تمهيد

العلاقة بین المثقَّف والسلطة علاقةٌ إشكالية بصفةٍ عامة في تاريخ الفكر الإنساني، ويكفي لبيان إشكاليتها الإشارة إلى موقف سقراط من الحكم عليه بتناول «السُّم» نتيجةَ اتهامه بإفساد عقول الشباب. إن رفض سقراط الهرب — وكان سهلًا ميسرًا — وإصراره على إظهار احترام السلطة أمرٌ يجب أن يلفتَ انتباهَنا إلى بُعد «توقير» السلطة واحترامها عند ذلك الفيلسوف حتى لو تعارضَت قراراتُها مع «الحقيقة» كما يراها الفكر الفلسفي.

لكن الإشكالية أكثر تعقيدًا حين ننتقل إلى تاريخ الفكر العربي، وهنا لا بد من طرح بعض التعريفات الأولية لمفهومَي «المثقَّف» و«السلطة» وذلك قبل الدخول إلى طرح بعض الأفكار عن العلاقة بينهما. «المثقَّف» هو الإنسان المنخرط — بطريقةٍ أو بأخرى — في عملية إنتاج الوعي.

في مقابل المثقَّف — مُنتِج الوعي — يقفُ رجل السلطة القابضة على زمام حركة المجتمع عن طريق التحكُّم في القرار التنفيذي، والقدرة على استخدام ثمرة جهد المثقَّف وتوظيفها لتكريس سلطته وإعطائها مشروعية. وهذا البُعد يُبرز لنا الجانبَ التأسيسي لعلاقة المثقَّف بالسلطة، وأعني بالجانب التأسيسي حاجة السلطة السياسية إلى تأكيد مشروعيتها بالاستناد إلى نمطٍ من المشروعية السيادية العليا؛ أي المشروعية السيادية التي تتجاوز ممارساتها الجزئية وفعاليتها التاريخية الاجتماعية.

إنها محاولة السلطة لتجاوز تاريخيتها ورهاناتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لكي تنغرز في «الأبدية» و«الديمومة». و«الفكر» بكل أنماطه هو أداتُها لتحقيق هذا الانغراس والتعالي. وغنيٌّ عن البيان أنه في المجتمعات التي تأسَّسَت فيها حركة الفكر والإبداع والعقيدة لا نجد هذا الهاجس المدمِّر بالدرجة نفسها عند رجل السلطة؛ فقد تم فضُّ الاشتباك «السُّري» بين السلطة والمثقَّف، وتبلوَرَت أنماطٌ أخرى من العلاقات التي تحتاج للتحليل في تلك المجتمعات.

في تاريخنا العربي ما زال الاشتباك قائمًا وماثلًا بأشكالٍ مختلفة، وهنا لا بد أن نتعرَّض لكشف أسباب التعارض التي يمكن أن تنشأ بین المثقَّف والسلطة.

يجب ألا ننسى الآن نمط المثقَّف الذي يمنح السلطة السياسية — واعيًا أو غير واعٍ، طائعًا أم مُجبَرًا — مشروعيةَ السيادة العليا التي تتُوق إلى ترسيخها. والتعارض إنما ينشأ بین المثقَّف المتمرد/الثوري وبين السلطة، بسبب عزوفه عن الانخراط في إنتاج وعيٍ يرسِّخ السيادة العليا للسلطة.

وقبل أن نكشفَ عن تلك التعارضات في سياق التاريخ نشير إلى «جوهرية» التعارض بين الوعي والسلطة؛ الوعي بما هو وعي (جمالي، أو فكري، أو ديني) يتحرك صوبَ محاولة اكتشاف «الحقيقة» في تجلياتها ومظاهرها المتعددة. ومع أن الوعي ذاته ظاهرةٌ تاريخية، وعلى رغم أنه يتوصَّل في حركته الدائمة إلى الكشف عن حقائقَ ثقافيةٍ تاريخية، فإن هدفَه الأسمى يكمُن في الرغبة الدائمة في تجاوُز ما تم اكتشافه والتحرُّك إلى قارة «المجهول» في الفكر والإبداع؛ أي إن الوعي — بعبارة أخرى — نشاطٌ وفعاليةٌ متحركة لا تؤمن بالثبات والاستقرار، لكن السياسة — محور نشاط السلطة وفعاليتها — تتحرك دائمًا في محور الثبات والاستقرار؛ لذلك ينصرف اهتمامها في الفكر والإبداع إلى ما يحقِّق هذه الغاية، التي تُفضي إلى تكريس مشروعيَّتها السيادية العليا. وكل فكرٍ أو إبداعٍ يناهض هذه الغاية يتم تهميشُه في أحسن الأحوال إن لم يتمَّ اغتياله وتصفيته نهائيًّا.

والتعبير عن هذا التعارض بلغة الفلسفة يمكن أن يكون على النحو التالي: إن مفهوم الحقيقة عند المثقَّف الحقيقي يتعارض مع المفهوم نفسه عند رجل السلطة والسياسة. الحقيقة عند رجل السلطة أو السياسة تكون كذلك؛ أي تكون حقيقةً لأنها نافعة ومؤثِّرة وقادرة على تحقيق أهداف الاستقرار والثبات.

من هذه الزاوية يمكن أحيانًا أن نجد نماذجَ لرجل السلطة الحامي حمى الحقيقة (المأمون الخليفة العباسي وعقلانيته واستخدام الفكر الاعتزالي)، لكن علينا هنا أن ندرُسَ الكيفية التي يوظِّف بها رجلُ السياسة الحقيقةَ تلك توظيفًا سياسيًّا نفعيًّا يَحرِمها من أن تترسَّخ في الوعي الشعبي بوصفها حقيقة.

وعلى عكس المفهوم النفعي البراغماتي للحقيقة عند رجل السلطة تكون «الحقيقة» عند المثقَّف نافعةً لأنها حقيقة، وليس لأية غاياتٍ نفعيةٍ مباشرةٍ تُرجى من ورائها. إنها نافعةٌ لأنها تخلق وعيًا، وتتجاوز اللحظية السياسية، وتتخطى حدود الاستخدام البراغماتي. لكن هذا الفصل التام بين مفهومَي «الحقيقة» عند كلٍّ من المثقَّف ورجل السلطة لا يعني ما يمكن أن يتبادرَ إلى الذهن من فصلٍ تامٍّ بين الفكر والسياسة بوصفهما نشاطَين مستقلَّين.

يقع الفصل بين «الفكر» كفعاليةٍ تسعى نحو المزيد من «الحقائق»، وبين السياسة كفعاليةٍ لتحقيق الممكن؛ فما يصلُح للاستخدام انطلاقًا من مبدأ الغاية تبرِّر الوسيلة، وهو مبدأ من مبادئ السياسة وتثبيت السلطان، يتعارض مع الفكر بما هو سعيٌ علمي يتجاوز إطار التبرير والنفعية، ويسعى إلى التفسير والتقييم.

لكن بعيدًا عن هذا التعارض يمكن القول إن كل فكرٍ يتضمَّن نمطًا من الممارسة السياسية بالمعنى العام؛ لأن الفكر لا يتم إنجازه خارج نسَق العلاقات في التشكيلة الاجتماعية التي تؤطِّرها ثقافةٌ بعينها.

وهنا نصل إلى التمييز بين نمطَين من المثقَّفين؛ المثقَّف التبريري الذي يدور في فلَك النفعي والسياسي المباشر، والمثقَّف الذي يهتم بالتحليل والتفسير من دون أن ينخرطَ بشكلٍ مباشر في مفهوم نفعية الحقيقة. ولا نقصد بالمثقَّف التبريري ذلك المثقَّف المتعاون مع السلطة والخادم لها، والمُنتِج لفكرٍ ذي مردودٍ مباشرٍ لتأييدها وإن كان هذا ما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى. لا نقصد هذا النمط وحدَه، بل نضُم إليه نمطَ مثقَّف المعارضة الذي يدور في فلَك «النفعي» والبراغماتي أيضًا، ولكن من منظورٍ سلطويٍّ معارضٍ للسلطة القائمة؛ أي إننا يجب أن نميِّز بين المنخرط في العمل السياسي المباشر اليومي، وبين المثقَّف المنخرط في العمل الثقافي والفكري والإبداعي من دون انعزالٍ أو تعالٍ أو تسامٍ زائف.

نصل في ختام هذا التحليل للقضايا النظرية المرتبطة بعلاقة المثقَّف بالسلطة إلى تحديد الفَرق بين خطاب المثقَّف المُنتِج للوعي وخطاب مثقَّف السلطة المُنتِج لخطاب السلطة. ويُمكِن تلخيص هذا الفَرق بالقول إن خطاب المثقَّف الحقيقي خطابٌ مفتوح؛ أي غير دوغمائي، بمعنى أنه لا يرى أنه يمثِّل سلطةً إطلاقيةً نهائية، إنه خطابٌ مفتوح لأنه نقديٌّ في بنيته وقادرٌ على تجاوز نتائجه، وذلك على عكس خطاب المثقَّف الآخر، مثقَّف السلطة؛ فهو خطابٌ مُغلَق دوغمائي إطلاقي، يتضمن مفهومَ الدفاع عن حقيقةٍ مطلَقة في كليتها وشموليتها. هذا التمييز يتباعد بنا تمامًا عن التمييز السائد بین «مثقَّف السلطة» و«مثقَّف المعارضة» بالمعنى السياسي الدارج، وهو يُتيح لنا أن نضع التعارض الثقافي/الفكري بين نمطَين من الخطاب، أو نمطَين من الوعي؛ الخطاب المفتوح، وهو خطاب المعارضة بامتياز، والخطاب المغلَق وهو خطاب السلطة بامتياز. إن الخطاب — أي خطاب — حين يتحول إلى سلطة، ولو كان في موقع المعارضة السياسية المباشرة، ينتهي إلى تكريس مفهوم «السلطة» في مجال الفكر والوعي والإبداع، وهو مفهومٌ أخطر بكثيرٍ من مفهوم السلطة السياسية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥