من ميلانو إلى سويسرا

قمنا من مخادعنا مبكرين وقد اعتزمنا السفر إلى مملكة سويسرا الساعة السابعة صباحًا، وبعد أن أعددنا حقائبنا امتطينا سيارة الفندق إلى المحطة، وهناك وجدنا مرشدًا من خَدَمته في انتظارنا فأرشدنا إلى القطار، ولكنه لم يعين لنا المركبة التي تسافر إلى سويسرا حتى لا نُضطَر إلى التغيير في محطة أخرى، لأن القطار يجر عدة مركبات كُتِب على كل منها الجهة التي يقصدها المسافر لأنها تنفصل منه عند محطات معروفة، وقد أخطأنا المركبة التي تذهب مباشرة إلى مدينة لوزان من مدن سويسرا، ولكن كان في الوقت بقية فنقلنا حقائبنا قبل فواتها، ولذا تمكنَّا من وجود محلَّين لي ولزميلي، وقد ازدحم القطار بعد ذلك ازدحامًا شديدًا. وفي قُطُر أوروبا يمكنك أن تحجز محلًّا لك قبل السفر بيوم أو أقل منه برقم يُكتَب على تذكرة السفر يوافق رقم المحل الذي حجزته، ولك الحق أن تطلب من الجالس فيه أن يتنحَّى عنه فلا يتأخر متى أظهرت له رقم المحل على تذكرتك.

ولما وافت الساعة السابعة دقت الأجراس التي تشبه أجراس الكنائس إيذانًا بقيام القطار فتهيَّأنا لرؤية ضواحي المدينة من نوافذه، فإذا بها منازل متفرقة تفصل كلًّا منها عن الأخرى حديقة غنَّاء تحيط بها الخضرة والمزارع إحاطة السوار بالمعصم. وبعد ساعة من سير القطار ظهرت لنا جبال الألب العظيمة الشاهقة، فسار القطار فيها منعرجًا ذات اليمين وذات اليسار تبعًا لما زُلِّل منها. وكان لسير القطار منظر يأخذ بالألباب فتارة يصعد بنا فوق ربوة عالية وأخرى يدور حول الجبال وطورًا يدخل في نفق ودخان القطار يعمل فينا عمله، وأخرى يعبر قنطرة ممتدة فوق وادٍ عميق مثبَّتة أطرافها في جبلين متقاربين فترى الوديان والمنازل هنا وهناك كأنها الحمائم الطائرة في حدائق عامرة، وجميع سفوح الجبال مكسوَّة بالأشجار الباسقة فتزيدها عظمة وجلالًا. ومرةً ينزلق بين جبلين متقاربين يكاد الراكب يلمسهما باليد مع العلو الشاهق الذي يرجع البصر خاسئًا وهو حسير، وكان المنظر مؤثرًا في النفوس خصوصًا لمن لم ير مثل هذه الجبال التي تكاد تناطح السماء بعلوها الغريب، ولذا كنت لا أسمح لنفسي بالجلوس لأمتع النفس والنظر بتلك المشاهد الجميلة التي أثرت في نفسي أثرًا لا تقوى على محوه يد الزمان.

ومما يدعو إلى العجب أنه لا يوجد في هذه الجبال جزء خالٍ من الأشجار الضخمة والمزروعات الكثيرة التي يقوم بها فلَّاحو تلك الجهات، فإن لهم صبرًا كبيرًا على معاناة الزراعة على سفوحها. وما زلنا سائرين نمتع الطرف بتلك المشاهد والقرى والفلاحين ومواشيهم حتى وصلنا إلى محطة الحدود بين إيطاليا وسويسرا، وهنا كثر الزحام واختلط الحابل بالنابل لتغيير الناس مركباتهم إلى الجهات التي يقصدونها. ولقد جاء مفتش إيطالي لتفتيش حقائبنا لعله يجد فيها شيئًا ممنوعًا حمله، ولما كان القطار شديد الزحام والحقائب كثيرة مكدسة بعضها فوق بعض كان يسأل عما في حقائبهم أسئلة تنم عن الكسل فيجيبونه بما يصرفه عنهم، ويتبع المفتش خمسة من الرجال يساعدونه في ذلك حتى يتم تفتيش القطر، وقد أخذ منا جواز السفر «الباسبورت» ورده إلينا بعد التأشير عليه حين قيام القطار، وقد لبثنا في هذه المحطة ساعة وربع ساعة ثم برحها القطار متجهًا نحو أرض سويسرا. وهنا يقف القلم حائرًا متعثرًا في أذياله كيف يصف فخامة المنظر وتجليها بأبهى مناظرها وأبدع معانيها وقد ابتدأت الجبال تعترض القطار بكثرة، ولذا كثر اختراقه للأنفاق وانتشر دخان الفحم في المركبات حتى ضاقت أنفاسنا وبلغت الروح الحلقوم، وما زلنا كذلك ندخل في نفق ونخرج من آخر طول هذا الطريق — وقد يبلغ عدد الأنفاق نحو الستين — حتى وصلنا إلى أطول نفق فيها وهو النفق المعروف باسم «سمبلون» أو «سان غوثار».

(١) نفق سمبلون

هذا النفق يخترق جبلًا شاهقًا من جبال الألب العظيمة المشهورة التي ليس في أوروبا أرفع منها قمة ولا أفخم منظرًا ولا أوعر مسلكًا، ولمَّا مُدَّت السكك الحديدية في أغلب ممالك أوروبا وربطت أجزاء الممالك بعضها ببعض، كان من الضروري أن ينشأ خط حديدي يربط أغلب الممالك بعضها ببعض خصوصًا إيطاليا وسويسرا وألمانيا، ولمَّا كان لا مفر من اختراق هذه السكة جبال الألب وكانت النفقات باهظة لا تتحملها مملكة واحدة، تعاونت على إنشائها إيطاليا وسويسرا وألمانيا واستغرقوا في تذليلها وتمهيدها مدة لا تقل عن تسع سنين، أنفقوا في خلالها مليونًا وأربعمائة ألف كيلوجرام من الديناميت لنسف تلك الجبال الهائلة. يدخل القطر في جوفه فتظلم الدنيا وتصبح في ليل دامس ويظل سائرًا سيرًا حثيثًا نحو خمس وعشرين دقيقة، وهنا يعتري المسافر فزع وخوف ورهبة تمنعه من الكلام متى فكر أنه يسير تحت الأرض تعلوه جبال الألب العظيمة. ومتى دخل القطار جوف النفق سار بالكهرباء وحبس دخانه الذي كان يضايق الناس قديمًا حتى سئموا المرور منه والسير فيه، وكل عدة أميال يظهر لنا محل تسطع منه الأنوار الكهربائية فتضيء جزءًا كبيرًا منه، ولشدة سير القطار وسرعته لا يقوى الإنسان على الانتقال من مركبة إلى أخرى والوقوف في طرقاتها، والناس إذ ذاك في سكون رهيب فتهلع القلوب وتكفهر الوجوه، ومتى خرجوا منه تهللت وجوههم بشرًا وأخذ كلٌّ يقص على أخيه ما كان يجول بخاطره في الفترة التي قضاها في جوف الأرض.

(٢) سويسرا

آية في الكمال والجمال ولا يسهل على واصف وصف مناظرها الطبيعية وجمال جبالها ومحاسن بحيراتها ورقي أخلاق أهلها ومرُوجها ومزارعها، فهي كعبة المتفرجين ووجهة المتنزهين ومهبط السراة والموسرين ومصيف السائحين، وهي فردوس أوروبا وجنتها الفيحاء وحديقتها الغناء وعلَمها المنشور ولواؤها الخفاق، ريحانة النفوس وسلوة المحزون وجنة الضَّجِر وملجأ الخائف وملاذ العائد، تجمعت فيها محاسن الطبيعة وتجلت بأبهى مناظرها وأكمل بدائعها فجمعت محاسن الجبل والوادي والسهل والنهر، تتخللها بحيرات كثيرة جميلة تحفها الأشجار والأزهار تناسقت فيها تناسقًا يسحر الألباب ويريح النفوس ويزيل الكروب والهموم، بها جبال شاهقة تناطح السماء بعلوها فيتقطع السحاب فوق قممها وتتوجها الثلوج اللامعة المحتاطة بالدوحات الباسقة، فكأنها مرآة يحيط بها إطار من سندس.

بأي لسان أعبر، وبأي بنان أسطر عن تلك المشاهد والمناظر، التي تجمعت فيها قوى الطبيعة وتضافرت، وعرضت من أنواع المحاسن ما يملأ النفس عظة واعتبارًا؟! فبينما تسير في سهل نسقته يد الطبيعة بأبهى الأعشاب وأبهج أنواع الزهر والأشجار، إذ بك على حافة جدول لمائه خرير يلذ له السمع وينشرح له الصدر، كأنها أوتار أعواد حركتها يد عازف حاذق فأثرت في النفس تأثيرًا عميقًا، وقد رُصِفت الجوانب بوَشْي من الخضرة، وأنواع من الزهر تحيط بك من كل جانب. حتى إذا غاب فكرك فيما أبرزته يد الطبيعة وما أبدعته يد القدرة، وجدت نفسك فوق جسر عظيم ثُبِّت طرفاه في ناصيتَي جبلين وتحته الوادي تجري فيه الأنهار وتحف به المزارع والأشجار.

حتى إذا اجتزت ذلك الجسر سرت إلى جانب المجرى متعرجًا ذات اليمين وذات اليسار، كأنما القطار أفعى تنساب بين الحشائش والوديان فيبهرك ذلك المنظر ولا تدري إلى أي الجانبين تنظر، أإلى الوادي وما فيه من المروج الأريجة والضفاف البهيجة، ومنازل قد التفت حولها الأغصان على شكل بديع وتنسيق غريب، وماء ينسكب فينسيك متاعب الحياة وأحزانها، أم إلى الجانب الآخر حيث ارتفعت الجبال وطالت حتى غاصت في أحشاء السحاب التي تتساقط منه كرات البَرَد كأنما هي اللؤلؤ المنظوم والدر المنثور، ومما يزيدها بهاء تتويج قممها بالثلوج، ومن دون الثلج صخور تكسوها الأشجار الوارفة، وقد جرت من بين تلك الصخور والجبال جداول من ماء معين يتدفق في تلك المسالك الجميلة تدفقًا يروق الناظر ويسر الخاطر ويتساقط من سفوح الجبال، فيريك أعجب ما ترى من أشكال الجنادل، وخصوصًا عندما تغيب آونة وتظهر أخرى بين تلك المسالك التي يعشق القلب حسنها مما تمثل للرائي منتهى الإعجاز في الجمال الباهر!

ومهما بالغ الإنسان في وصف تلك المسالك وأراد أن يبرزها في ثوبها الحقيقي، فإنه يرجع من وصفه بخفَّي حنين ويرضى من الغنيمة بالإياب.

كناطح صخرة يومًا ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

(٣) سويسرا

ما زلنا سائرين في وسط هذه المروج وعلى سواحل البحيرات الكثيرة المتعرجة، التي تسحر الألباب وتذهل العقول. وتزيد هذه الشواطئ رونقًا وبهاءً وحليةً وجمالًا المنازل المنتشرة عليها كأنها الدر المنثور في نحور الحور، حتى أشرفنا على جبال لوزان النضرة وتلالها المكسوة بأنواع الأشجار والأزهار بعد سفر ثماني ساعات فداخلني سرور امتزج بكل ذرة في جسمي، وقلت: أصحيح أنني في بلاد أشبه بحديقة غنَّاء في وسطها مصايف من أجمل ما بنى المهندسون ونقش النقاشون؟! فالدُّور على اختلاف هندستها تفيض بهجة ونضرة ونظافة وزينة فهي جنة أوروبا، بل جنة الدنيا بأجمعها ومدرسة العمل العليا، وأبهج مصيف ومشتى لملتمس الراحة والسلوى. إن نفسي ستطمئن ويرتاح فؤادي من الإقامة في مدينة من أبهى مدن سويسرا، التي ضمت شمل المدنيات العصرية ووضعت على مفرقها تاج البدائع الأرضية والسماوية، بلاد خُصَّ كل شبر منها بمزية وتناولتها الأيدي بالتحسين، فلا يتصور العقل الآن أرقى من نظامها ولا أبدع من طرازها وهندامها، فهي زبدة جهاد القرون والأعصار، المغبوطة من جاراتها بل من أهل الغرب أجمع، فلم تسل سيفًا لقتل النفوس لتمتلك الأحرار وتصفدهم بقيود الذل والاستعباد، ولا ظلمت شعبًا هادئًا مطمئنًّا لاستصفاء حقله وامتصاص دمه وابتزاز أمواله، ولا هتكت أستارًا وأعراضًا لتغنم عروضًا وأعراضًا، بل رحبت بالمظلوم وحمت الفار من أيدي الظلمة والجبارين، ولم تهمل حق من التجأ إليها واحتمى بحماها واستظل بظلها، فلسان حالها يقول:

لنا جبل يحتله من نجيره
منيع يرد الطرف وهو كليل

فهي أكرم مثوى لوافد مغموم ومحزون محروم، ومعهد يعلم الطالب تعليمًا مجردًا من النزغات المذهبية والنزعات السياسية، ومسلاة كل متعب راغب في التفرغ لنفسه.

لقَّنت الأمم معنى الحكومة الصالحة والأنفس العالية، فقد سمعت وأنا بها أنه احتُفِل في محكمة من محاكمها بمضي خمس وعشرين سنة لم يُحْكَم فيها بجناية! فهي تحتفل برقي الأخلاق وكمال الآداب ومعرفة الواجب، وتضرب المثل الأعلى للأمم والشعوب، ومثَّلت لهم احترام حق الغير أحسن تمثيل، وجوههم هاشَّة باشَّة للقريب والغريب. شعب غني بآدابه بعيد عن المعايب والنقائص، فما أسرع إقبالهم عليك إذا رأوا منك ميلًا للاسترشاد بهم! بأدب يشف عن مكارم أخلاق وحُسن ذوق ورقة شعور، ترتاح نفسك إليهم وتشفق من إلقاء السؤال عليهم.

يُخيَّل للناظر أن هذه البلاد الواقعة بين أربع ممالك راقية فرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا، قد أخذت من مدنيات هذه الممالك أطيبها ومحاسنها، فأصبحت علَمًا ومنارًا يُهتدَى بها ومجمع الآداب في الآفاق وآية المحاسن والجمال.

تدخل الفنادق الكبيرة أو الصغيرة ومنازل الأغنياء والفقراء تجدها كلها متناسقة في نظامها وحُسن ترتيبها وهندامها، وتشاهد المخازن والحوانيت على هذا الطراز صباح مساء.

وما أنسى نظافة الفندق «أوتيل عدن» الذي نزلنا به بمدينة لوزان المطل على بحيرة ليمان ومن ورائه جبال الألب، به عدة أطناف كنا نجلس فيها ونمتع الأنظار بجمال الطبيعة، التي تُذهِب عن المكروب كربه وعن الحزين أحزانه.

ثلاثة يذهبن عن القلب الحزن
الخضرة والماء والوجه الحسن

ومما يزيد النفس سرورًا كثرة البواخر التي تمر أمامك تشق مياه هذه البحيرة حاملة المتفرجين والمتنزهين والراغبين في رؤية المدينة، التي نُظِّمت ونُسِّقت على شواطئها، ومشاهدة ما اشتُهِرت به من المناظر البديعة وصنوف الجبال وقُطُر السائحين والمتفرجين. ولقد كنت أعجب كل يوم من رؤية الخادمات وما يقمن به من تنظيف البلاط إلى تنظيف الستور والنوافذ، ونظام أغطية الأسرة والكراسي والمقاعد والمناضد وترتيب التحف والصور الصغيرة، إلى غير ذلك مما لا يخلو منه فندق. وليست هذه النظافة خاصة بالمنازل والفنادق، بل تشاهد ذلك في الشوارع والأزقة فإن الأوساخ الخفيفة لا تلبث أن تُطرَح حتى تُكنَس.

والأمم النظيفة هي التي تعشق النظافة وتحب أن ترى كل شيء في مكانه، وتتألم ألمًا مبرِّحًا إذا شاهدت عكس ذلك. والنظافة عندهم تستوجب من الأفراد والحكومة عملًا متواصلًا، وتستدعي أن تحث عليها الحاكم والمحكوم حتى يتعاضد الكل في العمل كما هو الحال في بلاد سويسرا، ولذا فإن بلدياتها تنفق كثيرًا من المال لتجعل البلاد في هذه الحالة من النظافة، التي يعجب لها أرقى الأمم حضارة.

وإذا نظرت إلى بلادنا وجدت انصرافًا عن النظافة كبيرًا، فلا يكاد يقع نظرك إلا على أقذار في الشوارع والأزقة والساحات بل في البيوت والحوانيت، لأن الأفراد لم يشبوا عليها ولم يألفوها فنَبَتْ عنها طباعهم مع عدم اهتمام الحكومة بها، كأنها لم تأخذ ضرائب على المنازل والحوانيت. وما كانت النظافة حديثة عند السويسريين بل هي نتيجة تربية طويلة وملاحظة شديدة، حتى تعوَّدوها وزاولوها مزاولة انطبعت في نفوسهم وامتزجت بدمائهم فأصبحوا فيها أرقى من الطليان والفرنسيس.

وللتربية العلمية والعملية المقام الأول في نظافة هذه الأمة ونهوضها وبلوغها درجة تقرب من الكمال في كل شيء، حتى فاقت جميع الأمم رقيًّا وأخلاقًا وعملًا وحرية وطمأنينة على أنفسهم وأموالهم، ولذا فإن كل فرد يسير في عمله مطمئنَّ البال هادئ النفس مرتاح الضمير.

وقد قال بعض الباحثين: إن هذه الأخلاق الراقية نشأت عن امتزاج الفكر الجرماني بالفكر اللاتيني، فأخذ السويسري عن الألماني صفات التدين والرزانة والشعور بالتضامن والنظام والثبات، واقتبس من اللاتيني البشاشة والأدب وجودة الحكم وحُسن التقليد والظُّرف.

والسويسري على اختلاف أصوله ولغته فرنسيًّا كان أو ألمانيًّا أو إيطاليًّا قليل الفضول، لا يسألك في الفندق ولا في الشارع إذا تعرفت إليه عن مقاصدك ولا يتبع عوراتك، ولمَّا ترك السويسريون الناس وشأنهم في هذه البلاد نشأ في أمم أوروبا وأمريكا حُسن الظن بهم، فاختاروا سويسرا مصيفًا ومشتًى.

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

(٤) مدينة لوزان

هذه المدينة بديعة المناظر فخمة المباني مشيدة على سفح جبل أكسب مناظرها جمالًا وعظمة، شوارعها منحدرة إلى بحيرة جنيف، غاية في النظافة مرصوفة بالأحجار والأسمنت، منسقة تنسيقًا بديعًا، ترتاح النفس إليها وترغب السير فيها، وإن كانت كثيرة الصعود والانحدار، منازلها غاصَّة بالحدائق والأشجار، تتدلى فواكهها في الشوارع فلا تلمسها يد لامس مع أنها قريبة المنال، والسائر في ضواحيها كأنه يسير وسط حدائق غناء، فاكهتها كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة. مساكنها ليست ضخمة البناء ولا عظيمة الارتفاع كما في إيطاليا وفرنسا، فلا يزيد أكثرها عن ثلاث طبقات مزينة في أطنافها وشبابيكها بالأزهار وأنواع الأشجار المتسلقة التي تصعد حتى آخر البناء، فلا يظهر منها إلا نوافذ مكتنفة بالحشائش فأراضيها خضراء وحوائطها خضراء وسقوفها حمراء.

فكأنها أعلام ياقوت نُشِر
نَ على رماح من زبرجد

يفصل كل منزل عن الآخر حديقة شهية الأزهار، جميلة التنسيق، بديعة الترتيب، فكأن المنزل روضة عظيمة امتدت أغصانها واشتبكت أفنانها وتدلَّت فواكهها، تفتن الألباب بحسنها وجمالها وزهرها وأغصانها مما يقر العين ويشرح الصدر.

وقد شُيِّدت على خمسة تلال ممتدة على شاطئ بحيرة جنيف، وقد زرنا ضاحية من ضواحيها يحف منازلها البحيرة، فرأينا آيات الجمال والفخامة وحُسن المنظر مما يعجز عن وصفها الواصفون ويقصر عن نعتها الكاتبون، تجولنا في شوارعها وطرقاتها ومنحنياتها ومنعطفاتها، مضينا فيها مدة كانت من أشهى أوقاتنا. وقد دعانا جمال البحيرة، وما نُظِم على شواطئها من المباني والقصور والحدائق إلى أن نركب زورقًا، فاخترنا من أجملها واحدًا، وسار يخترق بنا ماء البحيرة الهادئ الذي يتجعد سطحه من النسيم فينحسر عن زرقة جميلة، يحف الزورق كثير من الطيور والبجع، فجمعنا بين طرق وُشِّيت جوانبها بأنواع الأشجار إلى زرقة في الماء وزرقة في السماء وجمال طيور تسبح في الماء.

وبمناسبة تلك النزهة أذكر أننا ساومنا صاحب الزورق في الأجر فكانت أكثر مما كنا ننتظر لما أُضِيف إليه من أجر المجذِّف، فأردنا أن نعتذر له بأن ليس معنا من الدراهم المصروفة ما يكفي أجر الزورق فأجابنا بكل لطف وهدوء بأنه إذا لم يكن معكم ما يكفي فأحضروه غدًا، فذُهِلت لإجابة هذا النوتي وقلت: عجبًا لرجل يعرف أننا من السائحين ولسنا من أهل بلده، ويأمن أن نرجع له بالأجر غدًا بعد أن ننصرف عنه، وما عهدنا عاملًا قبله صنع مع من لا يعرفه مثل ما صنع! ما هذه التربية التي غُرِست في نفس هذا العامل الصغير حتى جعلته يأمن من لا يعرفه؟! لأنه شب على هذا وعامل الناس بها فلم يعرف غيرها ولم يتسرب إلى نفسه الخبث والشر، فيظن غيره مثله فيعامله بما طُبِعت عليه نفسه من الشرور والآثام. فما أطهر قلبه وأتقاه! وما أنفس هذه التربية التي جعلت أحط طبقة في الأمة كأكبر رجال الأخلاق والآداب! إذا كان هذا شأن نوتيٍّ في الأمانة وطهارة قلبه من الرجس والأدران فما يكون حال الطبقة المتهذبة الراقية؟ أعتقد أنهم لا يأتون عملًا ينافي الذوق والآداب، محافظين على احترام القوانين، عرف كل واجبه فنُزِع الغل من صدورهم فأصبحوا إخوانًا متآلفين لا تحدث نفس أحدهم أن يرتكب جريمة ضد الواجب والقانون، لا يعامل أخاه بما لا يحب أن يعامل به نفسه. فاستراح الشرطي واطمأنت نفوس الناس على أموالهم وأرواحهم، فسار كلٌّ في عمله هادئ البال مطمئن الخاطر مرتاح الضمير، فلا تقع عينك على شرطي يراقب حركات السائرين والراكبين ليرشدهم إلى واجبهم، ولم أرَ شرطيًّا إلا مرة واحدة في بعض شوارع مدينة جنيف. وبعد أن حللنا مدينة لوزان رأينا أننا انتقلنا من جو إيطاليا الحار إلى جو بارد قد كُسِي بالغيوم السوداء واحتجب عنا ضوء الشمس إلا قليلًا مع انسكاب الأمطار أغلب اليوم، فاعتقدنا أننا أصبحنا في شتاء لشدة البرد وتوالي سقوط المطر والرعد القاصف والبرق الخاطف، فأسرعنا إلى تغيير ملابسنا الصيفية بملابس شتوية، لأنا قد حسبنا هذا الحساب من قبل، وكنت لا أقوى على الجلوس في حجرتي بدون معطف ثقيل يحول بيني وبين البرد.

figure
بحيرة ليمان.

ومما يسر الناظر أنك لا تجد قطرة من المطر تبقى بعد نزوله على الأرض لكثرة الاستعداد لتصريف مياه الأمطار، ولذا فإن عقب سقوط الأمطار تصبح الشوارع كأنها مرشوشة رشًّا خفيفًا، ويكون لمنظر حدائقها المرصعة بقطرات الماء بهاء ورواء.

وهناك كنا نأكل في اليوم ثلاث أكلات ممتعة بشهوة عظيمة مع الهضم السريع المنظم، فلا يشكو الإنسان سآمة ولا مللًا ولا وجعًا ولا ألمًا، وقد أحسسنا بنشاط وصحة وعافية. ويغلب على ظني أن هواء لوزان وجوها من أحسن الأجواء في سويسرا، وقد لاحظت على وجوه أهلها دلائل الصحة والعافية، يترقرق في وجوههم ماء الحياة علتها حمرة الورد، سواء في ذلك الرجال والنساء الكبار منهم والصغار.

ومما يشاهَد في نساء لوزان أنهن يتصفن بالنشاط والقوة وحب العمل، والبساطة في الملبس، وعدم التبرج والخلاعة، فلا يستعملن الأصباغ ولا ينثنين في مشيتهن ولا يلتفتن يمينًا وشمالًا، بل يسرن لما يقصدنه من أعمالهن فهن كالإنكليزيات من بعض الوجوه.

والنساء من الطبقة المتوسطة يخرجن لقضاء لوازم منازلهن الساعة السادسة مساء، وبعد قضائها يرجعن إلى منازلهن يحفهن الجلال والإعظام. وقد شاهدت عكس ذلك من نساء مدينة جنيف وذلك لقربها من فرنسا، مع أن المسافة بين لوزان وجنيف لا تزيد عن ساعة في القطار السريع.

وليست في لوزان آثار ومتاحف تستحق الزيارة، غير أني قصدت زيارة الجامعة فألفيتها في ميدان فسيح، شُيِّدت على رابية مرتفعة، بناؤها ضخم، يرفرف فوق بابها علم الحرية الخفاق، فدخلتها من بابها الكبير الذي يُصعَد إليه بعدة درجات، فرأيت مدخلًا فخمًا عُلِّقت على حوائطه أطر بها تعليمات لطلبة الجامعة. ثم طلبنا مقابلة مدير الجامعة فلم نجده وأرشدونا إلى النائبة عنه فقابلتنا بلطف وبشاشة وتحية عظيمة، فأخبرناها بقصدنا فأسفت جدًّا وأخبرتنا أن هذا اليوم عطلة ليس بالمدرسة طلبة ولا مدرسون، فأظهرنا أسفنا الشديد لذلك، ثم أعطتنا برنامجًا لما يُدرَس في الجامعة من العلوم أثناء العطلة الصيفية. وقد تمكنا من رؤية بعض حجرات الدراسة، وهي على أحسن ما يكون من النظام والترتيب والتنسيق والزخرف، جدرانها وسُقُفها مزينة بالصور الجميلة، أرضها متحدرة إلى منضدة المعلم التي تكتنفها شجرتان جميلتان أعطتا الحجرة رونقًا وجمالًا. وللجامعة متحف جُمِع فيه من أنواع الطيور والحيوان البري والبحري مُصبَّرةً شيء كثير رأيته من أبواب زجاجية واسعة. وهنا اعتقدت أن هذا الاستعداد العلمي الكبير هو الوسيلة العظمى في نجاح الطلاب، لأنهم يفهمون دروسهم فهم مشاهد مدرك حقيقة ما يشرحه المعلم، فيثبت في ذهنه ثبوتًا لا يمحوه كر الأيام والسنين والأعوام. وليست نظريات العلوم التي يلقيها المعلمون على الطلبة مجدية نفعًا ما لم تصحبها المشاهدات.

وهنا تذكرت جامعة مصر وتمنيت أن لو كان لها من العلوم والمعدات ما لجامعة لوزان، حتى يُدرَس فيها العلم الصحيح النافع في الحياة ويفهم طلاب مصر ما يفهم طلاب لوزان مع أن لوزان بلد صغير والقاهرة بلد كبير، ولكن هناك حرية وعقول مفكرة وأيد عاملة بعيدة عن القيود فنمت نموًّا حسنًا وفكرت بهدوء وراحة واطمئنان، فأنتجت نتائج حسنة عادت على الأمة بالفائدة المرجوَّة. ومن لنا بهذه الحرية الغالية فينمو العقل المصري المشهود له بالذكاء الفطري فيبحث وينقِّب، فينتج لنا النتائج والمخترعات التي نشاهدها الآن في الأمم المستقلة الحرة؟ ومن يأخذ بيدنا ويصعدنا إلى سلم العلوم والمعارف الحقة حتى نكون مثل تلك الأمم الراقية التي عرفت علاج نفس أبنائها فداوتهم بدوائها الناجع؟

وإذا عرفت ما تحويه هذه المدينة الصغيرة من المدارس لأخذ منك العجب مأخذه وعلمت أننا من التأخير بمكان سحيق، تحتوي هذه المدينة كما أخبرنا على مائة مدرسة للبنات ومدارس تحتوي على ستة آلاف طالب، فانظر يا رعاك الله إلى درجة انتشار التعليم في تلك البلاد ووازنها بحالة التعليم في بلادنا، تجد البون شاسعًا والفرق عظيمًا والشُّقَّة بعيدة، فلا تجد لحكومتنا السنية من مدارس البنات ما يُذكَر بجانب تلك، مع أن تعليم البنت من أقوى الأسس لرقي الأمم ونهضتها:

البنت مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبًا طيب الأعراق

ويا حبذا لو كان تعليم البنت في مدارسنا يؤهلها لأن تكون صالحة للعمل في بيتها، بل بالعكس يفسد عليها حالها ويجعلها لا تهتم إلا بالتأنق في ملبسها وزخرفه وتبرجها، مما يكلف القائم بشأنها نفقات باهظة تدعوه إلى كرهها وبغضها، وفي الوقت نفسه لا تعمل عملًا نافعًا يعود عليها وعلى أسرتها بالفائدة، ولا أنكر أن قليلًا منهن يقمن في منازلهن ببعض الواجب.

والمرأة السويسرية مشتهَرة بأنها لا تحب الظهور كل ساعة للناس، وهي مخلصة كل الإخلاص في عملها تؤْثر تعهد بيتها على كل شيء، وتفكر كثيرًا فيما يعود على حياتها البيتية بالمنفعة، فتترك السفاسف من الأمور والزينة والتبرج لا يشغل من قلبها مكانًا، فهي امرأة منزل وعمل تهتم لبيتها اهتمامًا غريبًا وتظهر حبها للنظام بدرجة فائقة.

فما من بلد في الأرض ساوت فيه المرأة الرجل كما هي في سويسرا فهي قرينته في عمله، وهذا ناشئ من تربيتها على حب العمل.

وهنا أنقل عبارة عن بعض الكُتَّاب قال:

وقد بلغ سنة ١٩١٠ عدد السويسريات اللاتي يعملن في الصناعات المختلفة من زراعية وتجارية وصناعية نحو ١٥٧٥٠٠٠ امرأة، هذا في شعب أقل من أربعة ملايين، فإذا فرضنا أن النساء مليون وتسعمائة في سويسرا وأخرجن منهن العاجزات وصغار البنات، لا يبقى إلا عدد لا يُذكَر غير عامل من النساء، فالمرأة العاطلة عن العمل ليست بضاعة سويسرية.

والعاملات من النساء على نسبة العاملين من الرجال، وقد أحرزن منذ زمن طويل الحق بأن يكون منهن الطبيبات والمحاميات ومشاركة الرجال فيها، وقد قال أحد محرري جرائد لوزان إن الناس هنا يعملون مهما كانوا أغنياء، ولا تكاد تجد عشرة في مدينة لوزان لا عمل لهم على كثرة أغنيائها وأرباب الأملاك فيها.

(٤-١) المستشفى

قد علمت وأنا بلوزان أن بها مستشفى من أحسن المستشفيات فقصدنا زيارته، ولما وصلنا إليه أدهشنا بناؤه وراقتنا حديقته، شُيِّد على ربوة عالية أنظف من الكف وألطف من الهواء. جُلْت في طرقاته وأفنيته الكبيرة الموشَّاة بالأزهار وأشجار الصنوبر والكافور تنتشر منها الروائح الزكية، غاية في حُسن المنظر لنظافته ونظام بنائه وتنسيق طرقاته ومنحنياته.

وقد استأذنا في زيارة حُجَر المرضى لنرى نظامها وكيفية علاج المرضى فيها فلم يُسمَح لنا بذلك، إلا أنه من حُسن الحظ أن صودف أثناء سيرنا في طرقاته وجود عدد كبير من الأطباء، يتقدمهم رجل أبيض الوجه عظيم اللحية تظهر عليه القوة والنشاط والذكاء، وهو الطبيب الخاص بأمراض النساء، هؤلاء يقصدون حجر المرضى من النساء ليروا بعض أمراضهن، فاختلطنا بهم وسرنا معهم حتى دخلنا حجرة من حجر المريضات حيطانها لامعة، وأسرَّتها غاية في النظافة وحُسن الترتيب، أدواتها تامة كأنها لم تُستعمَل.

أكثر المريضات نائمات على وجوههن، وقد رفعن رءوسهن حين دخولنا فرأينا وجوهًا نضرة تعلوها الحمرة، شعورهن ممشطة ملمومة يعلو بعضها الورد الأحمر حالتهن لا تنم عن مرض، حتى قال صاحبي حين نظر إليهن: «إنهن مريضات بالصحة!» وهنا تقدمت مريضة الذراع عند مرفقها، ويظهر أنه طال مرضها واستعصى شفاؤها، جلست على كرسي باسمة الثغر وقد اجتمع حولها الأطباء، وأخذ الطبيب الخاص بمعالجتهن يشرح مرضها بعبارات جميلة خلابة وإلقاء جذاب مع المداعبة والفكاهة من حين إلى آخر، فيضحكهم وهم يصغون لكلامه تمام الإصغاء. لبث كذلك يشرح مدة طويلة حالة المرض، ويريهم صورة المرض التي أُخِذت بالأشعة.

ولما كنا لا نفهم كثيرًا هذه الاصطلاحات العلمية وطال بنا الوقوف، تسللنا من بينهم معجبين بالاعتناء بحالة المرضى ونظافتهن وما يلوح على وجوههن من الراحة والاطمئنان، ومغتبطين بضخامة المستشفى ونظافته وحُسن تنسيقه وترتيبه. وفي ظني أنه لا يدخله مريض حتى يتم له الشفاء إن كان في عمره بقية.

(٤-٢) أثمان التجارة في لوزان

أثمان السلع في لوزان مرتفعة ارتفاعًا فاحشًا من ملبس ومأكل ومشرب، وقد أخذني العجب حينما رأيت ثمن علبة «السردين» التي تُشترَى بقرشين في مصر تُبتَاع بثمانية قروش صاغًا، والبذلة الإفرنكية التي تبتاع في مصر بثلاثة جنيهات تبتاع هناك بسبعة جنيهات، وقس على ذلك جميع الحاجيات حتى أجرة الترام والسكك الحديدية، وهذا الغلاء يُلاحَظ في مدينة جنيف أيضًا. إلا أن العيشة في الفنادق رخيصة جدًّا، فإن السائح يجد الراحة التامة والطعام الشهي، يأكل وينام بقيمة لا تزيد عن ستين قرشًا مياومة مع الخدمة التامة والمعاملة الحسنة ونظافة الخَدَم وجودة الطهي، والزبدة هناك كثيرة شهية تُقدَّم مع كل أكلة.

والفضل في هذا الرخص يرجع إلى الحكومة التي ألزمت أصحاب الفنادق بتخفيض الأثمان تخفيضًا كبيرًا حتى يرغب السائحون في الإقامة بسويسرا التي تستفيد منهم فائدة كبيرة. ولقد كان بعض البقاع في سويسرا منذ ثلاثين سنة من أفقر بلاد أوروبا، فبفضل هذا الرخص وما أُنشِئ فيها من الفنادق، وبذل أقصى ما يمكن لاستجلاب رضا السياح والمصطافين؛ أَثْرَت تلك الأصقاع، وأصبحت سويسرا تعتمد في ثروتها على القادمين إليها من جميع أقطار الأرض ونواحيها حتى سموها «فندق أوروبا». وهذه الثروة الكبيرة الطائلة التي يبذرها الأجانب فيها لم يُحصَل عليها مصادفة واتفاقًا، فإن علم جلب الغرباء وترغيبهم قد أصبح في سويسرا علمًا حقيقيًّا، له أساليب وقوانين وجرائد ومنشورات وكتب منوعة الطريقة.

وقد علم السويسريون بالتجارب والاختبار أن السائح يُستمال بأشياء كثيرة، منها نشر الإعلانات الكثيرة الغريبة التي تلفت الأنظار، وللصور المقام الأول فيها. وكل إدارة أو نقابة توزع منشوراتها بالمجان، وكثيرًا ما تكون كتابًا كبير الحجم يحتاج طبعه إلى المال الكثير، ولكن الثمرات التي تعود من ذلك قد قُدِّرت بثلاثة أضعاف ما يُنفَق عليها.

ومنها أن كل صاحب فندق لا تحدثه نفسه باحتكار السياح، بل يهتم أولًا بنجاح المدينة ثم الناحية وأرباحها ثم النجاح العام، وهذا لم يتم إلا بالتضامن بين أبناء هذه الحرفة، فتشترك جميع الفنادق في أن يعملوا عملًا يسر جمهور النازلين والوافدين إلى فنادقهم.

وقد ألَّف معظم أرباب الفنادق نقابات عمت المقاطعات، ثم ألفت المقاطعات كلها نقابة واحدة فأصبحت فنادق سويسرا كفندق واحد.

ومنها أن كل سائح يجد راحته في الفنادق على اختلاف أنواعها واختلاف أذواق الناس واقتدارهم؛ فمن أراد الرفاهية وجدها، ومن أحب التوسط كان له ما أراد، وكذلك من أحب أقل من المتوسط.

ومنها إظهار العناية بالسائح عناية تجعله لا يمل الإقامة، وإرشاده إلى كل ما يريد بكل لطف وذوق وإنسانية، فقد علمت أن بها أكثر من مائة مدينة وسبع توجد فيها مكاتب لإرشاد الغريب والقريب يسأل الإنسان فيها عما يشاء مجانًا، وقد نُظِّمت هذه بمعرفة الشركات المحلية، ولا عمل لعمال هذه المكاتب إلا أن يجيبوا الناس عما يسألون من الصباح إلى المساء.

ومنها أنك لا تجد أحدًا يضايقك في معاملاتك، فلا تجد حوذيًّا يلح عليك في أن تركب مركبته ولا عاملًا من عمال الفنادق يلح عليك أن تسير معه إلى فندقه، بل كلهم يلبون طلبك بلطف.

وما برحت شركة الفنادق تتفنن في ترغيب السائحين وراحتهم وتنشر الكراسات والكتب التي لا تقصِّر في توزيعها، ومما أنشأته مدرسة لتعليم إدارة الفنادق يتعلم فيها مدير الفندق تعليمًا يجعله عالمًا بأساليب جلب رضاء السائحين، لأن ضرورة المباراة وحاجات النازلين في الفنادق وصعوبة الحياة الحديثة تجعل صناعته مشكلة يومًا بعد آخر، ولذلك أحدثوا مدرسة داخلية في ضواحي لوزان واسعة الأرجاء مطلة على البحيرة، وجُعِلت أجرة الدرس والأكل فيها لا تزيد عن ١٣٠ فرنكًا في الشهر لأبناء سويسرا ومائة وستين للغريب، ومدة الدراسة فيها ثمانية أشهر، ويُسأَل الطالب فيها في الأكثر في اللغات الحية، ويجب أن يكون سنه من ١٦ إلى ١٨.

وتُدرَس في هذه المدرسة (١) اللغات الحية كالإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية. (٢) الحساب. (٣) الجغرافيا العامة وجغرافيا المواصلات. (٤) تاريخ سويسرا. (٥) حُسن الخط والحساب. (٦) أصول معاملة الفنادق والمعاملات التجارية على أصول الدفاتر. (٧) معرفة الحاصلات. (٨) نظريات في الخدمة والتنظيم وحُسن الهندام. (٩) كيفية تقديم الطعام وحفظ الصحة والرياضة البدنية والألعاب والرقص.

فانظر بمَ ترقى الأمم وتنهض وتتسنم ذروة المجد وتبلغ مدى ما يمكن بلوغه في الحضارة والمدنية، وكيف يجلبون الأرزاق إلى بلادهم، وثقتهم في العمل إلى حد لا تباريهم فيه أمة أخرى إذا استثنينا الأمريكان، ونزع الغل والحسد من صدورهم وتكاتفهم في العمل متساندين متعاضدين متآلفين. بهذا ترقى الأمم وتسعد وتعيش عيشة هناء ورخاء، وبهذا يُنشَر فضل الأمم ويُذاع صيتها وتحسن سمعتها ويشاد بذكرها في كل جهات المسكونة، وبهذا تنمو الحرية ويزخر بحرها ويعج عجاجه ويكثر خيرها.

ولقد يهولك فيها كثرة صناديق البريد، وذلك يظهر كثرة البيع والشراء والأخذ والعطاء ونمو التجارة وازدياد الصادر والوارد، حتى لقد ذكرت إحدى الصحف ما معناه «ينم عن ارتقاء الشعب كثرة البريد وكثرة ما يبتاعه من الصابون والسكر.» وقد امتازت الدانمرك بكثرة بُرُدها فإن لكل ٢٣٤ ساكنًا فيها صندوق بريد، وفي سويسرا لكل ٢٨٦ نسمة صندوق بريد، ولكل ٢٣٠ في لكسمبرغ صندوق، ثم تجيء ألمانيا ففرنسا فالنمسا فالبرتغال فالعثمانيون، إذ ليس عندهم غير صندوق واحد لكل ٦٩٥٣٠٠ نسمة.

هذا بعض ما علمته عن سويسرا وما يأتيه الأفراد والشركات والحكومات لجلب السياح إليها، حتى أصبحت فندق أوروبا حقًّا وصدقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤