الفصل الثامن

نظرية كل شيء

بدأت الحقبة الحديثة للفيزياء بثورتين حدثتا في السنوات الأولى من القرن العشرين. اشتملت إحدى هاتين الثورتين على استحداث مبدأ النسبية، وقد لعبت النسبية دورًا في تطور علم الكونيات على مدار هذا القرن. أما الثورة الثانية فكانت مولد ميكانيكا الكَمِّ. وعلى النقيض، لا تزال تأثيرات فيزياء الكم في علم الكونيات بعيدةً عن الفهم.

عالم الكم

وفق النظرية الكمية فإن كل كيان في العالم له طبيعة مزدوجة. ففي الفيزياء الكلاسيكية استُخدم مفهومان متمايزان لوصف ظاهرتين طبيعيتين متمايزتين، وهما: الموجات والجسيمات. لكن فيزياء الجسيمات تخبرنا أن هذين المفهومين لا ينطبقان بشكل منفصل على العالم الميكروسكوبي. فالأشياء التي كنا نعتقد سابقًا أنها جسيمات من الممكن أحيانًا أن تسلك سلوك الموجات، والظواهر التي كنا نَخَالُها سابقًا من الموجات من الممكن أحيانًا أن تسلك سلوك الجسيمات. الضوء مثلًا يسلك سلوك الموجة، وبإمكاننا أن ننتج تأثيرات التداخل والحيود باستخدام الموشورات والعدسات. علاوة على ذلك، بيَّن ماكسويل أن الضوء يوصف بالفعل رياضيًّا بواسطة معادلة تسمى «المعادلة الموجية»، وبذا تتنبأ هذه النظرية بالطبيعة الموجية للضوء. على الجانب المقابل، بيَّنت أعمال ماكس بلانك على الإشعاع المنبعث من الأجسام الساخنة أيضًا أن سلوك الضوء يجعله يبدو كما لو أنه يتكون من حزم منفصلة، أُطلِقَ عليها اسم «الكموم». وقد تردد في الزعم بأن هذه الكموم يمكن اعتبارها جسيمات. وفي الواقع كان ألبرت أينشتاين نفسه، خلال عمله على التأثير الكهروضوئي الذي نال عنه جائزة نوبل، هو مَن أخذ هذه الخطوة، وقال إن الضوء يتكون في حقيقته من جسيمات. وهذه الجسيمات صارت تُعرف لاحقًا باسم «الفوتونات». لكن كيف يمكن للشيء ذاته أن يَكون موجة وجسيمًا معًا؟ علينا هنا القول إن الواقع لا يمكن توصيفه بدقة بواسطة مفهوم واحد فقط من الاثنين، وإنما يكون سلوكه أحيانًا كسلوك الموجة وأحيانًا كسلوك الجسيم.

تخيل أن هناك راهبًا من العصور الوسطى، وقد عاد إلى ديره بعد رحلته الأولى إلى أفريقيا. وخلال رحلته تلك شاهد بالمصادفة خرتيتًا، وهو يحاول الآن أن يصفه لإخوته المتشككين. وبما أنه لم يسبق لأحد منهم أن رأى أي شيء غريب كالخرتيت رأْيَ العين، فعلى راهبنا أن يستعين بالتشبيهات لتقريب الصورة. فيقول إن الخرتيت يشبه في جانب منه التنين وفي جوانب أخرى الحصان وحيد القرن. وهنا يكون لدى إخوته تصوُّر معقول عما يبدو عليه هذا الحيوان. لكن لا التنين ولا الحصان وحيد القرن موجودان في الطبيعة من الأساس، بينما للخرتيت وجود. الأمر عينه ينطبق على عالمنا الكمي؛ فالعالم لا يوصَف من منظور الموجات المثالية ولا الجسيمات المثالية، وإنما يمكن لهذين المفهومين أن يمنحانا صورةً ما عن جوانب معينة لِمَا عليه الأشياء من حالٍ بالفعل.

إن الفكرة القائلة إن الطاقة تأتي في حزم منفصلة (أو كموم) طُبقت بنجاح أيضًا على أبسط الذرات قاطبة — ذرة الهيدروجين — على يد نيلز بور عام ١٩١٣ وطُبقت على جوانب أخرى للفيزياء الذرية والنووية. ووجود مستويات الطاقة المتمايزة داخل الذرات والجزيئات له أهمية جوهرية في مجال التحليل الطيفي، الذي يلعب دورًا في مجالات متنوعة على غرار الفيزياء الفلكية والطب الشرعي، وكانت له أهمية حاسمة في اكتشاف هابل لتباعد المجرات.

الكون غير اليقيني

كان تقبُّل الطبيعة الكمية للطاقة (والضوء) محض بداية للثورة التي أسست ميكانيكا الكم الحديثة. وتعين الانتظار حتى عشرينيات القرن العشرين، وحتى أعمال كلٍّ من شرودنجر وهايزنبرج؛ ليتم أخيرًا تفسير الطبيعة المزدوجة للضوء بوصفه موجة وجسيمًا معًا. فرغم أن وجود الفوتونات قد جرى تقبله في السنوات السابقة على ذلك، فإنه لم يكن ثمة سبيل للتوفيق بين هذا وبين السلوك الموجي المعروف للضوء. وفي عشرينيات القرن العشرين ظهرت نظرية للفيزياء الكمية مبنية على الميكانيكا الموجية. وفي نسخة شرودنجر من نظرية الكم، يوصَف سلوك الأنظمة كلها من خلال دالة موجية (يرمز إليها بالرمز ) تتطور وفق معادلة سميت معادلة شرودنجر. وتعتمد الدالة الموجية على كلٍّ من المكان والزمن. وتصف معادلة شرودنجر الموجات التي تتذبذب في كلٍّ من المكان والزمن.

من أين إذن يأتي السلوك الجسيمي؟ الجواب هو أن الدالة الموجية الكمية لا تصف شيئًا ماديًّا مثلما تفعل الموجة الكهرومغناطيسية، التي يفكر فيها المرء بوصفها شيئًا ماديًّا موجودًا في نقطة من المكان وتتذبذب عبر الزمن، وإنما تصف الدالة الموجية الكمية «موجة احتمالية». وتؤكد نظرية الكم أن الدالة الموجية هي كل ما يستطيع المرء معرفته عن النظام؛ فليس بوسع المرء التنبؤ في يقينٍ بالموضع الذي سيكون فيه الجسيم تحديدًا في أي زمن بعينه، بل كل ما يمكن التنبؤ به هو احتمالية وجوده وحسب.

ومن الجوانب المهمة لازدواجية الموجة-الجسيم هذه «مبدأ عدم اليقين». لهذا المبدأ تبعات عدة على الفيزياء، لكن أبسطها تتضمن موضع الجسيم وسرعته؛ إذ ينص مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج على أنه ليس بوسعنا معرفة موضع أي جسيم وسرعته على نحو مستقل. فكلما عرفت موضع الجسيم على نحو أفضل، قلَّتْ معرفتك بسرعته، والعكس بالعكس. فإذا استطعت تحديد الموضع بدقة، فستصير سرعته مجهولة تمامًا، وإذا استطعت معرفة سرعة الجسيم بدقة، فمن الممكن أن يشغل الجسيم أي موضع كان. هذا المبدأ كمي، وهو لا ينطبق على الموضع والزخم فقط، بل ينطبق أيضًا على الطاقة والزمن وأي زوج آخر من الكميات المعروفة بأنها متغيرات مقترنة.

ومن التبعات المهمة للغاية لمبدأ عدم اليقين المتعلق بثنائية الطاقة-الزمن أن الفضاء الخاوي يمكنه أن ينتِج من العدم جسيمات قصيرة العمر تظهر إلى الوجود وتختفي منه بغتة على فترات زمنية يحكمها مبدأ عدم اليقين. وهذا هو السبب وراء أن فيزيائيِّي الجسيمات يتوقعون أن الفراغ به طاقة. بعبارة أخرى، ينبغي أن يوجد ثابت كوني. والمشكلة الوحيدة هي أنهم لا يعرفون كيفية حسابه. وأفضل التخمينات المتاحة حاليًّا أكبر بكثير من الواقع الفعلي بما يصل إلى مائة قيمة أُسية. بَيْدَ أن فكرة عدم اليقين الكوني أحرزت نجاحًا بارزًا؛ إذ يُعتقد أنه هو السبب وراء وجود تفاوتات الكثافة البدائية الضئيلة التي استهلَّت نمو البنية الكونية.

إن الكون الذي يسير وفق فيزياء نيوتن هو كون «حتمي»؛ بمعنى أنه إذا عرف المرء مواضع وسرعات كل الجسيمات داخل أي نظام في أي وقت بعينه، فعندها سيكون المرء قادرًا على أن يتنبأ بسلوكها في جميع الأوقات اللاحقة. لكن ميكانيكا الكم غيرت كل هذا؛ نظرًا لأن أحد المكونات الأساسية لهذه النظرية هو المبدأ القائل إنه على مستوًى جوهري معين، يكون سلوك الجسيمات غير قابل للتنبؤ به، ومن ثم هناك حاجة لِلُّجوء إلى الحسابات الاحتمالية.

إن التفسير الذي يمكن وضعه بناءً على هذا النهج الاحتمالي عُرضة لجدال واسع. على سبيل المثال، تدبَّر نظامًا تتحرك فيه الجسيمات في حزمة ضوء نحو شقين يفصل بينهما مسافة بسيطة. الدالة الموجية المتجاوبة مع هذا الموقف تُظهر نمطَ تداخل؛ لأن «الموجة الاحتمالية» تمر عبر كلا الشقين. إحصائيًّا، من المفترض أن تهبط الفوتونات على اللوح الموجود خلف الشقين وفق الاحتمالية التي تُمليها الدالة الموجية. وبما أن الشقين يتسببان في نمط تداخل، فستظهر على اللوح سلسلة معقدة من الحزم الساطعة والباهتة في المواضع التي تُعَزِّز فيها الموجات بعضها بعضًا، وتلك التي تُلغي فيها الموجات بعضها بعضًا على الترتيب. يبدو هذا منطقيًّا، لكن افترضْ أنك خفضت قوة حزمة الضوء، وهو ما يمكن عمله؛ بحيث إنه في أي وقت بعينه لا يوجد سوى فوتون وحيد هو الذي يمر من الشقين. من الممكن رصد وصول كل فوتون على اللوح. وبتشغيل التجربة لفترة كافية من الوقت يمكننا بناء نمط على اللوح. ورغم حقيقة أن فوتونًا واحدًا فقط هو الذي يمر من الجهاز، فيظل يظهر على اللوح نمط الحزم الساطعة والباهتة. فبطريقة ما، يجب على كل فوتون منفرد أن يتحول إلى موجة حين يغادر المصدر، ويمر عبر الشقين كليهما، ويتداخل مع نفسه وهو في الطريق، ثم يعود مجددًا إلى وضعه كفوتون كي يهبط على موضع محدد على اللوح.

ما الذي يحدث إذن؟ من الجلي أن كل فوتون يهبط في موضع محدد على اللوح. وفي هذه النقطة نحن نعرف موضعه يقينًا. لكن ما الذي تفعله الدالة الموجية لهذا الجسيم في هذه النقطة؟ وفق أحد التفسيرات — ذلك المسمى «تفسير كوبنهاجن» — تنهار الدالة الموجية على نفسها بحيث تتركز في نقطة وحيدة. وهذا يحدث كلما أُجْرِيَتْ تجربة، وتمَّ الحصول على نتيجة محددة. لكن قبل أن تُحسم النتيجة، تكون الطبيعة نفسها غير محددة؛ فالفوتون لا يمر فعلًا عبر أيٍّ من الشقين،؛ بل هو في حالة «مختلطة». وفعل القياس نفسه يغيِّر من الدالة الموجية، ومن ثم يُغيِّر من الواقع. وقد قاد هذا الكثيرين إلى التخمين بشأن التفاعل بين الوعي وبين «الواقع» الكمي. فهل الوعي هو ما يسبب انهيار الدالة الموجية على نفسها؟

من الأمثلة الموضِّحة الشهيرة لهذه المعضلة تلك المفارَقة المعروفة باسم «قطة شرودنجر». تخيل أن ثمة قطة موجودة داخل حجرة مغلقة تحتوي قِنِّينَةَ سُمٍّ. القِنِّينَة متصلة بأداة من شأنها أن تكسر القنينة وتسمم القطة عند حدوث أي حدث كمي، على غرار انبعاث جسيمات ألفا من مادة مشعة. وإذا انكسرت القنينة، تموت القطة بشكل فوري. أغلبنا سيتوقع أن تكون القطة إما حية وإما ميتة في أي وقت بعينه، لكن إذا تبنَّيْنا تفسير كوبنهاجن بجدية، فستكون القطة على الحالين كليهما في نفس الوقت بشكل ما؛ فالدالة الموجية للقطة تضم تراكبًا من الحالتين الممكنتين. وفقط حين تُفتَح الحجرة و«تقاس» حالة القطة «تصير» القطة وقتها إما حية وإما ميتة.

ثمة تفسير بديل لتفسير كوبنهاجن يقضي بأنه لا شيء يتغير ماديًّا على الإطلاق عند إجراء عملية القياس. فما يحدث هو أن حالة الراصد المعرفية هي التي تتغير. فإذا أكد أحدهم أن الدالة الموجية تمثِّل ما هو معروف للراصد بدلًا من أن تمثل ما هو حقيقي في الواقع، فلن تكون هناك مشكلة في أن تتغير هذه الدالة حين يصير معروفًا أن جسيمًا ما في حالة محددة. وهذه النظرة تقترح تفسيرًا لميكانيكا الكم قد تكون فيه الأشياء حتمية على مستوًى ما، بَيْدَ أننا لا نعرف ببساطة ما يكفي بحيث يمكننا التنبؤ.

وهناك نظرة أخرى؛ وهي تفسير «العوالم المتعددة». ووفق هذه النظرة في كل مرة تُجرَى فيها تجربة (على سبيل المثال، في كل مرة يمر فيها أحد الفوتونات من الجهاز ذي الشقين) فإن الكون، إذا جاز التعبير، ينقسم إلى كونين؛ في أحدهما يمر الفوتون من الشق الأيسر، وفي الآخر يمر الفوتون من الشِّق الأيمن. وإذا حدث هذا لكل فوتون فسينتهي بنا الحال مع عدد ضخم من الأكوان الموازية. ووفق هذا الترتيب فإن كل نتيجة محتملة لكل تجربة محتملة تقع بالفعل. لكن قبل القفز مباشرة لفكرة الكون الموازي، دعوني أستأنف أولًا الخيط الأساسي لحكايتنا.

fig28
شكل ٨-١: نظرية كل شيء. يُعتقد أن القوى الأربع للطبيعة التي نعرفها في عالمنا المنخفض الطاقة تصير موحدة على نحو معقد عند الطاقات العالية. وبالعودة بالزمن إلى الوراء حتى الانفجار العظيم نتوقع أولًا اتحاد القوة الكهرومغناطيسية مع القوة النووية الضعيفة في قوة واحدة كهروضعيفة. وعند طاقات أعلى من ذلك، ستتحد هذه القوة الكهروضعيفة مع القوة النووية القوية في «نظرية موحدة عظمى». وعند طاقات أعلى من ذلك، قد تنضم الجاذبية لها كي تنتج «نظرية كل شيء». وهذه النظرية، إن وُجدت، فستصف الانفجار العظيم نفسه.

الرابطة المفقودة

في الفصل الخامس وصفتُ النموذج القياسي للتفاعلات الأساسية. والقوى الثلاث التي يتضمنها هذا النموذج كلها موصوفة بواسطة نظريات كمية، بينما رابعةُ هذه التفاعلات الأساسية هي قوة الجاذبية. وقد استعصت هذه القوة على الجهود الهادفة لوضعها داخل مخطط موحد للقوى. وأول خطوة لعمل ذلك ستكون تضمين فيزياء الكم داخل نظرية الجاذبية من أجل إنتاج نظرية للجاذبية الكمية. ورغم الجهود الشاقة المبذولة لعمل ذلك، فإنه لم يتحقق إلى الآن. وإذا حدث أن تحقق هذا الأمر يومًا، فستكون المهمة التالية هي توحيد الجاذبية الكمية مع نظرية موحدة لتفاعلات الجسيمات.

من قبيل المفارقة أن النسبية العامة، التي دشنت فعليًّا الحقبة الحديثة للفيزياء النظرية، هي التي تمثل العقبة الأساسية على طريق التقدم نحو نظرية موحدة لكل قوى الطبيعة. بطرق عدة، تُعَدُّ قوة الجاذبية ضعيفة للغاية؛ فأغلب الأجسام الملموسة تحافظ على تماسكها بواسطة القوى الكهربية العاملة بين الذرات، وهذه القوى أقوى أضعافًا مضاعفة من قوى الجاذبية العاملة بين بعض الأجسام وبعض. لكن رغم ضعف قوة الجاذبية، فإن لها طبيعة محيرة يبدو أنها تقاوم محاولات الجمع بينها وبين نظرية الكم.

إن نظرية النسبية لأينشتاين نظرية كلاسيكية؛ بمعنى أنها تُماثل معادلات ماكسويل للكهرومغناطيسية التي تتصف بأنها كلاسيكية كذلك؛ فهي تتضمن كيانات تتَّسم بالتجانس لا التباين، وتصف سلوكًا حتميًّا لا احتماليًّا. على الجانب الآخر، تصف فيزياء الكم حالة تكتُّل جوهرية؛ فكل شيء يتكون من حزم متباينة أو كموم. وبالمثل، تمكننا معادلات النسبية العامة من حساب الحالة المحددة للكون في أي وقت بعينه في المستقبل إذا توفرت معلومات كافية في نقطة ما من الماضي. ومن ثم فهي حتمية. أما العالم الكمي، على النقيض من ذلك، فهو خاضع لعدم اليقين الذي يُجسِّده مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج.

بطبيعة الحال، النظرية الكهرومغناطيسية الكلاسيكية مناسبة على نحو مثالي للعديد من الأغراض، بَيْدَ أن هذه النظرية تنهار في مواقف معينة؛ مثلًا حين تكون المجالات الإشعاعية قوية للغاية. ولهذا السبب بحث الفيزيائيون عن النظرية الكمية للكهرومغناطيسية، أو الكهروديناميكا الكمية (ووجدوها في النهاية). وهذه النظرية صِيغت أيضًا على نحو متوافق مع النسبية الخاصة، لكنها لا تتضمن تأثيرات النسبية العامة.

ورغم أن معادلات أينشتاين أيضًا تبدو صحيحة لمعظم الأغراض، فإنه من الطبيعي على نحو مشابه أن نحاول بناء نظرية كمية للجاذبية. كان أينشتاين نفسه يؤمن على الدوام بأن نظريته غير تامة من هذا الجانب، وأنها ستحتاج في نهاية الأمر أن يحل محلها نظرية أخرى أكثر اكتمالًا. وإذا شبهنا الموقف هنا بما يحدث للكهرومغناطيسية الكلاسيكية من انهيار، يمكننا الزعم بأن انهيار النسبية العامة سيحدث حين تكون مجالات الجاذبية قوية للغاية، أو على نطاقات أطوال قصيرة للغاية. ولم تُكلَّل محاولات بناء نظرية كهذه بالنجاح إلى الآن.

رغم أنه لا يوجد ما يشبه الصورة الكاملة لما قد تكون عليه نظرية الجاذبية الكمية، فإن هناك بعض الأفكار التخيلية المثيرة للاهتمام. على سبيل المثال، بما أن النسبية العامة هي بالأساس نظرية للزمكان، فلا بد للمكان والزمن نفسيهما أن يصيرا كَمِّيَّينِ في نظريات الجاذبية الكمية. وهذا يقترح أنه رغم ما يبدو المكان والزمن عليه من اتصال وتجانس في نظرنا، فإنه على النطاقات الضئيلة لأطوال بلانك (نحو ١٠−٣٣ سنتيمتر)، يصير المكان أكثر تكتلًا وتعقيدًا، بل وربما يتكون من طوبولوجيا أشبه بالزَّبَد تتكون من فقاقيع تربط بينها أنفاق تسمى الثقوب الدودية تتشكل وتنغلق باستمرار في فترات تُساوي زمن بلانك، الذي يبلغ ١٠−٤٣ ثانية. يبدو أيضًا من المنطقي تخيُّل أن موجات الجاذبية الكمية، أو الجرافيتونات، قد تلعب الدور الذي تلعبه البوزونات العيارية في التفاعلات الأساسية الأخرى. ومع ذلك، ما من دليل ملموس بعدُ على أن هذه الأفكار صحيحة.

إن النطاقات الصغيرة للغاية من الأطوال والزمن الداخلة في الجاذبية الكمية توضح لنا لماذا تعد الجاذبية الكمية مجالًا للفيزيائيين النظريين لا الفيزيائيين التجريبيين. فلا توجد أداة بُنيت بعدُ قادرة على دفع الجسيمات للدخول إلى منطقة تماثل نطاق طول بلانك أو أقل. وثمة حاجة لطاقات هائلة من أجل الكشف عن الطبيعة الكمية للجاذبية. لكن هذا تحديدًا هو السبب الذي جعل العديد من الفيزيائيين النظريين يبتعدون عن تجارب الجسيمات كهذه التجربة، ويتجهون صوب علم الكونيات. فمن المؤكد أن الانفجار العظيم تضمن ظواهر على نطاق بلانك؛ لذا قد يكون من الممكن نظريًّا معرفة المزيد عن العمليات الفيزيائية الجوهرية من علم الكونيات.

بداية الزمن

يعد وجود نقطة تفرُّد في بداية الكون خبرًا سيئًا لنموذج الانفجار العظيم. فهذه النقطة، شأنها شأن نقطة التفرد الخاصة بالثقب الأسود، نقطةُ تفردٍ حقيقية تصير فيها درجة الحرارة والكثافة بلا نهاية حقًّا. ومن هذا الجانب، يمكن التفكير في الانفجار العظيم بوصفه أشبه بانعكاس زمني لانهيار الجاذبية الذي يشكل الثقوب السوداء. وكما كان الحال مع حل شفارتزشيلد، رأى كثير من الفيزيائيين أن نقطة التفرد الكونية الأولية يمكن أن تأتي نتيجة لذلك النوع الخاص من حلول معادلات أينشتاين المستخدم في رسم نموذج الانفجار العظيم، لكن من المعروف الآن أن الحال ليس كذلك. وقد عمم هوكينج وبنروز فرضيات بنروز الأصلية بشأن الثقوب السوداء؛ ليبيِّنا أن نقطة تفردٍ كانت تكمن بشكل حتمي في ماضي الكون المتمدد الذي تنطبق فيه ظروف معينة عامة للغاية. إن الفيزياء النظرية تخذلنا تمامًا في اللحظة التي وقع فيها الانفجار العظيم، حين بدأت تلك اللانهائية البغيضة.

fig29
شكل ٨-٢: زبد الزمكان. إحدى الأفكار المرتبطة بالجاذبية الكمية تقضي بأن الزمكان نفسه قد يتحول إلى كتلة هائجة من الفقاعات والأنفاق التي تَثِب إلى الوجود وتختفي منه على فترات زمنية تناهز زمن بلانك.

هل من الممكن إذن أن نتجنب نقطة التفرد هذه؟ وإذا كان الحال كذلك، فكيف؟ من المرجح بشدة أن تكون نقطة التفرد الكونية الأولية مجرد نتيجة استنتاجات استقرائية مبنية على تطبيق نظرية النسبية العامة الكلاسيكية في موقف لا تكون فيه هذه النظرية صالحة. هذا هو ما يقوله أينشتاين في الفقرة التي اقتبسناها في الفصل الثالث عند مناقشة الثقوب السوداء. إننا بحاجة إلى نظرية للجاذبية الكمية، لكننا لا نملك نظرية كهذه، وبما أننا لا نملكها فنحن لا نعرف هل ستحل لغز المولد الغامض للكون أم لا.

إلا أن هناك سبلًا لتجنب نقطة التفرد الأولية في النسبية العامة الكلاسيكية دون الالتجاء إلى التأثيرات الكمية. بادئ ذي بدء، يمكننا محاولة تجنب نقطة التفرد من خلال اقتراح معادلة لحالة المادة في الكون المبكر للغاية، لا تنصاع للشروط التي أملاها هوكينج وبنروز. وأهم هذه الشروط هو ذلك القيد على سلوك المادة على الطاقات العالية المسمى «شرط الطاقة القوية». فهناك طرق عدة يمكن من خلالها خرق ذلك الشرط، وعلى وجه التحديد، يُخرق هذا الشرط خلال التمدد المتسارع الذي تتنبأ به نظريات التضخم الكوني. والنماذج التي يُخرق فيها هذا الشرط منذ البداية المبكرة للغاية يمكن أن تمتلك «نقطة ارتداد» بدلًا من نقطة تفرد. وبالعودة بالزمن إلى الوراء، يصل الكون إلى أقصى حجم له ثم يتمدد مجددًا.

يظل التساؤل بشأن إمكانية تجنب نقطة التفرد من عدمه سؤالًا مفتوحًا، وستظل قضية هل بإمكاننا وصف المراحل المبكرة للغاية من الانفجار العظيم — قبل زمن بلانك — مفتوحة للنقاش، على الأقل إلى أن يتم بناء نظرية كاملة للجاذبية الكمية.

سهم الزمن

إن وجود نقطة تفرد في بداية الكون يثير مسألة طبيعة المكان نفسها، وطبيعة الزمن تحديدًا، عند لحظة الخلق. وسيكون من اللطيف أن نورد في هذه النقطة تعريفًا واضحًا بماهية الزمن الفعلية. فكل شخص يعرف ما يفعله الزمن، والكيفية التي تميل بها الأحداث إلى أن تترتب في تسلسل. ونحن معتادون على وصف الأحداث التي تَتْبَع على الدوام أحداثًا أخرى بأنها سلسلة من الأسباب والنتائج. بَيْدَ أننا لا نستطيع المضي لما هو أكثر من هذه الأفكار البسيطة. ففي النهاية، أفضل ما قيل عن الزمن هو أن الزمن هو ذلك الشيء — أيًّا ما كان — الذي تقيسه ساعات الحائط.

دمرت نظريتا النسبية لأينشتاين المفاهيم النيوتنية للمكان المطلق والزمن المطلق تدميرًا فعليًّا. فبدلًا من أن يكون لدينا ثلاثة أبعاد مكانية وبُعد زمني واحد تكون كلها مطلقة وغير متغيرة بِغَض النظر عن حركات الجسيمات أو القائمين على التجارب، تدمج الفيزياء النسبية هذه الأمور معًا في كيان رباعي الأبعاد يسمى الزمكان. ولأغراض عدة، يمكن معاملة الزمن والمكان على أنهما متكافآن رياضيًّا في هاتين النظريتين؛ فالراصدون المختلفون عادةً ما يقيسون فترات زمنية مختلفة بين الحدثين نفسيهما، أما الفترات الزمكانية الرباعية الأبعاد فتظل واحدة على الدوام.

ومن ذلك، فإن النجاحات النظرية لأينشتاين تميل إلى أن تخفي الحقيقة التي نعرفها جميعًا من واقع خبرات حياتنا اليومية؛ وهي أن الزمن والمكان مختلفان على نحو جوهري. فبمقدورنا السفر شمالًا أو جنوبًا، شرقًا أو غربًا، لكن لا يمكننا المضي في الزمن إلا قُدُمًا نحو المستقبل، لا إلى الوراء في الماضي. ونحن نتقبل بكل رضًا حقيقة أن لندن ونيويورك توجدان في أي زمن بعينه في موضعين مكانيين مختلفين. لكن لا أحد سيقول إن العام ٥٠٠١ موجود بالفعل بالطريقة عينها التي نظن أن الحاضر موجود بها. كما أننا لا نمانع في القول إننا في الوقت الحاضر نتسبب في حدوث الأشياء في المستقبل، لكننا لا نعتبر أن الحدثين اللذين يقعان في الوقت ذاته في موضعين مكانيين مختلفين يسبب أحدهما الآخر. فالمكان والزمن مختلفان للغاية بالفعل.

وعلى نطاق كوني، من المؤكد أن الانفجار العظيم يبدو أن له اتجاهًا مفضلًا. بَيْدَ أن المعادلات التي تصفه تتسم بالتناظر الزمني. فكوننا يتصادف أنه آخذ في التمدد لا الانكماش، لكن من الممكن له أن يكون آخذًا في الانهيار على نفسه، ومع ذلك تصفه القوانين عينها. أم هل من الممكن أن يكون التمدد الواسع النطاق للكون هو ما يبرز الاتجاه الزمني الذي نلحظه؟ اقترح هوكينج وآخرون أننا إذا كنا نعيش في كون مغلق توقف في النهاية عن التمدد وبدأ في الانكماش، فإن الزمن سيسير لا محالة في الاتجاه المعاكس خلال مرحلة الانكماش. وفي الواقع، إذا حدث هذا فلن نكون قادرين على أن نلحظ الفارق بين الكون الآخذ في الانكماش الذي يسير فيه الزمن على نحو معكوس وبين الكون الآخذ في التمدد الذي يسير فيه الزمن إلى الأمام. وقد كان هوكينج مقتنعًا لوقت طويل بأن الحال لا بد أن يكون كذلك، بَيْدَ أنه غيَّر رأيه هذا لاحقًا.

تنبع مشكلة أخرى أكثر تجريدًا من حقيقة أن نظرية أينشتاين رباعية الأبعاد بالكامل؛ وهي أن الخط العالمي الكامل لأي جسيم، والذي يصف التاريخ الكامل لحركة الجسيم في الزمن، من الممكن حسابه من واقع النظرية. فالجسيم الموجود في زمنين مختلفين موجود بالطريقة عينها التي يُوجد بها جسيمان في موضعين مختلفين في الوقت عينه. وهذا يتناقض على نحو صارخ مع فكرتنا عن الإرادة الحرة. فهل مستقبلنا موجود بالفعل؟ وهل الأمور محددة سلفًا حقًّا بهذه الطريقة؟

هذه الأسئلة لا تنطبق فقط على نظرية النسبية وعلم الكونيات. فالعديد من النظريات الفيزيائية تتسم بالتناظر بين الماضي والمستقبل بالطريقة عينها التي تتسم بها بالتناظر بين المواضع المكانية المختلفة. وتعد قضية التوفيق بين عدم التناظر المُدرَك للزمن وبين هذه النظريات لغزًا فلسفيًّا عميقًا. وهناك ما لا يقل عن فرعين مختلفين آخرين من الفيزياء النظرية تثار فيهما تلك المسألة التي تسمى أحيانًا مسألة «سهم الزمن».

تنبع هذه المسألة على نحو مباشر من مبدأ فيزيائي شامل النفوذ يسمى «القانون الثاني للديناميكا الحرارية» الذي ينص على أن «إنتروبيا» أيِّ نظام مغلق لا تقل مطلقًا. والإنتروبيا هي مقياس الفوضى وانعدام النظام داخل أي منظومة، ومن ثم يعني هذا القانون أن درجة انعدام النظام داخل أي منظومة تميل عادةً إلى الزيادة. وقد تحققتُ من هذا تجريبيًّا مرات عدة من خلال المشاهدات الدورية لمكتبي. والقانون الثاني هو تقرير بشأن العالم العياني؛ أي إنه يتعامل مع الأشياء الكبيرة على غرار المحرِّكات البخارية، بَيْدَ أنه ينشأ من التوصيف المجهري للذرات وحالات الطاقة التي تقدمها لنا النظريات الفيزيائية التفصيلية. والقوانين التي تحكم هذه الحالات المجهرية كلها قابلة للانعكاس بالكامل من المنظور الزمني. فكيف إذن ظهر سهم الزمن؟

أيضًا وُضعتْ قوانين مشابهة لقوانين الديناميكا الحرارية الكلاسيكية؛ بهدف وصف خصائص الثقوب السوداء ومجالات الجاذبية عمومًا. ورغم أنه من الصعب وضع تعريف للإنتروبيا المرتبطة بمجالات الجاذبية، فإن هذه القوانين يبدو أنها تشير إلى أن سهم الزمن موجود حتى في الكون الآخذ في الانهيار على ذاته. وهذا هو السبب الذي دفع هوكينج إلى التخلي عن فكرة انعكاس الزمن.

تظهر مشكلة أخرى من مشاكل سهم الزمن من ميكانيكا الكم، التي هي الأخرى متناظرة زمنيًّا، لكن يقع فيها ظواهر عجيبة على غرار انهيار الدالة الموجية عند إجراء أي تجربة. ويبدو أن الدالة الموجية تنهار على هذا النحو في اتجاه زمني واحد فقط، وليس الآخر، لكن كما أشرتُ مسبقًا فإن هذا قد لا يكون أكثر من محض صعوبة مفاهيمية تنشأ عن تفسير ميكانيكا الكم نفسه.

نظرية اللاحدود

المكان والزمن مفهومان مختلفان للغاية بعضُهما عن بعض في نظرنا نحن، الذين نعيش في عالم منخفض الطاقة يبعد كثيرًا عن الانفجار العظيم. لكن هل يعني هذا أن المكان والزمن كانا مختلفين بعضُهما عن بعض على الدوام؟ أم إنه من الممكن في نظرية كمية للجاذبية أن يكونا شيئًا واحدًا؟ في نظرية النسبية العامة الكلاسيكية، الزمكان بناء رباعي الأبعاد تلتحم داخله على نحو وثيق الأبعادُ المكانية الثلاثة بالبعد الزمني الوحيد. ومن الأفكار ذات الصلة بعلم الكونيات الكمي، والتي طورها هوكينج بالتعاون مع جيم هارتل، تلك الفكرة التي تقضي بأن البصمة المميِّزة للزمن قد تُمحَى حين يكون مجال الجاذبية قويًّا للغاية. وهذه الفكرة مبنية على استخدام بارع لخصائص الأعداد التخيلية. (والأعداد التخيلية هي كل مضاعفات العدد ن الذي يُعرَّف بأنه الجذر التربيعي للعدد سالب واحد.) وهذا العبث بطبيعة الزمن هو جزء من نظرية اللاحدود لعلم الكونيات الكمي، التي وضعها هارتل وهوكينج. وفق هذه النظرية، بما أن الزمن يفقد خواصه التي تفصله عن المكان، فإن مفهوم بداية الزمن يصير عديم المعنى. ومن ثم فالزمكان بهذه البصمة ليس له حدود. فلا وجود لانفجار عظيم، ولا نقطة تفرد؛ لأنه لا وجود للزمن، بل هو مجرد اتجاه مكاني آخر وحسب.

هذه النظرة للانفجار العظيم لا يوجد بها عملية خلق؛ لأن كلمة الخلق تعني ضمنًا أن هناك «قبل وبعد». وإذا لم يكن ثمة زمن، فما من بداية إذن للكون. والتساؤل عما حدث قبل الانفجار العظيم سيكون شبيهًا بالتساؤل عما يوجد شمال القطب الشمالي. فهو سؤال عديم المعنى.

ينبغي لي أن أؤكد أن فرضية اللاحدود ليست مقبولة من قِبَل كل المختَصِّين بعلم الكونيات الكمي؛ إذ اقتُرحت سبل أخرى لفهم بداية الكون (أو عدم بدايته). وقد اقترح الفيزيائي الروسي ألكسندر فيلنكن معالجة بديلة لعلم الكونيات الكمي توجد فيها عملية خلق محددة، يظهر عن طريقها الكون من العدم بواسطة الأنفاق الكميَّة.

نظريات كل شيء

حاولتُ أن أصف عددًا قليلًا من المناطق التي عكف فيها فيزيائيو الجسيمات وعلماء الكونيات على محاولة ربط فيزياء الكم بنظرية الجاذبية. وما هذه إلا خطوة واحدة نحو ما يشعر فيزيائيون كُثُر أنه الهدف النهائي للعلم؛ كتابة القوانين الرياضية التي تصف كل القوى المعروفة للطبيعة على صورة معادلة واحدة، يمكنك — إذا لم تكن تهتم لمظهر ملابسك كثيرًا — أن تطبعها على قميصك قصير الأكمام.

إن قوانين الفيزياء، المسماة أحيانًا قوانين الطبيعة، هي الأدوات الأساسية للعلم المادي. وهي تشتمل على معادلات رياضية تحكم سلوك المادة (على صورة جسيمات أساسية) والطاقة وفق العديد من التفاعلات الجوهرية الموصوفة سابقًا. في بعض الأحيان تُستخدم النتائج التجريبية التي تم الحصول عليها في المختبرات أو مشاهدات العمليات الفيزيائية الطبيعية؛ من أجل استنتاج القواعد الرياضية التي تصف هذه البيانات. وفي أحيان أخرى توضع النظرية أولًا نتيجة لفرضية أو مبدأ فيزيائي، ثم تتلقى تأكيدات تجريبية على صحتها في مرحلة لاحقة. ومع تطور فهمنا، فإن القوانين الفيزيائية المنفصلة في ظاهرها تصير موحَّدة في نظرية واحدة شاملة. والأمثلة المذكورة سابقًا تُبين إلى أي مدًى ظلت هذه الفكرة مؤثرة عبر المائة عام الماضية أو نحو ذلك.

إلا أن هناك أسئلة فلسفية عميقة تكمن أسفل سطح كل هذا النشاط. على سبيل المثال، ماذا لو كانت قوانين الفيزياء مختلفة في المرحلة المبكرة من عمر الكون؟ هل سيكون بالإمكان مواصلة هذا العمل؟ والإجابة هي أن النظريات الفيزيائية الحديثة تتنبأ بالفعل بأن قوانين الفيزياء تتغير. فمثلًا بينما نمضي نحو المراحل المبكرة للانفجار العظيم، تتغير طبيعة التفاعلات الكهرومغناطيسية والتفاعلات الضعيفة؛ بحيث لا يمكن التفرقة بين النوعين من التفاعلات على طاقات عالية. بيد أن هذا التغيير في القوانين هو نفسه موصوف من جانب قانون آخر؛ يطلق عليه اسم النظرية الكهروضعيفة. ربما يخضع هذا القانون نفسه للتعديل على نطاقات تكون فيها للنظريات الموحدة العظمى الهيمنة، وهكذا دواليك وصولًا إلى بدايات الكون نفسه.

لكن بغض النظر عن ماهية هذه القواعد الجوهرية، على الفيزيائيين أن يفترضوا أنها صالحة للتطبيق في كل زمن منذ الانفجار العظيم. والنتائج المنخفضة الطاقة لهذه القواعد الجوهرية هي وحدها ما يتغير مع مرور الزمن. وفي ضوء هذا الافتراض، يكون الفيزيائيون قادرين على بناء صورة مترابطة منطقيًّا للتاريخ الحراري للكون، لا يبدو أنها تتعارض تعارضًا كبيرًا مع المشاهدات. وهذا يجعل ذلك الافتراض منطقيًّا، بَيْدَ أنه لا يثبت صحته.

ثمة مجموعة أخرى من الأسئلة المهمة تدور حول دور الرياضيات في الفيزياء النظرية. فهل الطبيعة رياضية حقًّا في جوهرها؟ أم هل القواعد التي نبتكرها ما هي إلا نوع من الاختزال كي تمكننا من وصف الكون على أقل عدد ممكن من الأوراق؟ هل نكتشف قوانين الفيزياء أم نخترعها؟ وهل الفيزياء محض خريطة، أم هل هي منطقة الدراسة نفسها؟

هناك أيضًا قضية أخرى عميقة مرتبطة بقوانين الفيزياء، وهي تتعلق ببداية المكان والزمن نفسها. ففي بعض نسخ علم الكونيات الكمي، على سبيل المثال، علينا افتراض وجود قوانين فيزيائية موجودة — إن جاز التعبير — على نحو مسبق لوجود الكون المادي الذي من المفترض أن تصفه هذه القوانين. وقد تسبب هذا في جعْل بعض الباحثين النظريين يتبنَّون نهجًا فلسفيًّا يعكس فكرة أفلاطون. ففي التقليد الأفلاطوني، الوجود الحقيقي مقصور على عالم الأشكال المثالية، لا عالمِنا؛ عالم الحواس غير المثالي. وفي نظر علماء الكونيات الأفلاطونيين الجدد، فإن ما يوجد حقًّا هي المعادلات الرياضية الخاصة بنظرية كل شيء (المجهولة حتى وقتنا هذا)، وليس عالم المادة والطاقة المادي. على الجانب الآخر، لا ينجرف كل علماء الكونيات إلى التفكير بمثل هذه الصورة. وفي نظر العلماء ذوي الميول النفعية ما قوانين الفيزياء إلا توصيفات أنيقة لكوننا، تكمن أهميتها ببساطة في كونها نافعة.

كانت هناك محاولات عديدة لإنتاج نظريات كل شيء، وقد تضمنت هذه المحاولات أفكارًا عجيبة على غرار التناظر الفائق ونظرية الأوتار (أو حتى مزيج من الاثنين يُعرف باسم نظرية الأوتار الفائقة). وفي نظرية الأوتار الفائقة لا تُعامَل الجسيمات كجسيمات إطلاقًا، بل بوصفها ذبذبات في كيانات أحادية البُعد تسمى الأوتار. وتتوافق الأنماط المختلفة لحلقات أوتار الاهتزاز مع الجسيمات المختلفة. والأوتار نفسها تعيش في مكان ذي عشرة أبعاد أو ستة وعشرين بُعدًا، وبما أن لزمكاننا أربعة أبعاد فقط (ثلاثة أبعاد مكانية وبُعدًا زمنيًّا واحدًا)، فلا بد أن تكون الأبعاد الإضافية مَخْفية. وربما تكون هذه الأبعاد الإضافية مطوية إلى حجم صغير للغاية بحيث لا يمكن ملاحظتها. لكن بعد أن أثارت هذه الفكرة قدرًا كبيرًا من الإثارة في ثمانينيات القرن العشرين، صارت موضة منسِيَّة، وهو ما يرجع بالأساس إلى الصعوبات الفنية الداخلة في التعامل مع مثل هذه الأجسام المعقدة المتعددة الأبعاد. وفي وقت قريب نسبيًّا، شهدت هذه الأفكار نوعًا من البعث من جديد، مع تعميم مفهوم الأوتار إلى «أغشية»، بالإنجليزية branes، وهي أجسام ذات أبعاد أعلى، واسمها مشتق من كلمة غشاء membrane بالإنجليزية، ومع إدراك أن هناك في واقع الأمر نظرية واحدة (تسمى النظرية M) تصف كل النسخ الخاصة بهذا النهج من التفكير. وهذه كلها أفكار مثيرة للاهتمام، لكنها غير مكتملة نسبيًّا؛ إذ لم تقدِّم نظرية الأوتار إلى الآن أي تنبؤات واضحة أثَّرت في علم الكونيات. ويتعين علينا الانتظار كي نرى هل التوحيد الأشمل والأعظم الذي تطمح إليه هذه النُّهُج من الممكن تحقيقه فعليًّا أم لا.

أيضًا يثير البحث عن نظرية كل شيء قضايا فلسفية مثيرة للاهتمام. فبعض الفيزيائيين، ومن بينهم هوكينج، يرون في بناء نظرية كل شيء، بصورة ما، قراءة لعقل الإله، أو على الأقل كشفًا للأسرار الداخلية للواقع المادي، بينما يذهب آخرون ببساطة إلى أن النظرية الفيزيائية ما هي إلا محض توصيف للواقع، أشبه بخريطة له. فقد تكون النظرية مفيدة في عمل بعض التنبؤات وفهم نتائج المشاهدات أو التجارب، لكنها لا تزيد عن ذلك. وفي الوقت الحالي نحن نستخدم خريطة مختلفة للجاذبية عن تلك التي نستخدمها للكهرومغناطيسية أو التفاعلات النووية الضعيفة. وقد يكون هذا أمرًا مرهقًا، بَيْدَ أنه ليس كارثيًّا. ومن شأن نظرية كل شيء أن تقدم لنا خريطة واحدة، بدلًا من مجموعة متباينة من الخرائط التي يستخدمها المرء في الظروف المختلفة. وهذه الفلسفة الأخيرة نفعية. فنحن نستخدم النظريات للأسباب نفسها التي من أجلها نستخدم الخرائط؛ لأنها مفيدة. إن خريطة خط مترو أنفاق لندن الشهير مفيدة بالتأكيد، بَيْد أنها ليست تمثيلًا دقيقًا على نحو خاص للواقع المادي، وليس ثمة حاجة لأن تكون كذلك.

وعلى أية حال، على المرء أن يقلق بشأن طبيعة التفسير الذي ستقدمه أية نظرية لكل شيء. فعلى سبيل المثال، كيف ستفسر نظرية كل شيء أنها فعلًا نظرية كل شيء، وأنها ليست أية نظرية أخرى؟ وفي نظري هذه هي أكبر المشكلات التي نواجهها على الإطلاق. فهل يمكن لأية نظرية مبنية على ميكانيكا الكم أن تكون تامة بأي معنًى، رغم أن ميكانيكا الكم عينها تتسم في جوهرها بعدم الحتمية؟ علاوة على ذلك، ألقت التطورات في المنطق الرياضي المزيد من الشكوك على قدرة أية نظرية على أن تكون مستقلة تمامًا بذاتها. وقد أثبت عالم المنطق كيرت جودل مُبَرهَنَة، تُعرف باسم مبرهنة عدم الاكتمال، تبيِّن أن أية نظرية رياضية ستحتوي دائمًا أشياءَ لا يمكن إثباتها من داخل النظرية ذاتها.

المبدأ الإنساني

لطالما كان علم الكونيات معنيًّا بمحاولات الإنسان فَهْمَ الكون من حوله وعلاقته به. ومع تطور الدراسة العلمية للكون، أخذ دور الإنسان يتضاءل. فوجودنا يبدو أمرًا عارضًا، غير مخطط له، وناتجًا ثانويًّا للغرض الذي بُني الكون للوفاء به، بغض النظر عن ماهية هذا الغرض. لكن هذا التفسير خضع مؤخرًا للتحدي من جانب فكرة مقترحة يطلق عليها «المبدأ الإنساني» تقضي بأنه قد يكون هناك، على أي حال، رابط عميق بين وجود الحياة وبين الآليات الفيزيائية الأساسية التي تحكم الكيفية التي يتطور بها الكون. كان براندون كارتر أول من أضاف كلمة «الإنساني» إلى «المبدأ الكوني» المعتاد؛ وذلك للتأكيد على حقيقة أن كوننا «خاص»، على الأقل من حيث إنه سمح لحياة ذكية بأن تتطور داخله.

هناك نماذج كونية صالحة أخرى لا تتوافق مع حقيقة وجود البشر الراصدين. على سبيل المثال، كلنا يعرف أن العناصر الثقيلة كالكربون والأكسجين أساسية للتركيب الكيميائي المعقد الذي تتطلبه الحياة الأرضية كي تتطور. كما أننا نعرف أن هناك حاجة لمرور نحو ١٠ مليارات عام من التطور الكوني كي تخلِّق أجيالٌ من النجوم كمياتٍ كافية من هذه العناصر الثقيلة من الغاز البدائي المكوَّن من الهيدروجين والهليوم، الذي كان موجودًا في المراحل المبكرة لنموذج الانفجار العظيم. ومن ثم نحن نعرف أنه لم يكن بمقدورنا أن نستوطن كونًا يقل عمره عن ١٠ مليارات عام. وبما أن حجم الكون مرتبط بعمره ما دام الكون آخذًا في التمدد، فيُلقِي هذا الحِجَاج المنطقي بعضَ الضوء على مسألة السبب وراء أن الكون على الحجم الذي هو عليه. فلا بد أن يكون الكون كبيرًا؛ لأنه من الضروري أن يكون كبير العمر كي يتوفر لنا الوقت الكافي كي نتطور داخله. هذا النوع من التفكير المنطقي يُطلَق عليه عادةً اسم المبدأ الإنساني «الضعيف»، ويمكن أن يؤدي إلى أفكار مفيدة بشأن الخصائص التي قد يملكها كوننا فقط بفضل وجودنا داخله.

سعى بعض علماء الكونيات إلى بسط المبدأ الإنساني لما وراء ذلك. فرغم أن النسخة الضعيفة من هذا المبدأ تنطبق على الخصائص المادية لكوننا على غرار عمره وكثافته وحرارته، فإن المبدأ الكوني «القوي» يتعلق بقوانين الفيزياء التي وفقًا لها تطورت هذه الخصائص. فيبدو أن هذه القوانين مضبوطة بدقة بحيث تسمح بوجود العمليات الكيميائية المعقدة، التي بدورها تسمح بالتطور البيولوجي، ومن ثم بتطور الحياة البشرية في النهاية. فلو كانت قوانين الكهرومغناطيسية والفيزياء النووية مختلفة اختلافًا طفيفًا عما هي عليه، لكانت العمليات الكيميائية والحيوية مستحيلة. من الظاهر، تبدو حقيقة أن قوانين الطبيعة تظهر وكأنها مضبوطة على هذا النحو؛ كأنها محض مصادفة؛ بمعنى أنه لا يوجد في فهمنا الحالي للفيزياء الأساسية ما يحتِّم أن تتسبب هذه القوانين في ظهور الحياة على هذا النحو. ومن ثم حريٌّ بنا تفسير هذا الأمر.

في بعض نسخ المبدأ الإنساني القوي، يستند المنطق أساسًا إلى فكرة الغائية؛ فقوانين الفيزياء على النحو الذي هي عليه لأنها «يجب» أن تكون كذلك كي تتطور الحياة. وهذا معادل لاشتراط أن يكون تطور الحياة هو نفسه أحد قوانين الطبيعة، وأن قوانين الفيزياء الأخرى المألوفة بدرجة أكبر تابعة لهذا القانون. وهذا المنطق يروق للبعض من ذوي النزعة الدينية في التفكير، بَيْد أن منزلته بين العلماء يشوبها الجدل عن حقٍّ؛ إذ إنه يقترح أن الكون صُمِّم تحديدًا كي يلائم الحياة البشرية.

ثمة بناء بديل للمبدأ الإنساني القوي — وعلى الأرجح أكثر التزامًا بمبادئ العلم — يتضمن فكرة أن كوننا قد يتكون من تجميعة من أكوان صغيرة، وكل واحد منها له مجموعة من قوانين الفيزياء تختلف عن غيرها. قد ينتج هذا عن نظرية موحدة، ينكسر فيها تناظر الطاقات العالية بصور مختلفة في بقاع مختلفة من الكون. ومن الجلي أننا تطورنا فقط في أحد الأكوان الصغيرة الملائمة لتطور الكيمياء والبيولوجيا العضوية، ومن ثم ليس علينا أن نندهش حين نجد أنفسنا في كون تبدو قوانين الفيزياء الجوهرية الخاصة به وكأنها تملك سمات خاصة. وهذا يقدم تفسيرًا ما للخصائص التي تبدو في ظاهرها مفاجئة لقوانين الطبيعة المذكورة سابقًا. ليس هذا تفسيرًا غائيًّا؛ نظرًا لأن قوانين الفيزياء يمكن أن تتباين على نحو عشوائي من كون صغير إلى آخر.

هذه النسخة من المبدأ الإنساني تثير الجدل، وهذا عن حق، لكنها على الأقل تفرق بين «الكيفية» التي تطور بها كوننا و«السبب» الذي تطور من أجله. ولا يزال علينا الانتظار حتى نرى هل بمقدور علم الكونيات تفسير الحال الذي يوجد عليه الكون، لكننا بالتأكيد قطعنا شوطًا عظيمًا على طريق فهم ما يحدث وكيفية حدوثه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤