الفصل الأول

تاريخ موجز

علم الكونيات فرع حديث العهد نسبيًّا من العلوم الطبيعية. وفي هذا شيء من التناقض؛ لأن علم الكونيات يتناول بعضًا من أقدم الأسئلة التي طرحتها البشرية على غرار: هل الكون غير محدود؟ هل هو موجود منذ الأزل؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فكيف ظهر الكون إلى الوجود؟ وهل سينتهي يومًا ما؟ ومنذ أزمنة ما قبل التاريخ والبشرُ يسعَون إلى بناء إطار مفاهيمي من نوعٍ ما للإجابة على الأسئلة المتعلقة بالعالم وبعلاقتهم به. كانت أُولى تلك النظريات، أو النماذج، عبارة عن خرافات ننظر إليها اليوم بوصفها ساذجة أو عديمة المعنى. بَيْدَ أن هذه التخمينات البدائية تُظهر الأهميةَ التي طالما نسبناها نحن البشرَ إلى التفكير في العالم. واليوم، يستخدم علماء الكونيات لغة ومنظومة من الرموز مختلفتين تمامًا، لكن ما يحفِّزهم بالأساس هو نفس ما حفَّز أسلافنا القدماء. وأَوَدُّ في هذا الفصل أن أسرد في إيجازٍ التطورَ التاريخيَّ ﻟ «موضوع» علم الكونيات، وأن أفسِّر الكيفية التي تطورت بها بعض أفكاره المحورية. وآمُل أن يوفر هذا نقطة انطلاق مفيدة نحو الفصول التالية التي سأستكشف فيها هذه الأفكار المحورية بمزيد من التفصيل.

الكون في الخرافات

أغلب المحاولات القديمة لدراسة الكون كانت مبنيةً بالأساس على شكل من أشكال التجسيم (أي نسبة الصفات البشرية إلى كائنات غير بشرية). وقد تضمنت بعض هذه المحاولات فكرة أن العالم المادي تُحَرِّكه كيانات ذات إرادة نافذة يمكنها أن تساعد البشرية أو تعوقها، فيما تضمَّن البعض الآخر فكرة أن العالم المادي نفسه جامد، ولكن يمكن لإله أو آلهة أن يتحكموا في مساره. في كلتا الحالتين تميل خرافات الخلق إلى عَزْوِ منشأ الكون إلى كيانات يمكن تفهُّم دوافعها — ولو جزئيًّا — من جانب البشر.

ثمَّة اختلافات كثيرة بين خرافات الخلق حول العالم، لكنْ هناك أيضًا أوجه تشابه لافتة. على سبيل المثال، عادةً ما تتضمن هذه الخرافات فكرة الحِرَفي الأسمى، وبذا يُقدَّم جمال العالم الطبيعي بوصفه صنيعة يد فنان ماهر، وثمَّةَ أمثلة على هذا في جميع الثقافات. وهناك صورة متكررة أخرى؛ هي نمو التنظيم من الفوضى، والتي تعكس التنظيم المتصاعد للمجتمع البشري. أيضًا هناك صورة مشابهة تمثِّل الكون بوصفه عملية بيولوجية، وأبرز الأمثلة على ذلك موجود في الخرافات التي تصوِّر الكونَ على أنه نشأ من بيضة أو بذرة.

تحتوي قصة الخلق البابلية — المعروفة باسم إنوما إليش — هذه العناصر. ترجع هذه الخرافة إلى حوالي عام ١٤٥٠ قبل الميلاد، لكنها مبنية على الأرجح على روايات سومرية أخرى أقدم. في قصة الخلق هذه تتجسَّد حالة الفوضى البدائية في البحر، ومن البحر تنشأ آلهةٌ تمثِّل المكونات الأساسية للعالم؛ كالسماء والأفق وغيرهما. من بين تلك الكيانات الإلهية يتصارع الإله مردوخ مع الإلهة تيامات — ربة البحر — ويصرعها، ويشكِّل مردوخ الأرضَ من جسدها.

الصين أيضًا مصدر لعدد من التفسيرات المثيرة للاهتمام، وأحد هذه التفسيرات يتضمَّن العملاق بان جو. في هذه القصة بدأ الكونُ كبيضة عملاقة. ظل العملاق نائمًا داخل البيضة لآلاف السنين، ثم استيقظ وتحرَّر محطِّمًا البيضة خلال ذلك. بعض أجزاء البيضة (الأخف والأكثر طُهرًا) ارتفعت مكوِّنةً السموات، بينما الأجزاء الأثقل والأدنس كوَّنت الأرضَ. حمل بان جو السموات بيديه، بينما ارتكزت قدماه على الأرض. ومع ارتفاع السموات أكثر وأكثر، صار العملاق أطول وأطول؛ كي يُبقي على اتصالها بالأرض. وفي النهاية مات بان جو، لكن أجزاء جسده استُخدمت على نحوٍ مفيد؛ إذ صارت عينه اليسرى الشمسَ، وعينه اليمنى القمرَ، وصار عَرَقه المطرَ، وشعره النباتاتِ، وصارت عظامه الصخورَ.

تتعدد أساطير الخلق بتعدد الثقافات، ولا أملك المساحة الكافية هنا لذكر المزيد من التفاصيل. وسواء أكانت الأساطير أفريقية أم آسيوية أم أوروبية أم أمريكية، فمن المدهش كيفية تَشارُكها في العديد من أوجه الشبه.

fig1
شكل ١-١: الإله البابلي مردوخ. يُنسب إلى مردوخ فضل فرض النظام الكوني بعد أن دمَّر تيامات؛ التي تُجسِّد الفوضى البدائية، والتي تَظهر في الشكل عند قدميه على صورة تنين ذي قرنين. أساطير عديدة حول العالم تتضمَّن فكرة نشوء النظام من رحم الفوضى، ويظل هذا المفهوم حاضرًا في بعض الدراسات الكونية العلمية الحديثة.

الإغريق

تعود جذور العلم الحديث إلى بلاد اليونان القديمة. بطبيعة الحال كان للإغريق آلهتهم وخرافاتهم، وكان الكثير منها مُستقًى من ثقافات مجاورة. لكن إلى جانب هذه العناصر التقليدية بدأ الإغريق في تأسيس نظام من مبادئ البحث العلمي، وكانوا هم مَن أرسَوُا العلاقة بين السبب والنتيجة، التي لا تزال مكوِّنًا جوهريًّا للنظريات العلمية في وقتنا الحالي. كما أنهم أدركوا أن توصيف الظواهر المرصودة وتفسيرها يمكن صياغتهما بصورة رياضية أو هندسية، بدلًا من الاعتماد على مفهوم التجسيم.

بدأت دراسة الكون في الظهور كمجال علمي قابل للتمييز ضمن الإطار الكامل للفكر العقلاني الذي أرساه الإغريق، وأبرزهم طاليس (٦٢٥–٥٤٧ق.م) وأناكسيماندر (٦١٠–٥٤٠ق.م). ومصطلح علم الكونيات Cosmology مشتق في اللغة الإنجليزية من كلمة cosmos الإغريقية التي تعني العالَم بوصفه منظومة مرتَّبة أو كاملة. والتركيز هنا على التنظيم والترتيب مثلما هو على الكمال؛ إذ إن مقابل «الكون» لدى الإغريق هو «الفوضى». وقد نظر الفيثاغوريون في القرن السادس قبل الميلاد إلى الأرقام والهندسة بوصفهما أساس كل الأشياء الطبيعية. ومثَّل استحداث التفكير المنطقي الرياضي، وفكرة أن بمقدور المرء اكتساب المعرفة عن العالم الطبيعي باستخدام المنطق والتفكير؛ بدايةَ الحقبة العلمية. كما قدَّم أفلاطون (٤٢٧–٣٤٨ق.م) تفسيرًا كاملًا لخلق الكون، يقوم — وَفقًا له — ربٌّ سامٍ بخلق تجسيدات غير مثالية في عالمنا المادي للبِنى الصافية المثالية الموجودة فقط في عالم الأفكار. فالعالم المادي عرضة للتغيير، بينما عالم الأفكار خالد وغير قابل للتغيير.

توسع أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م) — تلميذ أفلاطون — في هذه الأفكار؛ بحيث قدَّم صورة للعالم تتحرك فيها النجوم والكواكب البعيدة في حركة دائرية تامة، في دوائر هي تجسيد للهندسة «الإلهية». إنَّ الكون لدى أرسطو هو كرة تقع الأرض في مركزها. والجزء الممتد من الكرة ما بين الأرض والقمر هو نطاق التغيير، أو الواقع غير المثالي لأفلاطون، أما ما وراء ذلك فتمارس الأجرام السماوية حركاتها الدائرية المثالية. وقد هيمنت هذه النظرة للكون على الفكر الغربي خلال العصور الوسطى، لكن الحركات الدائرية التامة لم تتوافق مع البيانات الفلكية المتزايدة التي جمعها الإغريق من الأرشيفات التاريخية التي تركها البابليون والمصريون القدماء. ورغم أن أرسطو أكَّد إمكانيةَ تعلُّم المزيد عن الكون عن طريق الملاحظة بالإضافة إلى التفكير الخالص، فإنه لم تتِمَّ صياغة نموذج رياضي كامل للكون يتفق مع كل البيانات المتاحة إلا حين وضع بطليموس كتابه «المجسطي» في القرن الثاني بعد الميلاد.

عصر النهضة

خلال العصور المظلمة، لم تكن الثقافة المسيحية على معرفة بمعظم المعارف التي اكتسبها الإغريق، بَيْدَ أن هذه المعارف ازدهرت في العالم الإسلامي. ونتيجة لذلك، كان التفكير المرتبط بدراسة الكون في أوروبا محدودًا خلال العصور الوسطى. وقد استفاد توما الأكويني (١٢٢٥–١٢٧٤) من أفكار أرسطو التي كانت ترجمتها اللاتينية متاحة وقتها — على العكس من كتاب «المجسطي» — في صياغة مزيج من علم الكونيات الوثني وعلم اللاهوت المسيحي هيمن على الفكر الغربي حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر.

عادةً ما يُعزى تقويض النظرة الأرسطية للعالم إلى نيكولاس كوبرنيكوس (١٤٧٣–١٥٤٣). كان كتاب «المجسطي» لبطليموس نظرية كاملة، بَيْدَ أنه تضمَّن تطبيق معادلات رياضية متباينة لوصف حركة كل كوكب، ومِن ثَمَّ لم يكن يمثِّل في واقع الأمر نظامًا موحَّدًا. ففي جوهره، وصف هذا الكتاب ظواهر الحركة السماوية، لكنه لم يفسِّرْها. أراد كوبرنيكوس أن يشتق نظرية عامة موحدة تتعامل مع كل شيء على الأساس عَيْنِه. وقد حقق كوبرنيكوس هذا على نحو جزئي وحسب، لكنه نجح في إزاحة الأرض عن مركز المنظومة الكونية. ولم يتحقق التقويض الناجح تمامًا للمنظومة الأرسطية إلا مع مجيء يوهانز كبلر (١٥٧١–١٦٣٠)؛ إذ استبدل كبلر — مدفوعًا بالحاجة إلى تفسير المشاهدات البالغة الدقة لحركة الكواكب التي أجراها تيكو براهي (١٥٤٦–١٦٠١) — بمدارات أرسطو الدائرية الإلهية قطوعًا ناقصة.

تمثَّل التطور العظيم التالي على الطريق نحو التفكير العلمي الحديث في دراسة الكون في ظهور إسحاق نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧) على الساحة. تمكَّن نيوتن من أن يُبيِّن في كتابه البارز «المبادئ» (١٦٨٧) أن الحركة الإهليجية التي توصَّل إليها كبلر إنما هي نتيجة طبيعية لوجود قانون كوني عام للجاذبية. وبذا أعاد نيوتن إرساء مستوًى أفلاطوني من الواقع؛ ذلك العالم المثالي من القوانين الكونية العامة للحركة. فالكون، حسب تصور نيوتن، يسير كآلة عملاقة، تؤدِّي الحركات المنتظمة التي يفرضها الخالق الأعظم، وما المكان والزمن إلا تجسيدان مطلقان للخالق الباطن ذي الوجود الكُلي.

ظلت أفكار نيوتن مهيمنة على التفكير العلمي حتى بداية القرن العشرين، لكن منذ القرن التاسع عشر بدأت العيوب تعتري الآلة الكونية. كانت النظرة الميكانيكية للعالم قد ظهرت إلى الوجود إلى جانب أولى تباشير التكنولوجيا. وخلال الثورة الصناعية التالية صار العلماء منشغلين بنظريات المحركات والحرارة. وقد بيَّنتْ قوانين الديناميكا الحرارية هذه أنه ليس بمقدور أي محرِّك أن يعمل على نحوٍ مثالي إلى الأبد دون أن يُستنزَف. وفي ذلك الوقت شاع الإيمان ﺑ «الموت الحراري للكون»، وهي الفكرة التي تقضي بأن الكون ككلٍّ سيُخمد ويموت، تمامًا مثلما تفقد الكرة القافزة طاقتها وتستكين حركتها.

نحو الحقبة الحديثة

طرح أولبرز (١٧٥٨–١٨٤٠) تحديًا آخر أمام فكرة المحرك الكوني لنيوتن، وذلك حين صاغ في عام ١٨٢٦ مفارقة لا تزال تحمل اسمه، رغم أن آخرين قبله طرحوها، مِن بينهم كبلر. تظهر «مفارقة أولبرز» عند تدبر سبب كون السماء مظلمة في الليل. ففي الكون اللانهائي الثابت الأبدي، من المفترض أن يوجد أحد النجوم على امتداد كل خط من خطوط البصر أينما نظرنا، تمامًا مثلما يجد خط البصر الممتد عبر غابة لا نهائية شجرةً في نهاية المطاف. يستتبع هذا أن سماء الليل ينبغي أن تكون ساطعة مثل سطوع أي نجم عاديٍّ. والظلمة المُدرَكة بالليل تكفي لإثبات أن الكون يستحيل أن يكون لا نهائيًّا وأبديًّا.

لكن سواء أكان الكون لا نهائيًّا أم لا، فقد زاد على نحو مطَّرِد الجزء القابل للتفسير المنطقي منه. بالنسبة إلى أرسطو، كان مدار القمر (٤٠٠ ألف كيلومتر فقط) يمثِّل حدًّا أساسيًّا، لا يستطيع العقل البشري تجاوزه. أما بالنسبة إلى كوبرنيكوس وكبلر، فتمثَّل هذا الحدُّ في حافَة المجموعة الشمسية (على بعد مليارات الكيلومترات). وبحلول القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اقتُرِح أن مجرة درب التبانة، تلك المنظومة التي نعرف الآن أنها أكبر من المجموعة الشمسية بمليارات المرات، هي الكون بأسره. لكن كانت هناك فكرة أخرى منافِسة لهذه الفكرة، وهي أن «السُّدُم» الحلزونية الغريبة التي اكتُشفت متناثرة في أرجاء السماء إنما هي أجرام مشابهة لمجرة درب التبانة، ولكننا ننظر إليها من مسافة بعيدة. ولاحقًا صار يطلق على هذه الأجرام اسم «مجرات». وقد نشب «جدال عظيم» في السنوات الأولى من القرن العشرين بين أنصار هاتين الفكرتين المتناقضتين، وهو ما سأطرحه في الفصل الرابع. لكن بفضل إدوين هابل (١٨٨٩–١٩٥٣) صار معروفًا الآن أن مجرة درب التبانة هي بالفعل محض مجرة واحدة من مئات المليارات من المجرات الشبيهة بها.

بدأت الحقبة الحديثة لعلم الكونيات في السنوات الأولى من القرن العشرين، حين حدثت عملية إعادة صياغة كاملة لقوانين الطبيعة. طرح ألبرت أينشتاين (١٨٧٩–١٩٥٥) مبدأ النسبية في عام ١٩٠٥، وبذا قوَّض مفهوم نيوتن عن المكان والزمن. ولاحقًا، حلت نظرية النسبية العامة التي طرحها أيضًا محل قانون الجذب العام لنيوتن. وقد صاغت الدراسات الكونية العظيمة الأولى القائمة على مفهوم النسبية على يد كلٍّ من فريدمان (١٨٨٨–١٩٢٥) ولومِتر (١٨٩٤–١٩٦٦) ودي سيتر (١٨٧٢–١٩٣٤) لغةً جديدة معقَّدة من أجل التوصيف الرياضي للكون. وتلعب نظرية أينشتاين دورًا مفاهيميًّا كبيرًا للغاية في علم الكونيات الحديث لدرجة أنني سأخصص السواد الأعظم من الفصل القادم لها.

لكن رغم أن هذه التطورات المفاهيمية قد مهدت الطريق، فإن الخطوات النهائية نحو الحقبة الحديثة لعلم الكونيات لم يضطلع بها الفيزيائيون النظريون، بل علماء الفلك القائمون على عمليات الرصد. ففي عام ١٩٢٩، نشر إدوين هابل — الذي كان قد أوضح حديثًا أن الكون يحتوي على العديد من المجرات الشبيهة بمجرة درب التبانة — المشاهدات التي أدَّت بنا إلى الاعتقاد بأن الكون آخِذٌ في التمدد. وأخيرًا، في عام ١٩٦٥، اكتشف بنزياس وويلسون إشعاع الخلفية الميكروني الكوني الذي يُعَدُّ دليلًا دامغًا (أو شبه دامغ، حسبما قد تراه) على أن الكون بدأ بِكُرَة نارية بدائية؛ أي «الانفجار العظيم».

علم الكونيات اليوم

بدأت الحقبة الحديثة من الدراسة العلمية للكون مع نظرية النسبية العامة لأينشتاين، المنشورة عام ١٩١٥، والتي مكَّنتْنا من عمل توصيف رياضي متَّسق للكون بأسره. وفق نظرية أينشتاين، ترتبط خصائص المادة والحركة بتشوُّه المكان والزمن. وأهمية هذا لعلم الكونيات هي أن المكان والزمن لم يعد يتم التفكير فيهما بوصفهما شيئين مطلقين منفصلين عن الأجسام المادية، بل بوصفهما مشاركَيْنِ في تطور الكون. لا تُمَكِّننا النسبية العامة من فهم منشأ الكون «في داخل» المكان والزمن، وإنما تمكِّننا من فهم أصل المكان والزمن نفسيهما.

تشكل نظرية أينشتاين أساس نموذج الانفجار العظيم الحديث، الذي ظهر بوصفه أفضل التفسيرات المتاحة لتمدد الكون. ووفق هذا النموذج، المكان والزمن والمادة والطاقة كلها ظهرت إلى الوجود في صورة كرة نارية من المادة والإشعاع ذات درجة حرارة وكثافة قُصْوَيَيْنِ منذ حوالي ١٥ مليار عام. وبعد الانفجار العظيم ببضع ثوانٍ، انخفضت درجة الحرارة إلى عشرة مليارات درجة فقط، وبدأت التفاعلات النووية في تكوين الذرات التي تتكون منها أجسامنا. وبعد حوالي ٣٠٠ ألف عام انخفضت الحرارة حتى بضعة آلاف درجة مئوية، محررة الإشعاع الذي نرصده اليوم بوصفه إشعاع الخلفية الميكروني الكوني. ومع تمدد هذا الانفجار، حاملًا المكان والزمن معه، بَرُدَ الكون وخفَّتْ كثافته. وقد تكوَّنت النجوم والمجرات عن طريق تكثُّف السحب المتمددة من الغاز والإشعاع. ويحتوي كوننا اليوم على الرماد والدخان المتخلِّفَين عن الانفجار العظيم.

يصف الفصل الخامس نظرية الانفجار العظيم بمزيد من التفصيل. وأغلب علماء الكونيات يتقبلون هذه النظرية بوصفها صحيحة في جوهرها، رغم وجود بعض التفاصيل غير المحسومة. وهذه النظرية تفسِّر أغلب ما نعرفه اليوم من خصائص للمادة الكثيفة في الكون، ويمكنها تفسير أغلب المشاهدات الكونية ذات الصلة. لكن من المهم أن ندرك أن نظرية الانفجار العظيم ليست كاملة، وأغلب الأبحاث الحديثة في علم الكونيات تدفعها الرغبة في سد الفجوات الموجودة في هذا الإطار العام المقنع.

من أمثلة تلك الفجوات أن نظرية أينشتاين نفسها تنهار في الزمن التالي مباشرة لبداية الكون. فالانفجار العظيم مثال لما يطلِق عليه منظِّرو النسبية اسم «نقطة التفرد»، وهي نقطة تفشل عندها كل النماذج الرياضية وتصير كل القيم القابلة للقياس لا نهائية. ورغم أننا نعرف الكيفية التي يُتوقع أن يتطور بها الكون من أي مرحلة بعينها، فإن نقطة التفرد تجعل من المستحيل أن نعرف من الافتراضات الأولى للنظرية الشكلَ الذي كان الكون عليه في البداية. ولهذا علينا أن نربط هذا بالمشاهدات بدلًا من الفكر المجرد، شأن علماء الآثار الذين يحاولون إعادة بناء مدينة بائدة اعتمادًا على الأطلال. ومِن ثَمَّ يعكف علماء الكونيات في وقتنا هذا على جمع كميات هائلة من البيانات التفصيلية؛ حتى يحاولوا ربط كل هذه البيانات معًا من أجل رسم صورة للكيفية التي بدأ بها الكون.

عزَّزت التطورات التكنولوجية التي شهدناها على مر العشرين عامًا الماضية وتيرةَ التقدم في علم الكونيات الرصدي، ونحن الآن بالفعل في «عصر ذهبي» من الاكتشافات الكونية. يتضمن علم الكونيات الرصدي الآن بناء خرائط هائلة لتوزيع المجرات في الفضاء، تُبيِّن البنية المذهلة الواسعة النطاق للخيوط والألواح المجرِّية. وعمليات المسح هذه تُكملها مشاهدات عميقة يجري عملها، على سبيل المثال، بواسطة تليسكوب هابل الفضائي. التُقطت صورة «حقل هابل العميق» بفترة تَعرُّض طويلة للغاية لدرجة أنها تَعرِض مجرات على مسافات هائلة للغاية، حتى إن الضوء الصادر عنها استغرق غالبية عمر الكون حتى يصل إلينا منها. وباستخدام مشاهدات كهذه يمكننا رؤية التاريخ الكوني وهو يتكشف أمام أعيننا. على سبيل المثال، صار علماء الفلك الذين يستخدمون الإشعاع الميكروني في دراستهم للكون الآن قادرين على عمل صور لِبِنْيَة الكون المبكر عن طريق رصد التموجات في إشعاع الخلفية الميكروني الكوني، التي أُنتجت في كرة النار البدائية. وسوف تَستكشِفُ تجاربُ مخطَّطٌ لها تُجرَى باستخدام الأقمار الصناعية — على غرار «مسبار قياس تباين الأشعة الكونية» و«مرصد بلانك الفضائي» — هذه التموجاتِ بمزيد من التفصيل عبر السنوات القليلة القادمة، ومن المفترض أن تسد النتائج التي ستأتي بها العديدَ من الفجوات في فهمنا الحالي للكيفية التي يتشكل بها الكون.

من الممكن استخدام المشاهدات الكونية في قياس معدل التمدد الكوني، وتبيُّن الكيفية التي يتغير بها هذا المعدل مع مرور الوقت، وأيضًا استكشاف هندسة المكان عن طريق تطبيق مبادئ التثليث على مستوى هائل. وفق نظرية أينشتاين، لا تتحرك أشعة الضوء في خطوط مستقيمة بالضرورة؛ وذلك لأن المكان يتشوه بفعل جاذبية الأجرام الضخمة. وعبر المسافات الكونية من الممكن أن يتسبب هذا التأثير في انغلاق الزمكان على نفسه (كسطح الكرة) مسببًا تلاقيَ أشعة الضوء المتوازية. كما يمكن أن يُنتج كونًا «مفتوحًا» تبتعد فيه أشعة الضوء بعضها عن بعض. وبين هذين البديلين هناك الفكرة «المعتادة» الخاصة بالمكان المنبسط الذي تنطبق فيه قوانين الهندسة الإقليدية. ويعتمد كَون أيٍّ من هذه البدائل هو البديلَ الصحيحَ على الكثافة الإجمالية للمادة والطاقة في الكون، وهو ما لا تستطيع نظرية الانفجار العظيم وحدها التنبؤ به.

تعرضت نظرية الانفجار العظيم لفحص نظري دقيق في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، حين اتخذ فيزيائيو الجسيمات علمَ الكونيات سبيلًا لمحاولة فهم خصائص المادة عند نطاقات الطاقة العالية للغاية التي لا تستطيع معجلات الجسيمات الخاصة بهم الوصول إليها. وقد أدرك هؤلاء المنظِّرون أن الكون المبكر مرَّ على الأرجح بسلسلة من التحولات الجذرية المعروفة باسم «التحولات الطورية»، تسارَع خلالها معدل تمدده بمعامل ضخم للغاية في كسر بسيط من الثانية الواحدة. ومن المفترض أن حقبة «التضخم» هذه هي التي سببت انبساط المكان المنحني، وهو ما يُفضي إلى تنبؤ محدد يقضي بأن الكون ينبغي أن يكون منبسطًا. يبدو هذا متفقًا مع عمليات المسح الكوني المذكورة سابقًا. أما المقترحات الحديثة التي تطرح أن معدل تمدد الكون قد يكون متسارعًا فتفترض وجود طاقة مظلمة غامضة قد تكون أثرًا باقيًا لحقبة التضخم المبكرة.

أيضًا، استعان علماء الكونيات بالحاسبات الفائقة الحديثة في محاولة فهم كيفية تكثُّف كُتَل المادة الكونية على صورة نجوم ومجرات، بينما الكون آخِذ في التمدد والبرودة. وقد أشارت هذه الحسابات إلى أن هذه العملية تتطلب وجود تركيزات هائلة من مادة عجيبة، كثيفة بما يكفي بحيث تساعد في نمو البنية، لكنها مع ذلك لا تنتج أي ضوء نجمي. وهذه المادة غير المرئية تسمى المادة المظلمة. وتتفق التنبؤات الحاسوبية للبنية المتكونة مع الخرائط الضخمة التي أنتجها الراصدون، وهو ما يجعل نظرية الانفجار العظيم تحظى بمزيد من الدعم.

إن التفاعل المتبادَل بين هذه الأفكار النظرية الجديدة وبين البيانات الرصدية الجديدة العالية الجودة دَفَعَ علم الكونيات قُدمًا من النطاق النظري البحت إلى مجال العلوم التجريبية الصارمة. وهذه العملية بدأت مع بداية القرن العشرين، مع إسهامات ألبرت أينشتاين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤