفيض عليه من نور وذهب — حالت الأشياء دون أن تعبر بتلك النقلة الطويلة من ألوان الشفق، فاستكانت إلى العُزلة والفاقة، كأنما تَبدَّل الذهب فضة، ثم تبدلت الفضة نحاسًا بين نظرة وأخرى، وصارت البلدة كلها كأنها فلس من النحاس الممسوح. فيالله ما أعتم وما أبخس ما تبدو الطرقات والرحاب ومسالك البرج والجبل!

وبلاتيرو هناك في رحبة الدار كأنه كائن مريب، يتضاءل ويختفي ويلوح كأنه حمار غير ذلك الحمار!

الخوف

يصاحبنا القمر مستديرًا صافيًا، ونلمح على المروج الناعسة أشكالًا من الظلال كأنها المَعِيزُ بين شجيرات التوت، ونمر فإذا بشيء هنا وهناك كأنه يتردى في سكوت، وعلى الطريق شجرة ملتفَّة من أشجار اللوز يعلوها من نوارها الأبيض إكليل كأنه نسيج من الثلج الناصع وأشعة القمر الساطع، تحت سماء الربيع المرصعة بالنجوم، وتنتشر في الجو رائحة نفَّاذة من عطر البرتقال، ومعها البرد والسكون، ومسارح الجنة والأطياف.

إنه البرد يا بلاتيرو!

ولا أدري أكان يحفزه خوفي أو خوفه، فيركض فيجنح إلى مجرى الماء، ويطأ على بساط القمراء فيمزقه، ويبدو كأنه فوج من الرياحين البلورية المتورِّدة تشتبك بقدميه لتعوق خطاه.

ويعدو بلاتيرو صعدًا وقد لمَّ عقبه كأنه يخشى من خلفه أحدًا يلاحقه، وعلى البعد ذلك الدفء الناعم في القرية المقتربة، يحسه ويخيل إليه أنه يبتعد منه فلا سبيل إليه.

روضة الأطفال

لو أنك — يا بلاتيرو — ذهبت إلى الروضة مع أولئك الأطفال لتعلمت «أبجد هوز»، وعرفت كيف تكتب، ووعيت ما لا يعيه حمار الشمع صديق عروس البحر الذي تزينه ضفائر الأزهار، خلال البلَّور الذي تأوي إليه عروس البحر في لحيتها الخضراء، لعلمت إذن يا بلاتيرو ما ليس يعلمه في القرية القس والطبيب!

على أنك — وما عدوت الرابعة — كبير على غير نسق، فكيف يتسع لك الكرسي الصغير؟! وعلى أي لوحة تخط يداك؟ أو أي قلم وأي صحيفة تجديك؟! وأي فرقة تترنم فيها بأناشيد التسبيح؟!

كلا يا صاح. إن (دونا دومتيلا) في مسوحها الناصرية، وزنانيرها الصفراء على طراز الكساء الذي يلبسه (ريسي) السماك، سوف تسومك الركوع ساعتين — على الأقل — في ركن من أركان البستان، أو تلهب حوافرك بعصاها القاسية، أو تأكل غذاءك من السفرجل، أو تضع الورقة المشعلة تحت ذنبك حتى تحمر أذناك كما تحمر أذن ابن الفلاح قبيل المطر! …

كلا. يا بلاتيرو. كلا، بل تعال معي أُرِكَ نوار الأرض ونجوم السماء، لا يسخر منك أحد كما يسخرون من الصبية الأغبياء، ولا يضع أحد على رأسك تلك القبعة التي تحكي رءوس الحمير، بأذنين أطول من أذنيك مرتين!

الأبله

أخال أنني منظر غريب في هذه اللحية البنية، تحت القلنسوة الصغيرة السوداء، فوق ظهر بلاتيرو.

أخرج من أطراف الطريق، في طريقي إلى الكرم، كأنها في لألائها مغسولة بيضاء بأشعة ذكاء، فإذا بأطفال النَّوَر تنكشف أطمارهم — الخضراء والحمراء والصفراء — عن بطونهم التي لوَّحتها الشمس، ويمدون أصواتهم بالصياح: المخبول! المخبول!

إننا نستقبل الخلاء المكشوف وجهًا لوجه تحت قبة السماء المتوجهة الزرقاء، تتفتح عيناي وما أقصاهما عن أذني! وتتلقيان في خشوع تلك السكينة التي لا تسمى، في ذلك الصفاء الإلهي الذي تتجلى به آفاقه الأبدية.

وهناك على البعد على الحقول والمروج، أصوات تصيح، ترن، تتكسر، تخفت، تزول: المخبول! المخبول!

يهوذا

لا تخف يا صاح. ما بالك؟! تعال. تعال على مهل، إنهم — أيها الغر — إنما يقتلون يهوذا.

أجل، يقتلون يهوذا، ويقضون عليه واحدًا في كل شارع: واحدًا في شارع أنميديو، وآخر في شارع منتوريو، وواحدًا في كونسيجو. رأيتهم أمس معلقين، كأنما تشدهم قوة من عالم الغيب، فلا تلمح العين موضع الحبل المفتول الذي يتدلى بهم من الشرفات.

أي مزدحَم هذا من القلانس والأكمام والشارات والمآزر تحت بريق النجوم.

تنبحهم الكلاب وهي تحلم أن تبرح مكانها ولا تكاد، وترتاب الخيل بهم فتأبى أن تعبر الطريق تحتهم، وها هي ذي النواقيس — يا بلاتيرو — تعلن أن حجاب المحراب ينجاب، ولا أحسب أن بندقية واحدة في القرية فاتها أن تنطلق على يهوذا؛ فإن رائحة البارود تسري حتى على ذلك البعد السحيق، وهذه طلقة، وهذه ثانية، وهذه أخرى وأخرى!

اليوم. اليوم فقط — يا بلاتيرو — يتلبس يهوذا بالنائب، بالمعلم، بالجابي، بالعمدة، بالداية، ويطلق كل إنسان قذيفته قبل مشرق العيد على من تخيل من الأعداء، كأنهم يصطنعون التمثيل والإخفاء.

بواكير التين

كان مطلع الصبح فجًّا مشتملًا بالضباب، أصلح ما يكون لبواكير التين، وخرجنا إلى (ريكا) من ثَمَّ عند السادسة نجتنيه.

وهذه عروق الشجر المعمر تدور جذوعه كأنها عضل مفتول في الظل البرود، يجللها كالرداء المسدَل حيث يهجع الليل لا يزال، وحيث يندى الورق العريض بالظل المنحدر عليه: ورق كالذي كان يكتسي به آدم وحواء، وعليه لآلئ تبيض بها خضرته اليانعة، ننظر من خلاله، فنرى ضياء الفجر يصبغ ستار الشرق بصبغته الحمراء.

واهتاجَنا المرحُ فانطلقنا نستبق لنرى أينا يدرك الشجرة ويجتني الثمرة، وأخذت روسيلية معي أول ورقة، ثم جذبت يدي في ضحكة محتبسة، فوضعتها على قلبها الذي يعلو عليه نهدها الصغير ويهبط، وهي تقول: هنا. هنا. ضع يدك! ولم تكد أويلا تجري لأنها سمينة قصيرة، فجعلت تسخط من بعيد، وجنيت ثنيات من هنا وهناك وضعتها لبلاتيرو على دالية كرم عتيق، لعله يغالب الملل، فلا يضجر!

وسخطت أويلا من ثقلتها، فأثارت معركة التين وعلى شفتيها ابتسامة وفي عينيها دموع، ورمتني بتينة فانفجرت على جبهتي، ثم اقتحمنا المعركة أنا وروسيلية، فالتهمنا من التين بعيوننا وأنوفنا وأكمامنا أضعاف ما التهمناه بأفواهنا، وتساقطت الضحكات مع فروع التين على ورق الكرم النضر، فأصابت بلاتيرو تينة، فأصبح هدفًا ينهال عليه الضحك والمزاح، ولم يكن في وسعه أن يدفع عن نفسه أو يرد الهجوم بمثله، فانضويت إلى جانب وتوليت القتال باسمه، وترامى في الجو طوفان من الثمر كأنه ينهمر من مدفع رشاش، وارتفعت من جانب الأرض ضحكة مزدوجة رخية، تعلن من فم الأنوثة نداء التسليم.

صلاة العذراء

انظر يا بلاتيرو، كيف تتناثر الأزاهير في كل صوب زرقاء. قرنفلية. حمراء. لا لون لها. يخيل إليك أن السماء تمطر الورود والرياحين، وهذا جبيني، وكتفاي، ويداي، تغمرها الورود، ما تراني أصنع بكل هذه الورود؟

أحسَبُك تعلم من أين تأتي هذه الخلائق اللطاف؛ فإنني أنا لا أعلم ينبوعها الذي تفيض منه كل يوم، وتنضر به وجه هذا الأديم فتشيع فيه حلاوتها، بين بيضاء وزرقاء. وإليك … إليك هذا مزيد من الورود، ومزيد من الورود، كأنها لوحة من صنع (فرا انجليكو) تنبت رياضها في مواقع الركوع والسجود.

يخال الناظر أن الرياحين تلقى علينا من عليين في السماء السابعة كأنها صَيِّبٌ من الثلوج الدفيئة تهبط على الأبراج، على السقوف، على الأشجار. ألا ترى إلى كل شيء خشن الملمس ترق حواشيه ويحلو مرآه بزينتها الساحرة في كل مكان؟! ورود. ورود. ورود.

وإني لأحسب — يا بلاتيرو — أن النواقيس تدق، وهذه الحياة — حياتنا كل يوم — تنضو عنها قسوتها، وتتنزل في مكانها حياة غيرها أحكَم منها وأرفع وأنقى، يمدها ينبوع من النعمة المباركة يسمو بها إلى تلك النجوم، تلك التي أخذت تلمع بين أشتات الورود. مزيد من الورود، وإن عينيك يا بلاتيرو — وأنت لا تراهما — لوردتان جميلتان أراهما، وأنت ترفعهما إلى السماء في خشوع واتِّضاع، بين تلك الورود.

الحفرة

بلاتيرو العزيز، إنك إن أدركت أجَلك قبل أجلي، فلن تُحمل إلى مستنقع الموت، ولا إلى تلك الهاوية، ولن تحملك عربة الدلَّال إلى طريق الجبل، كما تُحمل الحمير والكلاب والخيل التي ليس لها من يحبها ويرعاها، ولن تبدو ضلوعك المحمرَّة من نقر الجوارح والغربان كأنها عروق الزورق الماثلة تحت سماء الشفق الأرجواني، منظر نافر على طريق السالكين إلى محطة القديس جوان في سيارة الساعة السادسة، كلا ولن تظل هنالك وارمة منتفخة بين الأصداف الغضة في قاع الحفرة تخيف الأطفال الناشطين في طلب الجلبة والسورة بين صفوف أشجار الصنوبر متطلعين إلى الهاوية من حافة الطريق.

هوِّن عليك يا بلاتيرو وعش في سلام. إنني سأدفنك عند ساق الصنوبرة الكبيرة في ذلك البستان الذي تهواه، وتنام ثمة على مقربة من بهجة الحياة والجمال، يلعب الأطفال إلى جوارك، وتتعلم البنات الصغار تطريز الثياب على كراسيهن الصغار في جانبك، وتطلع على أشعاري التي توحيها إلي الوحدة، وتسمع أغاني الغاسلات عند حديقة البرتقال، ويزيدك ضوضاء البئر فرحًا وبردًا في رقادك الطويل، ويدور الحول وأنت تسمع شدو القنابر والبلابل والعصافير، كأنها بين خضرة المروج الخالدة وقبة السماء قبةٌ أخرى وجيزة من النغم والغناء دون تلك القبة الأبدية الزرقاء.

الحسكة

أخذ بلاتيرو يظلع عند مدخل الأرض الخضراء، فترجلت مسرعًا لأرى.

– ما بالك يا بني!

فرفع بلاتيرو يده اليمنى، وتعلقت تلك اليد لا وزن ولا قوة، ولا تكاد تلمس الرمل المتَّقد تحتها، ليكشف عن باطن الحافر، وأراه!

ونظرت مواسيًا له، مترفقًا به فوق رفق طبيبه داربون ولا مراء، فلمحت في باطن الحافر الجريح حسكة خضراء من حسك البرتقال، كأنها خنجر زمردي دقيق، سحبتُها مشفقًا من إيلامه، وقدت المسكين إلى بركة السوسن؛ عسى أن تلمسه من مائها الجاري ببسلم يبرد جرحه الصغير، ثم أقبلت إلى ناحية البحر، أقوده ويتبعني متعثرًا، فيصدمني خفيفًا كلما تعثرت به خطاه.

عصافير الجنة

تلك هي — هناك — يا بلاتيرو، سوداء طروبًا في عشها الرمادي على الإفريز الذي استوى عليه تمثال العذراء، عذراء مونتماير، وقليلًا ما اقتربت منه يد مخلوق.

إن الطائر المسكين لحائر، وأحسبه هذه المرة قد وقع في غلطة، كما غلطت الفراريج قبل أسبوع وهي تأوي إلى مبيتها عند كسوف الشمس تحسَبه الغروب. وقد شاء دلَّال الربيع أن يَفِدَ إلينا مبكرًا هذا العام، ولكنه على رغم منه يرتعد في عريه الرقيق ويقفل به راجعًا إلى مهاد شهر مارس الغائم، وإن القلب ليحزن إذ يرى أزاهير البرتقال تموت في الأكمام.

عادت عصافير الجنة — يا بلاتيرو — وهي على هذا قَلَّمَا يُسمع لها صوت كذلك الصوت المترنم الذي نسمعه منها كل عام؛ إذ تروح وتغدو بالتحية والسلام لكل ما ألِفته من معاهد الديار، وكأنها تتأمله وتعيد النظر إليه تستوثق من بقائه كما كان، وتظل توسوس للأزهار بكل ما شهدته في أفريقيا، فتروي لها كيف كانت تنام على الماء بجناح، وتبسط الجناح الآخر كالشراع، وكيف كانت تستريح على سواري السفين، وتقص عليها العجائب عن مغارب أخرى ومشارق شتى وليالٍ كثيرة في آفاق بعيدة بين رحلة في الذهاب ورحلة في المآب!

إن عصافير الجنة لا تدري ما تصنع تطير هنا وهناك حائرة، صامتة، كما تحار النمال إذا وطِئَت صفوفَها قدمُ طفل لعوب، ولا تجسر على الصعود والهبوط من جانب الشارع الجديد، ماضية على سواء إلى موطن الزحام، وكأنها تهاب الطواف بأعشاشها عند العيون، وتجفل من الهبوط على سمط منسوق فوق أسلاك البرق حيث تطن الرياح، وأحسبها ستهلك بردًا يا بلاتيرو!

الإسطبل

أذهب إلى بلاتيرو عند الظهيرة، فأرى على ظهره الفضي شامة مذهبة من أشعة الشمس في سَمت السماء، وعلى الأرض السوداء تحته إلى اخضرار، يدر السقف العتيق نقودًا مجلوة من النار.

هناك تلعب (ديانا) بين أقدام بلاتيرو فتقبل إليَّ راقصة، وترفع يديها إلى صدري تحاول أن تلحس فمي بلسانها الأحمر، وتنظر إليَّ العنزةُ من مجثمها في أعلى المذود مستطلعة متفرسة، تميل برأسها يمنة ويسرة بدلال كدلال النساء! أما بلاتيرو فقد سبقني قبل دخولي، فأطلق نهيقه بتحية القدوم، واجتذب حبله يحاول الفكاك منه، واستحال بجملة كيانه ألوانًا من الألاعيب.

وينفذ الشعاع من الثقوب بألوانه القزحية، فأرفع البصر صعدًا على ذلك الدرج النوراني إلى قبة السماء بعيدًا من هؤلاء الأصدقاء، ثم أعود إلى الأرض بعد هنيهة، فأعلو الصخرة لأنظر من فوقها إلى المروج. إنها تعوم في فيضان مشرق من وهج الظهيرة، ومن بعيد في أوج الصفاء المحفوف بإطار من الجدران يسمع رنين ناقوس.

المُهر الخصي

كان أسود، له شيات من القرمز والعشب والفيروز، سواد مفضض كالجُعل والغربان، وتومض في عينيه الفتيَّتين لمحة بعد لمحة، نار متَّقدة بالحياة، كالجمر في موقد (رامونا) بائعة القسطل بميدان المركيز. وكم له من طرقات متداركات بحوافره الصلاب، وهو يخب إلى المدينة من جانب الرميلة إزاء صوى٢ الشارع الجديد. ما أخف! ما أسرع! ما أنفذ وأمضى! وهو يشيل برأسه الصغير ويعدو بقوائمه الدقاق.

ويمضي على نمطه الرائع في طلاقة وكبرياء ولعب، على باب المعصرة الوطيء، وهو أحلك سوادًا منه قبالة الشمس المحمَرَّة: شمس القلعة التي شخصت هناك كأنها بطانة الروات. ثم جاوز أرومة الصنوبر التي وضعوها مكان العتبة، فملأ الرحبة في المعصرة بهجة وطربًا وزقًّا، من أفواه الدجاج والحمائم والعصافير، وترقبه ثمة رجال أربعة عقدوا أذرعتهم الشعراء على قمصان شتى الخطوط والنقوش، فاحتملوه إلى شجرة الفلفل، وألقوا به على كومة المعصرة بعد فترة من العراك العطوف لم تلبث أن استطردت إلى عراك عنيف، وجلسوا عليه إذ مضى البيطار (داربون) ينجز عمله، ويختم محاسن المهر الجميل، كما قال شكسبير لصديقه الذي لم يتزوج: «جمالك البديع يموت معك وتبذله فهو جلادك القاضي عليك …» وصار المهر حصانًا وديعًا يتصبب عرقًا، في حزن وإعياء، ولم يكلفهم غير رجل واحد يقوده ويغطيه ويسير به على مهل في الطريق.

سحابة مجدية كانت بالأمس مشحونة بالبروق، فإذا هي اليوم مروضة ذلول، وإنه اليوم كأنه كتاب غير مضموم، وإنه لا يخطو على الأرض بعد أن عزلت الحدوة بينها وبين حافره بعنصر غريب، وتركته لا يحس وقع قدميه؛ شجرة مجتثة كالذكرى في حومة ذلك الصباح من أيام الربيع.

بيت في عرض الطريق

بلاتيرو! إن ذلك البيت في عرض الطريق قد كان في صباي يلقاني أبدًا بسحر عظيم.

وبدأت (أولًا) في سكة (ربيرا) بمنزل (أربورا) السقاء ورحبته إلى الجنوب مذهبة أبدًا بأشعة ذكاء، أطل منها عليَّ كلما علوت جدار البستان، ويأذنون لي من حين إلى حين أن أدخلها ومعي ابنة السقاء، أحسبها يومئذٍ امرأة — وهي اليوم كذلك بعد الزواج — فتمنحني هنالك سفرجلًا حلوًا وقبلات.

ثم يأتي الشارع الجديد، ثم كانوفاس، ثم جوان فراي پيريز، مسكن دون جوزي حلواني إشبيلية الذي كان يبهرني بحذائه الأصفر من جلد الجداء، ويزين الشجر المعمر بقشور البيض، ويطلي باب الدهليز بلون الكنار موشعًا بالخطوط الزرقاء، وربما زارنا بالمنزل حيث ينقده والدي شيئًا من المال، ويستمع إلى حديثه عن مروج الزيتون، وكم من أحلام صباي هزَّته شجرة الآس العتيقة تلك التي كنت أراها من شرفتي مزدحمة بالعصافير فوق سقف دون جوزي. وكانت هناك — في نظري — شجرتان للآسِ لم أحسبهما قط شجرة واحدة: إحداهما التي كنت أغانيها من الشرفة قمة عالية بشمسها وهوائها، وأخرى كنت أراها في رحبة دون جوان من جذعها إلى أعلاها.

وفي المساء الصحو، وفي الظهيرة المطيرة، وفي كل لحظة تتبدل مع جو النهار والليل على حالة من الحالات، تسترعيني بأي هوى وأي اشتياق، من شرفتي. من نافذتي. من عرض الطريق.

الشبح

كان أمتع اللهو عند أنيلا — صانعة الزبدة — التي كان شبابها اليانع المتدفق ينبوع فرح لا ينضب، أن تتزيا بزي شبح مخيف.

فهي تضفي على جسدها ملاءة بيضاء، وتمسح وجهها السوسني البياض بطلاوة من الدقيق، وتغطي ثناياها بفصوص الثوم، وبعد تناول العشاء نجلس في حجرة المائدة مهومين، فتظهر لنا فجأة من ناحية السلم الرخامي، وفي يدها شمعدان مشتعل تخطو على مهل في رصانة ووقار، وإنها — بهذا الزي — لتجعل من عريها كساء، وتبعث الفزع بما استعارته من مثال أهل القبور، ولكنها — على هذا — تسحر العيون ببياضها الناصع سحرًا تداخله غوامض الرغبات.

ولن أنسى يا بلاتيرو! تلك الليلة من شهر سبتمبر، حين ثارت العاصفة تخبط المدينة كأنها ضربات قلب مريض، وتصب شآبيب الماء والسقيط تتوالى بينها نوازل البروق والرعود، وقد فاض الحوض فأغرق الرحبة، وانقضت معالم المساء الأخريات من دقات الساعة التاسعة، إلى مركبة السيارة، إلى نواقيس المساء، إلى ساعي البريد. ومشيت وأنا أرجُف من الخوف إلى حجرة المائدة لأشرب، فلمحت على ضوء عقيقة زاهية من البرق كافورة بيت فيلار — شجرة الوقواق كما ندعوها — وقد وقعت منقصفة على سقيفة المخزن. وعلى حين غرة سرت بيننا نأمة يابسة، كأنها ظل صدمة من صدمات البرق المدوية خطفت أبصارنا وزلزلت جوانب الدار. فلما ثاب إلينا وعيُنَا بعد تلك الصدمة إذا بكل واحد مِنَّا في مكان غير الذي كان فيه منذ لحظة، منفردًا مشغولًا بما هو فيه عن سواه: هذا يشكو الصداع، وهذا يلمس عينيه، وهذا يتحسس قلبه بين حنايا صدره، ويعودون واحدًا واحدًا إلى حين كنا مجتمعين!

ثم هدأت العاصفة، ولاحت أسارير القمر بين الغمائم تفضض صفحة الماء الذي يغمر رحبة الدار، وذهبنا نتفقد حولنا كل شيء، وانطلق (لورد) يعدو إلى السلم ويعود وهو ينبح نباح الجنون. ثم اتَّبعناه — يا بلاتيرو — إلى الكرم المتلألئ من حيث تنبعث إلى الأنوف رائحة تغثي النفوس. وهناك يا بلاتيرو رقدت (أنيلا) في ثوب الشبح، ولا يزال شمعها يشتعل في يد — من لفحة الصاعقة — سوداء.

الأبله الصغير

كلما عبرت بشارع دون جوزي رأيت الأبله الصغير يجلس على عتبة داره يرقب العابرين.

لقد كان واحدًا من أولئك الصغار المساكين الذين لم يُرْزَقُوا قَطُّ نِعْمَةَ الكلام ولا نعمة الجمال، فرِح بينه وبين نفسه، حزن لمن ينظر إليه، كل شيء عند أمه، لا شيء عند الناس.

ويومًا من الأيام، بعد ذهاب الريح السوداء، لم يظهر الطفل على باب داره، وظهر مكانه عصفور يغرد على عتبة الدار، فذكرت (كروس) ذكرى الوالد قبل ذكرى الشاعر الذي راح يبحث عبثًا عن روح وليده الفقيد بين فراش جليقية: (أين الفراشة ذات الجنيحات الذهبية؟!)

والآن وقد عاد الربيع، أتذكر الأبله الصغير الذي ارتفع إلى السماء من شارع القديس جوزي، وأحسبه على كرسيه الصغير، إلى جانب النوار والريحان، ينظر بعينين، فتحتا بعد إغماض، فيرقب العابرين من أهل النعيم.

دون جوزي القس: الآن يا بلاتيرو، يمضي مجلَّلًا بالقداسة مترعًا بالكلم المعسول، إلا أن الشيء الملائكي حقًّا في أتانه: أنها سيدة!

وأخالك لمحته يومًا في شبانه بسراويل الملاحين وقبعة الرحالين، يقذف باللعنات والحجارة معًا أولئك الصغار الذين يختلسون برتقال البستان، وقد رأيت — ولا شك — ألف مرة خادمه البائس (بلتزار) يسحب قدمه المتورمة كأنها نفاخة البهلوان؛ ليذهب إلى البلدة أيام الجمع يبيع هنالك مكانسه الحقيرة، أو يصلي مع الفقراء رحمة بالموتى من أقارب الأغنياء.

وما رأيت قَطُّ إنسانًا أطلق منه لسانًا بالدنس، وأدعى إلى غضب السماء بما يثيره من لعنات.

ومن الحق — كما يقول على الأقل في صلاة الساعة الخامسة — أنه يعرف كل شيء أين يكون وكيف يكون، فوق … في عليين! الشجرة، المدرة، النبعة، النسمة، زهرة القسطل. وهي كلها آية في الحسن والنعمة والنضارة والصفاء والإشراق، تبدو لعينيه مثلًا للخلل، والقسوة، والجفاء والغلظة، والدمار. وفي نهاية كل يوم تتبدل مواقع الحجارة في بستانه، كلما قذف بها في ثورة الغضب أسراب الطير والصبية والغسالات والأزاهير.

فإذا حان موعد الصلاة حالت الحال، وسمع صمت دون جوزي خلال صمت الخلاء، وأسبغ كسوته على جسده، ووضع قلنسوته على رأسه، ونفذ إلى القرية لا يكاد يرى، وهو على متن أتانه كأنه شبح المساخر على هيكل عظام.

الربيع

يا لها من لمعات، يا لها من نفحات!
في مروج فرحات، عمرت بالضحكات.
أغنية شعبية

أقلقت هجعة الضحى صيحات أطفال عفاريت، فانتبهت متبرمًا ضجرًا، ولم أستطع أن أعود إلى الرقاد فتركت الفراش يائسًا، ونظرت من النافذة المفتوحة، فلم أجد أطفالًا أقلقوني، ولكنها العصافير!

وهبطت إلى الحديقة أتغنى بنشيد الشكر لرب النهار الصحو والسماء الزرقاء.

ومن حيث أصغيت سمعت فرق الغناء الطائرة طليقة المناقير، ترسل موسيقاها مبتكرة سخية بغير انقطاع.

عصفور الجنة في غرابة أطواره يغرد إلى ناحية البئر، والشحرور يصفر على جنى البرتقال، والصفير الذهبي يزقو ويتوثَّب من خضراء إلى خضراء، والزمير الأزرق يسترسل من ضحكة إلى ضحكة بين غصن وغصن من شجرة الكافور، ولا تزال الزرازير في حوار على ذؤابة الصنوبرة الفرعاء.

ياله من صباح: شمسه الساطعة تنثر الذهب والفضة على الغبراء، وألوف من الفَراش في حلل الزخارف والألوان تتطاير في كل مكان، تجول بين الأزهار مرة من المنزل، ومرة إليه فوق الجدول الثرار، وحيثما أَدَرْتُ البصر رأيت جوانب الريف تنبض متفتحة لحياة وافرة وعيش طريف.

لكأننا نعيش في خلية كبيرة من الضياء، لعلها قلب وردة أرجوانية هائلة، تنفح بأريج الحياة.

الخبز

قلت لك، يا بلاتيرو، إن بلدتنا مقرة روحها الخمرة.

أتراني قلت لك ذلك؟ كلا. إن زوجها لهو الخبز، فضي في الباطن كاللباب الطري، وذهبي في الظاهر كالقشر الناعم.

عند الظهيرة — ووهج الشمس على أَحَرِّهِ وأحماه — تدخن القرية، وتفوح بمزيج من روائح خشب الصنوبر والخبز الساخن، وتفتح القرية كلها فاها، كأنها فَمٌ واحد كبير يلتهم رغيفًا واحدًا مثله في الكبر.

الخبز الحياة، يؤدم به كل مأكول: الزيت، الحساء، الجبن، العنب … ومن قبلاته نكهة تسيغ مذاق الخمر، والمرق، واللحم، وتسيغ مذاقه بمذاقه، بين خبز ينفرد انفراد الأمل، وخبز له إدام، وَهْمٌ من الأوهام.

ويقبل صبيان الخبازين على المطايا الرواكض يقفون أمام كل باب مُوصَد، فيصفقون ويصيحون: الخبز. الخبز.

وتمتد المعاصم العارية بالسلال، فيصطدم فيها الرغفان بالأطواق والفطائر بالأقراص.

وسرعان ما يقبل الصغار المحرومون يطرقون الأبواب، ويسألون: كسرة من الخبز لله!

الفتاة المسلولة

كانت تجلس مستوية على كرسي هابط وضيع، يعلو وجهها بياض ميت كبياض السوسنة المهصورة، في وسط الحجرة الباردة.

وكان الطبيب يوصيها بالنزهة في الخلاء، تتلقى شعاع الشمس — شمس مايو البَرود — ولكن الطفلة المسكينة لا تستطيع.

قالت: إنني إذا وصلت إلى القنطرة — وهي قريبة كما ترى — لهثت من الإعياء، وخذلها صوتها الهزيل المتقطع، كما تنخذل النسمة الخافقة في حرارة الصيف.

وعرضتُ عليها بلاتيرو لرحلة قصيرة، فركبته وسرى الضحك على صفحات وجهها الذابل، تَفْتَرُّ عنه الثنايا البيض والعينان الكحيلتان.

وتتطلع النسوة من الأبواب ينظرن إلينا عابرات، ويسير بلاتيرو على هِينة، كأنه يعلم أنه يسير بحِمل من قوارير، والفتاة على ظهره في ثوبها النقي — كعذراء تتماير — تسري فيها روح الأمل ونفحة الحمى، فتلوح للعين ملكًا يعبر القرية إلى سماء الجنوب.

صندوق الدنيا

على حين غرة، وعلى نغم رتيب، سمعت في الشارع الصامت دقات طبل صغير خشن الرنين، وتبعته صيحة مزعزعة مرتعشة، وطرقات أقدام صغار، وصبية يتصايحون: صندوق الدنيا. صندوق الدنيا.

في زاوية من الزقاق صندوق أخضر تعلوه رايات أربع صغار، ماثلًا على قائمته في انتظار.

ويدق الشيخ، ويدق، ويحيط به جمع من الصبية المفاليس، أيديهم في الجيوب أو وراء الظهور، وهم ينتظرون صامتين.

ويهرع من بعيد طفل يقبض كفته على دُرَيْهِمٍ عزيز، فيتقدم وينظر في ثقب الصندوق.

وينادي صاحب الصندوق وهو يدق طبله بصوت ملول: والآن. تتفرج وتشوف، القائد (بريم) على صهوة جواد.

وبعد دقات وصيحات يعود فيقول: ميناء برشلونة، تتفرج وتشوف.

ويهرع أطفال آخرون فيسرعون إلى الشيخ يسلمونه دريهماتهم، وينتظرون تهويله المألوف.

قلعة (هافانا) تتفرج وتشوف.

وكان بلاتيرو قد ذهب مع طفلة الجيران وكلبها إلى زفة الصندوق، فدس رأسه بين رءوس الأطفال، وخامرت الشيخ لفتة عارضة من الفكاهة، فأخذ بأذنه يسأله: وأين درهمك؟!

فتضاحك الصبية (المفاليس)، ونظروا إليه مستعطفين!

لورد

لا أدر يا بلاتيرو هل تفهم الصورة الشمسية؟ أو أنت كأبناء الريف الذين أريتهم صورًا منها فلم يفهموا منها شيئًا؟

حسنا. هذا هو لورد يا بلاتيرو، ذلك الكليب من فصيلة الكلاب عدوة الثعالب الذي حدثتك عنه فينة بعد فينة. انظر إليه. إنه … أتراه؟ إنه على إحدى الوسائد في الباحة المرمرية يستشرق، وينعم بشمس الشتاء بين أزاهير الخُزامَى.

مسكين لورد. إنه جاء من إشبيلية يوم كنت هناك أعمل في فن الرسم، كان أبيض كأنه بلا لون في ذلك الضياء الناصع، وكان بَضًّا سمينًا كأنه فخذ امرأة رداح، متوثبًا جامحًا كأنه دفاع الماء من فم صنبور، وربما تناثرت فيه الشيات المتفرقة كأنها فراشات سود، وعيناه السوداوان تلتمعان كأنهما في حَيِّزِهِمَا الضيق مددان جَيَّاشان بالعطف الكريم، وتعروه أحيانًا لوثة من جنون، فيمضي مهرولًا — لغير سبب — بين زهريات الساحة التي تزين كل شيء في الربيع بين حمراء وزرقاء وصفراء تحت الأشعة التي تنبعث من بلور الفضاء كأنها الحمائم التي يرسمها (دون كاميلو)، ويصعد تارة أخرى إلى سطح الدار، فيثير اللغط واللغو في أعشاش الطيور، وتغسله (مكاريو) كل صباح غسلة جيدة بالصابون فيقابل الشمس يا بلاتيرو بضياء كضياء السقوف اللامعة بجصها النقي.

ولما مات أبي لبث لورد طول الليل إلى جانب تابوته يرعاه، ومرِضت أمي فلزم سريرها شهرًا لا يصيب من طعامه غير القليل الذي يُمسك الرمق، وجاءنا بعضهم ذات يوم ينبئنا أن كلبًا مسعورًا عَضَّهُ، فأخذناه إلى حوض القلعة وربطناه إلى شجرة البرتقال بمعزل من الناس.

إن نظراته التي كان يردِّدها وراءه يودِّع بها الدار يوم احتملناه إلى مربطه لَتنفذ في أعماق قلبي الآن كما نفذت فيه يومذاك، وإنها لتبقى بعده كما يبقى الكوكب خبا منه الضياء في عليائه مدرجًا في ظل أُفُولِهِ الحزين، وكلما شكَّني ألم في الجوانح تجدد في فؤادي ألم النظرة التي طرحها لورد بيد طويلة مسترسلة على طريق الأبد. أي يا بلاتيرو، على مدى الطريق من البركة إلى صنبورة كورنا، كأنها آثار أقدام مختلجة تنم على الأسى والعذاب.

الحمارية!

قرأت في معجم للكلمات الغريبة «حمار جرافي» حمارية. صفة تطلق تهكمًا على من يشبه الحمار.

مسكين أيها الحمار، بكل ما فيك من الكرم والطيبة والدراية، ويقال تهكمًا ولا يقال جدًّا ما ينسب إليك من الأوصاف، فلِمَ هذا التهكم؟! ألا يبلغ من قدرك أن تستحق صفة جدية، وأنت الذي يوصف فتكون صفاته أشبه بصفات موسم الربيع.

لماذا يقال عن الرجل الطيب إنه حمار؟ لماذا لا يقال عن الحمار الرديء إنه إنسان؟! لِمَ هذا التهكم؟ التهكم منك أنت المفكر، صديق الشيوخ والصبية، وصديق البِرْكة والفراشة والشمس والقمر والكلب والزهرة. أنت الصبور المتأمل، الشجي المحب (ماركوس أوريليوس) المراعي والمروج!

وبلاتيرو يفهمني ولا شك، ويرمقني بعينين تتراءى فيهما الشدة واللين، وتنعكس فيهما الشمس من قبتها التي تَخْضَرُّ إلى سواد.

آه! لو درى رأسه الكبير الأشعر — الشعري — أنني أُنصِفه، وأنني أعرف ما لا يعرفه كَتَبَةُ المعاجم، وأنني أضارعه أو أكاد في الطيبة والكرم.

لقد أضفت على هامش الكتاب: إن الحمارية وصف ينبغي أن يطلق — تهكمًا بالطبع — على الحمقى الذين يكتبون المعجمات.

صراع الديكة

لست أدري بِمَ أُشَبِّهُ ذلك الانقباض الذي اعتراني يا بلاتيرو؟!

رابية أرجوانية، مذهبة، ليس لها سحر رايتنا القومية في مقابلة البحر أو مقابلة السماء.

بلى. لعلها راية إسبانية تقابل سماء حلبة الثيران، وتبدو دخيلة لها منظر المحطات على سكة الحديد بين والبة وإشبيلية. احمرار واصفرار يترجمان عن وحشة وانقباض، كأنهما الألوان في كتب جالدوس، أو الألوان على لافتات مخازن التبغ فيما يمثلون به الحرب الإفريقية من صور شائهة.

إنها وحشة كتلك التي أُحِسُّها كلما نظرت إلى بطاقات اللعب منقوشة بوشم كوشم الرعاة، أو نظرت إلى أصباغ علب التبغ وصناديق الزبيب، أو اللصائق على قناني النبيذ، أو أنواط الجدارة من مدارس الملاجئ، أو الرسوم الصغار على قطع الشوكلات!

ما بالي هنا في هذا المكان؟! من الذي قادني إليه؟! إن الدفء في هذه الظهيرة الشتوية يتمثل لي كالنفير الفرنسي في فرقة البهلوان. تنتشر منها رائحة كرائحة الخمر الجديدة، أو جشاء المقانق، أو أنفاس الطباق. وكان النائب هناك، ومعه العمدة، ومعهما (متري) مصارع الثيران القديم من والبة.

وكانت حلقة الصراع صغيرة خضراء، تحف بها وجوه محتقنة كأنها أحشاء الماشية الذبيحة، وجوه تتمثل فيها جلافة القلوب من لحظات العيون، ويعلو فيها الهتاف من النظرات!

وكان الجو حارًّا، والحلقة الضيقة — حلقة الديكة — مقلقة كأنها عالم محبوس.

وفي شعاع الشمس الذي تحركه سحب من الدخان كأنه ينعكس من زجاج كدر، يلوح الديكان الإنجليزيان — زهرتان خشنتان — يمزق كل منهما أخاه، وينقر عينيه ويواليه بالهجوم الرتيب لحظة بعد لحظة، بعداوة إنسان وأظافر مسمومة أو محمضة، لا يسمع لهما صوت ولا هما يبصران أو يعيان ما يصنعان.

وأنا … ما بالي هنا على ما يخامرني من غثيان ونفور؟ لا أدري.

ومن حين إلى حين كنت أنظر من خلل الستار الممزق الذي يضطرب في الهواء كشراع الزورق، فأبصر وراءه شجرة البرتقال البريئة تعطر الجو بما تحمله من ثمرات وأزهار.

قلت لنفسي: ما أطيب خلقة هذه البرتقالة! ما أطيب خلقة الهواء! ما أطيب خلقة ذكاء!

ولم أنصرف مع هذا من ذلك المكان.

الحساء

في شفق القرية الهادئ المكبوت، كم من الشعر في تخيُّل ما هنالك على البعد، وفي تذكر المنسيِّ الخفي الذي قَلَّمَا يبرز من طوايا الضمير، لكأنها عدوى سارية من رصد قديم يمسك القرية كلها على صليب من هاجس مهجور.

هنالك نفحة من الحبوب النقية التي تجمعت في أهرائها تحت أنجم السماء، يا لسليمان!

هنالك الحراثون يهمهمون في سآمة ناعسة، والأرامل عند الأبواب يفكرن في أعزائهن المفقودين الذين يرقدون على مدى قريب وراء الدور، والأطفال يعدون من ظل إلى ظل عَدْوَ العصافير من شجرة إلى شجرة، ولعل ذلك البصيص الخافت على جدران البيوت المتطامنة حيث المشاعل الغازية قد أخذت تحمرُّ قبل الخمود، لعل أطيافًا أرضية تدب هناك مشيحة صامتة؟ بين متسوّشل طارئ، أو غريب يمشي إلى أرض الحراث، أو لعله لص يتسلل، وكلهم في مرآهم الكئيب المريب نقيض لتلك الوداعة التي يضفيها الشفق على كل شهود من منظر معهود. ويدخل الأطفال من الأبواب المظلمة، فيستمعون — لعلهم — لنجوى الحديث عن أولئك الرجال الذين يستنزفون الشحم من أجساد الأطفال ليشفوا به بنت الملك من داء السلال.

الخاتم

كان على مثال ساعة يا بلاتيرو، وتنفتح العلبة المفضضة الصغيرة، فيدوس به على لبد مشبَّع بالمداد يستقر عليه كالطائر في عشه. وما كان أعظم فرحي بعد أن تناولته بيدي أن أطبعه عليها، فيظهر على بياضها الاسم المكتوب:
فرنسسكو رويز
مقرة
كم حسدت زميلي في مدرسة دون كارلوس على ذلك الخاتم، وحاولت أن أصنع مثيله من بقايا في نفايات البيت فلم أفلح ولم ينطبع منه شيء! فلم يكن هذا الخاتم كذلك الذي كان في يسر وفي كل مكان يترك تلك الدمغة المقروءة:
فرنسسكو رويز
مقرة

ويفد إلى منزلي — ذات يوم — مع الصائغ الإشبيلي (أرياس) بائع جوَّالٌ يبيع أدوات الكتابة، فما كان أوفر ثروته المعروضة من المساطر والبراجل والروايات من جميع الألوان والطوابع والأختام. فكسرت حصالتي ونقدته ربع الريال الذي كان فيها ليصنع باسمي خاتمًا كالخاتم المرموق، واستمهلني أسبوعًا وما كان أطوله من أسبوع، وكم تلاحق خفقات القلب عند وصول البريد! وكم من خيبة خامرتني كلما وصل الساعي في الطريق ولم يقف على باب الدار!

وبعد لَأْيٍ وصل الخاتم المنشود، هنة صغيرة وقلم وريشة وحروف، وضغطت على لولب فبرز الخاتم جديدًا يتلألأ، فهل بقي في الدار شيء لم ينطبع عليه؟ وهل في الدار ما ليس بملك لصاحبه؟!

جوان رامون خيمنيز – مقرة

حريق الغاب

الناقوس الهائل:

ثلاث دقات. أربع دقات … حريق!

تركنا مائدة العشاء، وصعدنا الدرج الضيق وفي صدورنا ضيق، وعلينا غاشية من الصمت المجهود، إلى السطوح.

صاحت (أنيلا) وقد سبقتنا إلى رأس السلم قبل انتهائنا إليه: إنها في حقول لوسينا!

دنج. دونج … دنج. دونج. سمعنا الناقوس يجلو دقاته، ويجيلها في أسماعنا ويرن أو يرين بها عل صدورنا، وخرجنا إلى الطريق، يا للغوث!

ما أعظم! ما أهول! إنه حريق جسيم!

وعلى مدى النظر من أفق الصقور يتأجج اللهيب المكبوح كأنه طلاء من القار والسيلقون، أشبه شيء بصورة السباق من عمل (بيير دي كوسيم) حيث ترتسم النيران سوداء، حمراء، بيضاء. تسطع حينًا، وتتورَّد حينًا، وتعود أحيانًا في شحوب الهلال الوليد.

سماء أغسطس عالية هادئة، والنار فيها تلوح كأنها عنصر من عناصرها الدائمة، وفي جانب منها يسري شهاب ثاقب ثم يهوي فوق مونجاس. وليس من حولي أحد. وحيد!

وأسمع نهيق بلاتيرو فأثوب إلى نفسي، وقد ذهبوا جميعًا فتعرُوني رعشة الليل في هزيعه الأخير، ويخيل إليَّ أن الماجن الذي حسبته في صباي يضرم النيران في الآجام قد عبر بي في تلك الساعة. إنه طراز من (أوسكار وايلد) مقري، يدب الآن شيخنا موخوط الفودين بالمشيب، يلف سمنته ويدرج في سراويله الموشعة بالبياض ولون القسطل منتفخة بعيدان الثقاب الطوال.

صراع الثيران

أراهن يا بلاتيرو، أنك لا تعلم ما يريده هؤلاء الصغار.

إنهم يسألونني أن أعيرهم إياك ليذهبوا في طلب مفتاح الحلقة، حلقة الصراع التي ستنعقد عصاري اليوم، فلا تبالِ. لقد قلت لهم: لا يخطرن شيء من ذلك على بال.

إنهم كانوا في لهفة جامحة يا بلاتيرو، والبلد كله يتلهف مثلهم على رؤية الصراع: تعزف الفرقة من مطلع الفجر على أبواب الحانات حتى كلَّت من العزيف، والمركبات مصعدة منحدرة ومنحدرة مصعدة، على الشارع الجديد، وهناك ينقشون (الكنارية) مركبة المصارعين الصفراء التي يطوفون عليها أنحاء القرية ويهيم بها الأطفال الصغار، وقد عَرِيَتِ الحدائق من أزهارها التي تُزَفُّ إلى السيدات الراعيات، وإنها لأمسية كثيرة الأشجان يرى فيها الفتيان وهم يترنحون في الطريق بقبعاتهم العراض وسجائرهم المشتعلة، وقمصانهم التي تفوح منها روائح الخيل والخمور.

وعند الساعة الثانية يا بلاتيرو — تلك الساعة التي تنفرد فيها الشمس بعزلتها، ويتهيأ المصارعون والراعيات للظهور بحلل الميدان — سأخرج أنا وأنت إلى الخلاء من وراء الطريق كما صنعنا منذ عام. وما أجمل ما يكون الخلاء حين يخلو حقًّا من عابريه! إن الكروم مهجورة، والبساتين مقفرة، وما من أحد هناك — ولو شيخًا هرمًا — يحنو على عنقود، أو يميل إلى جدول. وعلى البعد في المدينة تعلو جلبة الصراع من هتاف الحناجر، وتصفيق الأيدي، ودقات الطبول، ونفخات الزمور. وإن الروح يا بلاتيرو، لتبسط ملكها على ساحة الطبيعة بما رحبت حيث تسخو لمن يمنحها حقها من التحية بكل ما لديها من كنوز الزخرف والجمال.

قطوف الكرم

قليلًا ما وفدت الحمير بقطوف الكرم هذا العام يا بلاتيرو، وعبثا يخطون على ألواح الإعلان أرقام الأسعار والأثمان.

ستة ريالات!

أين هي حمير لوسينا، وحمير المنث، وحمير پالوس؟

أين هي موقرة بالرحيق الذهبي الأسود يطل من العناقيد على الجانبين؟ أين هو ذلك القطار المتَّصل من البغال ينتظر دوره في المعصرة ساعات بعد ساعات؛ إذ يسيل النبيذ الحلو وتمتلئ منه طاسات وجرار، يحملها النساء والصغار؟

ما كان أجمله موسمًا يومذاك! ما كان أجمل الموسم في ديثمو يا بلاتيرو تحت شجر السمور! إذ يهزجون ويهرجون، وهم يغسلون الزقاق إذ يقبل الرجال عراة الأقدام؛ ليفرغوا فيها عصيرهم الحلو وهو يفور بالزَّبَد، وإذ دقات المطارق على أخشاب الدِّنان تتردد من قبل الطنف القريب.

وعلى صهوة (أميرال) تنبعني نظرات الود من أعين الحصاد، وألج من باب إلى باب، حيث يتقابل البابان، يُفضي كلاهما إلى أخيه بفيض من الحياة والنور.

يديرون عشرين معصرة بالليل والنهار، وكم من جنون! كم من سَورة! كم من رجاء!

أما في هذا العام يا بلاتيرو فالنوافذ كلها مغلقة، ومعصرة واحدة كافية، وعصار واحد أو اثنان، يقضيان ويزيدان.

ولا بد لك من عمل يا بلاتيرو، فليس بالحسن أن تستسلم إلى الكسل طوال النهار.

إن الحمير الأخرى — بأوقارها الثقال — ترمق بلاتيرو بنظراتها، فلا تنظرن إليه شزرًا ولا تضمرن له سوءًا، وعليَّ أن أحمله بوقر من الكرم فأقوده على مهل إلى المعصرة، ثم أعود به ثانية وهم لا ينظرون.

النيازك

في سهرات شهر سبتمبر نجلس على الرابية وراء حائط البستان، نصغي على البعد بين أعطار الزنبق على شط البركة، إلى ضجة المدينة في محفل العيد، ويجلس — قبالتنا — (بيوزا) حارس الكرم العتيق مخمورًا يعزف على ربابته في ضوء القمراء.

وتبدأ ألعاب النيازك أخيرًا: تبدأ بفرقعتها الصماء، يتلوها صاروخ واحد يمضي مصعدًا، ثم يتنهد عن نفثات من الشظايا كالشرر في المقلة الزائغة؛ إذ يضاء لها الخلاء في أفواف من النور حمراء وقرنفلية وزرقاء؛ وإذ تنحني أقواسًا كأنها العذارى يطرقن للسجود. أو شجر الصفصاف يتدلى بالزهر المنضود وما أبدعها ثَمَّة منة!

وتسري القشعريرة في أوصال بلاتيرو، كلما ارتفعت فرقعة جديدة من صاروخ طواويس متوهجة في جنة من النجوم.

وتسري القشعريرة في أوصال بلاتيرو كلما ارتفعت فرقعة جامحة من صاروخ جديد، وكلما تناثرت شظاياها فتطاول تحتها ظله وتقاصر على سفح الرابية، أكاد ألمح الخوف بين حدقتيه السوداوين!

فإذا انتهى المحفل إلى أوجه، وارتفع من الشظايا المتفرقة إكليل القلعة الذي يبهر النساء فيغمضن العيون ويضعن الأصابع في الآذان؛ بلغ القمة عند بروج الكواكب، وخرج بلاتيرو ينهق كالمجنون بين دوالي الكروم صوب أشجار الصنوبر الساكنة، كأنها روح يطارده الشيطان.

الراعي

على قمة الرابية التي يصبغها المساء هنيهة بعد هنيهة بظلمائه المرهوبة، يجلس الراعي الصغير كالشبح الأسود قبالة الأفق الأخضر، ينفث أشجانه في قصبة المزمار تحت الزهرة — ربة الحب — متألقة في سمت السماء.

وبين أريج الرياحين التي تكاد تتجسم بعطرها كلما اختفت ملامحها وغابت في ظلالها، تشتبك رنات الجلاجل من قبل الخراف المسرعات، متفرقات متقاربات قبل أن يتلاقين في وجهة القرية على جادة الطريق.

– ليت لي ذلك الحمار يا سنيور!

كذلك صاح بي الصبي، أسود ممَّا كان بين النور والظلام، كأنه واحد من عابري السبيل الذين ألِفناهم في رسوم الإشبيلي الطيب برتلمي اسبتان.

وودِدت لو نزلت له عن حماري، ومن لي أن أعيش بغيرك يا بلاتيرو؟!

لقد كان القمر يصعد إلى الذروة على دير منتماير يريق ضياءه برفق وحنان على الأرض التي يخيل إليك أنها من مغاني الأحلام تحف بها أهداب هفافة لا تمسكها الأوهام. والصخور تتطاول، تتقارب، تمعن في الشجى والحنين، كلما علا نواح الماء في الجدول المختبئ عن العيون.

ونسمع الصبي ونحن نبتعد عنه يناجي نفسه بطمعه المسموع: أي. أي. ليت لي ذلك الحمار!

أميرال

أنت لا تعرفه. إنه ذهب قبل أن تجيء، ومنه تعلمت النبل كما ترى، وتلك هي البطاقة التي تحمل اسمه، وعندها سرجه ولجامه ومثواه.

ما كان أبهج اليوم الذي رأيته فيه يخطو إلى الرحبة لأول مرة يا بلاتيرو، مقبلًا من الكثبان يحمل بين جوانحه خزانة من القوة والمرح والحياة!

ما كان أجمله وأحلاه! أخرج به مبكرًا كل صباح إلى الساحل، وأركض به بين العيون، وأثير بركضاته سحبًا من الغربان حائمة حول الطواحين، ثم أُقبل به على الشارع الجديد، يتخايل في خطو ثابت وئيد.

وفي أصيل شتاء، جاءني بالمنزل السيد ديبون يحمل سوطه في يده، وترك على المائدة بضع ورقات من ورق العملة، ومضى إلى الرحبة مع (لورد)، ثم أنظر من النافذة عند المساء، فإذا بمركبة السيد ديبون في الشارع الجديد يجرها أميرال.

لا أدري كم غبر من الأيام بعد ذلك وأنا محسور كسير، وجيء بالطبيب فوصف لي البرومود والأثير وما لا أدري من العقاقير لأنام، وما زلت أذكره حتى ذهب الزمن بذكراه، كما ذهب بذكرى لورد والبنية الصغيرة، وكما ذهب ويذهب بكل ذكرى.

نعم يا بلاتيرو، كنتما خليقين أنت وأميرال أن تصبحا نعم الصديقين!

الأسطورة

منذ صباي يا بلاتيرو أكن في ضميري فزعًا من الأسطورة، ومن البيعة، ومن الشرطة، ومن مصارعي الثيران، ومن أرغن اليدين!

إن الخلائق المساكين التي تنطق بالهذر من أفواه القصاصين قد خلفت في نفسي نفرة منها، كنفرتي من أجسامها المتجمدة في متاحف التاريخ الطبيعي، وكل كلمة تفوه بها كانت تقع عندي موقع العين الزجاجية والجناح السلكي والأعضاء الملفقة من بضاعة التزوير المصنوع. فلما رأيت هذه الخلائق المروضة في والبة وإشبيلية لاحت لي هناك كأنها بقايا كابوس منسي من أيام صباي.

وكبرت يا بلاتيرو، فتعلمت من لافونتين كاتب الأساطير الذي طالما حدَّثتك عنه كيف أطمئن إلى الحيوان الناطق؟ وكيف أحسب بيتًا من أبيات قصيدة كأنه هو الصوت الذي يفوه به الغراب والحمامة والعنز؟! وتعوَّدت أن أعرض عن ختام القصة حيث تتعلق القطة، كما تتعلق الريشة المنبوذة والرماد المذرو في الختام.

ولا يخفى عليك يا بلاتيرو، أنك لست بالحمار بمعنى الكلمة الشائعة، ولا بالحمار في تعريف المعجم الذي وضعته الأكاديمية الإسبانية. إنما أنت حمار بالمعنى الذي أفهمه، ولك لسانك الذي لا ألحنه، ولا ألحن مثله لسان الوردة، ولا الوردة — هي أيضًا — تلحن لسان البلبل، أو البلبل يلحن لسانها. فلا تخشَ حين تراني أنظر إليك، وأقرأ في كتبي أن أجعلك بطلًا من أبطال الأساطير، يجاوب بلفظه المزعوم حوار الثعلب أو القنبرة، ويتشدق آخر الأمر بعظة الختام على منوال هاتيك الخواتيم.

لا يا بلاتيرو. حاشاك!

المساخر

اليوم جميل يا بلاتيرو!

إنه (إثنين) المساخر، والأطفال يتنكرون بالأقنعة الملونة والحلل الزاهية، وقد ألبسوا بلاتيرو عدة الركوب المغربية، مزركشة بالأحمر والأزرق والأبيض والأصفر من النقوش العربية.

والمطر، في صحبة الشمس، في صحبة البرد، في صحبة الشآبيب من قصاصات الورق أشكالًا وألوانًا من الشرفات تتماوج مع رياح الأصيل، والمعربِدون بفرحة العيد يدُسُّون أكُفَّهم يبحثون عن الدفء في طَيَّات الجيوب، وجمع من النسوة يلقانا في الميدان بثياب فضفاضة، يحكين بها ثياب اللائي مسَّهُن عارض الجنون، ويقبلن مرسلات الشعور، مزدانة غدائرهن بالرياحين والعطور، مُحدِقات ببلاتيرو يدُرن حواليه ويهربن منه وإليه، وهو بينهن كالعقرب التي أحدقت بها ألسنة اللهيب، يتلمس سبيل الهروب، ولا سبيل للهروب. ويستصغره النسوة فلا يخفنه ولا يبتعدن منه، ولا يزلن به عابثات لاهيات، ويقتدي بهن الصبية فيسخرون من حيرته وضيقه، ويركضون كركضه، ويصدعون الفضاء بنهيق كنهيقه، ثم يصفقون إذا أجابهم، ويُغدقون عليه إعجابهم، ويضطرب الميدان كله حولهم، خليطان من النهيق والضحك، ونفخات المزامير ودقات الطبول، وأصداء الأناشيد.

وبعد جهد جهيد يعتزم بلاتيرو عزمة رجل، فيخترق الحصار ويُفلت من الإسار، ويدنو مني مقشعرَّ البدن، عاريًا من العدة والرسن، ما له وما لي بهذه الألاعيب؟! كلانا في نَبْوَةٍ منها، وكلانا في جوارها غريب.

الموت

ألفيت بلاتيرو مضطجعًا على فراشه من الهشيم، ذابل العينين جد حزين، وذهبت إليه ورَبَّتُّ كتفيه، وحدَّثته ألاطفه وأواسيه، وأحاول أن أنهض به على قدميه.

وجاهد المسكين أن ينهض وهو يرتعد، فثنى قدمًا ووقف بقدم، إنه لا يقوى على القيام، فربَّتُّ كتفيه مرة أخرى ودعوت بالطبيب.

ونظر إليه الشيخ داريون ففتح فمه الأدرد، وهز بصلة رأسه ذات اليمين وذات اليسار، وراح يقول: لا أمل!

ولا أدري بِمَ أجاب، فالمسكين يموت، ولعله جذر من الجذور السامة أكَله في العلف بين الحشيش.

وعند الظهيرة قضى بلاتيرو، وانتفخ بطنه القطني كأنه كرة، وامتدت قوائمه متخشبة، وتساقط شعره كما يتساقط شعر العرائس الباليات، وأتلفَّتُ في الحظيرة الصامتة، فلا أرى إلا فراشة مثلثة الألوان تمر بالشعاع النافذ من الثقب، فتبدو كلما مرت به كأنها شرارة من اللهيب.

إلى بلاتيرو

بلاتيرو العزيز، حماري الصغير المحبوب، الذي حمل روحي — ليس إلا روحي — بين تلك الدروب من شجيرات الصبار والتين والعلند والياسمين.

إليك يا بلاتيرو، هذا الكتاب، منك ولك، وأنت قادر على فهمه الآن في ظلال النعيم. حيث تقيم روح الأرض الخضراء — أرض مقرة — التي لا بد لها من روح صاعد في جوار عليين، وعلى متنه من الورق ترتفع سريرتي، وتمعن يومًا بعد يوم في عالم الصفاء.

نعم إنني لأعلم كلما درجت في المساء على مهل بين شجر البرتقال إلى الصنوبرة التي تسهر على مرقدك الأخير، إنك في غبطة المروج الأبدية تلمحني من وراء تلك الزنابق البيض التي نبتت من فؤادك، كلما وقفت لديها أحييك.

إلى بلاتيرو في ثراه

إلى جانبك — لحظة — أُقبل يا بلاتيرو لأسكن إليك، لم أعِش، ولم يحدث شيء. كل ما هنالك أنك حي وأنني معك.

أعود إليك وحيدًا.

إن البنات والبنين اليوم نساء ورجال. وقد صنع البِلَى صنيعه بثلاثتنا — وأنت تعلم — فانطرحنا في صحرائه غانمين أنفس ما يغتنم. تلك ما نملك من قلوب.

قلبي! أجل عساه يكفي صاحبي معي. عساهم يفكرون كما أفكر. لا. بل معاذ الله. وحماهم الله أن يحملوا ما حملت من آلام وأوزار وسيئات.

بأية غبطة، وبأية راحة، أبثك ما أقول وأنت وحدك به عليم.

سأنظم أعمالي فأجمعها كلها في حاضر يرجعون إليه في عالم الذكريات، فلا يبقى لديهم من الماضي غير زهرة كالزهرة البنفسجية ذات لون وحيد تبث رياها في ظل ظليل.

إنك وحدك يا بلاتيرو في عالم الماضي، وما يغنيك من عالم الماضي؟ وأنت في العالم الذي لا زمان فيه، أنت الذي تملك ثروتك وافية — كثروتي أنا — وما هي إلا الشمس التي تتوهج كل صباح وتنبض بسرمدية الله.

مقرة ١٩١٦
١  غبياء: ملتفة الأغصان.
٢  الصوى: حجارة تكون دليلًا في الطريق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤