مدخل

سلطة الخطاب

كتبتُ معظم فصول هذا الكتاب في زمن الاغتراب، بعد يوليو ١٩٩٥م، وأقلُّها كُتب قبل ذلك ولكن في سياق «حرب التكفير» التي بدأ إعلانها في مارس ١٩٩٣م، تلك الحرب التي لم تتوقَّف بقرار محكمة استئناف الأحوال الشخصية بالقاهرة في ١٤ يونيو ١٩٩٥م، والذي أيَّدَتْه محكمة النقض في ٥ أغسطس ١٩٩٦م.

خلال هذه الفترة الممتدة من ١٩٩٣م إلى ١٩٩٥م تركَّز بحثي على منهجٍ جديد يمكن أن يعمِّق علم «تحليل الخطاب» نظريًّا وتطبيقيًّا. يتمثل ذلك البُعد في حقيقة أن الخطابات تتبادل عناصر التأثير والتأثُّر بين بعضها وبعض. يحدث ذلك مهما تباعدَت منطلقاتها الفكرية وتناقضَت آليَّاتها التعبيرية والأسلوبية، ومهما اختلف نسقُها السردي بين الوعظية الإنشائية في جانب والتوتر المعرفي في جانبٍ آخر. تتبادل الخطابات من خلال تصارُعها بعضها مع بعض استعارةَ العناصر التي تساعدها على إعادة تكييف بِنْيتها، وتنشيط خصائصها، وتجديد بعض منطلَقاتها، لكي تستطيعَ مواجهةَ نقيضها والاستمرارَ في تحدِّي مشروعيته. وهذا أمرٌ طبيعي؛ فالخطابات في سياقٍ ثقافيٍّ حضاريٍّ تاريخي بعينه تتشارك نفس الإشكاليات، وتُواجه نفس التحدِّيات. أليس التحدي المطروح أمام كل الخطابات المُنتَجة هو تحدِّي دخول المستقبل، والتصدِّي لخطر الخروج من التاريخ؟ في مواجهة هذا التحدِّي الصعب والماثل منذ بداية عصر النهضة العربي الحديث تتعدَّد الإجابات؛ أي تتعدَّد الخطابات.

ولكن في غياب قوانينَ متفَق عليها لممارسة الصراع سلميًّا بأدوات التخاطب، تحاول معظم الخطابات، وبكل السبل، أن تستخدم بعضها ضد بعض أشد أسلحة «الاستبعاد» و«الإقصاء»، بل والتدمير الشامل. بعبارة أخرى، بسبب غياب قوانینَ متفَق عليها لممارسة حق الاختلاف يسعى كل خطابٍ لأن يتحول إلى سلطة ولو بالتحالف مع السلطة السياسية التي تتميز في مجتمعاتنا ببنيتها الدكتاتورية القمعية. وكلما اقترب الخطاب من سُدَّة السلطة السياسية ازدادت شهية القمع والتدمير عند ممثليه، ولا شك أن كل خطاب يحاول أن يمارسَ سلطةً ما؛ فهذا جزء أصيل في بنية الخطاب، أيِّ خطاب، لكنَّ ثمَّة فارقًا يجب التنَبُّه له وتأكيدُه بين الخطاب الذي يُمارِس سلطته بأدواته من حيث هو خطاب؛ أي بآليات الإقناع والحفْز المعرفي، وبين خطابٍ يمارس سلطةً مُستمَدةً من مصدرٍ خارجي؛ أي خارج بنيته كخطاب. إن للسلطة تجلياتٍ وأشكالًا شتى، وإن كان أبرزها بالطبع وأعلاها شأنًا في ممارسة القمع السلطة السياسية بجيشها وشرطتها ومؤسَّساتها التعليمية والدينية والإعلامية. هناك سلطة «العقل الجمعي»، وسلطة الواعظ في المسجد والكنيسة، وهما سلطتان تُسانِد إحداهما الأخرى وتشمَلها بالحماية، فإذا استطاع نمطٌ من أنماط الخطاب أن يستخدمَ هاتَين السلطتَين ويوظِّفَهما لترويج أفكاره فإنه يكون مؤهَّلًا لا لتهميش نقيضه فقط، بل يكون قادرًا على تحدِّي السلطة السياسية، التي تسعى للتحالف معه. لقد استطاع الإمام الخميني أن يُشعلَ ثورةً ضد نظام الشاه في إيران باستخدام شرائط الكاسيت، حتى أصبح من أهمِّ أسلحة فرض سلطة الخطاب في مجتمعاتنا. ولعل هذا يقودنا إلى ملاحظة فارقٍ آخر بين خطابٍ وخطاب. يتمثَّل هذا الفارق في طبيعة «قناة الاتصال» التي يستخدمها كلٌّ منهما. ولا شك أن «قناة الاتصال» ليست أداةً محايدة؛ فالكتاب مثلًا أداةٌ غير ناجزة في ثقافةٍ تسيطر عليها أدوات التلقي الشفاهي حتى في مجال التعليم، أو في مجتمعاتٍ تزيد نسبة الأمية فيها عن ٥٠٪. إذا قُورن الكتاب، كأداة، بأجهزة البث الإعلامي المسموعة والمرئية في سياقٍ مثل سياقنا فالنتيجة محسومةٌ سلفًا. ومن شأن قناة الاتصال الجماهيرية أن تتحكَّم في نمط الخطاب الذي يلائمها؛ لأنها تُراعي مستوى المتلقي الذي تخاطبه. وهذا يشرح لنا كيف تحوَّلَت برامج المواجهات الفكرية في كثيرٍ من الفضائيات العربية إلى مبارزاتٍ كلامية ينتصر فيها الأعلى صوتًا والأبرز قدرةً على الأداء التمثيلي، وهي مبارزاتٌ يتابعها الجمهور — ويشارك فيها أحيانًا — برُوح متابعة مباريات كرة القدم والمصارعة الحرة.

ومع ذلك كله تستعير الخطابات بعضها أدوات بعض، وتسمح لنفسها أحيانًا باستعارة مقولات الخطاب الخصم، وتُعيد تأويلها لتتمكَّن من توظيفها في سياقها الخاص؛ لهذا لا تكون الخطابات متقاربةً فقط في طبيعة الإشكاليات التي تتناولها، أو في طبيعة التحديات التي تتولَّد عنها، بل إنها تتناصُّ بنيويًّا وأسلوبيًّا وسرديًّا كما سبقَت الإشارة. لقد تعلَّمتُ هذا الدرس بشكلٍ عملي حين بدأتُ ألاحظ مسحةً من «الخطابية»، التي هي سمةٌ من سمات الخطاب الشفاهي، تتسلَّل إلى بعض المقالات التي نشرتُها في سياق السجال والدفاع عن النفس في حرب التكفير. كان ذلك التسلُّل أمرًا طبيعيًّا؛ فقد كنتُ أتعرَّض يوميًّا لأسئلةٍ من مواطنين عاديِّين ألتقي بهم في المتجَر أو في عيادة الطبيب أو في الندوات. ولم يكن يُمكِن أن أتجاهلَ الردَّ على تلك الأسئلة بقَدْرٍ من التبسيط الذي يناسب المقام والحال. وأعترفُ أن خبرتي الطويلة في التدريس، واعتمادي مبدأ «الحوار» مع طلابي بديلًا عن «التلقين»، هذا إلى جانب نشأتي الريفية المتواضعة؛ كل ذلك منحَني قدرةً على التواصل مع البشر من مستوياتٍ شتى، لكن هذا شيء وتسلُّل «الخطابية» إلى كتاباتي شيءٌ آخر؛ لذلك توقفتُ عن الكتابة لبعض الوقت. وحين تأملتُ الأمر أدركتُ أن الخطاب النقيض يحاول أن يغزوَني من داخلي بالتأثير السلبي على بنية خطابي، وهو تأثير يمكن أن يتمدَّد تمدُّدًا سرطانيًّا ليصيبه بالشلل.

وحين التقيتُ بالدكتور محمد عمارة في حلقة من حلقات برنامج تليفزيون «الجزيرة»، «الاتجاه المعاكس»، في ٣١ ديسمبر ١٩٩٦م، كنتُ سعيدًا أنه لم ينجح في استدراجي إلى منازلته بنفس أسلوبه الخطابي العالي النبرة، الذي يمُط فيه الكلمات وينغِّمها، مع أنه في فترات الفواصل الإعلانية كان يتحدث بإيقاع الحديث العادي والمألوف. وكنتُ أسأله ضاحكًا عن سر التغيُّر الذي ينتابه فجأة مع دوران الكاميرا، وأسأله لماذا لا يتحدث مثل عباد الله جميعًا، ولدهشتي كان رده أنها عادةٌ من تأثير ممارسته لخطبة الجمعة في مسجد قريته، لكن خلف ذلك كان يكمُن سعي عمارة للانتصار على خصمه بأي طريقة وبأي ثمن، في ذلك النوع من المبارزات، ولم يقتصر الأمر على استخدام هذا الأسلوب الخطابي التنغيمي؛ فعمارة طار من «القاهرة» إلى «قطر» مرتديًا جلبابًا، ومتدثرًا بعباءة ممسكًا بمسبحته بين أصابعه طوال الوقت. ولما كانت تلك أول مرة أراه فيها بهذا اللباس، وكنتُ قد تعوَّدتُ رؤيته باللباس المعتاد — يسمُّونه الغربي الآن — لم أستطع أن أُخفيَ اندهاشي، فحاول من جهته أن يبرِّرَ ذلك بأن هذا الزي ملائمٌ أكثر للراحة في السفر، ولم أتردَّد في أن أقول له مبتسمًا، لقد بدأنا النزال بالفعل يا دكتور عمارة. مفهومٌ أن الزيَّ والسمتَ والشارةَ كانت عناصر في خطاب عمارة، تتساند مع أسلوبه الخطابي ونبرته التنغيمية، لتساعده فيما ظن أنه سيكون انتصارًا إعلاميًّا ساحقًا. حين تمسَّكتُ بأسلوب الحوار الهادئ والنبرة المتزنة أدركتُ أنني نجحتُ في التخلص من التسلُّل الذي حاوله الخطاب النقيض ليغتالَ خطابي من الداخل، ويجُرَّه إلى ساحةٍ تم رسم تفاصيلها مسبقًا.١

هذا الإحساسُ القائم على التجربة، لا على مجرد التأمل النظري، بحكم المواجهات المتكرِّرة مع خطابٍ يركِّز سعيه على استخدام الافتراء وأساليب التحريض لتأكيد انتصاره، عمِّق وعيي بمسألة علاقات التأثير والتأثر (علاقات التناصِّ بلغة علم الخطاب) بين الخطابات، وهو الوعي الذي يجده القارئ ماثلًا في فصول هذا الكتاب الماثل بين يدَيه، هل كان يمكن تحليل علاقات الحضور التي يمارسها خطاب «أبي حامد الغزالي» في خطاب «ابن رشد» دون التنبُّه لهذا البُعد المشار إليه تنبُّهًا عيانيًّا؟ وهل يمكن فهم خطاب التنوير الحديث والمعاصر دون تأمُّل علاقات الحضور اللافتة للخطاب النقيض؟ وهل يمكن عزل عمليات التسلُّل تلك عن سعي الخطابات لاكتساب مشروعيةٍ تمنحُها سلطةً ما تتجاوز سلطة الخطاب — بما هو خطاب — في سياقٍ اجتماعي تاريخي ثقافي تمارس فيه السلطة السياسية أبشع أنواع القمع ضد أي خطابٍ لا يتماهى تماهيًا تامًّا مع منطلقاتها الأيديولوجية؟

هكذا تتحرك فصول القسم الأول من الكتاب «المثقف العربي والسلطة» على هذَين المحورَين. في الفصل الأول «خطاب التنوير بين حق المعرفة وضغوط الخطاب النقيض» يكون موضوعُ التحليل مادةً تراثيةً مستفادةً من خطابَين نقيضَين؛ خطاب «ابن رشد» وخطب «الغزالي»، كلاهما كان في حالة تماسٍّ مع السلطة، وكلاهما سعى بأدواته الخاصة ليكون «الخطاب» بألف ولام العهد؛ أي الذي لا خطاب صحيحًا سواه.

ويتحرك الفصل الثاني «زكي نجيب محمود وغُربة الروح» إلى خطاب التنوير الحديث، وهو خطابٌ تأثَّرَت أدواته التعبيرية كما تأثَّر جهازُه المفاهيمي ومقاربتُه التحليلية بأدوات وآليات خصمه. وهذا أمرٌ ليس مستغربًا بحكم ما سبقَت الإشارة إليه من طبيعة التحدِّي الذي كان على الخطابات مواجهتُه.

في الفصل الثالث «السعي إلى تلويث خطاب النهضة» يتم تناول بُعدٍ آخر من أبعاد العلاقة بين الخطابات من خلال تحليل خطاب عمارة عن كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، وخطابُ عمارة يمثِّل وجهًا آخر لعلاقة الخطابات، هو الانقلابُ من إطار خطابٍ للاندماج في نمط خطابٍ آخر. وإذا كان الفصل الثاني قد تعرَّض في خاتمته للمحاكمة التي أجراها عمارة لفكر زكي نجيب محمود، فإن هذا الفصل يكشفُ أن عمارة يُحاول في الحقيقة أن يُعلنَ «توبةً» صريحة عن خطابه قبل الانقلاب الذي أصابه، ومن الطبيعي أن يكون كتابُ علي عبد الرازق، الذي احتفل به عمارة في ماضيه احتفالًا مشهودًا، هو حائط «توبته»، ولأن التوبة ليست توبةً نصوحًا؛ لأن عمارة يتأرجح تحت يافطة «المفكِّر الإسلامي المستنير»، يُحاول عمارة جهدَه أن يُبرِّئ علي عبد الرازق من «جريمة» تأليف الكتاب ليلصقها — على طريقة «شارلوك هولمز» و«أجاثا كريستي» — بطه حسين.

أما الفصل الرابع «محمد أركون والبحث عن ألْسُنيَّةٍ جديدة» فيتناول بالتحليل بعض «الترضيات» التي يُحِسُّ الخطابُ العلمي أن عليه أن يقدِّمها للحفاظ على موقعه الشرعي داخل الثقافة. ولا شك أن خطاب محمد أركون في تناوله لإشكاليات التراث والفكر الإسلامي المعاصر يمثِّل موقعًا متوسطًا بين الخطاب الغربي/الاستشراقي وبين الخطاب العربي الإسلامي، وهو يحاول بشكلٍ واعٍ لافتٍ للنظر أن يمارس نقدًا لكلا الخطابَين يمكِّنه من الاستقلال عن كلَيهما، لكنه يحاول أيضًا أن يؤكِّدَ انتسابَ خطابه لأفق خطاب الفكر الإسلامي النقدي الناهض، ومن أجل ذلك لا بد من بعض «الترضيات الضمنية» حسب تعبيره هو.

يضيفُ القسمُ الثاني من الكتاب «التراث والتأويل» بُعدًا ثالثًا للبُعدَين السالفَين، يتمثل في حقيقة أن الخطابَين المتصارعَين — إلى حدِّ النفي المتبادل باستخدام رصاص التكفير الديني وتهمة «الخيانة الوطنية» أحيانًا — لا يتناولان فقط نفس الإشكاليات في مواجهة ذات التحدِّي، بل هما مسجونان داخل نفس النفق المظلم الذي حصَر سؤالَ «النهضة» في بُعد «الدين» وحده. كان التحدِّي الذي مارسه الخطاب الأوروبي — إلى جانب التحدي العسكري الماثل في الاحتلال والهيمنة السياسية والاستغلال الاقتصادي — يُحمِّل «الإسلام» مسئولية التخلُّف الذي مكَّنه من السيطرة على مجمل بلدان العالم الإسلامي. نرى ذلك ماثلًا بوضوحٍ في كتابات «هانوتو» و«إرنست رينان»، وغيرهما. وفي استجابة الخطاب العربي الإسلامي للرد على ذلك التحدِّي ومواجهته اتخذ هذا الخطاب موقع الدفاع عن الإسلام، مستسلمًا لوهم الرابط الميكانيكي بين الدين ومقولتَي «التقدُّم» أو «التخلُّف». وكان من شأن الموقف الدفاعي أن يخلُقَ تيارَين يتأسَّسان على منطق الارتباط «العلِّي»، بين الدين وعوامل التقدُّم والتخلُّف؛ التيار الأول يردُّ أسباب تخلُّف المسلمين لا إلى الدين نفسه، بل إلى سوء الفهم والتفسير. وذلك هو تيار الإصلاح الديني المتمثل في خطاب الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما، وهو التيار الذي رأى في حُسْن الفهم وصواب التأويل طريقًا إلى الإصلاح والتقدم على كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. أما التيار الثاني فهو التيار الذي يردُّ التخلُّف إلى البُعد عن نهج الإسلام وطريقة السلف، ويُنادي بالعودة إلى الدين وسُنَّة السلف الصالح حتى يعودَ للأمة مجدُها الغابر. ودون التقليل من شأن كثيرٍ من الفروق التي تفصل بين التيارَين، من السهل ملاحظة أن التيار الأول، تيار الإصلاح الديني يسعى، بالتأويل العقلاني للنصوص الدينية والتراثية، لفتح المعنى الديني ليستوعبَ كثيرًا من منجَزات العصر في كل المجالات، في حين يهتَم التيار الثاني بتثبيت المعنى الديني، ويسعى لإعادة صياغة الواقع الاجتماعي ليتلاءم مع المعنى والتأويل التراثيَّين. ورغم أن هذا الفارق يحصُر الخلاف في مسألة المعنى؛ أي في قضايا التفسير والتأويل، فإنه يلخِّص كل الفروق الأخرى؛ يلخِّص الفارق بين خطابٍ منفتحٍ نحو الآخر، ويقبل التعايش معه والإفادة من منجزاته، وبين خطابٍ منغلق يحصُر الهوية في الماضي الذي يسعى لاستعادته بشتى الطرق والأساليب، كما أنه يلخِّص كذلك الفارقَ بين خطابٍ يسعى لتغيير الوعي بالمنطق والبرهان والحجة وأساليب الإقناع المعرفي وبين خطابٍ يسعى لتغيير الواقع بالقوة.

ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن الخطاب السلفي — الذي تطوَّر في اتجاه مزيدٍ من الانغلاق والتوتُّر الحركي إلى محاولة تغيير الواقع بحد السيف لا بقوة الكلمة — كان مُضْمَرًا في خطاب مؤسِّسي حركة «الإصلاح الديني»؛ فبينما كان الأفغاني يقوم بدور الثائر المحرِّض، بل والمتآمر أحيانًا، كان عبده قد قنع بدور المصلح بعد أن لعن الساسة والسياسة بعد فشل الثورة ووقوع مصر تحت وطأة الاحتلال البريطاني. وفي خطاب عبده نلمح تجاوُر النقيضَين، ومن خطابه انبجس التياران المشار إليهما.

قام محمد رشيد رضا — شريك عبده في «المنار» — بدورٍ لافت في تعميق المنحى السلفي، خاصةً في سياق إلغاء الخلافة وصدور كتاب علي عبد الرازق، وذلك بعد عامٍ واحدٍ فقط من صدور أول دستورٍ مدني حديث في مصر. كان الجدل صاخبًا بين أنصار الدولة الدينية وأنصار الحكم المدني، وبعد أعوامٍ أربعة قام حسن البنا بتأسيس جمعية «الإخوان المسلمين»؛ لذلك رأينا أن يكون الفصل الأول من هذا القسم الثاني عن موضوع السلطة «العقل العربي بين سُلطتَي الدين والسياسة» لنشير إلى مدى تأثير السلطة على الثقافة، وسعي الفكر العربي لمحاباة السلطة وتبرير أفعالها، منذ الخلاف العلوي/الأموي حتى استخدام الدين في تأكيد أفكار الاشتراكية في الزمن المعاصر، وما نتج عن هذه الطريقة في استخدام النصوص من تشوُّهات. ويتناول الفصل الثاني من الكتاب «إشكالية الخلافة بين التاريخ واللاهوت»، وهو يكشف حقيقة أن الصياغات اللاهوتية لمسألة «وجوب الخلافة» — الإمامة العظمى حسب تعبير رشيد رضا — كانت صياغاتٍ تبريريةً لواقع الممارسة السياسية التاريخية، ولم تكن بأي معنًى من المعاني استنباطًا من دلالة النصوص الدينية.

ولأن إشكالية العلاقة بين «الدين» و«المجتمع» تم اختزالها في شكل علاقةٍ ميكانيكية، يقوم فيها الدين بدَور «الفاعل» ويكون فيها المجتمع «مفعولًا به» سلبيًّا، صار «التأويل» و«التأويل المضاد» هما أساس بنية الخطابات. ولأن التأويل يتناول النصوصَ الدينية الأصلية كما يتناول النصوصَ التراثية، فقد خصَّصنا الفصل الثالث لمناقشة «إشكالية التراث بين التجديد والترديد»، بينما تناوَلْنا في الفصل الرابع «إشكالية التأويل لدى الحركات الإسلامية». إن إشكالية التأويل ونقيضه «التأويل المضاد» مبنيةٌ على فرضية العلاقة الميكانيكية بين «الدين» و«المجتمع»، وهي العلاقة التي تتجاهل أن الدين عنصرٌ جوهري من عناصر البناء الاجتماعي، عنصرٌ ضمنَ عناصرَ أخرى تندُّ عن الحصر، وتعتبر الدين وحده «العِلَّة» الوحيدة لتحقيق التقدُّم أو إحداث التخلُّف. من هنا يعتمد التأويلُ ونقيضُه المضاد نمطًا من الاجتهادات الجزئية التي لا تطرح أسئلةً جوهريةً حول طبيعة النصوص وتاريخها وبنيتها الدلالية وسياقها المعرفي. من أجل ذلك رأينا أن يطرحَ الفصلُ الخامس «المقاصد الكلية: مشروع قراءة جديدة» اقتراحًا مبدئيًّا لإعادة النظر في صياغة «المقاصد» وَفْق منهجٍ في القراءة يتناول النصوص في سياقها التاريخي، ومن خلال بنيتها الكلية. لقد صيغَت «المقاصد» التراثية انطلاقًا من «الحدود» الخمسة؛ حد الزنا (حفظ العِرض) وحد السرقة (حفظ المال) وحد القتل (حفظ النفس) وحد الخمر (حفظ العقل)، وأخيرًا حد الردة (حفظ الدين)، فهل تنحصر مقاصد الشريعة في قانون «العقوبات»؟ البعض يريد ذلك، رغم أن بعض تلك الحدود، حتى في حدود التطبيق التاريخي لها، ما تزال مشروعيتُها الدينية محل تساؤل، هذا فضلًا عن أن بعضها الآخر صناعةٌ فقهيةٌ خالصة، واجتهادٌ قانونيٌّ دنيويٌّ بحت.

١  التقيتُ مع عمارة بالفندق قبل مغادرتنا للذهاب إلى الاستديو، كنتُ أُنهي إجراءات المغادرة بعد مبيت ليلةٍ واحدة؛ إذ عدتُ بعد البرنامج مباشرةً إلى هولندا، التقاني بالأحضان والسلام الحار رغم عدم وجود علاقةٍ شخصية، سوى المساجلات الفكرية. وحدَّثني عن ضرورة إيجاد مخرجٍ من المشكلة لكي أعود للوطن ولجامعتي وطلابي، وقال إنهم (هكذا تكلَّم بصيغة الجمع، ولم أسأله من هم هؤلاء الذين يتحدَّث باسمهم) يعتقدون أن أفضل السبل لتحقيق ذلك هو أن أنشُرَ بيانًا يتضمَّن فيما يتضمَّنه أنني لم أقصد بما كتبتُ المعانيَ التي تبادرَت إلى الأذهان، وأثارت كل هذه الإشكاليات، وأنني حسمًا للأمر وإثباتًا لحسن النية سأقوم بانتزاع العبارات المُوهِمة من كتبي في الطبعات الجديدة. هذا البيان يُعرض على فضيلة الإمام الأكبر الشيخ الطنطاوي، وهو رجل كما تعلم — يواصل عمارة اقتراحهم — مستنير وعادل؛ فلعله يقوم بإصدار بيانٍ من جهته يُصلح الأمور. سألتُه: هل تعتقد أن بيانًا من شيخ الأزهر يُلغي حكمًا قضائيًّا أكَّدَتْه محكمة النقض؟ فقال: هذه مجرد خطوة، ثم ننظر فيما يمكن عمله بعد ذلك. في سيارةٍ واحدةٍ ذهبنا إلى مبنى التليفزيون فقلتُ له: لقد قرأتُ كتابك «التفسير الماركسي للإسلام»، ودَعْنا الآن من الكتاب ومناقشته فتلك قضيةٌ أخرى ليس هذا وقتَها ولا مجالَها، ولكني عاتبٌ عليك وعلى ضميرك الفكري الذي سمح لك أن تختار توقيتَ نظر الدعوى أمام النقض لكي تساهم بدون قصد — وأنا أفترض حسن النية دائمًا — في تقديم أدلةٍ إضافية للخصوم أو للقضاة. كان المفترَض أن تؤجِّل ما أسمَيتَه «الحوار الفكري» إلى ما بعد حكم النقض درءًا للشبهة؛ فمن أعظم تقاليد التراث الإسلامي التعفُّف عن مساجلة المسجون أو المقيَّد بإجراءاتٍ قضائية. وحكيتُ له أنني رفضتُ المشاركة في المهزلة التليفزيونية، التي أعقبَت اغتيال الرئيس المصري السابق على أيدي عناصر تنظيم «الجهاد»، للحوار مع المعتقلين والمقبوض عليهم، وكان رأيي أن الحوار مع المسجون ليس في الحقيقة إلا «إملاء» للرأي و«فرضًا» لقوة المتحدِّث الذي أحضرَتْه وزارة الداخلية من بيته إلى «السجن» — حيث تسجَّل الحوارات — مستريحًا مهندمًا وسيمًا في عربةٍ مكيَّفة الهواء، بينما أُخرج الآخر من الزنزانة. ومن المؤسف أن الدكتور عمارة بعد أن عاد للقاهرة أدلى بحديثٍ لصحيفةٍ تُسمِّي نفسها «الحقيقة» ادَّعى فيه وقائعَ غيرَ صحيحة بخصوص حديثنا الشخصي. والعِبرةُ من هذه القصة والشاهدُ فيها أن البعض لا يُحِسُّون بانتصارهم (الذي تحقَّق بحكم محكمتَي الاستئناف والنقض) ولا يبتهجون به؛ لأنهم يعلمون أنه انتصارٌ أشبه بالهزيمة؛ فالضحية التي ظنُّوها ستستسلم وتتراجع تبدو أقوى منهم ومن أكاذيبهم. هذا هو التفسيرُ المعقول لحرص الإسلاميين على تفاوت اتجاهاتهم — من المؤسَّسة الرسمية المتمثلة في الأزهر والمفتي إلى المعتدلين من أمثال عمارة — على أن ينالوا انتصارًا آخر بتراجُعي عن اجتهاداتي، التي أعلنتُ مخلصًا أنها — شأن كل الاجتهادات البشرية الأخرى من عصر الصحابة حتى يوم الدين — عُرضةٌ للخطأ والصواب. وقد أكَّدتُ في حواراتي كلها أنني — على عكس البعض ممن يُعطون لأنفسهم سلطةً فوق سلطة البشر، ويخلطون عن عمدٍ وسوء قصدٍ في أغلب الأحوال بين آرائهم وبين الدين ذاته — لا أتمسَّك بالرأي إذا تبيَّن لي وجه الخطأ، وهو ما لم يحدث حتى الآن في هذا الضجيج العالي والجعجَعة التي لا «طِحْن» فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥