من جنوة إلى نابلي

لما حانت الساعة الثامنة مساءً أقلعت بنا الباخرة من ميناء جنوة تقودها باخرة صغيرة، وهنا ظهرت المدينة بجمالها البديع إذ تراها ملفوفة بالأنوار المتألقة الصاعدة بعضها فوق بعض حيث تتدرج المنازل المشيدة على سفح الجبل، مما صيرها تشبه مدينتَي رجيو ومسينا ليلًا، فوقف المسافرون في طرقات السفينة ليشاهدوا جمالها الرائع، وقد ظهر لنا أنها مشيدة على قوس من الجبل يحيط بالميناء الواسعة، فكان لهذا المنظر هزة في النفس وروعة في القلب. ولما خرجت السفينة من الميناء تلوت قوله تعالى: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا، فسارت تمخر عباب البحر، فجلست على كرسي استأجرته عند قيام الباخرة لأرى ضواحي المدينة الممتدة على مسافة بعيدة فوق التلال، ولأرى الأضواء تملأ الفضاء ضياءً وجمالًا، حتى وافت الساعة التاسعة والنصف مساءً، وقد كانت الباخرة تسير بهدوء وقد سرني ذلك كثيرًا، فذهبت إلى مضجعي لأريح نفسي من تعب اليوم، فنمت هذه الليلة هادئًا وقمت مبكرًا منشرح الصدر حيث لا اهتزاز ولا أمواج، لأن البحر كان رهوًا ساكنًا كالحصير تتجعد مياهه تجعدًا خفيفًا.

في صباح اليوم الثاني تناولت طعام الإفطار وجلست على كرسي أكتب مذكراتي، فجلست بجواري سيدة تلوح عليها مخايل الحشمة والوقار وطلبت مني مِبراة بلهجة عربية فسُررت بذلك وأعطيتها المبراة، فكانت واسطة التعارف. وقد أخذنا نتجاذب أطراف الحديث في شئون شتى، وعن أغرب ما شاهدناه من أخلاق القوم ورقي آدابهم في معاملاتهم واجتماعاتهم ومناظر البلاد التي تجمعت فيها محاسن الطبيعة، وغير ذلك مما يُعَد نموذجًا حسنًا لعلو الآداب وبلوغها درجة تقرب من الكمال، فألهاني حديثها عن مشاق السفر ومتاعبه وقتًا طويلًا، وقليلٌ في السفينة من يتكلم باللغة العربية، فكانت سلوتي عند شعوري بالمضايقة. ومما زادني ائتناسًا اتفاق هوانا في الحنين إلى رؤية أولادنا الصغار، وكانت أشد مني شوقًا كما هي عادة الأمهات، وتتمنى أن تطير لترى فلذات كبدها، فكنت أشاطرها ذلك، وقد علمت من خلال حديثها أنها سورية متوطنة القاهرة من زمن بعيد. وكانت السفينة تسير محاذية للشاطئ فظهرت المدن الإيطالية المشيدة أكثرها على المرتفعات، وبرزت الطبيعة بأبهى جمال وزينة، فكانت تسلية لقلوبنا وراحة لأفكارنا. وعلى الجملة فقد كان سير الباخرة سارًّا ونسيم البحر يهب فينعش قلوبنا ويحيي أفئدتنا فتتسرب إليها القوة والنشاط.

ولما حان وقت الغداء اجتمع من في الباخرة حول المائدة كأسرة واحدة يزينها إشراق الفتيات الجالسات بينهم، وكل شخص له مقعد معين لا يتغير مدة السفر، ولا يجلس عليه غيره ولو لم يحضر صاحبه.

ومما لفت نظرنا على المائدة أن سيدة ألمانية تصحب زوجها كانت تأخذ كمية كبيرة جدًّا من الطعام الذي يُقدَّم لنا ويقلدها في ذلك زوجها، مما لفت نظر جميع الآكلين، وقال صاحبي مازحًا: «إن من تكون هذه زوجته لا بد أن تهدد دخله.»

وقد رأيت شابًّا يلاحظني ذهابًا وإيابًا، ثم حياني وجلس بجواري وسألني بأدب: هل حضرتك فلان؟ فقلت له: نعم، فأعاد التحية وقال: إني كنت تلميذك، وأنا طالب الآن في مدارس ألمانيا، وأريد قضاء العطلة الصيفية في بلدنا بين أهلي وأقاربي. فسُرِرت به وحادثته عن حالة ألمانيا النفسية، فشرح لي كثيرًا من أخلاق أهلها مما يدل على علو تربية هؤلاء القوم.

وقد ظهر لي من كلامه أنهم لا يزالون يحافظون على قوميتهم، وما زال يحادثني حتى افترقنا عند العشاء، ثم عاد إليَّ بعد تناول الطعام ومعه طلبة من ألمانيا من سيليزيا العليا، لا يزيد سن أكبرهم عن سبع عشرة سنة، وعرفني بهم فملئوا عيني نورًا وقلبي سرورًا، وقلت: هكذا تحيا الأمم بأبنائها العاملين، سبعة طلاب اصطحبوا ليروا أخلاق وعادات الأمم المجاورة لهم فاخترقوا النمسا وسويسرا وزاروا أغلب بلادهما ثم زاروا أكثر مدن إيطاليا، وقد استمروا معنا حتى آخر ميناء إيطالية تخرج منها السفينة إلى الإسكندرية، لباسهم كلباس الأجناد، تلوح على وجوههم علامة الجد والنشاط والذكاء. فعجبت كل العجب لسماح آبائهم لهم بهذا السفر الطويل وتركهم يعتمدون على أنفسهم في اختراق هذه الممالك والبلدان، حتى يربوا فيهم ملكة الاعتماد على النفس في كل أعمالهم، لا يرهبون السفر والتجوال في مشارق الأرض ومغاربها إذا دعت الضرورة لذلك، فيشبون رجالًا مستقلين عاملين يعتمدون على أنفسهم في مباشرة أعمالهم. فمتى يصل أبناؤنا إلى معرفة هذا المعنى من الاعتماد على النفس، وحب الحَلِّ والترحال طلبًا للعلم أو المال.

ولو أحسنت وزارة المعارف صنعًا لشجعت طلابها على الرحلات العلمية، بأن تعطيهم مساعدة مالية وترسل معهم من يكون خبيرًا بأحوال تلك البلاد ودرس كثيرًا من آثارها ومتاحفها وعاداتها حتى يرشد الطلبة إرشادًا كافيًا، فيكون ذلك أفيد وأقوم لنفوسهم من هذه المعلومات الجغرافية التي تشحن بها أذهانهم من غير أن يعرفوا لها معنى، بل مجرد ألفاظ تُتلَى عليهم فيحفظونها ليكتبوها في ورقة الإجابة ولا تترك أثرًا في النفوس. فمتى عرف تلك المشاهد والمناظر والمتاحف تصغر قيمة نفسه في نفسه، ومتى رأى عظمة المدنية والحضارة وأثرها في مدينة لم يأخذ عنها في علم تقويم البلدان إلا أنها حاضرة مملكة كذا وأن عدد سكانها كذا وهي مشهورة بكذا … إلخ؛ علم أنه لم يعرف عنها شيئًا، وهذا ما جربته في نفسي.

ولقد كنت أعتقد أن جميع الأراضي كأرض مصر مدحوة، فإذا جلها تلال وجبال ووديان، ولم أشاهد سهلًا متسعًا إلا سهل لومبارديا في إيطاليا وجزءًا من شمال فرنسا. ويكون من المفيد جدًّا دراسة علم تقويم البلدان بالسنما (الخيالة)، حتى تُعرَض تلك المناظر الطبيعية بجبالها ووديانها وأنهارها، فتتكون لدى الطلبة معلومات حقة حصلوا عليها بالمشاهدة، فيكون الطالب كأنه جاب تلك البلاد ورآها رأي العين، وإن كان هذا غير كافٍ ولا يقوم مقام المشاهدة بالنفس والعين.

ولقد كان هؤلاء الطلبة الألمانيون موضع إعجابي واحترامي، ولما كانت هيئة ملابسهم تدل على فقرهم، وعلموا من الطالب المصري المتأنق في ملبسه أنه ينكر عليهم هيئة ملابسهم؛ أجابوه بأنها ملابس أُعِدَّت للسفر لا للتزين ولا للتنعم مع ملء الجيب ذهبًا، فوجدت الإجابة حسنة تدل على عدم حبهم للظهور والغرور، وأنهم شبان أعمال ومعارف لا شبان أزياء وخلاعة.

ثم افترقنا للنوم فنمت مستريحًا واستيقظت الساعة الخامسة والنصف صباحًا، وصعدت إلى سطح الباخرة فرأيتها قد أشرفت على ميناء نابلي وظهرت مبانيها الجميلة، وكان ذلك يوم الخميس الساعة السادسة صباحًا. فيكون ما قطعناه بين جنوة ونابلي ليلتين ويومًا في أحسن ما يكون من الهدوء وملاءمة الجو.

دخلت السفينة الميناء رويدًا رويدًا فظهر بركان فيزوف الثائر دائمًا، وظهر دخانه الذي انعقد فوقه فكوَّن عمامة بيضاء يظنها الرائي طبيعية. ورأيت زورقًا بخاريًّا قصد السفينة وارتبط معها بحبل متين واقتادها حتى قربت من المرسى، فأدار مؤخرها إلى البر ومقدمها إلى البحر حتى لا تُضطَر عند السفر إلى الاستدارة فتلاقي صعوبة. وبعد رسوِّها صعد الخدم ينادي كلٌّ باسم فندقه كالعادة.

وقد أقبل النساء اللائي ينتظرن أقاربهن وأحباءهن، وعند التلاقي أخذت القبلات تُتبادل والدموع تتساقط، مما يدل على طول الغيبة وكثرة الشوق ولواعجه.

فهاج هذا المنظر بلابلي وملك التأثر عليَّ مشاعري وكادت تسقط لذلك عبراتي، وتذكرت في هذا الموقف قول الشاعر يصف حالهم:

هجم السرور عليَّ حتى إنه
من فرط ما قد سرني أبكاني

ونزل الركاب الذين يقصدون مدينة نابلي وغيرهم ممن يريدون التفرج حيث ستبقى الباخرة في الميناء يومين، ولما كنت قد مكثت في نابلي مدة ورأيت أهم ما فيها، فضلت البقاء في الباخرة بقية اليوم على الخروج منها، واكتفيت وأنا بالباخرة بمشاهدة المنازل والجبال والضواحي مما يظهر من الميناء واضحًا جليًّا، حتى حان وقت الغداء فتناولناه. وبعد أن استرحنا قليلًا صعدنا فوق ظهر الباخرة، وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث مع من تعرفنا بهم حتى المساء.

ولما أصبحنا قمت من نومي نشطًا، فجاءني صاحب عرفته بالباخرة يعرف العربية والطليانية جيدًا، وعرض عليَّ أن أذهب معه لزيارة المدينة فلبيت طلبه وجلنا في أغلب شوارعها، وشاهدت بها ما لم أشاهده من قبل من تماثيل ومتاحف، رأيت جامعتها ضخمة البناء مزدانة شرفاتها بالتماثيل الكثيرة الجميلة، يحيط بها من الخارج بناء على شكل نصف دائرة، ورأيت متحف الآثار به من التماثيل والصور ما يجل عن الحصر، خصوصًا ما استخرجوه من مدينة بومبي وأحضروه بحالته الطبيعية سواء أكان مأخوذًا من الحوائط أم مستخرجًا من أرضها، ثم دار البلدية والشرطة وهي بناء عظيم، أمامها أكبر ميدان غُرِس بالأزهار الجميلة، أُقِيم فيه تمثال يمتطي جوادًا على قاعدة مرتفعة من الرخام لأحد ملوك إيطاليا، وغير ذلك من المناظر الجميلة.

وقد التقينا بالطلبة الألمانيين في أحد شوارع المدينة فساروا معنا، وفي أثناء السير وجدت طالبًا منهم اخترق الشارع بسرعة ووقف أمام رجل برهة من الزمن ثم عاد يحمل ورقة، فسألناه عن عمله هذا فقال: إني حصلت على إمضاء أكبر ممثل إيطالي في السنما (الخيالة)، فلما وقع نظري عليه عرفته أنه هو الممثل الكبير فرجوته أن يسمح لي بإمضائه، وهذه أكبر هدية أقدمها لأهلي في العودة إليهم. فقلت: ما أدق ملاحظات هؤلاء القوم حتى الصغير منهم! وما قيمة هذه الإمضاء التي سُرَّ بها هذا السرور واعتبرها أنفس هدية يقدمها لأهله؟! إن للقوة معاني ورموزًا لا نفهمها ولا نعيرها التفاتًا، وصلوا إلى درجة عظيمة في الملاحظة الدقيقة ومعرفة قيمة ما يعملون وهو في نظرنا لا اعتبار له، وما يدريك أن هذه الإمضاء ستكون لها قيمة فنية كبيرة على ممر الدهور والأعوام كما رأينا مثل ذلك في المتاحف المصرية؟!

ثم رجعنا إلى الباخرة لتناول طعام الغداء، وعند الساعة الرابعة ازدحمت السفينة بالركب المسافرين إلى قطانيا أو إلى مصر. ومن الذين نزلوا بالباخرة حضرة الشاب المهذب محمود بك عبده قنصل مصر في نابلي، ومعه محمود عارف الذي قيل عنه إنه سافر ليقتل دولة سعد باشا في باريس فقُبِض عليه في ميناء نابلي في شهر يوليو، وبقي مسجونًا إلى شهر سبتمبر حتى تمت المخابرة بين مصر وإيطاليا بشأن تسليمه، لأنها كانت تتمسك بعدم تسليمه في مقابلة عدم تسليم الطرابلسيين الذين التجئوا إلى مصر وأطلقت سراحهم وزارة سعد باشا، ولم تسلمه إلا بعد أن طلب هو العودة إلى مصر، ومع ذلك فقد أنزلته في السفينة التي قدم بها حرًّا والقنصل المصري قبض عليه داخل الباخرة، فسافر معه محمود بك إلى آخر ميناء إيطالية ووكَّل بحراسته جنديًّا مصريًّا.

وقد قابلت هذا الطالب وحادثني في شأنه كثيرًا، فاستنبطت من حديثه أن خروجه من مصر كان لخلاف بينه وبين والده، وأثبت ذلك بحوادث كثيرة دلت على اضطهاد والده له حتى كان سببًا في خروجه من وظيفته التي كان يتقاضى منها مرتبًا حسنًا، وليس في حديثه ما يدل على أن في طبيعته حب ارتكاب الجرائم لأن حديثه كان غاية في الصراحة، وكان يصحبه شيء من الأفكار الساذجة.

ولقد كان يسخط على الحكومة المصرية لاتهامه بما هو بعيد عنه بُعد السماء عن الأرض، ولأنها عرقلت مساعيه في عدم الحصول على بغيته بما كان معه من الدراهم التي ذهبت أيام سجنه، وقد وصف حالة سجن نابلي ومعاملة المسجونين فيه مما يدل على نهاية القسوة وخشونة المعاملة بدرجة لا يتصورها العقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤