مدينة نابلي

مدينة «نابلي» من أعظم مدن إيطاليا المعروفة بجمالها وبهائها وفخامة مبانيها وجودة هوائها وعذوبة مائها وكثرة غرائبها، تحفُّ بميناها العجيبة عدة عمائر ومبانٍ غاية في الإتقان والهندام، وتتصل هذه المباني العظيمة بالمباني المشيدة على سفوح الجبال والتلال حتى تصل إلى قمتها، وهي غاصَّة بالحدائق البديعة والخمائل العجيبة، فترى المنازل بحدائقها من بُعد قد رُصَّت بعضها فوق بعض بحالةٍ تقيِّد الأنظار وتحيِّر الأفكار. وأغلب شوارعها يبتدئ من أسفل التلال، والجبال صاعدة إلى أعلاها، فيعسر عليك الصعود إلى مبانيها المشيدة فوق روابيها، فتستعين ﺑ «الترام» الذي يصعد مستعينًا بالأتراس والسلاسل التي تمنع انحداره، وهنالك تتجلى لك مناظر ضواحيها ومزارعها ومبانيها فتقف مشرفًا عليها باهتًا لحسن منظرها وجمال موقعها. وعلى الجملة فإن «نابلي» تُعد من المدن الكثيرة المشاهد والمتاحف والغرائب، فلا يمل السائح الإقامة فيها ويمكنه أن يقضي وقتًا طيبًا وعيشًا هنيئًا.

figure
ميناء نابلي.

وشوارع المدينة إذا قيست بشوارع بعض مدن أوروبا تجدها متوسطة لكثرة الحركة والزحام والبيع والشراء، وحوانيتها غاصَّة بالسلع الرخيصة في جميع شوارعها. وأهم تلك الشوارع شارع «رومة» وهو يخترق المدينة من الشمال إلى الجنوب، ويمتد حتى تصل نهايته إلى البحر، ونهايته الأخرى تصل إلى الجهات العالية من التلال والجبال، والحركة فيه كثيرة مستمرة طول اليوم.

وفي المدينة ميادين كثيرة، أشهرها ميدان كافور بالقرب من المتحف العظيم الذي هو من أحسن متاحف إيطاليا.

(١) أهم مشاهد نابلي ومتاحفها

شوارع نابلي كثيرة الزحام والحركة والبيع والشراء والأخذ والعطاء، تموج بالذاهبين والآيبين، ولو رأيتها يوم الأحد وهي تكتظ بالناس لظننت أهلها يحتفلون بمقدم فاتح عظيم، فهي أكثر بلاد إيطاليا حركة وازدحامًا.

وقد أخبرني من له معرفة بإحصاء سكانها أن كل شخص منهم يصيبه متر ونصف متر من أرضها، ولذا ترى مركباتها الكهربائية مزدحمة بالراكبين الجالسين والواقفين، وما ركبت من محطة إلا رأيتها مزدحمة ازدحامًا يضطرني إلى الوقوف في أي وقت من النهار أو الليل. وأجور تلك المركبات ترتفع ليلًا، وكل راكب تُقدَّم أجرته بدون طلب من العامل غير محاول الخلاص من دفع الأجرة أو متهرب منها كما شاهدت عكس ذلك في مصر كثيرًا، وهذا خُلُق فينا تجب محاربته فيعرف كلٌّ واجبه وتسير الأعمال على محور النظام.

وقد ذكَّرني ذكرُ معرفة الواجب ما سمعته وأنا في مملكة سويسرة، أن أهلها يحتفلون بمحكمة من محاكمها مضى عليها خمس وعشرون سنة لم يُحكَم فيها في جناية. وسنذكر أمانة أهل سويسرة ومعرفتهم الواجب عند الكلام عليها.

وتكثر في مدينة نابلي العجلات المظلَّلة بالمظلات الجميلة لدرء حرارة الشمس والأمطار، لأن جوها يشبه تمام المشابهة جو مصر.

ولذا نجد المرطبات منتشرة في جميع نواحيها، ولقد طلبت مرة كوبًا من شراب الليمون من أحد الباعة فملأ كوبًا ماءً باردًا من صنبور دائم الجريان وعصر فيه ليمونة وقدمه إليَّ، فلم أقدر على تعاطيه لخلوه من السكر فدفعت له ثمنه وانصرفت.

وماء نابلي بارد جدًّا لأنه يأتي من مجارٍ تسيل من الجبال فتجري في الأنابيب المعدة لذلك إلى المنازل، فهي أعذب بلاد إيطاليا ماءً.

لم أرَ في أخلاق أهل نابلي سوءًا كما قرأت وسمعت عنهم كثيرًا من الغلظة والفظاظة والشدة في المعاملة، والتضييق على السائحين، والاستبداد في أجر الركوب والنقل. وقد سألت عن سبب تغير الحال فقيل لي إن حكم موسوليني ضيَّق على المجرمين والنشالين، وأوقع بهم العقاب الصارم، وزجَّ أغلبهم في السجون ولم تأخذه فيهم رحمة ولا شفقة، قد وقف لهم الشرطة بالمرصاد يسوقونهم إلى المحاكم ويعاقبونهم على أخف هفوة تصدر منهم، فتغير الحال وتحسن وأمن الناس على جيوبهم وحقائبهم. ومع انتشار الشرطي الفاشيستي في كل دُور الحكومة والمحطات، لا تخلو مكاتب التفتيش (الجمارك) وغيرها من الرشوة واغتنام الفرص لأخذها، فهم أكثر أهل أوروبا استعدادًا لها، فلم يقلع الحكم الفاشيستي من نفوسهم جذور الفوضى والإخلال في الأعمال والاضطراب فيها. وإنك لتتصور تلك الفوضى في أعمال البرق (التلغراف) من المقال الآتي:

لما أبحر صاحب المعالي ذو الفقار باشا سفير مصر إلى رومة، أرسل برقية من الإسكندرية إلى قنصل نابلي لينتظره على ميناها، فلم تصل البرقية إلا بعد نزول معاليه في نابلي واستلمها هو بنفسه! ولذا لم يجد أحدًا في انتظاره.

وهذا ما قصَّه عليَّ حضرة محمود بك عبده قنصل مصر في نابلي. كما أن البريد يصل متأخرًا عن ميعاده. وأمثال ذلك كثيرة.

(٢) قصر الملك

هو من أجمل قصور إيطاليا الملكية بعد قصر رومة، مزين من الخارج بتماثيل ثمانية من أشهر ملوك إيطاليا داخلة في الحيطان، مصنوعة من المرمر، بملابسهم الرسمية التي كانت تُستعمَل في أزمنتهم المختلفة، بحالة تدل على براعة المصورين الإيطاليين. وتشعر هيئة كل منها بما كان يتصف به الملك من حُسن خُلق وبشاشة وتواضع، أو حرب وشجاعة، أو كِبر وصلَف، أو حب للرعية أو بغض لها … إلى غير ذلك من المعاني والإشارات الرمزية.

figure
القصر الملكي بنابلي.

وقد رأيت داخل القصر ما أدهشني: رأيت صور وتماثيل ملوك الثمانمائة سنة الذين حكموا هذا البلد، وصورًا تاريخية رمزية تدل على حروبهم ومعاركهم وانتصاراتهم ووقائعهم، وكثيرًا مما كان يتصف به هؤلاء الملوك من العظمة والأبهة. وقد أرانا الدليل ردهة الرقص البديعة التي كانت تقام فيها المراقص للملك داخل قصره مموَّهة بالذهب ومحلًّى سقفها بصور الراقصات في أبهى حالة. يبلغ طول تلك الردهة خمسة وعشرين مترًا تقريبًا في مثلها عرضًا. ورأيت حجرة الملك التي كان يقابل فيها الوزراء غاية في الإبداع والإتقان والزخرفة والرسوم وأشكال الزينة، وفي صدرها عرش الملك مفخَّم مكسوٌّ جميعه بالمخمل الأحمر. كما أن حجرة انتظار الوزراء لا تقل قيمة وفخامة وعظمة عن حجرة الملك، مما يدل على قوة الملك وشوكته. وقد مررت بنحو ثلاثين حجرة كلها آية في الإبداع والزخرفة، مرصوفة أرضها إما بالخشب البديع أو الرخام الأبيض، محلَّاة بالصور التاريخية وكثير من هدايا الملوك والتحف والنفائس، وكل ردهاته الواسعة مفروشة بالمرمر والرخام الجميل. وعلى الجملة فإنه من أبدع القصور التي رأيتها، ومهما بالغ الإنسان في الوصف فإنه لا يقرب القارئ من الحقيقة إلا شيئًا يسيرًا وليس الخبر كالعيان. وقد تجلى لي من زيارة القصور الكبيرة جبروت الملوك واستبدادهم بأموال الأمة وصرفها على ملاذِّهم وشهواتهم وإشباع نفوسهم مما تميل إليه، وهذا ما دفع الشعب إلى الانتقام منهم والانقلاب عليهم والغدر بهم، وإلى فكرة الاشتراكية والشيوعية التي انتشرت وراجت في أغلب الممالك.

وأمام هذا القصر ميدان واسع، وقد شُيِّد في الجهة المقابلة له كنيسة كبيرة أمامها تمثالان يمتطيان جوادين على قاعدتين عاليتين من الحجر، يبعد كل منهما عن الآخر بمسافة تُقدَّر بنحو عشرين مترًا. وتُمثَّل في ناحية من هذا الميدان الروايات الهزلية ليلًا في قهوة من قهواته طلقة الهواء يتجمع داخلها وحولها كثير من الناس لرؤية الممثلين الهزليين، الذين يجيدون تمثيل الهزل بأحسن أنواعه مما يضحك المشاهدين ضحكًا عاليًا.

وبجوار هذا القصر مسرح «سان كارلو» وهو من أعظم مسارح إيطاليا، لكنه يُعطَّل صيفًا فلم نتمكن من رؤية داخله. ومما يلفت النظر متحف نابلي العظيم الذي يقصده كثير من الناس لمشاهدة ما به من التماثيل والنقوش البديعة والحُجَر الكثيرة، التي مُلِئت بالنقوش على الأحجار والتماثيل الرخامية والصور الزيتية التي لا تُعَد ولا تُحصَى مما يعجز الكاتب القدير عن وصفها. وهو من أحسن متاحف إيطاليا، نُقِلت إليه آثار مدينة بومبي فشغلت منه جزءًا كبيرًا.

ومما زرته في هذه المدينة حديقة الأسماك، وفيها أمواه داخل ألواح زجاجية جُمِعت فيها أغرب أنواع الأسماك، فمنها ما يقرب شكله من الطير، ومنها ما يماثل الأحجار أو الأزهار، بعضها ينقبض وبعضها ينبسط، وكلها في حياض من البلور يتجدد ماؤها من وقت لآخر. وقد رأيت فيه السمك الكهربائي الذي إذا مسه المرء شعر بقوة كهربائية ينتفض لها جسمه. وعلمت أن بعض الحكومات الأجنبية تدفع لحكومة إيطاليا إعانة تنشيطًا لجمع ما يمكن جمعه من الجزر والخلجان.

figure
داخل مسرح سان كارلو بنابلي.

ومما هو غريب المنظر في هذه الأسماك نوع ينضم بعضه إلى بعض ويسبح في الماء حتى يدخل في أنبوبة زجاجية من أسفلها، ومتى ظهر على سطحها انبسط على هيئة وردة حمراء، ثم ينقبض ويسبح في الماء ويدخل في الأنبوبة، ومتى وصل إلى سطحها انبسط وردة صفراء. وهكذا تجري هذه العملية مرارًا وتكرارًا مما يبهر الإنسان فيقف أمامه باهتًا حائرًا، ولا يتسنى له الحكم عليه أهو حيوان أم نبات. وهذا المعرض من الأسماك يقل نظيره في ممالك العالم.

ومن العمارات التي انفردت بها إيطاليا في أكثر مدنها ما يُسمَّى عند أهلها ﺑ «الجلاريا»، وهي تظهر للناظر كأنها معبد ديني عظيم لضخامة التماثيل المقامة في أعالي أبوابها الأربعة، وهذه الأبواب كشوارع تتقاطع على شكل صليب مسقوفة بالزجاج، وعلى نقطة ملتقاها قبة عالية من الزجاج. وتُرَى داخل الجلاريا القهوات والحوانيت الخاصة بالسلع الغالية الثمن والمجوهرات الغريبة ومحال التمثيل والخيالة «السينما». وأرضها مرصوفة بالرخام الأبيض، يزدحم ازدحامًا شديدًا وقت العصر بالمتفرجين والجالسين على قهواتها، وقد جلست على بعضها وطلبت قهوة فلم يلذُّ لي طعمها لشدة مرارتها مع كثرة سكرها لأنهم يغلونها كما يُغلَى الشاي، ولذا تجدها عديمة الفقاعات على وجهها. ولم أشرب قهوة لذيذة في أوروبا إلا في السفارات المصرية، لأنها على الطريقة المصرية المعروفة.

(٣) بركان فيزوف

إذا نظرت إلى بركان فيزوف من أعلى مدينة نابلي أو من ميناها، تجلَّى لك منظر يدخل في قلبك الروعة والرهبة، تنظر جبلًا شاهقًا يخرج من فوهة في قمته دخان متصاعد مصحوب باللهب لا ينقطع ليل نهار، وإذا قربت من فوهته سمعت دويًّا عظيمًا يرعبك ويزعجك حتى تهم بالفرار، وعقب هذا الدوي وتلك الفرقعة يخرج الدخان الكثير مصحوبًا باللهب، وكل خمس دقائق تقريبًا تحصل هذه الفرقعة والدوي فهو دائم الجيشان.

figure
جلاريا «أمبرتو الأول» بنابلي.
figure
ميدان دانتي بنابلي.

وقد قامت شركة «كوك» المشهورة في العالم كله بتنظيم رحلات بقيمة ١٢٠ ليرة سهَّلت الصعود إلى قمته بسكة حديدية يسير عليها قطار يجر عجلات، ويساعده آخر من الخلف يسير بأتراس ومشابك تمنع انحداره. ويدخل الرعب في قلوب الركاب عند قطع آخر محطة لأنه يصعد في علو قليل الميل، وأغلب السائحين يزورونه ليلًا أيام الصيف خصوصًا الأمريكان لاستنشاق الهواء الجميل النقي، ولمشاهدة طرقه المنارة بالمصابيح الكهربائية التي تظهر للرائي منظرًا بديعًا يأخذ بالألباب، ولو رأيتها بالليل لرأيت أسلاكًا ضخمة من النور ممتدة على مسافات بعيدة صاعدة من أسفل الجبل إلى أعلاه.

وقد تجلى لنا البركان بظهور تام عند خروجنا من ميناء نابلي ليلًا حين العودة.

وإنه ليأخذك العجب عندما ترى المنازل المتعددة في أسفله وفي نواحيه منتشرة هنا وهناك، وقد أمن الناس غضبه وصولته واضطرابه وهيجانه.

ومنظر نابلي بالليل جميل جدًّا لكثرة الأنوار الكهربائية بشوارعها ومنازلها الصاعدة من أسفل جبالها وتلالها إلى أعلاها.

وفي نابلي ترى أنواع الخضر والفاكهة كثيرة جدًّا ورخيصة الثمن، وهي كبيرة الحجم لذيذة الطعم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤