أنا رجلٌ من غمار الموالي١

سؤال: د. نصر حامد أبو زيد، لاحظتُ من قراءة العديد من المقالات التي كُتبَت حول ما سُمي «قضية نصر أبو زيد» كلامًا متناقضًا حول مَنشَئك، والتزامك المبكِّر بتنظيم الإخوان المسلمين، فهل يمكن أن تحدثنا قليلًا عن هذه المرحلة، بدءًا من نشأتك؟

وُلدتُ في إحدى القرى المصرية الواقعة وسط الدلتا لأبوَين فقيرَين، ولا أجد خيرًا من تلك الأسطر الشعرية التي وردَت على لسان «الحسين بن منصور الحلَّاج» (قُتل صلبًا سنة ٣٠٩ﻫ/٩٢٢م) في مسرحية الشاعر المصري «صلاح عبد الصبور» «مأساة الحلاج»:

أنا رجلٌ من غمار الموالي، فقيرُ الأَرومة والمنبَتِ؛
فلا حسَبي ينتمي للسماء، ولا رفعَتْني لها ثروتي.
ولدتُ كآلاف من يُولَدون، بآلافِ أيامِ هذا الوجود؛
لأن فقيرًا — بذات مساء — سعى نحو حضن فقيرة،
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية.
نموتُ كآلاف من يكبرون، حين يُقاتون خُبْزَ الشموس …
ويُسقَون ماء المطر،
وتلقاهم صبيةً يافعين حَزانَى على الطرقات الحزينة،
فتَعجَبُ كيف نمَوا واستطالوا، وشبَّت خُطاهم …
وهذي الحياة ضنينة.

وُلدتُ كآلاف من يُولَدون في القرى المصرية، وُلدتُ في قرية «قحافة»، إحدى القرى الملاصقة لمدينة «طنطا» عاصمة محافظة «الغربية»، في وسط الدلتا، في العاشر من يوليو ١٩٤٣م. وُلدتُ في سياق الحرب العالمية الثانية، التي كُتب على مصر، كُما كتب على بعض الدول العربية الأخرى، أن تُعانيَ من ويلاتها بلا ناقة لها فيها أو جمل. ارتبط بها اسمي — «نصر» — الذي اختارَه لي أبي تيمنًا بانتصار «الحلفاء» على «المحور»، أو ربما بانتصار «المحور» على «الحلفاء»؛ فلستُ متأكدًا على انتصار أيِّ الفريقين كان يراهن أبي.

حين قامت ثورة يوليو ١٩٥٢م كنتُ في التاسعة من عمري. أحببتُ محمد نجيب، فأرسلتُ له رسالة جاءني ردًّا عليها رسالةُ شكر وصورةُ الرئيس. وبنفس القَدْر أحببتُ جمال عبد الناصر، ولم يكن يعنيني آنذاك ما حدث في مدينة «كفر الدوار» من قتلٍ للعمال وإعدام كلٍّ من «خميس» أو «البقري»، ولا كيف تم استبعاد «محمد نجيب» وحبسه في بيته. كل تلك التفاصيل قرأتُ عنها وعرَفتُها بعد أن كبِرتُ. لكني أذكر جيدًا فرحةَ الناس في قريتي ومعهم أبي لطرد الملك «فاروق» من البلاد يوم ٢٦ يوليو، ثم فرحتَهم العارمة بإلغاء «الملكية» وإعلان «الجمهورية». لا أظنُّ أن أهل قريتي شغلَتهم كثيرًا الصراعاتُ التي دارت على مستوى مجلس قيادة الثورة بين «عبد الناصر» و«محمد نجيب»، ولا أظنُّهم اهتموا كثيرًا بقرار حل الأحزاب ولا بأزمة «مارس ١٩٤٥م». لقد كانت فرحة الناس التي، أحسَسْتها وأنا طفل، غامرة وسعادتهم طاغية بشعار «ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد». كانوا يتابعون مفاوضات «الجلاء» وسَعِدوا بالاتفاق، ولم يهتمُّوا كثيرًا بالتفاصيل التي كان يناقشها رجال السياسة من أبناء «العهد البائد». كان الفرح ﺑ «العهد الجديد» وبرجاله قادرًا على تصنيف كل «العهود» التي سبقَت لحظة ميلاد العهد الجديد في خانة «البائد» دون تردُّد وبصورةٍ مطلَقة.

كان أبي وفديًّا كأغلبية الشعب المصري عامة، وأهل قريتي بصفةٍ خاصة. لكن الناس جميعًا، وهو معهم، تقبَّلوا ببساطةٍ شديدةٍ أن حزبهم كان قد طاله الفساد مثل بقية الأحزاب، وصدَّقوا أن «مصطفى النحاس باشا» زعيم الأمة ووريث «سعد زغلول» و«محمد فرید» و«مصطفی کامل» كان ألعوبةً في يد زوجته «زينب الوكيل»، التي كانت تعيش كالأميرات، وتقضي الصيف في أوروبا شأن أميرات العائلة الملكية وأمرائها. لقد صدَّقوا كل ذلك وأكثر منه؛ لأنهم في غمار فرحتهم بتوقيع اتفاق الجلاء وبداية رحيل قوات الاحتلال عن أرض الوطن، أدركوا أن العهد الجديد يحقِّق ما فشل «الوفد» — الذي نشأ أساسًا «وفدًا» للمفاوضات من أجل الجلاء — في تحقيقه. كانت الثورة بالنسبة لأهل قريتي — ولي بالطبع — نهرًا متدفقًا بالنور الذي يفيض على كل الأشياء؛ فلا أذكر أنني سمعتُ كلمة «نقد» واحدة أو عبارة «أسف» على إلغاء الأحزاب، كأنما كان ناسُ قريتي يعرفون معنى «الفساد» السياسي الذي أعلنَت الثورة أنها ستُخلِّص البلاد منه، كما كانوا يعرفون أن «الملك» و«الإنجليز» هما أساسُ الفساد وليسا كل الفساد.

هكذا عاش أهل قريتي، وعشتُ معهم، أفراح الثورة صافية من توقيع اتفاق الجلاء إلى معركة الأسلحة (تسليح الجيش)، ثم معركة «السد العالي» حين رفض «البنك الدولي» تمويل المشروع، فتأميم قناة السويس، فالعدوان الثلاثي ثم انسحاب المعتدين. انتصارات وانتصارات وانتصارات حوَّلَت شعار «ارفع رأسك يا أخي» إلى حقيقةٍ ملموسة يُحِس بها الناسُ في قريتي وأعيشُها معهم. لم ينغِّص هذه الأفراح المتتالية صدام الثورة مع «الإخوان المسلمين» عام ١٩٥٤م، رغم أنه صدامٌ عاشته كل قرية في مصر، لكن هذا الصدام كان بالنسبة لي تجربةً خاصة بدأَت معها بداياتُ تشكُّل وعيي السياسي.

وُلدتُ لأسرة مصرية عادية. ترتيبي بين إخوتي «الثالث»؛ إذ حسَبنا الأخ الذي مات قبل أن أُولَد، فكانت تكبرني أختٌ تُوفيَت — رحمها الله — سنة ١٩٧٩م وأنا في أمريكا للدراسة. لكني في جميع الأحوال أكبر الذكور؛ الأمر الذي أهَّلَني لتحمُّل المسئولية المبكِّرة التي فرضتها الظروف، يليني أختان وأخوان، بالإضافة إلى الوالدة — رحمها الله — أصبحتُ مسئولًا عنهم في سن الرابعةَ عشرة. كان الأب مزارعًا، لكنه هجر الفلاحة لقلة ما كانت تدرُّه من دخل، خاصةً بالنسبة لصغار الملاك، أو مَن يُسمَّون مُلَّاكًا على سبيل المجاز. باع قطعة أرضه الصغيرة، وفتح محل بقالةٍ صغيرًا، تركه شبه خالٍ من أية بضائع حين تُوفي في الرابع والعشرين من شهر أكتوبر سنة ١٩٥٧م.

بدأتُ تعليمي، شأن معظم الأطفال في الريف المصري، بتعلُّم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم وبعض الحساب في «الكُتَّاب». كان أبي — رحمه الله — ينوي إلحاقي للدراسة بالأزهر الشريف، غير أن المرضَ الذي ألمَّ به جعله يغيِّر مسار تفكيره، فقرَّر إلحاقي بالتعليم المدني العادي، والذي يستغرق مدًى زمنيًّا أقلَّ من التعليم الديني. كنتُ قد أتممتُ حفظ القرآن الكريم في سن الثامنة، وهي سنٌّ أكبر من سنِّ الالتحاق بالمدرسة الابتدائية، فكان من الضروري اللجوء للتعليم الخاص. هكذا التحقتُ بمدرسة «العبيدية» الابتدائية بطنطا، وهي مدرسة كان يمتلكها ويديرها الأستاذ «عبده أسعد»، ويقوم ولداه «سامي» و«أنيس» بمساعدته في الإدارة والتدريس معًا. وما زلتُ أذكر الأستاذ «جرجس» مدرِّس الحساب، والواجبات التي كان يُرهِقنا بها، والعقاب الذي كان يتهدَّدنا دائمًا عند أي بادرة تقصير. أما مدرس اللغة العربية فهو الشيخ «عيسى»، وكان نموذجًا يُحتذَى في مظهره وسلوكه معًا.

من الذكريات التي لا تُنسى ذلك اليوم الذي ذهبتُ فيه متأخرًا إلى المدرسة. كان ذاك اليوم هو أول أيام شهر رمضان، والذي بدأَت فيه تجربتي مع الصيام، أثناء العام الأول لي في المدرسة (العام الدراسي: ١٩٥١-١٩٥٢م). كنتُ قد سهرتُ الليلة السابقة حتى موعد السحور خشية ألَّا يوقظَني أحد؛ لأن الأهل كانوا عادةً يُشفِقون على الأبناء من الصيام في سنٍّ مبكِّرة. استيقظتُ متأخرًا، وحين وصلتُ المدرسة كان الباب قد أُغلق، ولكني لم أقنع من الغنيمة بالإياب. طرقتُ الباب، الذي لا يختلف عن أي بابٍ عادي؛ لأن المدرسة كانت في الطابق الأول في منزل أسرة الأستاذ «عبده أسعد». فوجئتُ بالأستاذ «عبده» شخصيًّا يفتح الباب، فأصابني هلعٌ أخرَس لساني، ولكن الأستاذ الذي يعرف كل تلاميذ المدرسة بالاسم تساءل متهكمًا: أهلًا وسهلًا يا سيدي، هي ناموسية حضرتك كحلي؟!

ولما لم يجد ردًّا مني تساءل متحديًا هذه المرة: وحضرتك إن شاء الله صايم ولا فاطر؟

وكأنني وجدتُ طوق النجاة أجبتُ: صايم والله العظيم.

- وريني لسانك.

وبسرعة لا تردُّد فيها فتحتُ فمي، وأخرجتُ له لساني ليتأكد من صدقي.

– اجري على فصلك، وإياك تتأخر مرة ثانية.

حصَلتُ على الإعدادية سنة ١٩٥٧م، قبل عدة شهور من وفاة والدي، وكان من الطبيعي أن ألتحق بالتعليم الفني الثانوي الصناعي. كان رفض أبي لإصراري على الالتحاق بالتعليم الثانوي العادي المؤهِّل للالتحاق بالجامعة رفضًا حاسمًا لم يُفلِح في تغييره تدخُّل الأهل والأقارب. كأنه كان على يقينٍ من دُنو الأجل، وما يترتَّب عليه من مسئولياتٍ رأى أنني يجب أن أكون مستعدًّا لها بالشهادة المتوسطة، التي تؤهِّل للالتحاق بعملٍ يوفِّر للأسرة الحد الأدنى من الحياة الكريمة. وكان هذا بالفعل ما حدث؛ فحصَلتُ على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية — قسم اللاسلكي — سنة ١٩٦٠م، والتحقتُ بالعمل بهيئة المواصلات اللاسلكية بدءًا من شهر فبراير ١٩٦١م، لكن حُلم الالتحاق بالجامعة ظل حيًّا في نفسي، فحصَلتُ على الثانوية العامة — نظام الامتحان من الخارج المسمى «منازل» — عام ١٩٦٨م، والتحقتُ بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة، وتخرَّجتُ عام ١٩٧٢م بتقدير «ممتاز»، وعُيِّنتُ معيدًا في شهر أكتوبر من نفس العام. كان هذا التعيين نقلةً في مجال العمل من «فني لاسلكي» — من ١٩٦١م إلى ١٩٧٢م — إلى السلك الأكاديمي منذ ١٩٧٢م حتى الآن. من نافلة القول أنْ أقرِّر أن مرحلة التعليم الجامعي كانت حاسمةً في تعميق وعيي النقدي، والذي نبع أساسًا من التجربة الحياتية والخبرات الاجتماعية المكتسَبة قبل الجامعة.

لم أذكر أمي رحمها الله؛ لأنني أنوي أن أكتب بالتفصيل عن تلك المرأة الرائعة التي تحمَّلَت معي، أستغفر الله، بل أنا الذي تحمَّلتُ معها، بعض العبء في دعم تلك الأسرة وحماية سفينتها حتى وصلَت شاطئ الأمان. وإذ استقرَّت السفينة بعيدًا عن العواصف والأنواء، وإذ بدا أن الحياة تبتسم قرَّرَت «أم نصر» — وهذا اسمها الذي كان الجميع يدعونها به — الرحيل إلى جوار ربها راضيةً مرضية. رحلة كفاحها منذ رحيل الزوج الذي لم يتجاوز الأربعين إلا ببضع سنوات سنة ١٩٥٧م، وهي آنذاك لم تكن قد تجاوزَت الخامسة والثلاثين بعدُ، وحتى رحيلها سنة ١٩٨٢م، هي مسيرة ربع قرنٍ من النضال البطولي الملحمي الذي يحتاج لأن أفرد له فصلًا كبيرًا في كل ما يتعلق بسيرتي. إنها تجسيدٌ معاصر لرحلة «إيزيس» في بحثها عن «الزوج» «أوزوريس»، الذي انتثرَت أعضاؤه في قرى الوادي — وادي النيل — ونجوعه، لكي تُعيد إلى جسده الروح. غير أن رحلة «أم نصر» لم تكن بحثًا عن جسد الزوج، بقَدْر ما كانت تشخيصًا حيًّا لدوره المُفتقَد بالغياب، كان عليها أن تُضحِّيَ بنفسها تمامًا لكي تكون الأب والأم، الملاذ والمأوى. كان عليها حتى أن تحبسَ دموعها، وتكتمَ أنينها؛ لأن الأطفال لا يرحمون ضعف الآباء والأمهات. كان على «أم نصر» أن تُثبِتَ لنفسها وللعالم ولأولادها أنهم في أمان؛ لأنها تمتلك إرادةً من فولاذ.

•••

سؤال: هل صحيحٌ أنك في مرحلة قبل الجامعة كنتَ نشطًا في حركة الإخوان المسلمين، وهل صحيحٌ أنك كنتَ إمامَ جامع؟

في قريتي كما في كل القرى المصرية دون استثناء كانت هناك شُعبة للإخوان المسلمين. لم يكن الناس يتعاملون مع «جمعية الإخوان المسلمين» كما يتعاملون مع حزبٍ سياسي؛ فقد كان نشاط «الإخوة» في الشعبة ذا طابعٍ اجتماعيٍّ خيري يتمثل في مساعدة الفقراء في المناسبات المختلفة، وفي مد يد المساعدة والعون في «المحن» و«الشدائد»، وعقد لجان «المصالحة» لحل بعض الخلافات التي كانت تنشب بين الحين والآخر بين العائلات في القرية أو بين أفراد العائلة الواحدة. هذا بالطبع إلى جانب النشاط الديني والثقافي والرياضي. وقد تمثَّل النشاط الديني في حضِّ الناسِّ على إقامة الصلوات وإغلاق المقاهي والمحلات العامة لصلاة «الجمعة»، والحرص الشديد على أن تكون صلاة العيدَين في «الخلاء» وليس في المساجد. وتركَّز النشاط الثقافي في المحاضرات الأسبوعية العامة، وفي مساعدة طلاب المدارس من المراحل التعليمية المختلفة في التحصيل واستذكار الدروس؛ حيث يُكلَّف طُلاب المرحلة الثانوية مثلًا بمساعدة طُلاب المرحلة الإعدادية، ويُكلَّف هؤلاء بمساعدة طُلاب المرحلة الابتدائية، في نوع من «التكافل» الذي وجد من الأهالي إعجابًا وتقديرًا جعلهم يحثُّون الأبناء على أن يقضوا في «الشُّعبة» أوقات الفراغ كلها. هذا بالإضافة إلى برامج النشاط الرياضي، والتي كانت تجد تشجيعًا من الكبار، كما تستهوي الشباب والصبية على السواء.

علاقتي بالإخوان والشُّعبة كانت مثل علاقة معظم الصبية في قريتي في ذلك الوقت، باستثناء ما اشتُهرتُ به من حفظ القرآن الكريم والمداومة على الصلوات في أوقاتها في المسجد الكبير حتى إن الكبار كثيرًا ما كانوا يأتمُّون بي رغم صغر سني. وكثيرًا ما كنتُ أعتلي مئذنة المسجد للأذان للصلاة؛ فلم تكن الكهرباء قد وصلَت إلى الريف بعدُ. وأذكر مرةً أنني أذَّنتُ لصلاة الجمعة بالطريقة التي كان يُسمِّيها الإخوان «الأذان الشرعي»، وهو الأذان بدون تنغيم وبدون أدعية أو ابتهالات في نهايته، ولكن بعض الناس اعترضوا على هذا الأذان، فتصدَّى لهم بعض المتحمسين للأذان الشرعي، وأوشك الأمر أن يتحوَّل إلى مساجلاتٍ كلاميةٍ عنيفة، لولا أن سارع البعض باعتلاء المئذنة مرةً أخرى، وأذَّن بالأذان المنغَّم المعتاد، والذي كان يُعد «بدعة» في نظر الإخوان.

تطوَّرَت علاقتي بالشعبة والإخوان عقب الزيارة التي قام بها لمحافظة «الغربية» المستشار «حسن الهضيبي»، عقب اختياره مرشدًا عامًّا. في هذه المناسبة عقد الإخوان مؤتمرًا كبيرًا في «نادي طنطا الرياضي» مُثلَت فيه كل «شُعَب» المحافظة تقريبًا. وبدأ المؤتمر باستعراضٍ رياضي كبير يتقدمه «الأشبال» — المصطلح الذي كان يُطلَق على الصبية في الشعبة — وعلى رأس الأشبال وفي مقدمة العرض تم اختياري — بحكم وضوح الصوت وسلامة النطق — لأكون قائد الهتاف الذي ردَّده المئات من الرجال والشباب والأشبال خلفي:

الله أكبر ولله الحمد.
الإسلام ديننا،
والرسول إمامنا،
والقرآن دستورنا،
والموت في سبيل الله أغلى أمانينا،
الله أكبر ولله الحمد.

وحين مرت مقدمة طابور العرض للمرة الثانية أمام المنصة رفعَني بعضُهم وأوقفَني أمام فضيلة المرشد العام الذي صافحَني بحفاوةٍ شديدة، وأهداني «بوصلة». من فَرْط سعادتي لم أنَم طيلة الليل انتظارًا للصباح؛ حيث ذهبتُ إلى الشعبة، وطلبتُ من الأخ «إبراهيم رجب» رحمه الله — وكان رئيس الشعبة آنذاك — أن يُرقِّيَني من درجة «شبل» إلى درجة «عُضو». ولم يملك الأخ إبراهيم أمام إصراري وإلحاحي واستشهادي بهدية فضيلة المرشد العام إلا أن يقيِّد اسمي في كشوف الأعضاء. وكان اسم والدي — رحمه الله — مقيدًا في كشوف الأعضاء؛ لأنه كان من المتبرِّعين المنتظِمين للنشاط الخيري للشعبة. حين استُدعيتُ مع والدي لقسم الشرطة في سياق الصدام الأول بين الإخوان والثورة سنة ١٩٥٤م، وكان عمري إحدى عشرة سنة، فوجئ الضابط فقام بتعنيف والدي تعنيفًا حادًّا. التقيتُ بالأخ «إبراهيم رجب» بعد ذلك في «دُكَّان» أبي بعد أن كان قد قضى في سجن «المركز» عدة شهور. لم يكن الأخ «إبراهيم» نفس الرجل البشوش الضاحك الوجه؛ كان واجمًا صامتًا، لا تكاد شفتاه تنفرجان إلا ليقول عبارةً مقتضبة ردًّا على سؤال. كنتُ قبل ذلك سمعتُ عن «التعذيب»، وعن «الأبرياء» الذين جنى عليهم «الكبار»، وكنتُ قد فهمتُ من تلك العبارات أن المتآمرين على حياة الرئيس عبد الناصر، والذين خطَّطوا لقتله من «الإخوان» هم «الكبار» والزعماء، وأن الأبرياء — مثل الأخ إبراهيم رجب — عُذِّبوا بجريرة هؤلاء المتآمرين. هكذا فسَّر أهل قريتي ما حدث، وهكذا رأيتُ انكسار الروح في لقائي بالأخ إبراهيم بعد خروجه من السجن. مات الأخ إبراهيم بعد ذلك بأقلَّ من سنة، وكان بكائي لرحيله أول بكاءٍ يتجاوز معناه مجرد الحزن، كان بكاءً على الروح التي انكسرَت، وضحكة القلب التي غرقَت في سواد الصمت. كان ذلك البكاء أول أحزان الصبي، وكان بداية أحزانٍ نمَت وتراكمَت، حتى امتلأ بها القلب وفاضت بها الروح. ظل تعاطُفي مع حركة الإخوان مستمرًّا مع مداومة قراءة كتابات أهم مفكِّريهم، والتي كانت من الممنوعات في الستينيات وبداية السبعينيات — حيث يمثِّل عامل منع الكتب ومصادرتها إغراءً للشباب وحثًّا على قراءتها.

لكني، على كل حال، لم أكن في يوم من الأيام عضوًا نشطًا في أي حزبٍ سياسي، علني أو سري، من الأحزاب القائمة في الحياة المصرية، والتي بدأ ظهورها في منتصف السبعينيات تقريبًا. وجدتُني دائمًا أقرب من الوجهة السياسية والفكرية إلى حزب «التجمع الوطني التقدمي الوحدوي» — الذي بدأ منبرًا من منابر «الاتحاد الاشتراكي العربي» — بصيغته الليبرالية، ونزوعه الاشتراكي والقومي الوحدوي، ومقاومته للتبعية في كل أشكالها وأنماطها. لكني لم أكن أبدًا عضوًا عاملًا بالمعنى الحزبي، وإن شاركتُ في كثيرٍ من الندوات والأنشطة الثقافية وما أزال أحرص على هذه المشاركة.

•••

سؤال: ما هي الأفكار التي كانت أكثر تأثيرًا على تكوينك الفكري، وبمن تأثرتَ من الأشخاص؟

أنتمي إلى جيل الثورة من حيث تشكُّل الوعي؛ فقد كنتُ في التاسعة والشعب المصري يستقبل بكل الحماس قرار «طرد» الملك فاروق من البلاد، ويُهلِّل للمبادئ الستة التي أعلنها الضباط الأحرار للقضاء على الفساد، ومحاربة الإقطاع، وطرد الاستعمار، وتحقيق العدل الاجتماعي. وكان من أهم ما تعلمناه آنذاك أن علينا أن نرفع رءوسنا في فخر وخُيلاء؛ لأن مصر سيحكمها الآن مصريون لأول مرة في التاريخ. بدأتُ الاهتمام بالقراءة الحرة — خارج إطار المقررات المدرسية — في سنٍّ مبكِّرة نسبيًّا، وكان من الطبيعي أن تبدأ بالفن القصصي والروائي. كانت ترجمات «مصطفى لطفي المنفلوطي» لبعض عيون الأدب الفرنسي — وهي ترجمات أشبه بالتمصير — من أهم القراءات الأولى. يليها في الترتيب روايات «جورجي زيدان» التاريخية التعليمية. ومن المنفلوطي وزيدان انتقلتُ إلى قراءة «يوسف السباعي» و«إحسان عبد القدوس»، ثم «نجيب محفوظ» الذي فتح عوالم جديدة لوعيي برواياته التاريخية أولًا ثم بسلسلة رواياته الواقعية؛ «خان الخليلي»، و«زقاق المدق»، و«القاهرة الجديدة»، و«الثلاثية»، و«أولاد حارتنا»، والمجموعة القصصية الأولى «همس الجنون»، ثم «دنيا الله». وفي الشعر من الطبيعي أن ينفتح الوعي الشعري بأغاني الرومانسية؛ إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وجبران خليل جبران، وأبو القاسم الشابي. ويلي ذلك الاهتمامَ الأولَ الاهتمامُ بالإحيائيين؛ البارودي، وشوقي، وحافظ، ثم التعرف على أشعار «صلاح عبد الصبور»، و«أحمد عبد المعطي حجازي».

ومن المهم أن أذكر أن «الأدب» قراءة وإبداعًا كان بمثابة «البوابة» الأولى لعالم الثقافة والفكر. وقد مارستُ لفترة ليست قصيرة من شبابي المبكِّر كتابة الشعر والقصة القصيرة، وهي فترة طالت حتى سن السابعة والعشرين تقريبًا؛ حيث بدأَت الدراسة تستغرق كل اهتمامي؛ هذا رغم أنني حصَلتُ على بعض الجوائز الجامعية في الشعر والقصة. وقبل مرحلة الدراسة الجامعية — التي بدأتُها متأخرًا كما ذكرت من قبل — انخرطتُ في النشاط الثقافي الذي كانت تحتضنه «قصور الثقافة» الجماهيرية، التي أنشأتها الثورة في كل المدن المصرية تقريبًا. في مدينة «طنطا» طوَّرنا «جماعة الأدب» التي بدأَت نشاطها أصلًا في قرية «قُحافة» بإلقاء الشعر وعقد الندوات الثقافية في المناسبات الدينية والوطنية وسط تجمعات الفلاحين الذين كانوا آنذاك يحتضنوننا بفرحةٍ غامرة. وفي مدينة «المحلة الكبرى» — حيث عملتُ فنيًّا لاسلكيًّا من ١٩٦١م حتى ١٩٦٨م — كوَّنَّا «نادي الأدب» في قصر الثقافة أيضًا. كنا مجموعةً من الهواة الجادِّين تتفاوت اتجاهاتنا واهتماماتنا السياسية والفكرية، ولكن يجمعُنا الاهتمام بالأدب بصفةٍ خاصة وبالثقافة بشكلٍ عام. كنا نختلف ونتفق يمينًا ويسارًا أو محافظةً وتجديدًا، وكانت قضية الشعر العمودي وشعر التفعيلة من القضايا الساخنة في الحياة الأدبية خاصةً بعد البيان الذي نُشر آنذاك ويتهم الشعراء الجدد بإفساد اللغة العربية وهدم الإسلام.

وجديرٌ بالذكر في هذا السياق الإشارة للمعركة الفكرية التي أثارتها مقالات «لويس عوض» عن «أبي العلاء المعري» في الملحق الأدبي لجريدة الأهرام وردود «محمود محمد شاكر» عليه في مجلة «الرسالة». كنا نتابع تلك المعارك يومًا بيوم، ونختلف بين مؤيد ومعارض لشاكر أو للويس عوض. كنتُ آنذاك أقرب إلى فريق المحافظين فكريًّا في «نادي الأدب»، وكان تعاطُفي مع الإخوان قد بلغ أقصاه في تلك الفترة، خاصةً إبَّان حملة القبض والاعتقال الثانية سنة ١٩٦٤م. وقد تعرَّضنا جميعًا — أعضاء النادي الأدبي — للرقابة والمتابعة اليومية المُنهِكة من جانب أجهزة «المباحث العامة» في محافظة الغربية، لدرجة أنني بدأتُ أستعد عمليًّا للاعتقال. وكان السبب في ذلك أن زميلًا لنا في النادي كان قد تمَّ اعتقاله بصفته كان عضوًا في التنظيم السري للإخوان. كان من أقربهم إلى قلبي لدرجة أنني لم أُبالِ بالخطر المُحدِق، فكنتُ أزور أبوَيه بشكلٍ منتظم في الوقت الذي تحاشاهم فيه أقرب الناس. وقد أمكنَني بسهولةٍ مدهشة — عن طريق حاجب المحكمة — الحصول على تصريحٍ بحضور بعض جلسات المحاكمة بصفتي ابن شقيقته. وبنفس الصفة استطعتُ أن أزورَه في السجن عدة مرات بعد أن صدر الحكم بسجنه خمسة عشر عامًا. كان مصير «نادي الأدب» الإغلاق، كما تمَّ نقل مدير قصر الثقافة بالمحلة الكبرى كنوعٍ من العقاب على احتضان النادي. لم يمُر وقتٌ طويل حتى تمَّ وقف إصدار مجلات وزارة الثقافة (الرسالة، والثقافة، والشعر، والقصة، والمسرح) بدعوى «عجز الميزانية»، ثم كانت «الهزيمة» في ١٩٦٧م تتويجًا دراميًّا فاجعًا أنهى قدراتنا — نحن شباب الثورة — على حُلم معانقة المستقبل، لقد تحوَّلَت الأحلام إلى كوابيس. كان عام ١٩٦٨م بداية تحوُّلات بدأَت مع الالتحاق بالجامعة، وكانت أول مشاهداتي في القاهرة إضرابات الطلاب اعتراضًا على الأحكام العسكرية الخفيفة جدًّا ضد المسئولين عسكريًّا عن الهزيمة — إذا قُورنَت بالطبع بأحكام الإعدام ضد المتآمرين على قلب نظام الحكم.

من خلال الأدب انفتح الباب إلى القراءات الفكرية؛ بدأتُ التعرف على «العقاد» و«طه حسين» من خلال أعمالهما الإبداعية، والتي نقلَتني بدورها إلى أعمالهما الفكرية فقرأتُ «الله» للعقاد، كما قرأتُ كل العبقريات. وقرأتُ لطه حسین «على هامش السيرة» و«الفتنة الكبرى»، و«حياة محمد» لمحمد حسین هيكل، وكتابات «نظمي لوقا» عن الإسلام. كانت كتابات «خالد محمد خالد» — «من هنا نبدأ»، و«هذا أو الطوفان»، و«حتى لا تحرثوا في البحر» — تُثير كثيرًا من النقاش والاختلاف خاصةً مع الشيخ «محمد الغزالي». ومن هنا بدأ اهتمامي بالفكر الديني، وبدأتُ قراءة «سيد قطب» و«محمد قطب» في الستينيات — في الوقت الذي كانت فيه كتبهما ممنوعة — وأثار إعجابي بصفةٍ خاصة «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«معركة الإسلام والرأسمالية» لسيد قطب. كان الخطاب الديني في ذلك الوقت — وقت إنتاج تلك الكتب في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات — جزءًا من مجمل الخطاب الوطني، تحرِّكه هواجس التحرُّر الوطني والعدل الاجتماعي ليس في مصر وحدها، بل في العالم العربي كله. الدليل على ذلك کتاب «مصطفى السباعي» — القيادي الإخواني السوري البارز — «اشتراكية الإسلام».

وتجاوَب مع اهتماماتي الأدبية منهج التحليل الأدبي للقرآن، كما قرأتُه في كتابَي «مشاهد القيامة في القرآن»، و«التصوير الفني في القرآن» لسيد قطب. هذا بالإضافة إلى التساؤل الذي أثاره «محمد قطب» في كتابه «منهج الفن الإسلامي» حول إمكانية استخلاص نظريةٍ جماليةٍ إسلامية. لم أنتبه إلى أن هذا السؤال وذلك المنهج كانا مطروحَين في الدوائر الأكاديمية إلا بعد دخولي الجامعة. كان المنهج الذي طرحه الشيخ «أمين الخولي» لضرورة الدرس الأدبي للقرآن الكريم، وأسبقيته لأي درسٍ آخر، تطويرًا لإرهاصات «محمد عبده» وتعديلًا لمقولات «طه حسين». وهو المنهج الذي حاول تلميذاه «شكري عياد» و«محمد أحمد خلف الله» تطبيقه في دراستَين؛ الأولى منهما تتناول «الحساب واليوم الآخر في القرآن الكريم»، بينما تتناول الثانية «الفن القصصي في القرآن الكريم»، وهذه الدراسة الأخيرة أثارت ضجةً شديدةً قبل مناقشتها أو إجازتها، فانتهى الأمر بعدم إجازتها وطرد صاحبها من السلك الجامعي. وليس من قبيل الاستطراد أن نذكُر أن التناول الأدبي للقصص القرآني قد عبَّر عن نفسه إبداعيًّا في رائعة نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» التي لقيَت اعتراضًا من الشيخ «محمد الغزالي» — ممثل الفكر الديني التقليدي، والذي سبق أن تصدَّى للرد على كتابات «خالد محمد خالد» — فاستطاع أن يُقنِعَ السلطة بمنعِ نشرها.

•••

سؤال: هل تعتبر أن حياتك في خطر؟ ومن هي الجهات التي شكَّلَت أو تشكِّل تهديدًا بممارسة العنف ضدك؟

الحياة في خطر دائمًا في عالمنا هذا الثالث أو الرابع، سواء حُكم على الإنسان بسبب آرائه وأفكاره أو حُكم عليه بالمرض ودخول المستشفى ولو كان استثماريًّا من مستشفيات الخمس نجوم. لذلك لم أُعِر كثيرَ اهتمامٍ لخطابات التهديد التي تلقَّيتُها في سياق حملة التكفير التي شنَّها بعض خطباء المساجد. بعد صدور حكم محكمة الاستئناف في ١٤ يونيو ١٩٩٥م بيومٍ واحد، أعلنَت منظمة «الجهاد» — عن طريق رسالة بالفاكس نُشرت في كثيرٍ من الصحف العربية — إهدار دمي، وأن من واجب كل مسلم أن يسعى لقتلي، بل أهدرَت دمَ كلِّ من يتصدى للدفاع عني. وهنا أحسَّت مؤسسات الدولة أن التهديد جدٌّ لا هزل فاتخذَت إجراءات حراسةٍ مشدَّدة حول المسكن، وأصبحَت حركتُنا مرهونة بموافقة الأمن والإجراءات المناسبة. عندها صار الاستمرار صعبًا.

•••

سؤال: أربع سنوات من الهجرة القسرية والعيش في أوروبا، هل تغيَّرت اختياراتك؟ هل تغيَّر نمط حياتك؟ وماذا عن أفكارك؟

بعد أربع سنواتٍ كاملة من الحياة في الغرب الأوروبي، وفي مُناخٍ علمي وأكاديمي مغاير كمًّا وكيفًا، وبرغم الظروف الكريهة التي ألجأَتني قسرًا للرحيل إلى منفاي، ما تزال كثير من قناعاتي الأساسية، في السياسة والاجتماع والثقافة والفكر، تكتسب ثباتًا. ولعل على رأس هذه القناعات الإيمان بضرورة «التجديد» الديني بصفةٍ خاصة، وذلك انطلاقًا من طبيعة التحديات التي ما أزال أراها تواجه عالمنا العربي والإسلامي. لعل من أهم تلك التحديات ذلك الاستخدام الأيديولوجي النفعي للإسلام لتحقيق مصالح وغايات ذات طبيعةٍ فئوية محلية عاجلة. وسواء تمَّ هذا الاستخدام من جانب جماعاتٍ سياسية بعينها، أو من جانب أنظمةٍ وسلطاتٍ سياسية فاقدة للمشروعية الاجتماعية والسياسية والقانونية، فالنتيجة واحدة هي تحويل الإسلام إلى أداة من الأدوات، واختزاله في وظائف وغايات ذات طبيعةٍ دنيويةٍ متدنية. ولننظر مثلًا في مقولة أن الإسلام دينٌ شمولي، من أهم أهدافه ووظائفه تنظيم شئون الحياة الإنسانية الاجتماعية والفردية في كل صغيرة وكبيرة، بدءًا من النظام السياسي ونزولًا إلى كيفية ممارسة الفرد لنظافته الذاتية في الحمام. هذه المقولة تفترض أن دخول الفرد في الإسلام بالميلاد والوراثة أو بالاختيار الواعي يعني تخلي الإنسان طواعيةً أو قسرًا عن طبيعته الإنسانية الفردية، التي تسمَح له باتخاذ القرار بشأن كثيرٍ من التفاصيل الحياتية، التي من شأنها أن تتضمَّن اختياراتٍ عديدة. أصبح السؤال المتكرِّر هنا وهناك لا يتعلق بمدى ملاءمة هذا الاختيار أو ذاك بالنسبة للمجال الذي يتعيَّن على الإنسان الاختيار فيه، وإنما صار يتعلق بمدى سلامة هذا الاختيار أو ذاك من الوجهة الدينية والشرعية. وحين تأخذ أسئلة الحياة هذا المنحى يتحتَّم أن يكون رجل الدين — لا رجل الخبرة والاختصاص في الشأن المعني — هو المصدر الوحيد للمعرفة.

وقد عهدنا ممن يعتبرون أنفسهم قيِّمين على حماية الدين في كل عصرٍ من العصور، إذا سُئلوا عن رأي الدين في شأنٍ من الشئون أن يصعُب على الواحد أن يقول مثلًا: «هذا أمرٌ لا شأن للدين به»؛ ذلك أن مثل هذا الجواب من شأنه أن يزعزع مقولة «الشمولية» التي يستند الخطاب الديني عليها في ممارسة سلطته. ويتناسى هؤلاء أن نبي هذا الدين، ومتلقي وحيه من الله عز وجل بواسطة الروح القدس جبريل، لم يجد غضاضة، حين لم ينجح اقتراحُه في تأبير النخل، أن يُعلنَ أن هذا كان رأيًا ارتآه ولم يكن وحيًا من عند الله. حين تواجه الواحد منهم بهذه الواقعة التي أرست مبدأ «أنتم أدرى بشئون دنياكم». وحين تشرح دلالة الفصل بين شئون الدين وشئون الدنيا، بل وأهمية الفصل بين آراء النبي واجتهاداته الخاصة وبين ما يُبلغه عن ربه وحيًا، يُلقي في وجهك مباشرة ودون تفحُّص بقول الله وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. ولو تفحَّصوا الآية الكريمة في سياقها، وكذلك لو تفحَّصوا سياق قوله تعالى وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، لأدركوا أن عظمة نبي هذه الأمة لا تكمُن في عصمته وارتفاعه عن أفق البشر — وما العظمة في هذا إذا كان الأمر محض اختيارٍ وترتيبٍ إلهيَّين لا تعليل لهما؟ — بقَدْر ما تكمُن في ارتفاعه هو بجهده واختياره إلى آفاق المسئولية الكونية دون أن يُفارقَ خصائصَ البشر.

•••

سؤال: نصر حامد أبو زيد، المفكر المسلم، بل المتمسك بإسلامه، حُوكم بسبب مواجهته للخطاب الديني الذي يسعى للهيمنة على حياة الناس باسم الدين، وبسبب دعوته لتجديد الفكر الديني. هل ما زلتَ عند هذه الدعوة؟ ما الذي تغيَّر في مفهومك لتجديد الفكر الديني؟

لقد أدى الفهم السقيم للإسلام إلى ترسيخ سلطة كل من نصَّب نفسه حاميًا للدين، كما أفضى بنفس الدرجة إلى تمدُّد سلطة المؤسَّسات الدينية، لتصبح سلطةً شاملة ومهيمنة في كل المجالات. ومن شأن هذا الاستفحال والامتداد السلطوي أن يخلق وضعًا نعاني منه الآن أشدَّ المعاناة اجتماعيًّا وسياسيًّا وفكريًّا؛ فبرغم كل الادعاءات والدعاوى العريضة، والفارغة من الفهم، عن عدم وجود سلطةٍ دينية في الإسلام تشبه سلطة الكنيسة في المسيحية، فالواقع الفعلي يؤكِّد هذه السلطة، بل وجود محاكم التفتيش في حياتنا. والسلطة هذه تجمع السياسي والديني في قبضةٍ واحدة، فيصبح المخالف السياسي مارقًا خارجًا عن الإجماع ومهددًا لوحدة الأمة، وبالمثل يقول رجل الدين إن من يغيِّر دينه يجب التعامل معه بوصفه خائنًا للوطن.

إن اتحاد الدين والوطن يجد تعبيرَه في كل الدساتير السياسية التي تحصُر الوطن في دين، وتختزل الدينَ في الوطن. وهنا يُختزَل الوطنُ في الدولة، وتُختزَل الدولةُ في نظامها السياسي، ويجد المواطن نفسه حبيس أكثر من سجن. إن مقولة الشمولية تبدأ من الفكر الديني لتخترق مجال السياسة والمجتمع، أو تبدأ من الفكر السياسي لتأسِرَ الدينَ في أيديولوجيتها، والنتيجة واحدة؛ فأي خطرٍ أشدُّ من هذا وأي بلاء؟! الخطر الذي يجب التحذير منه أن يحدث في الإسلام ما حدَث في المسيحية؛ حيث أدَّى كفر الناس بسلطة الكنيسة إلى تحميل الدين كلَّ جرائم الكنيسة. ولا شك أن جرائم خطابنا الديني، والذي يسعى بكل الوسائل لفرض هيمنته على كل شئون المجتمع والحياة، يتفاقم خطرها ويتزايد يومًا بعد يوم، خاصة مع تحالف بعض قطاعات هذا الخطاب مع إرهابٍ أعمى البصر والبصيرة، لا يفرِّق بين حاكمٍ ومحكوم أو بين أعزلَ ومسلَّح، ولا يميِّز بين رجل وامرأة، ناهيك عن أن يميِّز بين طفل وراشد. من شأن هذا الخطر الماثل أن يهدِّد الإسلام كما هدَّد المسيحية. وليست العبرة هنا بالفروق النظرية واللاهوتية بين الديانتَين؛ فالتاريخ الاجتماعي للمسيحية حوَّلها من دين الموادعة والتسامح حتى مع الأعداء — ناهيك عن إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله — إلى دينٍ توحَّدَت فيه السلطتان فعانى الناس ما عانوا؛ فأُحرِق العلماء وقُتل المفكرون، وكان من شأن الكنيسة ما هو معروف. وما يحدث الآن في مجتمعات الإسلام ليس أقل خطرًا ولا أهدى سبيلًا، ولن يفيد في شيء التمسُّك بالفارق النظري واللاهوتي الذي لا يفتأ رجال الدين تصديعَ أدمغتنا به ليل نهار. إن الإسلام تجربةٌ تاريخية علينا الاستفادة منها؛ لأنها تُعلِّمنا الكثير. إنها تعلِّمنا مثلًا أن التمسُّك به كدين ومعتقد — دون العمل على تجديده من أجل أن يُلبيَ طموحات هذه المجتمعات ويجيبَ على التحديات التي تُواجهها — من شأنه أن يُؤديَ إلى مثل هذا الاختزال الذي نشكو منه الآن، الاختزال المسئول عن هذا الاستفحال السرطاني لسلطة الخطاب الديني/السياسي أو السياسي/الديني الذي يسجن الفردَ باسم دين الحرية في سلاسلَ من القهر والامتثال والإذعان، تحت زعم «طاعة الله»، الذي يمثله خليفة أو سلطان أو أمير، أو جماعة تحتكر الإسلام ومغفرة الرب.

تنبع الحاجة إلى التجديد من مطلب التغيير، وهذا المطلب الأخير يصبح بدَوره ضرورةً مُلحَّة حين تتأزم الأوضاع على كل المستويات والأصعدة؛ الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي، والثقافي والفكري على السواء. بالنسبة لمجتمعاتنا العربية كشفَت هزيمة ١٩٦٧م الشاملة عن وجود أزمة في الواقع، وكشفَت أيضًا عن وجود أزمة في الفكر وفي النظام السياسي بصفةٍ خاصة. ورغم أن الهزيمة لم تكن مفاجأة تامة؛ إذ ورَد توقُّعها في النبوءات الشعرية والأدبية وبعض الكتابات السياسية، فإن حجم الهزيمة وشمولها كان هو المفاجأة الفعلية للجميع، المتفائلين والمتشائمين على السواء. تجلَّى ردُّ الفعل إزاء ما كشفَته واقعة الهزيمة، مما كان مستورًا من أوضاع، في فيضٍ من الكتابات عن التراث بحثًا عن جذور الأزمة.

وهكذا يُمكِن القول إن انكشاف أوجُه الأزمة خلَق الحاجة إلى التغيير، وأول مظهر من مظاهر التغيير هو الحاجة إلى «التجديد» الفكري والسياسي والاجتماعي؛ أي في كل مجالات المعرفة وحقولها، لكن التجديد في إطار الفكر الديني اكتسب طابعًا أكثر إلحاحًا، بسبب أن الهزيمة تم تفسيرُها في الخطاب الديني بشقَّيه الرسمي والشعبي تفسيرًا دينيًّا، على أساس أن دولة الكيان الصهيوني هي دولة «اليهود»، وأنها انتصرَت بحكم تمسُّك اليهود بقيَم التوراة، في حين تخلَّى المسلمون عن قيَمهم الدينية والروحية، وانخرطوا في تقليد الغرب العلماني، واستيراد أنظمته السياسية والفكرية. يمكن الإشارة إلى تلك الضجة الإعلامية التي صاحبَت تخيُّلات ظهور السيدة «العذراء» في إحدى الكنائس في القاهرة وروَّجَت لها. إزاء هذا الترويج للأساطير والخرافات لتزييف وعي الناس بالأسباب الفعلية للهزيمة، كان من الضروري أن تتصدَّى بعضُ الكتابات لتفنيد هذا التفسير، ولما ينطوي عليه من تزوير، ومن هنا نشأَت الحاجة إلى إعادة النظر في المسلَّمات الفكرية والعقيدية، التي ينطلق منها ذلك الخطاب المُزوِّر؛ وبالتالي الحاجة إلى «تجديد الفكر الديني». في هذا السياق نشر «صادق جلال العظم» دراساته عن «نقد الفكر الديني» …

… ليست المرة الأولى التي يُطرح فيها مشروع تجديد الفكر الديني؛ فمنذ عهدٍ قريبٍ طرح أقطاب «النهضة، هذه الفكرة، وقدَّموا ربما الإسهامات الأهم في هذا المجال.

بالإضافة إلى الضرورات العملية المُلحَّة للتغيير والتجديد والتطوير هناك الضرورة المعرفية لتحقيق عملية «التواصل» الخلَّاق بين الماضي والحاضر. والمقصود بعملية «التواصل الخلَّاق» الخروج من أَسْر «التقليد الأعمى» وإعادة إنتاج الماضي باسم «الأصالة»، وكذلك الخروج من أسوار «التبعية» السياسية والفكرية التامة للغرب باسم «المعاصرة». وليست عملية «التواصل الخلاق» بالضرورة هي محاولة التلفيق بأخذ طرفٍ من التراث وطرفٍ من الحداثة دون تحليلٍ تاريخيٍّ نقديٍّ لكلَيهما، وهو النهج الذي سيطر بدرجاتٍ متفاوتة على المشروع الفكري للنهضة، فأفضى إلى تكريس ثنائية «الغرب» المادي العلمي المتقدِّم، المفلس روحيًّا، و«الشرق» الروحي الفنان، المتخلف ماديًّا وعلميًّا. العودة إلى دراسة «التراث» مجددًا، خاصة «التراث الديني» تستهدف إعادة النظر في كل تلك المسلَّمات، سعيًا لتحرير المشروع الفكري للنهضة من بُعده التلفيقي المسئول عن حالة العجز الواضحة، التي كشفَت الهزيمة الشاملة عن بعض أبعادها.

ومن الضروري الإشارة هنا إلى بُعدٍ من أبعاد خطاب النهضة لم يتنبَّه له كثيرون حتى الآن. هذا الخطاب — عدا استثناءاتٍ قليلة لأفرادٍ ظلوا مهمَّشين — كان خطابًا نخبويًّا سلطويًّا بالأساس، اعتمد على النظر للناس والجماهير نظرةً متعاليةً بسبب جهلها الناتج عن فقرها المادي. وهذا الخطاب في بُعده الديني الإصلاحي بصفةٍ خاصةٍ ساهم بشكلٍ مباشر في إفقار الجماهير إفقارًا روحيًّا، حين وصم ممارسات الجماهير الدينية الاحتفالية وعقائدهم في الأولياء والشفاعة … إلخ، بوصفها عقائدَ وثنية. كان المنظور العقلاني الشكلاني للدين هو المسئول عن تلك النظرة، التي كانت عاجزةً من منطقها الاستعلائي عن فهم تلك الحاجات الروحية وحيويَّتها بالنسبة لمستوى وعي الناس؛ ومن ثَم كان التركيز على الوصم والإدانة التي تقترب من حدود «التفكير»، وذلك قبل محاولة تغيير هذا الوعي بنشرِ التعليم وبثِّ المعرفة. ورغم أن خطاب رائد الإصلاح الديني، الشيخ «محمد عبده»، كان متأثرًا إلى حدٍّ كبير بمسحةٍ صوفيةٍ عرفانية، فإن خطاب خلفه الشيخ «محمد رشيد رضا» بدأ يتطور تدريجيًّا في اتجاهٍ مضادٍّ لتلك النزعة الصوفية، بل إن البُعد العقلاني في خطاب الأستاذ الإمام أخذ يخفُت تدريجيًّا في خطاب خلَفه، الذي صار أقرب إلى إعادة إنتاج الفكر السلفي الحنبلي، كما تجلَّى في خطاب كلٍّ من «ابن تيمية» و«ابن قيم الجوزية»، وأخيرًا في الخطاب الوهابي. ومن اللافت للانتباه أن موقف خليفة الإمام من قضية «الخلافة» كان موقف المدافع الذي اعتبرها «الإمامة العظمى الواجبة»، والتي بدون تحقُّقها وقيامها تُعتبر الأمة كلها تعيش حياةً «جاهلية». وهذا المفكِّر نفسه هو الذي وقف بصلابةٍ ضدَّ أي محاولة لتقنين قواعد الشريعة الإسلامية في صياغاتٍ قانونيةٍ حديثة تمكِّن القضاة والمتقاضين من فهمها والتعامل معها وَفْق النُّظم القضائية العصرية. كان الشيخ يرى أن هذه العملية من شأنها أن تحوِّل «الشريعة» إلى «قوانين وضعية»، وكأنه كان يرى «لغة» الأحكام الفقهية لغةً مقدَّسة لا يجوز المساس بها، رغم ما تثيره من التباس وما تتضمَّنه من اختلافات. ووراء هذا الموقف المعلَن تكمُن رؤيةٌ سلفية أكثر تشددًا من موقف روَّاد السلفية في التراث.

والنتيجة التي آل إليها حرمانُ الجماهير من زادها الروحي، وحقنها بعقلانيةٍ شكليةٍ مُتزَمتة، أن خطاب النهضة ساهم بخلق حالةٍ من الوعي الملتبس، تعمَّقَت بازدياد أعداد المتعلمين وَفْق استراتيجية «الحفظ» و«التلقين»، التي حرَص عليها الاستعمار في نُظم التعليم التي أنشأها لتخريج موظَّفين وكتَبة. وكانت هذا الجماهير بمستوى وعيها الملتبس هي الأرضية التي أقام عليها الإخوان المسلمون قواعدَهم منذ عام ١٩٢٨م. وحين وقعَت الكارثة، كارثة الهزيمة، عاد الناس إلى أساطيرهم التي كانوا قد حُرموا منها؛ لأنها ظلَّت مصدَر العزاء ومُسكِّن الآلام. ظهرَت «السيدة العذراء» فوق قبة كنيسة «الزيتون» بالقاهرة، وكان من الطبيعي أن تظهر «العذراء» وليس السيد «المسيح» عليه السلام. كان ظهور العذراء مناسبًا للمسلمين والمسيحيين على السواء؛ فليس على شخصيتها خلاف كما على شخص السيد المسيح. وفي ظلِّ سيادة تصوُّراتٍ من هذا النوع، كانت هناك حاجة للتجديد بدءًا بنقد الفكر الديني.

كانت ثمَّة قناعة قبل الهزيمة بأننا مجتمعاتٌ دخلَت مرحلة الحداثة، وهي القناعة التي كشفَت الهزيمة زيفَها. كانت تلك القناعة عامةً وشاملة، استنادًا إلى أن الحداثة العربية بدأَت مسيرتها ببداية القرنِ التاسعَ عشر، وازدهرَت في القرن العشرين، خاصةً في مرحلة ما بعد الاستعمار؛ حيث حدثَت تحولاتٌ في بنية المجتمعات العربية، خاصةً في بنية نُظُمها السياسية وشكل الدولة … إلخ. لكن الهزيمة كشفَت عجز تلك التحولات عن إحداث تغيراتٍ نوعية، لا في البنية السياسية، ولا في البنية العسكرية التي استهلكَت عائد التنمية الاجتماعية والاقتصادية. كشفتَ الهزيمة أن مجتمعاتنا ما تزال مجتمعاتٍ تقليدية، وأن مؤسَّساتنا، التي تبدو حديثة في ظاهرها وشكلها الخارجي، تُدار على أسسٍ تقليدية، ووَفْق رؤًى تستمد رؤيتها من الماضي، وليس من النظر إلى الحاضر أو المستقبل. خاضت الجيوش العربية حربًا وَفْق قراراتٍ غير مؤسَّسية، بل مزاجية في معظم الأحوال. والأهم من ذلك أن الإنسان الذي كان أداةَ التنفيذ كان إنسانًا مقموعًا وفاقدًا لإنسانيته، في ظل نُظمٍ سياسية دكتاتورية قاهرة، سواء في حرب ١٩٦٧م، أو في حرب الخليج الثانية.

ما قاله «نزار قباني» في «هوامش على دفتر النكسة» من أننا «لبسنا قشرة الحضارة والروحُ جاهلية» تعبيرٌ شعريٌّ صادق عن هذا الاكتشاف المذهل، والوعي بأننا ما نزال مجتمعاتٍ تقليدية رغم كل مظاهر الحضارة والمدنية السطحية. والنظرة السريعة إلى بنية الأحزاب السياسية العربية من السهل أن تكشف أنها بنيةٌ قبليةٌ تقليدية، مع أنها ترفع شعاراتٍ سياسيةً حديثة، ويُفترض أن تكون بنيتُها بنيةً حداثية، وأن تكون آلياتُ اتخاذ القرار فيها آلياتٍ ديموقراطية. والواقع أن سيطرة البنية الأبوية، وخضوع استراتيجيات اتخاذ القرار لرغبة القائد أو الزعيم، تكشف أن الحداثة مجرد قشرةٍ خارجية تعجز تمامًا عن إخفاء البنية التقليدية. هذا ما عبَّر عنه الشاعر الفلسطيني «مريد البرغوثي» في قوله: «قبائلنا تسترد مفاتنها في زمان انقراض القبائل.» من هنا تأتي أهمية مسألة مراجعة جذور البنية التقليدية، لا بهدف التكرار أو الإعادة، أو حتى مجرد التسجيل، بل لغاية نقد تلك الجذور، تواصلًا وانقطاعًا في الوقت نفسه؛ إذ لا انقطاع بلا تواصلٍ نقدي مبدع وخلَّاق. أما التواصل لغاية التواصل وحدها فهو «التقليد». هذه العودة المُلحَّة للماضي عودةٌ ضرورية بسبب البنية التقليدية لمجتمعاتنا وثقافتنا. ما زلنا — وَفقًا لحسن حنفي — نتنفَّس «الغزالي» ونعيش مع «ابن تيمية»، رغم الفاصل الزمني والهوة التاريخية. تبدو العودة إلى التراث ضرورةً مُلِحَّة لبحث جذور الأزمة، وليس لمجرد إعادة التأويل.

هذا يقودنا إلى الإقرار بأنه ليس الماضي هو الذي يؤثِّر في الحاضر على نحوٍ أحادي الاتجاه؛ فالحاضر يؤثِّر في الماضي، وبالقَدْر نفسه، رؤيةً وتأويلًا. ومعظم الدراسات التي توجَّهَت إلى الماضي وبحثَت في التراث، قيَّدَت النظر فيه من منظور الحاضر، وأعادت تصنيف التراث وفقًا لرؤًى حداثية، لا وفقًا لرؤًى وتقيسماتٍ تقليدية. هكذا وُجدَت دراساتٌ عن «اليسار في الإسلام» لأحمد عباس صالح، و«الاتجاهات المادية في الفلسفة الإسلامية» لحسين مروة، و«من العقيدة إلى الثورة» لحسن حنفي، بالإضافة إلى «تكوين العقل العربي» أو «بنية العقل العربي» لمحمد عابد الجابري. وهناك الكثير والكثير من الدراسات التي لا يتسع المجال هنا لاستيعابها. وفي مجال الدراسات الألسنية والبلاغية النقدية يمكن الإشارة إلى جهود «كمال أبو ديب»، و«جابر عصفور» كمجرد أمثلة. في هذه الدراسات وغيرها مما لم نذكُر، نلمسُ حرصًا شديدًا على دراسة الماضي من موقع هموم الحاضر الراهنة، ومن منظورٍ معرفيٍّ حداثي قام بتطوير الرؤى والمناهج التي بدأها «الكواكبي» و«طه حسين» وأمثالهما إلى حدٍّ بعيد.

هكذا تنبُع الحاجة إلى التجديد من سياقٍ تاريخي اجتماعي، وسياسي فكري؛ فالتجديد في أي مجالٍ لا ينبُع من رغبةٍ شخصية أو هوًى ذاتي عند هذا المفكِّر أو ذاك، إنه ليس تحليقًا في سمواتٍ معرفية، أو بالأحرى عرفانية، مقطوعة عن أرض الحياة وطينها، وعن عرَق الناس وكفاحهم في دروب الحياة الاجتماعية. قد يبدو المفكِّر محبًّا للعزلة، حريصًا على الهدوء والابتعاد عن صخب الحياة، لكن العزلة هي أوقاتُ التأمل التي لو انسلَخَت تمامًا عن نسيج الحياة الحي وتيارها الجاري لصارت سجنًا من الأوهام. من هنا يمكن القول إن «التجديد» ليس حالةً فكريةً طارئة، بل هو الفكر ذاته في تجاوبه مع الأصول التي ينبُع منها ويتجاوب معها بوسائله الخاصة. ما ليس تجديدًا في مجال الفكر فهو «تردید» وتكرار لما سبق قوله، وليس هذا الترديد من الفكر في شيء، ولا يمُت إلى الفكر بأدنى صلة من قريب أو من بعيد. وبما أن قانون الحياة الطبيعية والاجتماعية هو التغيُّر في كل شيء، سواء كان ذلك التغير مُدْرَكًا وملحوظًا أو لم يكن، فإن قانون الفكر هو «التجديد»، ذلك هو قانونه من حيث هو فكر في ذاته. ويصبح التجديد» مطلبًا مُلِحًّا كلما سيطر «التقليد»، الذي هو عين «الترديد» والتكرار لما سبق قوله، وساد؛ إذ في هذه الحالة ينفصل الفكر عن حركة الحياة، التي تمضي في حركة تغيُّرها، غيرَ آبهةٍ بعجز الفكر عن متابعتها، فضلًا عن قيادتها وترشيد اتجاه حركة التغيير فيها.

والحقيقة أننا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية في حاجة إلى ما هو أكثر من التجديد، نحن بحاجة إلى «تثوير» فكري. وأقصد بالتثوير تحريك العقول بدءًا من سن الطفولة؛ فقد سيطرَت على أفق الحياة العامة في مجتمعاتنا — سواء في السياسة أو الاقتصاد أو التعليم — حالة من «الركود» طال بها العهد حتى أوشكَت أن تتحوَّل إلى «موت». هذه الظاهرة مشهودة في أفق الحياة العامة، ولا يصح أن نغتَرَّ بمظاهر الحيوية الجزئية هنا أو هناك، في الفنون والآداب بصفةٍ خاصة؛ فبُؤَرُ الحيوية تلك مثل بُقَع الضوء التي تكشف المساحات الشاسعة للظُّلمة. أما في مجال الفكر، فاغتراب الفكر وغربة المفكِّرين حالةٌ مشهودة لا تحتاج لإثبات، باستثناء أولئك النفر من المفكِّرين الذين يحتمون بمظلة سلطةٍ سياسية أو إثنية أو دينية تحوِّلهم إلى أبواقٍ تنطق بما يُنفَخ فيها.

•••

سؤال: هل تقترح التثوير بديلًا عن التنوير؟

وهل تحتاج مجتمعاتنا إلى تنوير فقط؟ التنوير يفترض وجود فكر يحتاج لقَدْر من الاستنارة، ونحن للأسف مُعادون للفكر. ولستُ أنكر هنا وجود مفكِّرين وكُتاب في ميدان الإسلاميات وغيرها، أُجلُّهم وأقدِّر جهودهم، ولكن المشكلة أن الغالبية تردِّد مقولاتٍ وعبارات، لا يعرف مردِّدوها أنفسهم أصلَ مولدها، ولا سياقَ مَنشَئها وتطوُّرها، فضلًا عن غايتها ومغزاها. لا يعلم أصحابُ هذا الفكر وممثِّلوه مثلًا أن قضية «قِدم القرآن» أو «حدوثه» كانت من القضايا التي حسمَتها السلطة السياسية، لا الحوار الفكري الحر، حين تدخَّلَت مرة باسم العقلانية — في عصر الخليفة العباسي «المأمون» — فاضطهدَت القائلين بأن القرآن «قديم»؛ لأنه «کلامُ الله الأزلي وصِفَةٌ من صفات ذاته الأزلية القديمة». ثم تدخَّلَت السلطة السياسية مرةً أخرى — في عصر الخليفة «المتوكل» — ولكن بحُجة «درء الفتنة»، وناصرَت أصحاب نظرية «القِدم» واضطهدَت القائلين بأن القرآن «مُحدَثٌ مخلوق» لأنه أصواتٌ وكلامٌ ولغةٌ حادثة، لا يجوز أن تتصف الذات الإلهية بها؛ فكلام الله إذن «صفةٌ من صفات أفعاله لا من صفات الذات». هل يعلمون أن ما يتصوَّرونه جزءًا من حقائق العقيدة المُنزلة، فيكرِّرون كالببَّغاوات أنه «معلوم من الدين بالضرورة»، ليس إلا قرارَ سلطةٍ سياسيةٍ غاشمة، لا تقلُّ في دكتاتوريتها وعدائها للفكر عن السلطة التي سبقَتها واضطهدَت الفكر باسم العقلانية؟ وهل يعلمون أن موقف «الأشاعرة»، الموقف الوسطي الذي لا يكفُّون أبدًا عن الادعاء بأنه صحيح الإسلام، قد ميَّز بين «صفة الكلام النفسي القديم» وبين محاكاته فيما نتلوه نحن من قرآنٍ حادث؟ وهل يعلمون أن الأشاعرة اضطربوا اضطرابًا عظيمًا في تحديد أين يقع «الإعجاز»، أهو واقع في «الكلام النفسي القديم»، وفي هذه الحالة: ما معنى تحدي العرب أن يأتوا بمثله؟ وإن كان التحدي واقعًا في المحاكاة الحادثة وليس في الكلام القديم، فالإعجاز إنساني وليس إلهيًّا. وهل يعلمون أن الذي استطاع أن يطرح للإعجاز تفسيرًا يتجاوز ثنائية «الكلام النفسي القديم/والمحاكاة الحادثة» هو «عبد القاهر الجرجاني» صاحب نظرية «النظم»، الذي أفاد من إنجازات المعتزلة كما أفاد من إنجازات اليونان؟ وهل يعلمون أنه اشترط البدء ﺑ «دراسة الشعر» من أجل اكتشاف قوانين الكلام البليغ، التي لا يمكن فهم الإعجاز إلا بها؟ ثم أخيرًا ألا يدركون أن «المنهج الأدبي»، هذا الذي يطرحه عبد القاهر، هو الأساس المعرفي للمنهج الأدبي الحديث والمعاصر في فهم القرآن وتفسيره، مضافًا إليه إنجازات علوم اللغة والبلاغة والنقد الأدبي في العصر الحديث؟

ومنهج القراءة الأدبية — من جهةٍ أخرى — ليس منهجًا جديدًا، فضلًا عن أن يكون منهجًا مفروضًا على النصوص الدينية من خارجها. واقع الأمر أن النصوص الدينية نصوصٌ أدبية بامتياز؛ من حيث إنها تمارس تأثيرها على المتلقي من خلال عناصرَ أسلوبية وبنيةٍ لغوية «شعرية» أو «قصصية» إلى حدٍّ كبير، هذه خصيصةٌ أولى. الخصيصة الثانية أن هذه النصوص «تُنشَد» أو باللغة القرآنية «تُرتَّل»، بعد ممارسة طقوسٍ تطهريةٍ خاصة. والقرآن في أكثر من موضع يأمر النبي والمؤمنين بترتيل القرآن، وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، هكذا يوجِّه القرآنُ النبيَّ بعد أن طلب منه قيام الليل إلا قليلًا، بل إن تفضيل الترتيل في أوقات الهدوء والصفاء الذهني، كالليل والفجر، ليؤكِّد خصوصية التعامل مع تلك النصوص. لاحظ مثلًا لماذا يكون قرآن «الفجر» مشهودًا، ومن الذي يشهده؟ والمرويات الكثيرة عن تأثير القرآن على كثيرٍ ممن سَمِعوه للمرة الأولى تؤكِّد حالة «الدهشة» أو «الغرابة»، بل والاضطراب الذهني والتشوُّش العصبي. وقد نقل لنا القرآن حالة هذا الذي قدَّر وفكَّر، ثم نظر، ثم عبَس وبسَر، ثم أدبَر واستكبَر، وأخيرًا لم يجد ما يصف به هذا الذي سمعه إلا بأنه «سِحرٌ يؤثَر» (سورة المدثر: ١١–٢٥). وتعامُل علماء اللغة والبلاغة والمتكلمين مع القرآن في مناقشاتهم حول قضية «الإعجاز» انطلقَت كلها من منطلق تحليل الخصائص الأسلوبية والبلاغية للقرآن؛ أي من منطلقٍ أدبي.

ومن منطلَقٍ موضوعي علمي محايد تمامًا أليست النصوص الدينية — ومنها القرآن — نصوصًا لغوية ذات بنًى سردية وتمثيلية — قصصية وشعرية — في المحل الأول؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل هناك منهجيةٌ أخرى سوى المنهجية النابعة من طبيعة النص؟

إن حالة «مخاصمة» الفكر تلك، والتنكر له تنكرًا تامًّا، هي المسئولة عن شيوع نهج «التكفير» في حياتنا. ولا أقصد التكفير الديني فقط، وإن كان أخطر أنماط التكفير، ولكني أشير أيضًا إلى التكفير السياسي والعِرقي والثقافي، وكل أنماط الاستبعاد والإقصاء. إن «التكفير» هو النهج الكاشف عن مخاصمة «التفكير»، والانقلاب ضده، ولا غرابة في ذلك؛ فالمفردتان اللغويتان «فكَّر» و«كفَّر» تنتميان إلى مادةٍ لغويةٍ واحدة من حيث أصل الاشتقاق. إنها مادة الفاء والكاف والراء (فكر) تم قلبُها بتقديم الكاف على الفاء مع بقاء التضعيف «بالشدة» على الحرف المتوسط في الحالتَين؛ وهكذا انقلب التفكير إلى تكفير.

وتثوير الفكر الذي نحتاجه يتطلب السعي إلى تحريك العقول بالتحدِّي والدخول إلى المناطق المحرَّمة، مناطق اللامفكَّر فيه حسب تعریف «محمد أركون»، وفتح النقاش حول القضايا. وأهم من ذلك التخلص من ذلك الجدار العازل الذي طال وجوده في ثقافتنا بین «العامة» و«الخاصة»؛ فتلك الدعوات التي تتردَّد بين الحين والآخر عن حصر النقاش في بعض القضايا الدينية داخل دائرة «أهل العلم»، حتى لا تتشوَّش عقائد العامة أو يصيبها الفساد، دعواتٌ في ظاهرها الرحمة والحق وفي باطنها السوء والباطل. كيف يمكن في عصر السموات المفتوحة التي تنقل «العالم» إلى غرف النوم، وفي عصر اكتساح ثورة المعلومات لكل الحدود، حتى شاهد العالم كله بالصوت والصورة أسرار محاكمة الرئيس الأمريكي وأسرار حياته الجنسية، كيف يمكن في عصرٍ كهذا أن يطالب البعض بحماية «العامة» من خطر الفكر العلمي في أخطر القضايا التي تمسُّ حياتهم. إنه للأسف منطق «الوصاية» يتذرَّع باسم «الحماية» لممارسة دكتاتوريةٍ فكرية وعقلية لا تقل خطرًا عن الدكتاتورية السياسية في مجتمعاتنا.

•••

سؤال: يبدو أن لك اعتراضاتٍ على مصطلح التنوير. فما هي تلك الاعتراضات؟

لعل هذه الدعوة إلى التثوير أن تمثِّل مناهضةً معرفيةً لمفهوم «التنوير» في مجتمعاتنا؛ ذلك أنه صار مفهومًا مشتركًا بين الخطاب السياسي وخطاب النُّخب التي تدور في أفقه وتتحرك في فلكه. صار مفهوم التنوير في الخطاب العربي السائد فاقدًا لمضمونه؛ لأنه تم توظيفه توظيفًا أيديولوجيًّا براجماتيًّا في سياق محاربة «الإرهاب» بسلاح الأمن وحده، وإقصاء لآليات التحليل العلمي العميق لنشأة الإرهاب في سياق سياسي/اجتماعي مارسَت فيه النُّظم السياسية — ولا تزال — كل أنماط «الإرهاب» المادي والمعنوي ضد كل فئات المجتمع. في هذا السياق المُلغَّم اكتسب مفهوم «التنوير» في وعي الجماهير سمعةَ تأييد السلطة السياسية والدعوة للالتفاف حولها. وصار سهلًا ومكرورًا أن يسمع الإنسان من بعض المثقَّفين، الذين يُنسبون للفكر والمفكِّرين، من يقول: «نار النُّظم العسكرية المستبدة أرحم من جنة دعاة الدولة الإسلامية»، بل بالَغ البعض إلى حد الذهاب بأن «حذاء العسكر على الرأس أفضل من عمامة المتأسلمين». هكذا تنازَل المثقف «التنويري» راضيًا لا عن استقلاله الفكري فقط، بل تطوَّع بالانخراط انخرطًا تامًّا في العمل في مشروع النظام السياسي في بلده. وفي مناسباتٍ عديدة أُثيرت مناقشاتٌ عن إشكالية «المثقف والسلطة»، وقد شاركتُ في واحدة من المناسبات، فسمعت عجبًا. سمعتُ من يقول مستشهدا بطه حسين، الذي عمل وزيرًا للمعارف العمومية في إحدى حكومات ما قبل الثورة المصرية، أن المثقَّف الجدير بهذا الاسم هو الذي لا يتعالى عن الانخراط في العمل في «الدولة»، لا ذلك الذي يكتفي بالتشدُّق بالعبارات الفارغة الطنَّانة عن الاستقلال الفكري والترفُّع عن خدمة السلطة. وكان من الطبيعي لكي يُضفيَ على خطابه مسحةً أكاديمية أن يؤكِّد وجوب التمييز بين مفهوم «الدولة» ومفهوم «السلطة السياسية»، مؤكِّدًا أن «طه حسين» — واللبيب قادر على فهم أن المتحدث يعتبره نموذجه الأعلى — كان يعمل في خدمة الدولة ليخدم مشروعه التنويري، وينقلَه من مجال «الحُلم» إلى دنيا الواقع. وغاب عن المتحدث غيابًا تامًّا أن ذلك التمييز بين «الدولة» و«السلطة السياسية» كان أمرًا واقعًا في المناخ الليبرالي الاجتماعي والسياسي في مصر قبل ثورة ١٩٥٢م. وأيًّا كانت اعتراضاتنا على ليبرالية الماضي التي نعلم جميعًا أزماتها في ظل الاحتلال الإنجليزي، الذي كان كثيرًا ما يتحالف مع «القصر الملكي» وأتباعه لخنق الحياة الديمقراطية ومصادرة الحريات باسم الحرص على «الاستقرار»، فإن وجود إمكانيةٍ لتبادل السلطة بین الأحزاب كان حقيقةً ملموسةً في الحياة السياسية آنذاك. وفي هذا المُناخ يمكن التمييز بين «الدولة» و«السلطة السياسية»، وهو تمييزٌ غير متحقِّق في الواقع الراهن.

كان «طه حسين» قادرًا على المراهنة، بحكم انتمائه السياسي والفكري لقوةٍ سياسية لها كيانها المؤسَّسي الحزبي سياسيًّا، ولها قاعدتها الجماهيرية اجتماعيًّا، وأهم من ذلك لها مشروعها الفكري ثقافيًّا. ومن الصعب في ذلك السياق أن يُتهم «طه حسين» بأنه كان يعمل في خدمة السلطة وفي إطار مشروعها الفكري الثقافي مضحيًا باستقلاله الفكري ومتخليًا طواعيةً عن أهم أسلحته كمثقَّف، سلاح «النقد». أما والحال غير الحال، وفي ظل استيعاب الدولة استيعابًا كاملًا وابتلاعها في جوف السلطة السياسية، فالتمييز بينهما لا دلالة له سوى تقديم تبريرٍ لتنازل هذا الطراز من «المثقَّف التنويري» عن التنوير الذي يدَّعيه. «أنا الدولة» هكذا يزعم غالبية الحكام العرب بطرقٍ وأساليبَ متباينة. وهل تُوجَد «جمهوریات» وراثية إلا في عالمنا؟ لا يستطيع الباحث أن ينكر وجودَ مناخٍ شبه ليبرالي شبه ديمقراطي، خاصة في مجال النشاط الاقتصادي، وبدرجة أدنى في مجال النشاط السياسي، لا يرقى إلى حدِّ التسليم بإمكانية تبادل السلطة. هناك أحزابٌ سياسية تتكوَّن، الأمر الذي يُعطي انطباعًا بوجود تعدُّدية سياسية، لكن حرية تكوين الأحزاب وإعلانها تخضع لرقابة قوانينَ صارمة، تجعل «التعددية السياسية» مبتورة. وهناك أيضًا بعض الحريات التي لا يمكن إنكارها في مجال الكتابة الصحفية، لكن حق إنشاء الصحف وحرية إصدارها محكوم أيضًا بقوانينَ على درجةٍ عالية من التعسُّف. أما أدوات الإعلام المسموعة والمرئية فهي في قبضة النُّظم السياسية وتحت سيطرتها التامة، وفي مجتمعاتٍ تتمتع بنسبة أميةٍ مرتفعة — تتجاوز أحيانا نسبة ٥٠٪ — يصبح تكوينُ وعي الجماهير وتشكيلُه بيد السلطة ورهنَ أيديولوجيتها.

هل يمكن بعد ذلك كله الالتجاء إلى نموذج «طه حسين» لتبرير العمل في خدمة السلطة باسم «التنوير»، وأي تنويرٍ هذا الذي يتخلى عن أهم أسلحة الفكر — النقد — ليحطب في حبل السلطة السياسية زاعمًا أنه يخدم «الدولة». إننا جميعًا مثقفين وغير مثقفين نعمل في خدمة «الدولة»، ولا يعني هذا بالضرورة العمل في خدمة «السلطة»؛ لأن هناك مسافةً يمكن للمواطن المحافظة عليها بين انتمائه للدولة وبين تأييده لنظامٍ سياسي بعينه. هذه المسافة في حق المواطن العادي يمكن أن تكون مسافاتٍ ومساحاتٍ شاسعة بحق المثقَّف والمفكِّر، وهي مسافاتٌ لا تفترض بالضرورة علاقة «عداء» بقَدْر ما تؤكد الاستقلال. وليس «الاستقلال» دعوى متعالية ضد العمل بقَدْر ما هو دعوة لتأكيد أهمية الرقابة النقدية في المجتمع، حتى في حالة تماثل مشروع النظام السياسي مع مشروع المثقَّف أو المفكِّر. وبعبارة أخرى يجب التمييز بين قيام المثقف بدوره من خلال فعاليته كمثقف ومفكر وبين أن يتحول إلى «موظف» في سلك السلطة السياسية. هناك فارق لا شك بين دور المثقف كحارس للقيم وناقد وبين دور «كلب الحراسة» في إحدى الضِّياع.

•••

سؤال: بعد إقامتك في هولندا، ومعايشتك لحضارةٍ أخرى، واحتكاكك المباشر واليومي، ودخولك في تفاصيل الحياة. هل تغيَّرت نظرتك للغرب والحضارة الغربية؟

إن قناعاتي الثابتة، والتي اكتسبَت يقينها الخاص في سياق النظر من بعيد وما تفضي إليه من رؤية الصورة كاملة، تتوازى وتتفاعل مع ما أضافته الإقامة في الغرب من القدرة على إدراك التفاصيل في هذا «الغرب» الذي يحتويني مكانيًّا. وهنا من الأهمية بمكان لفت الأنظار — أولًا — إلى وجوب التمييز بين مفهومَي «الحضارة الغربية» و«الحضارة الحديثة». وأنا أفضِّل استخدام عبارة «الحضارة الحديثة» بدلًا من عبارة «الحضارة الغربية»؛ وذلك لأن هذه الحضارة، التي تُسمَّى غربية، تمثِّل تراكمًا كيفيًّا لإنجازات الحضارات الإنسانية السابقة من مصرية وفينيقية وسومرية ويونانية وهندية وصينية وفارسية. وهي إنجازاتٌ استمدَّتها كلها تقريبًا من الحضارة العربية الإسلامية، ثم أضافت إليها وطوَّرَتها حتى بلغَت ما بلغَته في العصر الحديث. من هنا يجب التمييز بين المكوِّنات الإنسانية العامة في بنية الحضارة الحديثة وفي تاريخها وبين حقيقة كونها تتمثل الآن في بقعةٍ جغرافية يُطلَق عليها اسم «الغرب». ومن الضروري — ثانيًا — التمييز بين مفهوم «الحضارة» ومفهوم «الغرب السياسي». يشير المفهوم الأول إلى مجموعة من المنظومات — لا منظومة واحدة فقط — الفلسفية والفكرية والثقافية والسياسية، بالإضافة إلى المنظومات — مرةً أخرى بصيغة الجمع لا بصيغة المفرد — الجمالية المعمارية والفنية والأدبية. أما المفهوم الثاني، مفهوم «الغرب السياسي»، فيشير إلى مجموعة النُّظم السياسية والأيديولوجيات الحاكمة في بلدان أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وهي نُظم وأيديولوجيات لا تمثِّل بالضرورة «قِيَم» «الحضارة الحديثة»، كما أن السياسات التي تتبعها تلك النُّظم السياسية قد لا تعكس في أدائها وتوجُّهاتها مقتضيات السلوك الحضاري المُثلى.

ولا شك أن الموقف من «الغرب السياسي» تحكُمه علاقات المصالح، التي هي امتداد لمرحلة الأطماع الاستعمارية في سياقٍ جديد هو سياق «السوق العالمية الموحدة»، كما تحكمه استمرار عمليات الاعتداء على حدود السيادة الوطنية، والتي بلغَت ذروتها في زرع الكيان الصهيوني في أرض فلسطين ومحاولات تفريغها من أصحابها الأصليين. وما يزال مسلسل الاعتداءات مستمرًّا ضد شعب العراق وأطفاله؛ الأمر الذي يؤكد أن عداءنا لذلك «الغرب السياسي» ليس أمرًا نختاره أو نرفضه، بل هو أضعف الإيمان في سلوكنا الوطني. ومن مهام المثقف الوطني ألا يكتفي بإدانة هذا الغرب «السياسي» بكل الوسائل والأدوات المتاحة لديه، ومن خلال كل المنابر الفكرية والثقافية والإعلامية شرقية وغربية، بل عليه أن يعلن وبكل وضوح كذلك إدانته لأنظمة الحكم العربية التي تتحمل نفس الدرجة من المسئولية عن هذا الوضع المتردِّي. ليس من الحكمة أن نعلِّق الجرس في رقبة «الغرب السياسي»، مبرِّئين من المسئولية حكامنا الذين يقهرون الشعوب، فيغلقون أبواب التصدي الشعبي للعدوان ومقاومته إغلاقًا تامًّا.

بعد هذا التوضيح وتحرير المفاهيم والمصطلحات لا أظنني بحاجة إلى تأكيد أن موقفنا من الحضارة الحديثة، يجب أن يكون موقف التفاعل النقدي الخلَّاق. وهو موقف لا يقوم على التعامل معها من موقف براجماتي يعتمد على استيراد المُنتَج التكنولوجي، مع تجاهل أساسه العلمي والمعرفي، كما أنه لا يقوم على استيراد «النظريات» العلمية والمعرفية ومحاولة فرضها بطريقةٍ ميكانيكيةٍ آلية في بيئة ومناخ ومجالات مغايرة للبيئات والمجالات التي أنتجَتها. لقد تم تطبيق نهج الاستيراد، خلال عقود طويلة — في القرنين التاسع عشر والعشرين — ولم ينجح في تأسيس مجتمعٍ علمي، ولا في خلق مناخ للتفكير العلمي. والعِلة في تقديري أننا نظرنا إلى تفوُّق «الغرب» طوال هذَين القرنَين بوصفه تفوقًا في العلم والتكنولوجيا وحدهما، دون مجال الفكر والفلسفة والثقافة والفنون؛ أي دون مجال النشاط الروحي الذي تصوَّرنا أن رصيدنا التراثي منه يتفوق على إنجاز الحضارة الحديثة فيه. وما تزال دعوات «النهوض» و«التقدم» التي تتردَّد الآن وبقوة تركِّز على قضايا «العلم» و«التكنولوجيا» بمعزل عن تطوير علومنا الإنسانية بالتفاعل مع إنجازات مناهج الإنسانيات في الحضارة الحديثة. إن الإنسان المُنتِج، للعلم والتكنولوجيا هو الإنسان الذي تم تكوينُه معرفيًّا منذ مرحلة الطفولة بتدريبه على أهمية إثارة الأسئلة، وتقليب الاحتمالات الممكنة، والتفكير في الأجوبة قبل اختيار أحدها، والاستعداد للتخلي عن قناعته إذا ثبت له عدم دقتها. والأهم من ذلك كله عدم قبول الرأي الشائع دون فحص ونقد. إنه منهج «الشك»، والمراجعة، وإعادة النظر، لا منهج «الإيمان» الأعمى و«اليقين» الزائف و«الطاعة» و«التقليد». كم نحتاج للتعلم؟ سؤال لا ينبغي أن نخجل من إثارته؛ فلو لم يتعلم «الغرب» ممن سبقوه في مضمار الحضارة ما استطاع أن يكون ما هو عليه الآن.

والعجيب أننا، رغم كراهيتنا للغرب السياسي بحكم ممارساته العدوانية ضد مصالح شعوبنا، مشغولون دائمًا أشدَّ الانشغال بصورتنا في عيون إعلام هذا الغرب. وهذا أمرٌ يصيبني بدهشة تصل أحيانًا إلى حدِّ «السخرية»؛ إذ يجب أن يكون شاغلُنا الأساسي وهمُّنا الأول تكوينَ صورةٍ صحيحةٍ عن أنفسنا وعن أحوالنا. ويثير هذا في نفسي سؤالًا يصعب أن أكتُمَه: لماذا لا ينشغل الغربيون بصورتهم عندنا، ولا يهتمون قليلًا ولا كثيرًا بتصوراتنا عنهم ونظرتنا لهم؟ أليس هذا «الوسواس» داخلنا ما يُعد عرضًا من أعراض مرضٍ عضال، لا أدري له اسمًا في «علم النفس الاجتماعي»؟ من أعراض هذا المرض مثلًا أن يُقال إن هناك محاولات تآمرية — داخلية وخارجية — لتشويه صورتنا في عيون أهل الغرب من خلال اختيارات الأعمال الأدبية التي تُترجم إلى لغاتٍ أوروبية مثلًا. وأصحاب هذه النظرية لا يتساءلون عن معايير اختياراتنا نحن لما نترجمه وما لا نترجمه من التراث الغربي في كل فروع المعرفة. ولا يدركون أنه من الطبيعي أن تخضع عمليات الترجمة لقوانين تحدِّدها إلى حدٍّ كبير «صورة» الآخر عند الطرف الناقل، لكننا مثل الحبيب «المهجور» المشغول أبدًا بما يفكر فيه الحبيب الذي هجره، وهي صورة تمثيلية تشخِّص إشكالية علاقتنا التاريخية بالغرب في القرنَين الأخيرَين؛ إنه المعلِّم المتقدِّم الذي يتحتم أن نتعلم منه من جهة، وهو العدو المعتدي الغاشم الذي يتحتَّم أن نحاربه، وإن بنفس سلاحه، من جهةٍ أخرى.

لقد وصلَت نظرية «المؤامرة» إلى حدَّ أن صارت «المفسِّرة»، التي تحمي الذات من تحمُّل أية مسئولية بإلقاء التبِعة كلها على الآخر، فتم تصوير الغرب باحثًا عن عدوٍّ استراتيجي بديل عن الشيوعية، فوجد عدُوَّه هذا في «الإسلام». والحقيقة أن نظرة الغرب للإسلام ليست نظرةً استاتيكيةً جامدة كما يتوهَّم البعض؛ فهناك نظراتٌ تختلف — من جهةٍ أَولى — بين النظرة «الإعلامية»، و«النظرة السياسية» و«النظرة العلمية الأكاديمية» في المؤسسات ومراكز البحث والجامعات. وهناك من جهةٍ ثانية الاختلاف بين النظرة «الأوروبية» في مجملها وبين النظرة «الأمريكية» للإسلام، والتي بدأَت اهتمامَها به مع نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وما قارنه من احتلال السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز عدد من الرهائن، وفشل المحاولات العسكرية الأمريكية لتخليص الرهائن وتحرير السفارة؛ لذلك من السهل أن يلاحظ الباحث أن الهاجس السياسي هو العامل المسيطر في الرؤية الأمريكية للإسلام، وهو الهاجس الذي أثمر نظرية «صدام الحضارات»، وهي نظرية انزعجَت منها الدوائر الأوروبية بنفس القَدْر الذي أزعج المسلمين مع اختلاف أسباب الانزعاج. هذا الهاجس السياسي يجعل السياسة الأمريكية لا تهتم كثيرًا بطبيعة الأنظمة التي تتعامل معها وتساندها، مهما كانت راديكاليتها الإسلامية، ما دامت لا تهدِّد مصالحها. ولا بأس في هذه السياسة من التعاون مع «عمر عبد الرحمن» أو «أسامة بن لادن» أو غيرهما من القيادات في لحظةٍ معيَّنة، ثم طلب «الرقاب» — حيًّا أو ميتًا — في لحظةٍ أخرى. وفي جميع اللحظات يبقى خط الاتصال مفتوحًا مع بعض القيادات والتنظيمات تحسبًا لاحتمالاتٍ مفاجئة، مهما كانت مستبعَدة. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى يقوم خط الاتصال المفتوح هذا — بين دوائر صنع القرار في أمريكا وبين القيادات الإسلامية الراديكالية، بل والإرهابية — بدور «الفَزَّاعة» لتهديد للأنظمة السياسية في العالمَين العربي والإسلامي لضمان استمرار سيرها على النظام الأمريكي المستقيم. إنه نفس الدور الذي يقوم به «في إبقاء الوضع الحالي في الخليج»، ولو كان الثمن هو القضاء على العراق بأكمله شعبًا وتاريخًا وتراثًا وحضارة.

أما نظرة «أوروبا» للإسلام فهي، وإن بدأَت سياسيةً استعمارية منذ الحروب الصليبية، قد بدأَت تتخذ الآن مساراتٍ متعددة إعلاميًّا وسياسيًّا وأكاديميًّا. من الناحية الإعلامية من الضروري ألا ننسى أن الإعلام، مرئيًّا كان أم مسموعًا أم مقروءًا، أكثر اهتمامًا بالرجل الذي «يعقر» الكلب منه بالكلب الذي يعقر الرجل؛ لهذا يجب أن نتفهم أن «قنبلة» تنفجر، أو «سائحًا» يُقتل، أو «قبطيًّا» يُهاجَم، أو «طفلة» تُختن، أو حكمًا قضائيًّا يصدر ضد كاتب أو فنان، أمرٌ يثير شهية الإعلام في كل مكان للتحليل والتعليق واستدعاء الخبراء للإدلاء بآرائهم … إلخ. هناك بالقطع مبالغاتٌ وتضخيمٌ في عرض الحدث أو الواقعة، لكن أصل الحدث أو الواقعة من صنعنا نحن، ومن نتاج واقع لا نتأمله تأملًا نقديًّا كافيًا. الصورة الإعلامية، المبالغ في إضافة الرتوش اللونية لها، ليست في نهاية المطاف اختلاقًا من عدم. هل يمكن أن يتحمل المسئولية كاملةً ناقلُ الخبر، مهما بالغ في تصويره وإبراز جوانبه السلبية وتضخيمها، دون الفاعل الأصلي والمجرم الحقيقي؟

النظرة السياسية الأوروبية للإسلام تختلف من بلد إلى آخر، خاصةً في سياق تزايد أعداد المهاجرين المسلمين، لأسبابٍ متباينة، في بلدان أوروبا. هناك «مخاوف»، بعضها مشروع وبعضها مُبالَغ فيه (فرنسا وألمانيا على سبيل المثال)، كما هناك محاولاتٌ للفهم الهادئ والتعامل مع الحقائق (هولندا وإنجلترا مؤخرًا). أما النظرة الأكاديمية في المؤسسات والجامعات الأوروبية فهي في مجملها تقدِّم خدمة للإسلام وتاريخه وتراثه تستحق لا التقدير والاحترام فقط، بل تستدعي التعاون بإرسال المبعوثين وتبادل الأساتذة. هل أقول إنَّ مؤسساتنا العلمية تحتاج في مجال الدراسات الإسلامية إلى أن تعود إلى تقاليدها في بداية هذا القرن، الذي شهد تفاعلًا أنتج لنا علماء من طراز «مصطفى عبد الرازق» و«أمين الخولي» و«شلتوت» و«دراز»، و«عبد الحليم محمود»، وهو القرن الذي شهد ترجماتٍ لأهم أعمال المستشرقين في مجال الدراسات الإسلامية، فضلًا عن مشروع ترجمة «الموسوعة الإسلامية». عما قريبٍ ستصدُر «الموسوعة القرآنية» أيضًا، وفي مجلس تحريرها ثلاثةٌ من المتخصِّصين العرب، منهم كاتب هذه السطور، فهل تُترجَم أم تُهمَل كما أُهملَت الطبعة الحديثة من «الموسوعة الإسلامية» التي وصلَت إلي حرف T في مجلدها العاشر؟

•••

سؤال: ولعل هذا الحديث عن «الغرب» يستدعي مسألة الفزع من «العولمة» وتوابعها، والخشية من تأثيرها الضار على الثقافة الوطنية؛ ومن ثَم تهديدها لهويتنا الحضارية التي يرى البعض أنها هويةٌ مستقلة استقلالًا تامًّا عن الهويات الأخرى في هذا العالم؛ فهل ثقافتنا حقًّا في خطر؟

ليست «العولمة» في الحقيقة ظاهرةً جديدةً تمامًا وغير مسبوقة؛ فكل الثقافات في العالم القديم أرادت أن تسيطر وتنتشر بالغزو والقوة العسكرية. إن حُلم الإسكندر الأكبر — تلميذ أرسطو — كان يتمثل في نشر الثقافة اليونانية — نمط الحياة والنظم السياسية والاجتماعية والحربية … إلخ — في العالم كله، لكن الذي حدث هو مزيجٌ مركَّب من الثقافة اليونانية والثقافات المحلية أصبح يُعرف باسم الثقافة الهلِّينية. حاول الرومان ما حاوله اليونان، وفي هذا السياق تم استخدام «المسيحية» حاملًا لهذه العولمة الثانية، لكنها كانت المسيحية الرومانية الغربية المعادية — سياسيًّا ودينيًّا — للمسيحية الشرقية. وكانت الحركة الثالثة في تاريخ العولمة هي العولمة الإسلامية التي سادت العالم القديم كله تقريبًا. ومن اللافت للانتباه أن القرآن في أول سورة «الروم» يتبنَّى من الصراع الذي كان قائمًا بين «الروم» و«الفرس» موقف التعاطف مع «الروم»، الذين هزمَهم الفرس في إحدى المعارك آنذاك؛ لأنهم كانوا حمَلة رسالةٍ دينية، لكن هذا التعاطف يتحول إلى صراعٍ تاريخي وحروبٍ دامية بعد ذلك. إلى أي حدٍّ يمكن النظر إلى هذا الصراع التاريخي بوصفه صراعًا ينتمي — بمعنًى من المعاني — إلى تاريخ «العولمة»؟

العولمة الحديثة تختلف في شكلها وفي أدواتها وفي آلياتها لفرض نفسها، ولكنها لا تختلف جوهريًّا عما سبقها من عولميَّات. ولعل هذا يفسِّر إلى حدٍّ ما أن بعض المنظِّرين السياسيين للعولمة المعاصرة بقيادة الولايات المتحدة افترَضوا أن «الإسلام» واحدٌ من الأخطار التي تهدِّد تلك العولمة. من هنا مَنشأ مفهوم «صراع الحضارات» جنبًا إلى جنب مفهوم «نهاية التاريخ»، مع أنهما مفهومان متعارضان منطقيًّا على الأقل. ولهذه العولمة الأمريكية بصفة خاصة إلهٌ وبيتٌ مقدَّس يحج إليه الدراويش والأتباع، إلهٌ هو «السوق» وآلياته وبيتُها المقدَّس هو البيت الأبيض، وملحقاته، لكن قصر مفهوم العولمة على مفهومها الأمريكي الساعي للهيمنة والسيطرة يُعد في ذاته أمرًا مرسِّخًا للمفهوم رغم ما يبدو على السطح من رفض واستنكار؛ ولذلك من الضروري تحرير المفهوم من «القناع» الأمريكي قبل التعامل مع حقيقته، بل تحريره من أجل إمكانية التعامل معه تعاملًا ناجزًا.

والآن ما موقفنا من هذه الموجة الأخيرة من موجات العولمة؟ وهل هي كما يزعم البعض قدَرٌ لا فكاك منه بوصفها «نهاية التاريخ»؟ وإلى أي حدٍّ تهدِّد ثقافتنا؟

والسؤال الأهم إذا كانت ثقافتُنا في خطر فهل يحميها الانعزال والتقوقع، ويدنِّسها الانفتاح والتفاعل؟ عن أي ثقافةٍ يتحدث الخائفون حين يعبِّرون عن فزعهم؟ عن ثقافة العامة أم عن ثقافة الخاصة؟ عن ثقافة الحياة أم عن ثقافة الموت؟ عن الواقع أم عن الوهم؟ أليست الثقافة العربية بوضعها الراهن غير قادرة على صنع الحياة على الأرض العربية؛ لأنها في مجملها، وفي تيارها العام السائد والمسيطر، ثقافة «ليس في الإمكان أفضل مما كان» وليست ثقافة «بقاء الحال من المحال»؟ إنها ثقافة الثبات بدعوى «الاستقرار»، وثقافة الإيمان بأن «التغيير» يحمل معه من الشرور والمخاطر والمضار أكثر مما يحمل من المنافع والفوائد. إنها ثقافة «درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح»، ولكن دون اعتبار للشروط المعرفية والعلمية التي تقيس نسبة «الضرر» المحتمل إذا قيس بنسبة المنافع والمصالح المحتملة. كيف نتساءل بعد ذلك كله عن مدى قدرتها على مواجهة من مخاطر «العولمة» أو بالأحرى «مفاسدها»؟ إن كل النقاش حول العولمة في عالمنا العربي لا يرى فيها إلا جانب الخطر والفساد، دون إدراك أن مبناها الأساسي مرتكز على «قوة» المعرفة، وهي بالطبع سلاحٌ من أهم أسلحة الصراع في عالمنا الحديث. وبدلًا من التساؤل: كيف نُنمِّي قُوانا المعرفية بالخروج من نفق العصور الوسطى الذي نُصِر على البقاء فيه تحت مسمياتٍ برَّاقة مثل الحفاظ على «الهوية» و«الخصوصية» و«الأصالة». ولستُ أذهب من ذلك إلى التقليل من شأن هذه المشكلات، بل أحُض وبقوة على مناقشتها من منظورٍ علميٍّ واقعي يدرك أن «الذات» ليست «الأنا» الحضارية المتقوقعة المنغلقة على نفسها؛ فتلك هي صفات الموتى. أما الأحياء فهم المنخرطون في العالم، المتفاعلون مع ما حولهم تفاعلًا حرًّا خلاقًا مبدعًا، وتلك هي أهم سمةٍ من سمات التحضر. ولو ظل المسلمون بمنأًى عن التفاعل مع كل الحضارات التي سبقَتْهم وعاصرَتْهم، أخذًا وعطاءً بلا عُقَد استعلاءٍ أو تدنٍّ، ما ابتدعوا بناءهم الحضاري الشامخ. هكذا لا يجب أن تستغرقَنا أوهام «السوق»، فنشرع أسلحة مقاومتنا «الصدئة» ضد «العولمة»، شأننا في ذلك شأن المماليك الذين خرجوا بسيوفهم مشرعةً وجيادهم مطهمةً ليحاربوا جيشًا حديثًا. هذا الجيش الحديث ذاته هزمَتْه المقاومة الشعبية بأدواتها الناجعة، التي ابتدعَتْها بالمواجهة الشجاعة الصريحة دون أوهام. السؤال: كيف نُبدِع أدواتنا المعرفية اللازمة للتفاعل مع هذا الذي يُسمَّى «العولمة»؟ «التفاعل» لا «النزال» ولا «صُراخ» الصرعي، فلنُطلِق طاقاتنا الحبيسة والمرتهنة تحت مسمياتٍ شتى أشرتُ إلى بعضها من قبلُ، ولنتخلَّ عن خداع النفس الذي يتمثل في الصُّراخ مداراةً للضعف والخوف «كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد». إن العالم عالمنا كما هو عالمهم، فلماذا نتردَّد في الاقتحام من منطق الندِّية والمساواة، دون أن نطلبَ إذنًا من أحد، لكن ذلك كله لا يقوم به إلا أحرار، ثم لماذا نتصوَّر «العولمة» انسياقًا وراء «الغرب» عامة، والولايات المتحدة خاصة؟ لماذا لا ننظر للعالم نظرةً أوسع، فنرى الصين واليابان والهند، فضلًا عن جيراننا الفرس والأتراك؟ ماذا نعلَم حقًّا عن هذا الجزء من العالم ثقافةً وأدبًا وفنونًا؟ إلى أي حدٍّ يهتم إعلامنا بما يحدث هناك، وماذا نترجم لهم أو عنهم؟ هذا فضلًا عن الحديث المتكرر المعاد عن العالم الإسلامي الذي نزعُم أننا ننتمي إليه، ما حجم معارفنا الثقافية والفكرية، فضلًا عن الأدبية والفنية، عن إندونيسيا وماليزيا سوى أنهم من «النمور» الآسيوية، وهي الدعاية «الغربية» ليس إلا؟ إننا نحتاج لكثيرٍ من تلك «العولمة» حقًّا لإثراء معرفتنا وتخصيب ثقافتنا.

•••

سؤال: إن التعصُّب أو العداء لا يوجَّه فقط ضد الغرب أو الغير أو عدو الأمة، بل هو داخل مجتمعاتنا وفيما بين أهل الأمة الواحدة أشد قساوةً وعنفًا، فكيف تفسِّر ذلك؟

يبدو أحيانًا أننا نعيش في نفقٍ مظلم بين مخاوفنا من العالم ومخاوفنا بعضنا من بعض. يبدو لي أنه لا سبيل للخروج من هذا النفق المظلم إلى رحابة الحياة الطليقة إلا من خلال التفاعل الحر مع ثقافات العالم من جهة، وبتحرير إرادة الفرد من ضيق الأفق ونزعة العداء لكل ما يجهل من جهةٍ ثانية. وليس تحرير الفرد عملًا مستقلًّا عن تحرير «الجماعة»، التي يحتل المثقَّفون والمفكِّرون موقع طليعتها، ولكن حال الجماعات الثقافية يحتاج بدوره إلى «تحرير» من نزعة الاستبعاد والإقصاء التي يمارسها بعضها ضد بعض. وبعبارةٍ أخرى يحتاج المجتمع الثقافي والفكري للشفاء من عِلَله. السؤال الذي يفرض نفسه على الباحث هنا: ما سر هذا «التحزُّب» و«الاستقطاب» الحاد بين فِرقٍ يحرص كلٌّ منها على نفي الآخر واستبعاده؟ تتعدَّد آليات «الاستبعاد»، في مصر على سبيل المثال، لكنها تتجلى في بنيةٍ ثنائيةٍ تناقضية، يستبعد فيها «الإسلاميُّ» العلمانيَّ على أساس «خروج» الأخير على ثوابت الأمة وتبنِّيه لمشروعٍ فكرى، ثقافي سياسي اجتماعي، يُفضِي إلى مزيد من التبعية للغرب. وبالمثل يستبعد «العلمانيُّ» «الإسلاميَّ» على أساس قيام مشروعه على أوهام العودة إلى الماضي والتقليد والاعتماد على شعاراتٍ فَضْفاضة غامضة لا تُغني عن غياب المشروع الاجتماعي السياسي الواضح الأهداف والمقاصد، والمحدِّد لإجراءات العمل والتنفيذ. وفي تقديري أن من أهم أسباب حالة «الاستقطاب» هذه غياب المناخ الملائم للحوار منذ فترة طالت إلى أكثر من نصف قرن، حدثَت فيها أحداث تركَت جروحًا عند الجميع، أعني عند أهل «اليمين» وأهل «اليسار» على السواء إذا صح التقسيم. لم يتعلَّم أحدٌ من درس «كليلة ودمنة» عن الثور الأبيض الذي تحالف مع الأسد وساعده على التهام غريمه الثور الأسود، ليخلوَ له المجال ليكونَ الزعيم الأوحد للثيران. كأن لم يدرك أحدٌ مغزى صرخة هذا الثور: «لقد أُكلتُ حين أُكل الثورُ الأسود». ويحضرني ما قاله أحد المفكِّرين الألمان في عصر النازية: حين بدأ القبض على «اليهود» لم أهتمَّ فلستُ يهوديًّا، وحين بدأ القبض على الشيوعيين لم أهتمَّ فلستُ شيوعيًّا، وحين بدأ القبض على المعارضين للفاشية والنازية لم أهتمَّ فلم أكن معارضًا، وحين أتَوا للقبض عليَّ لم يكن هناك أحدٌ ليدافع عني. وهناك محاولاتٌ للسعي لإيجاد طريقٍ فكري وسيط يلتقي عليه الطرفان المتعاديان حقنًا لدماء الفكر وسعيًا لصلحٍ بين الخصوم. والحقيقة أنه ليس هناك بديلٌ فكري ثالث جاهز، بل هناك آراء واقتراحات، الشرط الوحيد لبلورتها هو دفاعنا جميعًا عن «ديمقراطية» غير مشروطة، ديمقراطية لا تستبعد أحدًا ممن نظنهم أعداءَنا أو خصومَنا. إننا نبحثُ عن وهمٍ لا وجود له، ولم يُوجَد أبدًا في التاريخ، اسمه «الاتفاق» و«الإجماع» على صيغةٍ سياسية ثقافية فكرية حضارية للخروج من الأزمة، وهو وهمٌ تخلَّص منه العالم المتقدِّم حين اتفق على كيفية تنظيم «الاختلاف» من خلال آليات «الديمقراطية» الحديثة. دعنا ننظِّم اختلافنا، الذي هو أمرٌ ليس طبيعيًّا فقط، بل هو صحي. لقد خلقنا الله مختلفين؛ فالاختلاف ظاهرة في أصل الخلقة، ثم يصوغ المجتمع بعناصره وتعدُّد مصالح فئاته، وتضاربها أحيانًا، هذا الاختلاف صوغًا اجتماعيًّا وسياسيًّا وفكريًّا؛ لهذا يتكوَّن المجتمع من «جماعات» تتباين فيما بينها، وإن كانت تشكل كلًّا واحدًا غير هلامي هو الذي يميِّز مجتمعًا ما عن غيره من الجماعات. إن الاختلاف «المنظَّم» ثراءٌ وغنًى، بعكس «الاتفاق» أو «الإجماع» القائم على القَهْر والعَسْف والشطَط. ولنتعلم جميعًا من دروس الماضي والحاضر: قد أختلف معك في الرأي، لكني على استعداد أن أدفع حياتي ثمنًا لحماية حقك في التعبير عن رأيك.

وعلى الذين يُخيفهم شأن الاختلاف أن يعودوا لتاريخ المسلمين مثلًا ويخبرونا: متى اجتمع أمر المجتمعات الإسلامية على رأيٍ واحد؟ لقد اختلفَ المسلمون وتقاتَلوا في مواقعَ مشهودة أشهر من أن تُنكر، ولا يستطيع زاعمٌ أن يزعم أن قيام سلطة «الأمويين» استندَت إلى «إجماع»، اللهم إلا إذا كان يعني إجماع «الصمت تحت إرهاب السيف». ومع ذلك فالمعارضة لسلطة الأمويين سرعان ما تشكَّلَت في شكل فرقٍ دينية شتَّى، طرحَت رؤاها بلغةٍ دينية ملائمة لروح العصر؛ الأمر الذي استدعى مناهجَ شتَّى في التفسير والتأويل. وما كاد العباسيون يُسقِطون حكم بني أمية في الشام حتى قامت للأخيرين دولةٌ في الأندلس، وتزايد مجالُ الاختلاف في العصر العباسي، حتى انقسمَت الخلافة إلى دول وممالك شتَّى باستقلال الأمصار وقيام دولة الشيعة في المغرب. البحث عن «الإجماع» بمثابة بحث عن قطةٍ سوداءَ لا وجود لها في غرفةٍ مظلمة.

وفي تاريخنا الحديث — تاريخ الدولة الحديثة — كان «الإجماع» دائمًا مطلبًا بحُجة «وحدة الأمة» في نضالها ضد الاستعمار والصهيونية، وهي الحُجة التي اتُّخذَت ذريعةً ضد تأسيس مجتمعٍ مدني ديمقراطي، يقوم على «التعدُّدية» و«الاختلاف» و«التداول السلمي للسلطة». وهو مطلبٌ استمر مسلطًا مثل السيف على رقاب الحريات بدعاوى ومسمياتٍ مختلفة، مثل «لا حرية لأعداء الشعب» و«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، والآن تعلو شعارات «الثوابت الدينية» أو «الثوابت الوطنية» لتوزيع الاتهامات شرقًا وغربًا، ﺑ «العمالة» تارة، و«الخيانة» تارة، و«الردة» تارةً ثالثة، وهي اتهاماتٌ لا تختلف كثيرًا عما شاع في دوائر اليسار من اتهام ﺑ «التحريفية» و«البرجوازية العفنة» و«خيانة الطبقة» … إلخ. وكلها وسائلُ إرهابية لحصار أي نوعٍ من «الاختلاف» بتعليق يافطة «الانحراف» و«خرق الإجماع» و«تمزيق الرابطة الوطنية» عليه. بهذه العمليات المتتالية من القمع تعوَّد الناس السكوت وإيثار السلامة، وبالتدريج كفُّوا عن التفكير، فصارت الأغلبية الصامتة في مجتمعاتنا تُوهِم الأقلية المستبدة بوجود «إجماع». ومع اشتداد سطوة الإعلام المرئي على وجه الخصوص، وسيطرة السلطات السياسية عليه سيطرةً حديدية، بالإضافة إلى تدنِّي مستوى التعليم والتثقيف، صار هذا «الحجب» عن المعرفة والاستئثار بالمعلومات نوعًا من القمع الخفي؛ لأن المنع من المعرفة، وإغلاق سُبلها، حجبٌ للعقول عن الاشتغال، وممارسة وصاية على العقول من شأنها أن تقتل أي احتمالات لتكوين رأيٍ عام.

ولا فائدة من القول بأن انفتاح السموات بالبث الحر المباشر، الذي أصبح من الصعب إن لم يكن من المستحيل السيطرة عليه أو التحكُّم فيه من جانب الحكومات، يتيح حرية تدفُّق المعلومات وتداولها، ولا القول بأن شبكات المعلومات الإلكترونية أصبحَت متاحةً لكل من يريد. تلك كلها أقوالٌ لا يدرك قائلوها مأساة نسبة «الأمية» في مجتمعاتنا، ولا يدركون كيف تتحوَّل تلك القنوات إلى وسائل لتزجية الوقت والاستمتاع الضار إلى حدٍّ كبير. وحتى بالنسبة للمتعلمين الذين يُجيدون بعض اللغات الأجنبية، ويستطيعون من ثَم الإفادة من قنوات الاتصال الحديثة، ليس مثيرًا للتفاؤل؛ إذ إن «المعلومات» لا تتحوَّل إلى «معرفة» إلا من خلال «عقل» قادر على التحليل والنقد، باختصارٍ عقل قادر على «التفكير»، وهو ما لا تُتيحه نُظمنا التعليمية، ولا جامعاتنا ولا حياتنا السياسية، فضلًا عن أجهزتنا الإعلامية.

والخلاصة أن من يطالب بوحدة في الفكر، ويتصور أن الحياة الاجتماعية لا تقوم بغير ذلك، يكون شأنه شأن من أراد أن يحلَّ مشكلة المرور فقرَّر أن تسير السيارات والمركبات كلها وكذلك المشاة في اتجاهٍ واحد. وهو حلٌّ أسهل من إصلاح الطرق وإقامة «علامات ضوئية» في كل زاوية وعند كل تقاطع، وضبطها ضبطًا دقيقًا يُراعي الكثافة في الأوقات المختلفة في اليوم الواحد، وفي الأيام المختلفة على مدار الأسبوع، ويحدِّد «السرعة» الواجب اتباعُها على كل طريق. والأهم من ذلك كله تحديد مساراتٍ خاصة لعبور المشاة، مع مراعاة إصدار أصواتٍ خاصة عندما تسمح العلامة الضوئية للمشاة بالمرور، وذلك لمساعدة المعوَّقين من فاقدي البصر على السير باطمئنان، لكن تنظيم المرور تنظيمًا دقيقًا يتطلب مجتمعًا مدنيًّا راقيًا، في حين أن صدور «أمر» بأن تسير السيارات والمَركَبات جميعها في اتجاهٍ واحد لا يحتاج أكثر من سلطةٍ دكتاتورية غاشمة تأمر فتُطاع ولا تُسأل عن شيء. وهذا هو حالنا، وأخشى أن يكون كل من يطالب بوجود حالة من «الاتفاق» أو الإجماع يسعى دون أن يقصد لإبقاء الحال على ما هو عليه. نعم، فلنختلف ولنتحاور، ولنترك حتى للجنون مساحةً للتعبير عن نفسه؛ فمن تعبيرات الجنون أحيانًا تُولَد العبقرية، ولكن علينا الاتفاق على «كيفية» ممارسة الاختلاف، الذي هو في التحليل الأخير دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، والذي لولاه لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ (البقرة: ٢٥١) ولَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا (الحج: ٤٠).

•••

سؤال: أنت الآن في «ليدن»؛ حيث جامعتها العريقة التي تُشتهَر بقسم الدراسات الإسلامية، وحيث دار نشر «بريل»، ورغم أنك تركتَ مصر بسبب الظروف التي استجدَّت بعد صدور الحكم، إلا أن اختيارك ليدن كان لأهدافٍ علمية، فماذا أفدتَ من هذا الاختيار وماذا تفعل اليوم؟

لقد اتسعَت آفاق اهتماماتي العلمية والأكاديمية بحكم عملي هنا في جامعة «ليدن»، وهي من أقدم المؤسَّسات الأكاديمية في أوروبا التي اهتمَّت بدراسة الإسلام والحضارة الإسلامية وعلومها، وتتضمَّن أهم وأكبر مكتبة مخطوطات باللغات الإسلامية (العربية، الفارسية، التركية، الملايو، الأردو، بالإضافة إلى العبرية). من أهم المجالات التي تزايَد اهتمامي بها عن ذي قبل مجال الفكر الإسلامي بغير اللغة العربية، خاصةً الفكر الإسلامي التركي والهندي والباكستاني والإندونيسي والبلقاني، فضلًا عن الإيراني. وقد أُتيح لي في هذا الصقيع البارد ما لم يُتَح لي في شمس بلادنا المشرقة، فقمتُ في شهر يونيو (١٠–١٢) من العام الماضي، ١٩٩٨م، بتنظيم مؤتمرٍ دولي عن «الدراسات القرآنية على أبواب القرن الحادي والعشرين» شارك فيه أكثر من ٢٥ متخصصًا في الدراسات القرآنية من كل بلاد الشرق والغرب، مسلمين وغير مسلمين. حضر باحثون من مصر، وسوريا، والسودان، وجنوب أفريقيا، والبوسنة، ومن إندونيسيا، والهند، وتركيا، وإيران، وكندا، وأمريكا، وإنجلترا، وألمانيا، ومن هولندا بالطبع. وقد عكس المؤتمر مدى ثراء الفكر الإسلامي وتعدُّد لغاته، إلى جانب أن المناقشات والمداخلات العميقة خلال تلك الأيام الثلاثة كشفَت أن «التجديد» الفكري الديني ينبثق الآن من خارج دائرة الفكر «العربي». هذا بالإضافة إلى أن نتائج هذا المؤتمر كشفَت مدى اتساع نطاق الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر. ولقد سبق لي أن قمتُ بالمشاركة مع زميلٍ هولندي متخصِّص في «الإسلام في إندونيسيا» بتدريس مقررٍ دراسي لطلاب مرحلة الماجستير عن «الفكر الإسلامي الحديث: دراسة مقارنة بين مصر وإندونيسيا»، وكانت تجربة على درجةٍ كبيرة من الأهمية.

هناك أيضًا مجالات الدراسة الخاصة بموضوعاتٍ شتى. موضوع «المسلمون في الغرب» مثلًا من الموضوعات التي تحظى بدراساتٍ وأبحاثٍ شتى في الجامعات والمؤسَّسات الأكاديمية ومن زوايا عديدة، سياسية واجتماعية وثقافية. لعل الجانب الذي أهتم به بصفةٍ خاصة، دون التقليل من شأن أهمية الاطلاع على الدراسات في الجوانب الأخرى، هو مدى ما حقَّقه هذا الوجود في الغرب تأثيرٍ في طبيعة الفكر الديني الذي يُذيعه المسلمون في الغرب. وفي ملاحظات سريعة يمكن القول إن التأثير الذي يمكن ملاحظته يتفاوت بين محاولات التأقلم الفكري لأغراضٍ وأهدافٍ عملية، وهناك محاولاتٌ أخرى لتأكيد الخطوط الفاصلة بين نهجَين وطريقتَين في الحياة لا يمكن الجمع بينهما، هذا بالإضافة إلى محاولات الجمع والتوفيق بهدف خلق مناخٍ من المصالحة. تتمثل محاولات «التأقلم» العملي فيما أصبح يعرف الآن يعرف الآن ﺑ «فقه الأقليات»، وهو مصطلح يتنازع الحقَّ في صكه للمرة الأولى كثيرون منهم الدكتور «يوسف القرضاوي». ولعل قضية القضايا في محاولات التأقلم مسألة التعاملات المالية مع البنوك «الربوية» حسب التوصيف الذي تُوصَف به البنوك على النمط الغربي في الخطاب الإسلامي. ويبدو «فقه الأقليات» فيما يتصل بموضوع فوائد البنوك، سواء في الإيداع أو الإقراض، موقفا متصلبًا؛ فالدكتور «القرضاوي» مثلًا يرى أن نُظم التعامل البنكية الحديثة تمارس «ربًا» أبشع من ربا «الجاهلية» الذي حرَّمه القرآن وآذن ممارسيه بحرب من الله ورسوله.

والباحث المسلم «عبد الله سعيد»٢ أظهر أن البنوك الإسلامية — المنتشرة في أنحاء العالم، والتي تزعم أنها لا تتعامل بالربا — تتعامل في الحقيقة وَفْق نظام الفوائد الذي تتعامل به كل البنوك المتهمة بالتعامل بالربا. وبعد تحليلٍ مفصَّل لنُظم التعامل التي تفضِّلها تلك البنوك وتعتبرها إسلامية — المضاربة والمرابحة — فضلًا عن أنظمة الإيداع والإقراض، انتهت الدراسة إلى أنها مسمياتٌ أُفرغَت من دلالاتها ومعانيها الفقهية التراثية، وأُعيد تأويلها بشكل يجعلها لا تختلف كثيرًا عن قواعد التمويل والإقراض في البنوك العادية. في حالة الحصول على قرض لشراء منزل مثلًا، يقوم البنك بالشراء ثم يقوم بالبيع بعد ذلك للشخص، بعد إضافة نسبة ربح. وفي مقابل التقسيط في سداد الثمن يضيف البنك نسبًا أخرى لا تقل في النهاية عن النسب التي يحدِّدها نظام الإقراض لنفس الغرض في البنوك العادية. ويكون من حق البنك الإسلامي، شأنه في ذلك شأن البنوك الأخرى، إضافة أعباءٍ ماليةٍ إضافية في حالة التخلُّف عن سداد القسط في الموعد المعيَّن، كما أن من حقه نزع ملكية المنزل في حالة التوقُّف عن السداد، ومعنى ذلك أن النظام الإسلامي في التعاملات البنكية يمارس «الربا» تحت مسمياتٍ أخرى، بشرط عدم توفُّر مبدأ «الفائدة الثابتة». ومعنى ذلك أن مفهوم «الربا» الذي حرمه القرآن تحريمًا وصل إلى حد تهديد المرابي بحرب من الله ورسوله (سورة البقرة) تم حصرُه في هذا المعنى الشكلي الساذج.

ويضيف الباحث أن مفاهيم «المضاربة» و«المرابحة» تعتمد في الفقه الإسلامي اعتمادًا أساسيًّا على مبدأ «المشاركة في الربح والخسارة» بين الطرفَين المتعاملَين، ولكنه من خلال تحليل وثائق العقود الفعلية التي تتعامل بها البنوك المسماة «إسلامية» باسم «المضاربة» و«المرابحة» وصل إلى نتيجةٍ فحواها أن تلك البنوك تتجنَّب الدخول في أي مخاطرة، رغم أن المشاركة في «المخاطرة» سمةٌ أساسية من سمات تلك المعاملات في منظومة الفقه الاقتصادي. وتجنُّب الدخول في أي مخاطرة إنما يكون على حساب الطرف الآخر، سواء كان مودعًا أم مقترضًا. وهكذا تضمن تلك البنوك لحاملي أسهمها «الربح» دائمًا. إن تسمية «الفوائد» باسم «الربح»، وعدم تحديد نسبةٍ ثابتة لهذه الفوائد، لا يعني إلا اختلافًا في الأسماء دون المسمَّيات. ومن تحليل الفتاوى والآراء الصادرة عن علماء لجان الاستشارة الدينية، الموظَّفين لهذا الغرض في تلك البنوك، يكشف الباحث أن التمييز الذي يحرص عليه المُفْتون هو ألا يقع «التعامل» موضوع الفتوى تحت مسمَّى «الفائدة»، التي تعني عندهم «تحديد نسبة ثابتة» فقط. وخلاصة البحث أن «الاقتصاد الإسلامي» كله يعتمد على تأويلٍ شكلي مبتسَر لمفهوم «الربا»، تأويلٍ يُخرجه من سياق المقاصد القرآنية الكلية. كما أنه يعتمد من جانبٍ آخر على نفس النهج التأويلي الشكلي المبتسَر للمفاهيم الفقهية في مجال الاقتصاد — مثل «المضاربة» و«المرابحة» — لإفراغها من معانيها ودلالاتها الفقهية لخدمة أهدافٍ لا تختلف كثيرًا ولا قليلًا عن أهداف البنوك الملعونة في منطق دعاة «الاقتصاد الإسلامي». وتبقى قضايا «العدل» وتحرير الإنسان من أَسْر الفقر والحاجة والعوَز، والتي هي جوهر الفكر الإسلامي ومقصد الشريعة في كل المجالات، غائبة حتى إشعارٍ آخر.

من القضايا التي تشغل الباحثين الآن في الغرب والشرق على السواء قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية والمجتمع المدني، وكذلك دور الدين والقيم الدينية في سياق المجتمعات العلمانية. وحين تُثار هذا القضايا في الغرب وتُعقد لها الندوات والمؤتمرات يصبح «الإسلام» عنصرًا أساسيًّا في المعادلة. وفي كل الندوات والمؤتمرات التي أشارك فيها أعترض اعتراضًا منهجيًّا على معادلات مثل «الإسلام والديمقراطية» أو «الإسلام وتعدد الثقافات» أو «الإسلام والمجتمع المدني»، فضلًا عن ثنائية «الإسلام والغرب» … إلخ. ورغم وعيي بأن استحضار «الإسلام» طرفًا في إشكالياتٍ سياسية وفكرية، هو نهجٌ في التفكير السائد في عالمنا العربي والإسلامي على السواء، فإن استحضاره بنفس القوة في سياقٍ تحرَّر من مسألة استحضار الدين في كل شأن من شئون الحياة، يُعد في تقديري نوعًا من التزييف المنهجي أجد واجبًا عليَّ التصدي له بقوة. لا بأس من أن يكون مفهوم «الفكر الإسلامي» هو محور النقاش في هذه القضايا وغيرها، أما استحضار «الإسلام» فيومئ بطريقةٍ خفية إلى أن ثمَّة إشكالية في «الإسلام» ذاته تعوقه عن المساهمة في التعامل مع القيَم موضوع المؤتمر. وهنا أجد لزامًا عليَّ إبراز المشكلات التاريخية التي واجهَت الفكر المسيحي أو اليهودي — وما تزال — في التعامل مع قضايا الحياة الإنسانية في تغيراتها وتطوراتها، ناهيك عن دور الكنيسة في محاولة الوقوف ضد حركة التطور حتى تم إقصاؤها عن السياسة، وإن كانت تحاول مجددًا استعادة بعض أدوارها القديمة بصورةٍ معدَّلة ومخفَّفة إلى حدٍّ ما. وبعبارة أخرى أريد دائمًا أن أؤكِّد أن «الدين» — أي دين — يمكن أن يكون عاملًا من عوامل النهوض والتقدم، كما يمكن أن يكون عاملًا من عوامل النكوص والتخلُّف، وتاريخ الأديان كلها شاهدٌ على ذلك. والعامل المؤثِّر في الحالتَين ليس «الدين» في ذاته، وإنما هي الطريقة التي يفهَم بها أصحاب الدين دينهم؛ أي الفكر الديني في سياقه التاريخي الاجتماعي الثقافي.

ومن القضايا المُلحَّة كذلك قضية «الحوار بين الأديان»، التي شاركتُ في بعض لقاءاتها وندواتها في هولندا وخارج هولندا. والملاحظة المبدئية التي أدهشَتني وأزعجَتني في نفس الوقت أنه منذ مؤتمر ألكالا في إسبانيا ١٩٩٤م، والذي عاقَني عن حضور جلساته مرضٌ ألمَّ بي فقضيتُ كل أيام المؤتمر، عدا اليوم الأخير، طريحَ الفِراش في غرفة الفندق، والحوار يتخذ في الغالب شكل «المفاوضات» أو بالأحرى شكل المقايضات. يتصور رجال السياسة وبعض رجال اللاهوت إمكانية المفاوضة في العقائد والأديان، بتثبيت ما هو متفق عليه واطِّراح المختلف عليه وتجاهله. وحسن النوايا والمقاصد لا يقلِّل من خطورة مثل هذا النهج؛ من حيث إنه يُفسِح المجال على مصراعَيه ليمارس الاختلاف، الذي تم تجاهله عمدًا، فعالياته التدميرية في أشكال من الممارسات الاجتماعية والسياسية والثقافية جدُّ خطيرة. والأقرب للرشد والصواب المعرفي ألَّا يتمَّ تجاهلُ نقاط الاختلاف تلك في أجندة الحوار، كما أنه لا يجب بالمثل تضخيمها وتصويرها اختلافات لا يمكن التعامل معها إلا بالسجال والحرب الكلامية والإعلامية. المطلوب الإقرار بجهودها بتحديد مجالاتها مع السعي لترسيخ مبدأ احترامها؛ فالاختلاف قيمةٌ إيجابية وليست قيمةً سلبية، ولا يمكن أن تكون قيمةً سلبية إلا مع غياب مبدأ «الاحترام المتبادل». تاريخ الشعوب والثقافات والأديان يشهد بهذه الحقيقة.

وقد دُعيتُ للقيام بتدريس مقررٍ دراسي في مقارنة الأديان بإحدى الجامعات الألمانية — جامعة بامبرج — وذلك في إطار خلق مناخٍ بين الباحثين في الأديان والذين يستعدون لكتابة رسائل الحصول على الدكتوراه. وقد قرَّرتُ أن يكون التركيز على «الحوار الإسلامي المسيحي» من منظورٍ أنثروبولوجي ثقافي تاريخي مقارن؛ وبالتالي تم تقسيم المقرَّر إلى جزأَين؛ الأول منهما يتعامل مع تصور «الإسلام» في مرحلة الدعوة بالمقارنة مع المسيحية، ثم تطوُّر هذا التصوُّر في الفكر الإسلامي بفروعه ومجالاته المتعددة، وما أحاط بتطوُّر هذا الفكر وساهم في تشكیله من ملابساتٍ وظروفٍ تاريخية معقَّدة. أما القسم الثاني فقد خُصِّص لمناقشة استقبال العالم المسيحي للإسلام بدءًا من السجالات المبكِّرة في عهد الدعوة بين نصارى نجران والنبي عليه السلام. وعلى أساس هذا التصميم أعددتُ قائمة قراءة يستعين بها الطلاب لا للالتزام بها في الاستعداد للمشاركة في المقرَّر، بل للتعامل معها بوصفها مرشدًا يسمح لهم بتنويع قراءاتهم للمساهمة في إثراء الموضوع. ومن خلال الحوار والنقاش، تكشَّفَت كثيرٌ من ملامح الحوار الذي اتخذ أشكالًا عدة بين السجالية والصدام العسكري.

لقد أشرتُ من قبلُ إلى موقف القرآن الكريم من هزيمة «الروم» أمام «الفرس»، وكيف تنبأ بأن الكَرَّة ستنقلب فيهزم الرومُ الفرس. وقد أثار النقاش نقاطًا عديدة تستأهل مزيدًا من البحث والتنقيب في طبيعة الأديان التي كانت مستقرةً في شبه الجزيرة العربية وما حولها قبل الإسلام، وهي منطقة من البحث ما زال فيها من الغموض الكثير. نعلم مثلًا من المصادر الإسلامية أن «ورقة بن نوفل» كان راهبًا نصرانيًّا يكتب الإنجيل بالعبرية والعربية كما يروي «البخاري» في صحيحه، وإلى هذا الراهب توجَّهَت السيدة خديجة، زوجة الرسول عليه السلام لاستشارته في طبيعة هذا الذي ظهر لمحمد في «حراء». ونعلم كذلك أن الهجرة الأولى كانت إلى الحبشة، للاحتماء بملكٍ نصراني «لا يُظلم أحدٌ عنده» حسب حدود تعبير الرسول. وبالفعل منح ذلك الملكُ المسلمين الذين هاجروا إلى بلاده حمايته الكاملة، رافضًا الإنصات إلى محاولات قريشٍ للوقيعة بينه وبين المسلمين باسم العقيدة. والسؤال هو: ما نوع مسيحية «ورقة» وما كانت مسيحية «الحبشة» التي حمَت المسلمين؟ هل كانت مسيحية اليهود الذين آمنوا بالمسيح باعتباره المخلِّص الذي تحدثَت عنه كتبهم؛ أي باعتباره نبيًّا لا إلهًا ولا ابنًا للإله؟ وما هي الخلاف بین تلك المسيحية والمسيحية الرومانية التي قامت الكنيسة بعقائدها على أساسها، وهي عقائدُ ثار حولها خلافٌ معروف حتى انقسمَت الكنيسة إلى غربية وشرقية؟ تلك أسئلة أثارها وساهم بالبحث فيها كثيرٌ من علماء اللاهوت في الغرب، لعل «هانز كنج» الألماني واحدٌ من أبرزهم نشاطًا في مجال الحوار بين الأديان. يقرِّر هذا العلَّامة أن مسيحية اليهود الأوائل، والتي اعتبرَتْها الكنيسة هرطقة، هي المسيحية الأصلية التي تلتقي مع الإسلام، ويطالب الكنيسة بتبنِّي هذا الموقف، كما يطالب اليهود بضرورة الاعتراف بنبوة عيسى ونبوة محمد معًا. ومع كل النوايا الحسنة والتأسي فالرجل لا يمثِّل إلا نفسه.

في سياق المناقشات أيضًا تم التعرُّض لمساجلات «يوحنا الدمشقي» ضد القرآن والنبي مع أنه كان يعمل في بيت مال الدولة الأموية في دمشق، ولم يتعرَّض لأي اضطهاد ولم يفقد حتى وظيفته. وضع «يوحنا الدمشقي» الإسلام ضمن إطار «الهرطقة» في كتابه الذي يحمل نفس العنوان. والنقطة الأساسية في نظره هي تناقض القرآن حين يقرِّر أن «عيسى» عليه السلام «كلمة الله» و«روحٌ منه»، ويقرِّر في نفس الوقت أنه «مخلوق» مثل سائر البشر؛ الأمر الذي يعني، من وجهة نظر اللاهوتي المسيحي «يوحنا» أن «الله» كان قبل خلق «عيسى» بلا «كلمة» وبلا «روح». نحن نعلم طبعًا رد القرآن على مثل تلك الدعاوى التي أثار ما يشبهها نصاری نجران، وذلك حين ميَّز القرآن في الآية الشهيرة، ٧ آل عمران، بين «المحكَم» و«المتشابه» وما يفضي إليه اتباع المتشابه من زيغ وضلال. نعلم كل ذلك، لكن أحدًا — فيما أعلم — لم يتنبه للعلاقة بين ما يطرحه «يوحنا» وبين إصرار بعض مفكِّري المعتزلة الأوائل على أن القرآن — وهو كذلك كلمة الله ألقاها إلى محمد عَبْر «الروح القدس» — مخلوق مثل عيسى، ودفعوا حياتهم ثمنًا للدفاع عن هذه القضية. ألا تُعَد أمثال هذه الاستجابات السجالية من الجانبَين نوعًا من الحوار؟

بل إن الحروب رغم ما تمثِّله من خراب ودمار وما تخلِّفه من جروح وعداءات — وهل انتهت جروح الحروب الصليبية بعد — تُعد شكلًا من أشكال الحوار. كتاب «أسامة بن منقذ» عن الحروب الصليبية التي عاينها — وقد قرأنا بعضًا من فصوله في سياق مقرَّرنا الدراسي — يكشف أنه حتى في الحروب يحتكُّ الناس بعضهم ببعض احتكاكًا مباشرًا يخلق نمطًا من المعرفة وتبادل الخبرة، بل والتعلُّم أيضًا. ما حدث من احتكاك وتبادل للمعرفة والخبرات كان من ضمن العوامل التي ساعدَت أوروبا في تقدُّمها إلى عصر النهضة بعد ذلك.

ومن آخر المؤتمرات التي ساهمتُ فيها ندوة عُقدَت في مدينة «فيِنَّا» بالنمسا عن «التسامح والتعايش بين البشر». كان السؤال المطروح هو: إلى أي حدِّ يمكن تأسيس قيمة «التسامح» على أسسٍ دينية بدلًا من الأسس العلمانية؟ وكان من الضروري إرسال الأوراق والمساهمات قبل موعد انعقاد الندوة بوقتٍ كافٍ لإرسالها إلى جميع المشاركين لقراءتها قبل انعقاد الندوة؛ بحيث تتركز الندوة في الحوار حول الأطروحات دون تبديد بعض الوقت في قراءة الأوراق. وعادةً ما تكون الأسئلة التي تتعرض لها الدراسات والأبحاث في مثل تلك المؤتمرات الأسئلة المكررة المعادة المألوفة في الندوات السياسية الإعلامية التي تتخذ عادةً عناوينَ مشابهة. والحقيقة أن التحدِّي الذي صار يواجه الفكر الديني في كل الأديان صار يفرض أسئلةً أكثر تعقيدًا من الإجابات الجاهزة السهلة، التي عادةً ما يردِّدها اللاهوتيون والوعاظ؛ ذلك أنها أسئلة تمسُّ صميم «المسلَّمات» التي صاغها الفكر البشري في كل عقيدة، ومنحَها مكانةً ميتافيزيقية عليا لإخفاء طابعها النسبي والتاريخي، فضلًا عن الاجتماعي والسياسي. كان اقتراحي في ورقتي أن مبدأ «التسامح» يجد تعبيره الأرقى في الفكر الصوفي؛ لأنه يؤسِّس «التسامح» تأسيسًا معرفيًّا لا أخلاقيًّا، وذلك انطلاقًا من حقيقة أنه «لا يعرف الحق إلا الحق». كان ابن عربي شاهدي الأساسي في هذا الطرح الذي وجد استجابةً طيبة من كل المشاركين مسلمين وغير مسلمين، فهل يمكن لنا نحن المسلمين في العالم الإسلامي أن نستعيد قيم التسامح المعرفي القارَّة في خبايا تراثنا؟

لا شك أن كل هذا الزخم الناتج عن وجودي في مناخٍ أكاديمي وعلمي متقدم بكل المعايير كان له تأثيره في إعادة تشكيل أولويات مشروعاتي البحثية. كان في تخطيطي لأبحاثي في مصر، ومن خلال ممارستي لواجباتي التعليمية والحوار الخصب مع طلابي في جامعة القاهرة بفروعها، أن تكون دراستي التالية عن «السنة: النص الشارح»، بمثابة الجزء الثاني من «مفهوم النص». وهي الدراسة التي يُعتبر كتاب «الإمام الشافعي» تمهيدًا استكشافيًّا لها، لكن ما حدث، وما تلاه من رحيلٍ إلى منفى لا يعلم إلا الله كم سيطول، نتج عنه إعادة ترتيب لأولويات البحث عندي. صار من أهم القضايا الملحة قضية «أزمة الفكر الديني الحديث وإشكاليات تأويل القرآن وتفسيره»، لعلي أجد تفسيرًا لحالتنا اليوم وما آلت إليه من ركود حوَّل الفكر إلى جريمة والتجديد والاجتهاد إلى ردَّة. وقد نشرتُ بالفعل بعض الدراسات التي تتناول بعضَ جوانبَ هذه الإشكالية في مجلات «الكرمل» و«ألِف»، وبعضها تضمَّنها كتابي الأخير «دوائر الخوف»، لكن الدراسة الشاملة لم تصدُر بعد؛ لأنها لن تكون قاصرةً على تحليل الفكر العربي، بل ستتناول الإشكالية في الفكر الإسلامي كله، منذ بداية عصر النهضة حتى الآن.

ولعل من الأولويات التي أظن أنها تعلو على غيرها الآن أيضًا الكتابة مجددًا عن «تاريخ القرآن» منذ التنزيل حتى استوى نصًّا مدونًا بين دفتَي المصحف، ثم متابعة عمليات الترقيم والضبط والتشكيل، في سياق تعدُّد القراءات واختلافها أحيانًا إلى درجة صارت تهدِّد «وحدة» النص. لم يكن «الجمع» الأول للقرآن في عصر الخليفة الأول تقعيدًا، بل كان مجرد تجميعٍ لما هو متناثر من نصوصٍ قرآنية مدوَّنة تدوينًا بدائيًّا.

كان الجمع الثاني في عصر الخليفة الثالث هو أول محاولة للتقعيد، جعلَت مصحف عثمان هو النص المعتبَر نصًّا رسميًّا، وتم بالتالي إحراق المصاحف الأخرى. ولكن طبيعة الكتابة العربية في ذلك الوقت أنتجت نصًّا يستعصي على القراءة منفردًا؛ أي دون حفظٍ مسبق. السبب في ذلك أن نظام الكتابة لم يكن قد عرف بعدُ تمييز الحروف المتشابهة الرسم بالنقط، فكانت تتشابه الياء والباء والتاء والنون، كما تتشابه حروف الجيم والحاء والخاء … إلخ. وكان هناك من جهةٍ أخرى غيابٌ كامل لحروف الحركات كالضمة والفتحة والكسرة، فضلًا عن علامات الترقيم التي تحدِّد بنية الجملة، وتبيِّن بدايتها من نهايتها. صحيحٌ أن تداول القرآن اعتمد بصفةٍ أساسية على القراءة الشفاهية — الترتيل — لكن هذا التداول ذاته هو الذي سمح بتعدُّد القراءات، الناتج جوهريًّا عن تعدُّد اللهجات العربية، والذي أصبح مشروعًا على أساس أن القرآن «أُنزل على سبعة أحرف» كلها شافٍ كافٍ، ما لم يحدث تحليلٌ للحرام أو تحريمٌ للحلال، وما لم تُستبدَل آية رحمة بآية عذاب أو العكس.

ويبدو أن أمر «القراءات» صار مهددًا لوحدة النص، فتصدَّی «ابن مجاهد» في القرن الرابع وقيَّد هذه الكثرة بسبع قراءات، وما سواها اعتُبر شاذًّا. ومن الواضح أن حصر القراءات في سبعٍ اعتُبرَت هي وحدها المشروعة، وتم إدراجها في نطاق «السنة» المروية عن النبي، له علاقة بالحديث المشار إليه؛ لأن هذا الحصر الذي قام به ابن مجاهد لم يوقف سيولة القراءات؛ ومن ثَم تم إضافة ثلاث قراءات فأصبحَت القراءات المسموح بها عشر قراءات، واعتُبر ما سواها شاذًّا. ولعل من أهم القواعد التي وُضعَت لمشروعية القراءة هي أن تكون متسقة مع «رسم المصحف» ولا تخالفه، وفي هذا الشرط ندرك وعي العلماء بالمشكلة وطبيعتها. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن هذه التعدُّدية في القراءات سمحَت بتعدُّد التأويلات اعتمادًا على قراءةٍ بعينها في سياقٍ محدد، وعلى قراءةٍ أخرى في سياقٍ آخر.

لا خلاف على أن كل تلك المشكلات تحتاج لدراسات ودراسات، من شأنها أن تعمِّق وعينا لا بتاريخ القرآن فقط — وهو أمرٌ خطير في حد ذاته — بل بتاريخنا الثقافي والفكري في مجال نظرية، أو نظريات «التأويل» بصفةٍ خاصة، لكن المخاوف غير المبرَّرة، والفزع الناتج عن رقَّة الإيمان وضعف المناعة العقلية والفكرية، يقف حائلًا ضد أي دراسةٍ علمية لا للقرآن وتاريخه فقط، بل للتراث بمجمله وللتاريخ كله. إن البحث في تاريخ القرآن، ورصد التحوُّلات التي مرَّ بها خلال مرحلة التقعيد وبعدها من خلال مسألة القراءات، يُعتبَر من المناطق المحرَّمة في فكرنا الديني السائد، لكن لا بد مما ليس منه بد، إثباتًا لأن التناول العلمي للقرآن وتاريخه لا يهدِّد عقيدتنا بقَدْر ما يمنح هذه العقيدة صلابة اليقين الراسخ الأسس. إنما الذي يهدِّد عقيدتنا حقًّا هذا الجنوح المُزرِي إلى التقليد، وتصوُّر أن الإسلام من الضعف والهُزال، وأن إيمان الناس على درجةٍ من الإعياء والتهافت؛ بحيث لا يصمدان لإجراءات البحث العلمي، ولا يستقيمان على هُدى العقل وبصيرته.

لقد كشفَت الدراسة التاريخية النقدية لعلوم القرآن أن النص القرآني كان في منشأ تكوينه مجموعةً من النصوص، ولم يكن نصًّا واحدًا؛ فلم ينزل على النبي محمد () مرةً واحدة، بل نزل مجزَّأ على مدار بضعٍ وعشرين سنة. والقرآن نفسه یكشفُ لنا كيف استنكر أهل مكة هذا «التنجيم» فقالوا ضمن ما قالوا معترضين: لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (الفرقان (٢٥ / ٣٢)). لكن هذه النصوص المتعدِّدة أدمجَت في نصٍّ واحد، لا على أساس ترتيب نزولها بل على أساس لم تُكتشَف قواعده اكتشافًّا تامًّا بعد؛ وبالتالي يواجه الباحث بنيتَين يُطلَق عليهما في «علوم القرآن»: ترتيب النزول، وترتيب التلاوة. في البنية الأولى؛ أي في علاقة النص بسبب نزوله، نستطيع أن نتحدث عن «نصوص» بصيغة الجمع، لا عن نصٍّ واحد. في البنية الثانية، التي تمثَّلَت من خلال مرحلة «التدوين» و«التقعيد»، يكون الحديث عن نصٍّ واحد، رغم أننا نحتاج إلى دراسات ودراسات، أسلوبية ودلالية من منظور متقدم جدًّا، للكشف عن قانون «التركيب»، الذي أُدمجَت على أساسه «النصوص» في «نص» واحد. لا نجد في «علوم القرآن» سوى شذراتٍ متفرقة، تمثِّل محاولاتٍ جنينية، لتحليل البنية الآنية للنص؛ أي علاقة الآيات في ترتيبها داخل السورة الواحدة من جهة، والعلاقات بين السور وترتيبها في المصحف من جهةٍ أخرى. هذا يُفضي بنا إلى القول إننا في التعامل مع القرآن تفسيرًا وتأويلًا يجب أن نميِّز بين مستويَين أساسيَّين كليَّين من مستويات «السياق»:

  • المستوى الأول: هو مستوى النزول الكلي، وهو القرن السابع الميلادي، وهو سياقٌ يشمل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، إلى جانب الديني والفكري والثقافي. وهذا المستوى يتضمن مستوياتٍ كثيرة يكفي هنا الإشارة إليها في إجمال:
    • (١) سياق موقع «شبه الجزيرة العربية» على خريطة الصراع الدولي بين القوتَين الإمبراطوريتَين الرومانية والفارسية.
    • (٢) أهمية مكة بالنسبة لطريق التجارة بين الشمال (الشام) والجنوب (اليمن)، رحلتا الشتاء والصيف اللتَين أشار لهما القرآن.
    • (٣) الأحوال الدينية في شبه الجزيرة العربية، وإلى أي حدٍّ تأثرَت بمسيحية «الشمال» ويهودية «الجنوب» وهجرة قبائل الجنوب اليهودية إلى يثرب. وفي هذا البُعد من أبعاد السياق يتحتم دراسة أنواع وأنماط المسيحية، وطبيعة العلاقة أو العلاقات الدينية بين مسيحيِّي مكة وكنيسة «الحبشة».
    • (٤) مكانة «قريش» الاقتصادية والدينية وطبيعة التنافس بين فرعَيها الرئيسَين، وهو التنافس الذي يُعد الصراع بين بني هاشم وبني أمية بعد الإسلام تطورًا له، علاقة قريش.
    • (٥) طبيعة العلاقة بين «مكة» و«يثرب» تجاريًّا ودينيًّا.

    إن أية دراسة للقرآن، وأي تفسير أو تأويل له، تستبعد أو تتجاهل هذا المستوى الشامل من السياق، وما يتضمَّنه من سياقاتٍ جزئية، ستُفضي بالضرورة إلى الانخراط في التعامل مع افتراضاتٍ تحدِّدها أساسًا أيديولوجية الباحث.

  • المستوى الثاني: هو مستوي النزول التدريجي؛ أي المستوى الذي يدرك منهجيًّا المنشأ التاريخي لبنية القرآن. وفي التعامل مع المستويات الجزئية التي يتضمَّنها هذا المستوى الكلي الثاني يجب على الباحث أن يضع في اعتباره أن الترتيب الحالي لأجزاء النص، ترتيب التلاوة، قد ساهم إلى حدٍّ كبير في «تغييب»، إن لم يكن في «محو» بعض المستويات الجزئية لهذا السياق؛ ولذلك يتطلب الأمر من الباحث أن يعيد قراءة المرويات والمؤلَّفات الخاصة ﺑ «أسباب النزول» أو ﺑ «الناسخ والمنسوخ» قراءةً نقدية تاريخية تحميه من الوقوع في أَسْر التبريرات والتأويلات ذات الطابع الدفاعي أو السجالي في تلك المرويات والمؤلَّفات. ولنضرب مثلًا لذلك ما نجده في كتب «الناسخ والمنسوخ» من مبالغات تتزايد مع توالي العصور، حتى ذهب البعض مثلًا إلى أن آية واحدة، هي ما يُطلِقون عليه اسم «آية السيف» نسخَت أكثر من ثمانين آيةً في القرآن، عن التسامح والصبر والاحتمال. والواقع أن مسألة «النَّسْخ» استُخدمَت في حالاتٍ تندُّ عن الحصر لحل ما توهَّمه بعضُ المفسرين «تناقضًا» بين الآيات، وذلك دون أن يدركوا أن الترتيب المُغيِّب للسياق الأصلي هو «المُوهِم» بالتناقض، وأن العودة للسياق التاريخي لأسباب النزول كفيل بإزالة «وهم» التناقض ذاك. هذا بالإضافة إلى أن قراءةً دقيقة للآيات التي استند إليها القائلون بالنَّسخ تكشف أنها فُهمَت بطريقةٍ متسرعة غير دقيقة؛ فقوله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (البقرة، ٢ / ١٠٦) في سياقها السردي، تتحدث عن المعجزات التي وقعَت على أيدي الأنبياء السابقين، ولا تتحدث عن آيات القرآن. والآية ١٠٨ بعدها تؤكِّد ذلك: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ. أما قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (الحج، ٢٢ / ٥٢-٥٣)، فالسياق فيها واضحٌ يشير إلى واقعة إلقاء الشيطان على لسان محمد — من خلال أمنيته أن يؤمن بدعوته أهل الحل والعقد في مكة — عباراتِ مدحٍ لبعض آلهتهم؛ فالنَّسْخ مقصودٌ به المحو والإلغاء.

(ملاحظة خارج السياق هنا: القرآن يثبت أنه نصٌّ أشجع من كثير من المؤمنين به، من حيث تعامله مع هذه الواقعة. وعلينا أن نلاحظ هنا أن الواقعة الأصلية تتعلق بسياق سورة النجم المكية، بينما سورة الحج مدنية؛ الأمر الذي يُرجِّح احتمال أن آياتٍ مكية أدرجَت في سورةٍ مدنية، وهو أمرٌ عادي في ترتيب التلاوة.)

هذه بعض المشكلات التي على الباحث مراعاتها حين يتعامل مع البنية الآنيَّة للنص، بنية ترتيب التلاوة. ويتضمن السياق التاريخي — سياق ترتيب النزول — مستوياتٍ أخرى تمثِّل مجمل علوم القرآن؛ التمييز بين «المكي» و«المدني»، والاهتمام ﺑ «أسباب النزول». وتلك هي القضايا التي سبق التعامل معها في كتاب «مفهوم النص».٣

•••

سؤال: لقد أثارت دراستك للقرآن الكثير من الجدل، وخاصة كتابك «مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن» وهو من الشواهد التي استندَت إليها المحكمة، فهل ما زلت عند موقفك أم أن دراساتك الجديدة بدَّلَت بعض المعطيات؟

لعل المشكلة التي أثارت من اللغط أكثر مما أثار غيرها، هي توهُّم وجود تناقض بين كونِ القرآن إلهيَّ المصدر من جانب، وكونه بشريَّ التفسير والتأويل من جهةٍ أخرى. وهي مشكلةٌ احتاجت إلى بعض التأمل في مكوِّناتها وجذورها، من أجل تحرير القول فيها من جديد. افتراضُ التناقض هنا؛ ومن ثَم طلب التوفيق، يفترض أن فهم القرآن وتحليله يتطلب منهجًا إلهيًّا يتلاءم مع مصدره الإلهي. وفي هذا الافتراض ما فيه من تناقضاتٍ منهجية لاهوتية وتاريخية. الخطأ المنهجي يتمثل في افتراض أن القرآن ليس رسالةً اختار «مُرسِلُها» أن يستخدم لغة «المتلقي»، الذي هو بالأساس بشر؛ أي كائن اجتماعي تاريخي أولًا: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ (الكهف، ١٨ / ١١٠؛ وفصلت، ٦/٤١)؛ وقُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (الإسراء، ١٧ / ٩٣). واللغة المختارة — ثانيًا — هي اللغة العربية التي نعرف تاريخها ونعرف أدبها؛ فهي ظاهرةٌ اجتماعية ثقافية تُحيل بدورها إلى الإنساني والتاريخي: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (إبراهيم، ٤/١٤)؛ وإِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الزخرف، ٤٣ / ٣)؛ وإِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (يوسف، ١٢ / ٢)؛ ووَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ (طه، ٢٠ / ١١٣)؛ وهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (النحل، ١٦ / ١٠٣). وأيضًا: (الشعراء، ٢٦ / ١٩٥؛ والرعد، ١٣ / ٣٧؛ والزمر، ٣٩ / ٣٨؛ وفصلت، ٤١ / ٣؛ والشورى، ٧/٤٢؛ والأحقاف، ٣/٤٦).

فإذا كانت الرسالة موجهة لمتلقٍّ اجتماعي تاريخي بلغةٍ اجتماعية تاريخية، فهل هناك من منهجٍ غير مناهج البشر للفهم والتحليل؟! ربما منشأ وهْم التناقض هو تخيُّل التعارض بين مفهوم «الإعجاز» وبين ربط القرآن بمناهج التحليل الإنساني، وهذا محض تخيُّل. لو تتبَّعنا المناقشات التي دارت حول قضية «إعجاز القرآن»، فمن السهل أن ندرك أن النقاش تركَّز بصفةٍ أساسية حول الإعجاز اللغوي والبلاغي. وكانت مرجعية النقاش ومعايير التقييم تستند إلى النصوص الأدبية والشعرية العربية قبل الإسلام؛ الأمر الذي يجعلنا نقول باطمئنانٍ إن مقاربة قضية الإعجاز كانت مقاربةً أدبية. وقد صاغ «عبد القاهر الجرجاني» تلك المقاربة صياغتَها النهائية، الأكثر نضجًا في سياق تاريخ الفكر الأدبي العربي، في نظرية «النظم». لم يقنَع عبد القاهر بآراء سابقيه، ويرى، وفقًا لنظريته في «النظم»، أن الإعجاز كامن في بنية القرآن ذاتها وليس خارجها بأي حالٍ من الأحوال، وهو كامن في كل آية من آياته طالت أم قصُرت، وأيًّا كان موضوعها؛ قصصًا أو تشريعًا أو عقيدة، إنذارًا أو بشارةً أو وصفًا، وعدًا أو وعيدًا … إلخ. هذا الإعجاز ظاهرةٌ يمكن اكتشافها في كل عصرٍ وفق قوانين يمكن اكتشافها من تحليل الكلام البليغ، ولا تتوقف معرفتُه على العرب الذين عاصروا الوحي. ویری عبد القاهر أن الطريق المُوصل إلى العلم بمعجزة القرآن الباقية أبدًا، واللائحة دائمًا لمن أراد الوصول إلى معرفتها، هي معرفة قوانين الكلام، التي لا مدخل لها بدورها إلا دراسة «الأدب»، والشعر بصفةٍ خاصة. وطبقًا للقاعدة الفقهية المعروفة «ما لا يتم فعل الواجب إلا به فهو أيضًا واجب» تصبح دراسة «الأدب» واجبًا دينيًّا لمن أراد الوصول إلى معرفة «براهين» الإعجاز، التي هي حُجة صدق النبوة والدليل الهادي إلى الإيمان الواعي، دون إيمان التقليد. لا يكتفي عبد القاهر بتأكيد أن دراسة الشعر واجبٌ ديني، بل يتهم أولئك الفقهاء الذين يقلِّلون من شأن الشعر، ويهوِّنون من شأن دراسته، بأنهم في الحقيقة يسدُّون أمام العلماء طريقَ العلم بأخطر قضايا الدين، ويقفون حائلًا بين العالِم المسلم وبين أدائه لأهم واجباته العلمية. ليس علم الشعر إذن، فيما يرى عبد القاهر، مجرد علمٍ مساعد لفهم القرآن يتساوى مع غيره من العلوم المساعدة، بل هو «العلم» الذي لا غناء عنه، والذي يحتل قبل أي علمٍ آخر مرتبة الضرورة القصوى؛ لأنه يقع في مرتبة «الوجوب» الدينية. من هنا يصبح علم العلوم، لا في الكشف عن «الإعجاز» فقط، بل في حسم الخلاف في قضايا «التفسير والتأويل»، وفي حماية «المفسِّر» و«المُؤَوِّل» من المغالطة في الدعوى أو الوقوع في أَسْر أوهامه الأيديولوجية.

وإذا كان عبد القاهر قد أفاد لا من جهود سابقيه فقط، وعلى رأسهم «القاضي عبد الجبار الأسدآبادي»، بل من إنجازات «أرسطو» اليوناني في كتابَيه «الشعر»، و«الخطابة»، فإن واجبنا كباحثين معاصرين أن نُفيدَ من إنجازات المناهج الحديثة المعاصرة في «اللسانيات»، و«علم تحليل الخطاب»، و«السميولوجيا»، وكل ما تُقدِّمه من آلياتٍ وإجراءاتٍ ناجزة لفهم القرآن وتحليله. إن التخوف من هذه الإنجازات، وتصوُّر أنها تمثِّل تهديدًا لقداسة النص، إنما تعكس رقَّة في الإيمان، وضعفًا في الثقة بالنفس، إن حسُنَت النوايا. إما إذا غاب حسن النية، فإن التخوف تعبيرٌ عن موقفٍ ضمني، يعكس حرصًا على إبقاء الحال على ما هو عليه، لصالح قُوًى يهدِّد «التجديد» أو «التقدم» مصالحها. نعود فنؤكِّد أن القرآن نصٌّ ديني ويعتمد أسلوبًا ولغةً أدبيَّين؛ فهو «نوع» من الخطاب مستقل بذاته؛ إنه كما قال طه حسين بحق: «ليس شعرًا وليس نثرًا ولكنه قرآن». والمدخل الأدبي لفهم القرآن وتحليله أحياه في العصر الحديث «محمد عبده»، وطوَّره «طه حسين»، وصاغ منهجَه «أمين الخولي»، ووجد المنهج تطبيقاتٍ له في دراستَي كلٍّ من «شكري عياد» (يوم الحساب في القرآن) و«محمد أحمد خلف الله» في «الفن القصصي في القرآن». ولعله من الطريف أن يعلم القارئ أن «سيد قطب» وأخاه «محمد قطب» لهما مساهماتهما في درس القرآن درسًا أدبيًّا؛ الأول في كتابَيه «التصوير الفني في القرآن» و«مشاهد القيامة في القرآن»، والثاني في كتابه «منهج الفن الإسلامي».

وفي يقيني أن هذا المنهج في أصوله التراثية، وبتواصُله مع التطوُّر المذهل في مناهج القراءة والتحليل، هو القادر على حماية النص الديني من التوظيفات الأيديولوجية، التي شهدناها في القرن العشرين، سياسية كانت أو اقتصادية، علمية كانت أو فلسفية. إنه يمكِّن الباحث من التمييز بين مستوياتٍ سياقية ثلاثة، على الأقل، تتفاعل في إنتاج المعنى والدلالة؛ المستوى الأول هو مستويات السياق التاريخي، التي أسهبنا في شرحها من قبلُ، ويرتبط بهذا المستوى المعني التاريخي الناتج عن تلك القراءة السياقية. المستوى الثاني هو سياق القارئ أو الباحث المعاصر، وهو المستوى المُنتِج للمعنى المعاصر، الذي هو ناتج تفاعل «المعنى التاريخي» مع سياق القراءة في بُعدها الراهن. وهذا يحيل إلى المستوى الثالث، وهو مستوى «المغزى» الناتج عن تفاعُل السياقَين السابقَين، والذي يتحتَّم أن ينبثقَ عنهما، من خلال وعي الباحث النقدي بموقفه وإدراكه النقدي لتحيُّزاته المسبقة، وهو الوعي الذي يعصمه من تركها تعمل وتُمارِس تأثيرها من خلف ظهره. وهذا الوعي يحمي الباحث من عمليات «الإسقاط» أو «التحريفات» الدلالية من الحاضر على الماضي عنوة، بفرض «مغزًی» عصري على «معنًی» تاريخي، يتناقض معه. لا يجب أبدًا أن ننسى أن حُسن النوايا أحيانًا يفتح أبواب الجحيم؛ فلقد آمنَّا أن «الإسلام دين القومية العربية»، وآمنا أنه «دين الاشتراكية» و«العدل الاجتماعي» و«الجهاد ضد الإمبريالية والصهيونية»، ثم دارت الحياة دورتها، فإذا مطلوبٌ منا أن نؤمن أن الإسلام «ضد القومية»، وأنه «دين الربح والتجارة وحماية الملكية الفردية»، وأنه أخيرًا «دين السلام والتسامح».

والقول بأن النص قابلٌ للقراءة على الدوام، وقابلٌ من ثَم للشرح والتأويل، يتضمَّن فكرة مفادها أن البنية الداخلية للنص القرآني تتمتع بدرجةٍ هائلة من الخصوبة والغنى، تنفي إمكانية الادعاء في أية لحظةٍ تاريخية بأن هذا النص قد استنفد محتواه، أو تمَّت الإحاطة به معرفيًّا. وهذا صحيح، رغم أن لكل نصٍّ لغوي-سردي أفقًا معرفيًّا وأيديولوجيًّا، وأنه — مهما كان مطواعًا — يظل محدودًا بزمن إنتاجه، وبأن كفاءته المعرفية والأيديولوجية تظل محدودة بأزمنةٍ ثقافيةٍ معيَّنة، وبسياقاتٍ تاريخية واجتماعية معيَّنة. وبعبارةٍ أخرى هناك أفقٌ معرفي لكل نص، يغدو ممكنًا عنده القول بأن هذا النص قد استنفد طاقته المعرفية والأيديولوجية، وفقد كفاءته، وصار ينتمي إلى ثقافة الماضي. والحقيقة أن لكل نصٍّ من النصوص دوالَّ إشارية ودلالية شديدة الارتباط بعصر إنتاجه، ولكنها تظل مُشِعَّة ودالَّة ما دام أن العصر يكرِّر ذاته أو يُعاد إنتاجه. وحين يحدث تغيُّر جوهري في بنية الثقافة، قد تفقد بعض تلك الإشارات الدلالية قدرتها على الإشعاع فتخفُت، ولكنها لا تموت أبدًا؛ إذ تظل لها القدرة على القيام بوظيفة الشاهد التاريخي، ثم إن فعالية النصوص — أو تفعيلها — ليس مرهونًا فقط بنمط من العلاقة ميكانيكي بما يليها من عصور معرفيًّا وأيديولوجيًّا؛ لأن العصر — أي عصر — ليس ثقافةً واحدة مصمتة بقَدْر ما هو تفاعل لثقافات ولغات، تتباين في علاقتها بالماضي والاستمداد من نصوصه تباينًا معقدًا. الدليل على ذلك الإحياء الحديث للنصوص العربية السردية القديمة بلغاتها المختلفة — تاريخية، وسياسية، وفلسفية-صوفية، وحكائية سردية — في الأدب العالمي — أمريكا اللاتينية مثلًا — فضلًا عن الأدب العربي. إذا أخذتَ مثالًا آخر من الأدب العالمي هو النص الشكسبيري، فمن السهل أن نلاحظ أن الدوال التاريخية يُعاد تفعيلها من عرضها عرضًا تأويليًّا؛ مشاهد الساحرات مثلًا، أو مشهد الشبح في «هاملت» لا يتم إسقاطها في العروض المعاصرة، بل يُعاد تأويلها.

والسؤال هنا: هل يمكن قياس النص الديني على النصوص الإنسانية البشرية قياسًا حرفيًّا؟ ولا أريد هنا أن أدخل في نقاشٍ لاهوتي مع أن ذلك مشروعٌ ووارد، ولكن لا بد من القول إن أي نصٍّ — ديني أو دنيوي — معرَّض لأن يموت حين يُولَد بالسكتة القلبية، إذا لم يجد قارئًا، كما أنه عُرضة لأن يعيش إلى الأبد كلما تزايدَت عملية الإقبال على قراءته. النصوص الدينية تحيا أو تموت بحسب إقبال المؤمنين بها عليها أو بحسب إعراضهم عنها، ولكننا لا نعرف نصًّا دينيًّا واحدًا مات موتًا تامًّا. في حالة القرآن فإن أي دراسة لتاريخ التفسير تكشف عن قيام «التأويل» دائمًا بدور الرافعة الدلالية لأدنى إشارة في النص، كان يمكن أن تتعرض لمصير التحوُّل إلى مجرد شاهدٍ تاريخي. لقد قام المعتزلة بدورٍ بنَّاء في تأويل النصوص التي بدا أنها مهدَّدة بمصير الجمود، مع تغيُّر العصر بما أحاطه من تدفقٍ ثقافي من كل المحيطات الفارسية، والهندية، واليونانية، والمصرية … إلخ. كانت بلورة مفهوم «المجاز» بمثابة أداةٍ ناجعةٍ جدًّا في استعادة حيوية ونضارة المعاني والدلالات التي كانت مهدَّدة بالشحوب. وقام المتصوفة بخطوةٍ أوسع نحو «ترميز» المعاني والدلالات؛ بحيث تعبِّر عن آفاقٍ أرحب، وتأويلات «محيي الدين بن عربي» بصفةٍ خاصةٍ فتحَت آفاق النص روحيًّا وأخلاقيًّا وفلسفيًّا. توقفَت هذه العملية من تفعيل المعنى والدلالات وإعادة تفعيلها مع دخول المسلمين عصور الركود والانحطاط. في العصر الحديث بدأَت إعادة التفعيل في عصر النهضة عند زعماء الإصلاح الديني، الأفغاني وعبده، واليوم نشهد عراكًا حول المعنى والدلالة من خلال توظيف مفاهيم وإجراءات تتباين بين ضعف الكفاءة وقوَّتها. لكن التغيُّر المذهل في القرن العشرين، ويجب أن نعترف بصراحةٍ تامة، قد أحال بعض النصوص، خاصةً تلك التي تتعلق بنظام العبودية وأحكامها التشريعية، إلى مجال «الشاهد التاريخي». صحيحٌ أن هناك من يحاول أن يجادل في أنها قابلةٌ للتفعيل في المستقبل إذا تغيَّرت الأحكام، لكنها محاولةٌ غير مشروعة منهجيًّا؛ لأنها تستند بدورها إلى التمييز الفقهي بين المنسوخ والمُنسَأ؛ أي الموقوف حكمه مؤقتًا، وهو تمييزٌ ينتمي بذاته إلى أفق الشاهد التاريخي. وإذ يستمر النص قادرًا — بجهد المؤمنين به وفعاليتهم — على الإشعاع يظل حيًّا. ولا شك أن الوعد الإلهي بحفظ «الذكر»: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر، ١٥ / ٩) يمثل حافزًا للمؤمنين على الوفاء بوعدهم الإيماني لقاء هذا الوعد الإلهي.

•••

سؤال: أشرتَ إشارةً سريعة إلى عملٍ تقوم به عن النص الشارح أو السُّنة، فهل نطمح بمزيدٍ من الإيضاح؟

وفي مجال دراسة المرويات تأكدَت لديَّ قناعاتي، بأهمية مواصلة الدراسة النقدية التاريخية للمرويِّ عن الرسول عليه السلام، من جانبَي المتن والسنَد على السواء. وقد تطوَّر منهج نقد «السنَد» تطورًا لافتًا عند علماء «الإسلاميات» في هولندا على وجه الخصوص. صارت نقطة البدء منهجيًّا تتمثل في تحديد شخصية «الراوي»، الذي يمثِّل نقطة التقاء مشتركة في كل الأسانيد الخاصة برواية حدثٍ بعينه أو واقعةٍ بذاتها، أو قولٍ مُسنَد إلى النبي عليه السلام. وعن طريق تحديد هذا الراوي الأول — أو الأصلي — يتحدَّد العصر الذي شاعت فيه الرواية وانتشرَت، كما يتحدَّد المكان الأصلي والبيئة أو البيئات التي انتشرَت فيها. ويلي ذلك دراسةٌ تاريخية تتبُّعية لسلسلة الإسناد التي تربط هذا الراوي الأصلي المشترك بمن يَروي عنهم، وما إذا كان قد روى عنهم مروياتٍ أخرى أم أنه لم يَروِ غير الرواية، وما نوع المرويات الأخرى التي رواها عنهم إن وُجدَت. وباستمرار عملية التتبُّع تلك، وما يصاحبها من تفكيكٍ لسلاسل الإسناد، يمكن الوصول إلى تمييز الروايات «الأصيلة» من تلك «المنحولة» بدرجةٍ أعلى من الدقة. وبالجمع التركيبي بين نقد المتن ونقد السند، يمكن الوصول إلى نتائجَ أكثر دقة من النتائج التي توصَّل لها أسلافنا. ولا شك أن هذا التقدُّم في منهج نقد النصوص قد انطلق أساسًا من مناهج «الجرح والتعديل» عند علماء الحديث النبوي، بعد أن استبدل بأدواتهم النقدية أدواتٍ أكثر كفاءة، تسندها تكنولوجيا البحث والتحليل، التي تستعين بالحاسوب لضبط النتائج.

١  هذا الحوار أجراه المركز الثقافي العربي مع المؤلِّف، ونُشر في الطبعة الأولى من هذا الكتاب، الصادرة سنة ٢٠٠٠م.
٢  دراسة صدرت عن دار «بريل» الشهيرة، في مدينة «ليدن» بهولندا، بعنوان «المعاملات الإسلامية والفائدة: دراسة في تحريم الربا وتأويله المعاصر» (١٩٩٦م).
Islamic Banking and Interest: A Study of Prohibition of Riba and its Contemporary Interpretation.
٣  «مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن»، صادر عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء وبیروت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥