مركزية الغزالي وهامشية ابن رشد
تمهيد
من الأقوال المأثورة عن الشيخ أمين الخولي — رحمَه الله — أن الأفكار حين تجد في العقل خواءً، وتُصادِف في الدماغ خلاءً، تعشِّش وتستقر حتى ليصعُب إخراجُها وانتزاعُها من العقل مهما كانت درجة زيفها. وتزداد حدة استقرار الأفكار في العقول والأدمغة عن طريق التكرار المستمر لها والترديد الدائم، الذي يحوِّل «موضوع» الفكرة إلى ما يشبه «العقيدة» الثابتة، التي لا يجوز مناقشتُها أو الاقتراب بمنهج التحليل النقدي من حدودها. وكثيرةٌ في تاريخ ثقافتنا العربية الإسلامية هي الأفكار التي أنتجَتها عقولٌ بشرية، ولكنها تحوَّلَت بفضل التكرار والترديد، الذي من شأنه أن يُخفيَ غيرها من الأفكار، ولو بالتشويه، إلى «عقائد» لا يمكن المساس بها.
لذلك ذهب الشيخ الخولي — رحمه الله — إلى أن منهج التجديد لا يستقيمُ ولا يصحُّ إلا بعد «قتْل القديم بحثًا»؛ لأن «التجديد» — دون فحص القديم فحصًا نقديًّا — من شأنه أن يُضيفَ أفكارًا إلى أفكار، فتتجاوَر الأفكار القديمة والأفكار الحديثة دون أن يُزحزِحَ الجديدُ القديمَ ويحلَّ محلَّه. من هنا يصحُّ لنا أن نفهمَ عبارة «قتْل القديم بحثًا» على أساس أن هذا البحثَ النقدي التحليلي للأفكار والمسلَّمات القديمة من شأنه أن يكشفَ عن جذور هذه الأفكار، ويُفصِحَ عن دلالتها في سياق تكوُّنها التاريخي الاجتماعي، وبذلك يردُّها إلى أصولها بوصفها «فكرة» وليست «عقيدة».
وهذا النمط من البحث النقدي التحليلي — التفكيكي — يُزيل عن الأفكار القداسة التي تراكمَت حولها من جرَّاء الترديد والتكرار، ومن جرَّاء تشويه الأفكار الأخرى التي تُخالفُها وتدحضُها. وفي عملية إزالة القداسة تلك نوعٌ من «التفكيك» المعنوي الذي لا يغتال الأفكار، ولكنه يكتفي بردِّها إلى سياقها الذي يسمح للأفكار «الجديدة» بالقدرة على مناقشَتها ومساجلَتها على أرض «الفكر» وليس على أرض «العقيدة». وإذا تصارعَت الأفكار صراعًا صحيًّا فإنه لا بد للجديد أن يُزحزحَ القديم ويغيِّره أو يتجاوزه، أما تجاوُر «القديم» — الذي أحاطته القداسة بالترديد والتكرار — والجديد — الذي لا يزعم لنفسه أية قداسة — فأمرٌ يُفضي دائمًا إلى تمكين «القديم» من إزاحة الجديد، بل وقتله قتلًا نهائيًّا، ناهيك باغتيال المفكِّر المجدِّد.
والذي يسهِّل عملية «القتل» تلك، أن أنصار «التقليد» ومحاكاة القديم ينقلون الصراع دائمًا من أرضه الحقيقية وميدانه الفعلي — أرض الفكر وميدان الصراع الفكري — إلى أرض «العقيدة» وميدان «الدين». وحين ينتقل الصراع هذه النقلة يصبح من السهل على أنصار القديم ممارسةُ ديماغوجيةٍ وعظية إنشائية تؤلِّب العوام وتدفع بهم طرفًا في الخصومة. وعلاوةً على تأليب العامة يستطيع أنصار القديم، بدعوى الدفاع عن الدين والعقيدة، تأليبَ كثيرٍ من المؤسَّسات الاجتماعية والتعليمية والتربوية، فضلًا عن المؤسَّسات الدينية، دفاعًا عن أُسُس الكيان الاجتماعية ودعائمه المهدَّدة بتلك الأفكار الجديدة «الإلحادية»، أو «الشيوعية»، أو «العلمانية» … إلخ تلك الأوصاف.
وهكذا يصبح «الجديد» دائمًا في حالة دفاع عن النفس، ويكون مطلوبًا منه دائمًا أن يثبِت ويؤكِّد أن أفكاره لا تمسُّ «الدين» ولا تطالُ قداسة العقائد الدينية. ومن شأن هذا الموقف الدفاعي السجالي أن يُدخل «الجديد» في دهاليز الديماغوجية الوعظية الإنشائية، التي تُخاطب العوامَّ بلغتهم وعلى قَدْر أفهامهم، فينخرط المفكِّر في إنتاج خطابٍ ركيكٍ سقيمٍ ينطوي على «تراجع» و«استسلام».
إن دعوة أمين الخولي إلى «قتْل القديم بحثًا» تمهيدًا لأي تجديد تكتسب، في سياق تاريخ ثقافتنا الحديث والمعاصر، أهميةً تتأكَّد يومًا بعد يوم، رغم عدم الالتفات إلى دلالتها الحقيقية، وذلك اكتفاءً بوهم مجازيَّتها. وما تقوله العبارة ليس من قبيل المجاز وإن بدت كذلك؛ فالبحث التحليلي النقدي للأفكار القديمة، حين يُزيل عنها القدسيةَ المضافة إليها، يكون قد أزال عنها خطورتَها على الوعي؛ ومن ثَم على التقدم. إن الأفكار الثابتة التي اكتَسبَت من قِدَمها وكثرة تَردادها قداسةً ليست إلا قنابل قابلة للانفجار، وما يقوم البحثُ النقدي التحليلي به إزاءها ليس إلا تفكيكها وإزالة خطرها. والأفكار حين يتناولها منهج البحث النقدي التحليلي يردُّها إلى سياقها في تاريخ الفكر، فتزول عنها «القداسة» التي تسمح لأنصار تقليد القديم بتفجيرها في وجه المجدِّدين. هذا «قتْل» حقيقي، وليس مجازيًّا في مجال «الفكر»، إنه قتلٌ بمعنى سلب «الحياة» وقضاء على «الحضور»، وإقصاء من مجال إلى مجالٍ آخر، ومن «كون» إلى كونٍ آخر.
إن «انفجار الأفكار» ليست بدَورها عبارةً مجازية؛ فقد شهدَت مجتمعاتُنا العربية الإسلامية انفجاراتٍ فعليةً في الشوارع والطرقات منشَؤها «أفكار» آمن بها بعضُ الشباب والفتية. ونحن لا نُنكِر أن الأفكار تنفجر في سياقٍ بعينه ولا تنفجر في سياقٍ آخر، مثلها مثل القنابل التي تحتاج إلى «الفاعل» الذي يقوم بنزع «المفجِّر» وإلقاء القنبلة. ولا نريد أن نناقشَ في سياقنا هذا مسألة الأدوار، من حوَّل «الفكرة» إلى قنبلة؟ ومن نزع «المفجِّر»؟ ومن ألقاها؟ لأن هذا أمرٌ يطول شرحه. كل ما نودُّ قوله هنا أن ثمَّة أفكارًا تحوِّلها «القداسة» الموهومة — بالقِدم وكثرة الترداد والتكرار — إلى «قنابل» قابلة للانفجار في سياقٍ اجتماعيٍّ اقتصاديٍّ سياسيٍّ بعينه. وإن مهمة البحث التحليلي النقدي تفكيك هذه الأفكار ونزع «مفجِّر» القداسة منها، وإعادتها إلى سياقها الأصلي بوصفها نتاجًا بشريًّا تاريخيًّا. وهذا الفعل البحثي هو بمثابة «قتل» للخطورة المضمَرة في تلك الأفكار، وتظل الأفكار موجودةً وقائمةً جزءًا من تاريخ الفكر بلا قداسة ولا قابلية للانفجار، ولا تجديد قبل هذه الخطوة الهامة: «قتْل القديم بحثًا».
الهامش والمركز
من هذا المنطلق تحاول هذه الدراسة الاقتراب من بعض أفكار الفيلسوف الأندلسي ابن رشد. وثمَّة محاذير لا بد من ذكرها في هذا السياق، خاصةً وأن استدعاء ابن رشد فكريًّا وثقافيًّا يبدو لي، في بعض جوانبه على الأقل، محاولةً لممارسة صراعٍ أيديولوجي ضد تيارٍ فكريٍّ سياسي، يدَّعي ممثلوه أنه التيار الوحيد الممثل للإسلام، مع أن أيديولوجيتهم الدينية مُستمَدة أساسًا من الغزالي والأشعري وابن تيمية. لقد كان استدعاء المعتزلة في مرحلة الستينيات والسبعينيات تواصلًا مع إنجازات محمد عبده في القرن السابق محاولةً لتأصيل مرحلة التحوُّل الاشتراكي والعدل الاجتماعي وإقامتها على أصولٍ تراثية. ومن الواضح أن عملية التأصيل تلك لم تنجح، وبرهانُ ذلك واضحٌ على كل المستويات. ومع ذلك فاستدعاء ابن رشد في سياق الصراع الراهن لن يكونَ أفضلَ من استدعاء المعتزلة في الستينيات من حيث النتائج.
هذا «التهميش» الاجتماعي والسياسي يتجاوب إلى حدٍّ كبير مع اختيار الفيلسوف — قصد أم لم يقصد — أن يصوغ أفكاره وينتج خطابه في سياق الشروح والتعليقات على أرسطو وشُرَّاحه من جانب، وعلى معاصريه وسابقيه من المتكلمين والفلاسفة المسلمين من جانبٍ آخر. هكذا يبدأ ابن رشد حياته العلمية بالشروح والتلخيصات، وفي فترةٍ متأخرة من حياته يبدأ في كتابة كتبه التي تحمل اسمه وحده، لكن هذه الكتب الأخيرة في التحليل الأخير ليست إلا مجموعةً من الاستجابات لتحدِّياتٍ طرحها بشكلٍ جوهري الإمام أبو حامد الغزالي. هذا واضحٌ جدًّا في «تهافُت التهافُت» ردًّا على كتاب الغزالي «تهافُت الفلاسفة». كما هو واضح كذلك في «فصل المقال» و«مناهج الأدلة» اللذَين يتردَّد فيهما اسم الغزالي أكثر من غيره.
وليس من الصعب تفسير هذا الاختيار عند ابن رشد، ذلك الاختيار المزدوج للانخراط في الاشتباك على مستوى الخطاب مع «علوم الأوائل» من جانب، ومع «علوم الشريعة» من جانبٍ آخر، وهو اشتباكٌ يجد تعبيره واضحًا في اجتماع شخصية «قاضي القضاة» وشخصية «الفيلسوف» في عقلٍ واحد. إن شارح أرسطو الذي ختم شروحه بتفسيره الكبير لكتاب «ما بعد الطبيعة» هو نفسه الفقيه الذي كتب «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» في الفقه. وتفسير هذا «الجمع» — التركيبي إلى حدٍّ كبير، كما سنشير في الفقرة التالية — يعكس «وعيًا» بحالة «التهميش» التي تُعانيها الفلسفة، ويعكسُ في نفس الوقت «أملًا» في تجاوز حالة التهميش تلك، والتحرك إلى الاقتراب من دائرة «المركز».
نقول إن هذا أمرٌ طبيعي لسببٍ بديهي أن «الخطاب» — أي خطاب وكل خطاب — ليس خطابًا مغلقًا مستقلًّا عن غيره من الخطابات في سياقٍ ثقافيٍّ حضاريٍّ بعينه، ومهما تصاعدَت آليات «الإقصاء» و«الاستبعاد» التي يمارسها خطابٌ ضد خطابٍ آخر، فإن حضور هذا الخطاب الآخر في بنية الخطاب الأول يمكن تتبُّعه على مستوى البنية والسرد، إن لم يكن على مستوى «المنطوق والمفهوم» كذلك. هذه الحقيقة البديهية البسيطة ترتدُّ إلى حقيقة أن الخطابات — في سياقٍ ثقافيٍّ حضاريٍّ بعينه — تشترك إلى حدٍّ كبير في طبيعة الإشكاليات التي تحدِّد منطوقها ومفهومها ونيتها.
لقد سبَّب ابن رشد ارتباكًا واضطرابًا بين دارسيه بسبب هذا الاشتباك المزدوج مع خطابَين؛ أحدهما «علوم الأوائل» وثانيهما «علوم الشريعة»؛ لذلك راح كلُّ فريقٍ يفتِّش عن «أفكار» ابن رشد الأصلية الحقيقية؛ إما في رُكام «الشروح والتفسيرات»، وإما في دهاليز السِّجال ومنحنياته. هكذا ذهب إرنست رينان الفيلسوف الفرنسي إلى أن كتابات ابن رشد الدينية لا تمثِّل فكره الحقيقي؛ لأنها كتاباتٌ كان الهدف منها مخادعة فقهاء المالكية وتحدِّيهم ردًّا على اتهاماتهم له. أما أفكار الفيلسوف الحقيقية فيجب البحث عنها — فيما يرى رينان — في شروحه لأرسطو؛ حيث كان ممكنًا له أن يتخذ من نصوص أرسطو الأصلية «قناعًا» للتعبير عن آرائه وأفكاره.
وعلى عكس رينان يذهب آسين بلاثيوس، في دراسته عن الفكر الديني الرشدي في كتابات توما الأكويني، إلى أن أفكار ابن رشد الخاصة يمكن العثور عليها في «التهافت»، و«فصل المقال»، و«مناهج الأدلة». وهو رأيٌ يوافقه عليه محرِّر مادة ابن رشد في «الموسوعة الإسلامية».
هذا الارتباك والاضطراب في تحديد «الأفكار» الحقيقية لابن رشد نابعٌ من تصوُّر أن «الشروح» ليست «نصًّا على نصٍّ»، وأنها مجرد متابعة للنصِّ الأصلي دون إضافة، وهو تصوُّر غاية في السذاجة؛ لأنه حتى «الترجمة» — التي يُفترض فيها الحرص على الدقة والإخلاص في نقل النصِّ الأصلي من لغةٍ إلى لغةٍ أخرى — تمثِّل «نصًّا» له خصائصه المستقلة النابعة من طبيعة اللغة وما تعكسه من إطارٍ ثقافي؛ هذا بالنسبة لمن قالوا إن أفكار ابن رشد الحقيقية تقع خارج الشروح. وخطأ هؤلاء الذين ذهبوا إلى أن «الشروح» تتضمن أفكار الفيلسوف الحقيقية — دون كتاباته الدينية — نابعٌ من عدم إدراك أن «الخطاب» يمكن أن يتجلى ويظهر من خلال أكثر من «قناة»، وليست الشروح إلا إحدى «قنوات» الخطاب، و«المساجلات» قناةٌ أخرى لا تقلُّ أهميةً عن الأولى. ولكل قناةٍ من قنوات الخطاب تأثيرُها دون شكٍّ لا على بنية الخطاب فقط، بل على منطوقه ومفهومه كذلك.
إن ابن رشد هو هذا العقل المولود في بيئة الأندلس، ملتقى العوالم والثقافات والأديان، هذه البيئة التي أنتجَت عقلانيةَ ابن رشد، وصوفيةَ ابن عربي، وإشراقيةَ ابن طفيل في «حي بن يقظان»، الباحث عن الحقيقة وراء اللغات والأديان، الحقيقة كما يتوصَّل إليها الإنسان المتوحِّد، معتمدًا على حواسِّه وتجاربه وخبراته، منتقلًا من الحسي إلى العقلي، ومن العقلي إلى ما وراء المادة والعالم. هذا الإنسان القادر على المعرفة، والقابل للاختلاف النابع من اختلاف القدرات وتعدُّدية النظر والتأويل، هو الإنسان الذي حرص ابن رشد على إبرازه وتأكيد وجوده.
إن ابن رشد، الذي وُجد في بيئة كهذه، هو العقل الذي طردَتْه الثقافة العربية الإسلامية، وتلقَّفَته ثقافةٌ أخرى كانت ناهضة، ليُشرقَ بنوره في أنحائها، ويُساهمَ في تبديد ظلمات القرون الوسطى. وهو الذي اضطُر — وتحت ضغط مركز الخلافة الإسلامية، وسيطرة الخطاب الغزالي والأشعري — إلى تقديم الكثير من التنازلات و«الترضيات» التي سنكشفها فيما سيأتي. كما سنتحدث في قسمٍ آخر من المقالة عن بعض إنجازات ابن رشد العديدة والمهمة، والتي نحتاج لإبرازها في أزمتنا الراهنة على جميع المستويات والأصعدة (سياسية واقتصادية وثقافية بل وحضارية). ولا شك أننا نحتاج إلى ابن رشد لاجتياز أزمتنا الثقافية والفكرية، وللعمل على المشاركة في صنع الحضارة الإنسانية. نحن بحاجة لاسترداد ابن رشد، ليس على طريقة «هذه بضاعتُنا رُدَّت إلينا»، بل بمنطق استرداده مع ما اكتسَبه في صيرورته التاريخية وتحوُّلاته، وبمنهجٍ مغايرٍ للمنهج الذي أدَّى إلى تهميشه أولًا ثم طرده.
لذلك فإنني سأركِّز هنا على وجهَين قد يبدُوَان متناقضَين في قراءة ابن رشد، إلا أنهما يلتقيان على الاعتراف بتنويرية وعظمة ابن رشد من جهة، ومدى قوة ضغط الخطاب النقيض من جهةٍ أخرى.
ولعل في كل ما سبق ما يشرح ضرورة الوعي بأن خطابَ ابن رشد، الذي كان مهمَّشًا في سياق الثقافة العربية الإسلامية في بُعدها التراثي، يمكن أن يظل «مهمَّشًا» في سياق الاستدعاء الحالي، سياق الصراع الأيديولوجي ضد تيارٍ فكريٍّ سياسيٍّ يستند إلى ما سبقَت الإشارة إليه من «مركزية» النظام الفكري الذي يمثِّل الغزالي بؤرته. هذا إذا استُدعي ابن رشد كما هو، وذلك هو التخوُّف الذي يستلزم «الحذر». إن محاولة ابن رشد لتجاوز حالة «التهميش» للاقتراب من «المركز»، وهي المحاولة التي فرضَت عليه بعض «التنازلات» أو «الترضيات»، ستكون هي ذلك «البُعد» من خطابه الذي نتناوله في هذه الدراسة.
(I) خطاب المركز: تبرير السياسي بالفكري
ربما كان علينا، قبل کشف «الترضيات» التي قدَّمها الخطابُ الرشدي من الزاوية التي أشرنا إليها، أن نبيِّن الكيفية التي استطاع الغزالي من خلالها أن يصوغ خطابًا صار هو «خطاب» السلطة بامتياز من جهة، وصار «خطاب» العامة بامتيازٍ كذلك من جهةٍ أخرى، وذلك من خلال بنيته المزدوجة. إن الشق الأشعري في خطاب الغزالي المتكلم والفقيه هو الشق الذي يساند السلطة السياسية، ويبرِّر سيطرتها وهيمنتها الدكتاتورية أيديولوجيًّا. ويقدِّم الشق الصوفي — ببُعدَيه السنِّي والغنوصي المتلازمَين — للعامة والخاصة على السواء «عزاء» تُجابِهان به سطوة السلطة. هذا إلى جانب أنه يقدِّم للسلطة السياسية للدولة السُّنِّية كذلك سلاحًا أيديولوجيًّا في صراعها ضد سلطة الدولة الشيعية.
ولا غرابة بعد ذلك كله أن يكون خطاب الغزالي هو الخطاب المهيمن السائد منذ القرن الخامس الهجري وحتى الآن تقريبًا. إن الإمام الغزالي هو «حجة الإسلام»، وهو لقبٌ لم يحظَ به غيره، وكتابه «إحياء علوم الدين» هو الكتاب الثاني بعد القرآن بالنسبة لكثيرٍ من المجتمعات الإسلامية، كما يظهر ذلك من كثرة الشروح والطبعات المختلفة والعديدة، بل والترجمات إلى أكثر اللغات. لقد أسَّس الغزالي ما أصبح يُعرف باسم «الوسطية» في الفكر الديني، وهي «الوسطية» التي تماهَت تمامًا مع الإسلام نفسه في شعار «الإسلام دين الوسطية». لقد تم تعليق النظام الفكري للغزالي تعليقًا نهائيًّا بالقرآن الكريم نفسه، واعتُبر قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (سورة البقرة، الآية: ١٤٣) تلخيصًا لأفكار الغزالي. وبعبارةٍ أخرى صارت كلمة «وسطًا» في الآية تعني «الوسطية» الفكرية، ذات الطابع الأيديولوجي الواضح، في فكر الغزالي.
وهو القائل: «ما في الجبة إلا الله» بلسان الشطح وغلبة الحال.
وموقف الغزالي من هذا الشطح الصوفي يتسم بنوعٍ من الدفاع الذي لا يُنكِر تلك الأحوال، ولا يُنكِر من ثَم دلالة تلك العبارات الشطحية، بل يرى أنها عباراتٌ يجب أن تُطوى ولا تُنشر، وهو في هذا الموقف الدفاعي يستحضر دائمًا أقوالَ الحلَّاج وعباراتِه — دون أن يصرِّح باسمه — الأمر الذي يلفتنا إلى حقيقة موقف الغزالي «الوسطي» من تصوُّف الحلاج «الحلولي»؛ يقول:
العارفون بالله — بعد العروج إلى سماء الحقيقة — اتفقوا على أنهم لم يرَوا في الوجود إلا الواحد الحق، لكن منهم مَن كان له هذه الحال عرفانًا علميًّا، ومنهم من صار له ذلك حالًا ذوقيًّا. وانتفت عنهم الكثرة بالكلية، واستغرقوا بالفردانية المحضة، واستُوفيَت فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه، ولم يبقَ فيهم متسعٌ لا لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضًا؛ فلم يكن عندهم إلا الله، فسَكِروا سُكرًا دُفِع دونه سلطان عقولهم، فقال أحدهم: «أنا الحق»، وقال الآخر: «سبحاني ما أعظمَ شاني»، وقال آخر: «ما في الجبة إلا الله». وكلام العشَّاق في حال السُّكْر يُطوى ولا يُحكى، فلما خفَّ عنهم سُكرهم ورُدُّوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان الله في أرضه، عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد، بل شبه الاتحاد، مثل قول العاشق في حال فَرْط عشقه: «أنا من أهوى ومن أهوى أنا»، ولا يبعُد أن يفاجئ الإنسان مرآة فينظر فيها ولم يرَ المرآة قط، فيظن أن الصورة التي رآها هي صورة المرآة متحدة بها، ويرى في الزجاج الخمر فيظن أن الخمر لون الزجاج. وإذا صار ذلك عنده مألوفًا ورسَخ فيه قدمه استغفر وقال:
وكما يقول أبو العلا عفيفي:
ومن الضروري هنا أن نُلاحظ أن الغزالي يمثِّل همزة الوصل بين «حلولية» الحلَّاج في القرن الثالث الهجري وبين «وحدة الوجود» عند ابن عربي في القرن السابع. ويمكن تفسير اللغة المتحفِّظة التي يستخدمها الغزالي خاصةً في «إحياء علوم الدين» — وهو كتابٌ تعليميٌّ كُتب للعامة إذا قُورن ﺑ «مشكاة الأنوار» — بمحاولة تفادي ردِّ الفعل الذي كلَّف الحلاج حياته. والغزالي على كل حالٍ هو مؤسِّس مفهوم «المضنون به على غير أهله»، وهو مفهومٌ يجعل العرفان الصوفي شأنًا من شئون الخاصة لا يجب البَوحُ به للعامة.
لكن الأهم من تفسير اللغة المتحفِّظة أن نلاحظ أن «وحدة الوجود» تمثِّل الامتداد الطبيعي والمنطقي «للصياغة الفلسفية» التي صاغَها الغزالي للمقولات الأشعرية، خاصةً ما يتصل منها بحقيقة الفعل الإلهي وذلك من جانبَين؛ علاقته بالفعل الإنساني، وعلاقته بقوانين الطبيعة. عن علاقة الفعل الإلهي بالفعل الإنساني حاول الأشاعرة «التوسط» بين المعتزلة والجبرية من خلال مقولة «الكسب». لقد ذهب المعتزلة إلى أن الفعل الإنساني الاختياري «مخلوقٌ» للإنسان؛ ولذلك يتحمل مسئوليته ثوابًا أو عقابًا. وهذه المسئولية نابعةٌ من صفة «العدل» الإلهي التي تُحقِّق «الوعد» للمؤمن و«الوعيد» للكافر. أما الجبرية فقد قالوا إن الإنسان كالريشة في مهب الريح، لا سلطة له على فعله؛ لأن الله سبحانه هو الذي يخلق له الفعل، كما يخلق له لونَه وطولَه وكل صفاته. ومقولة «الكسب» الأشعرية تجعل للفعل الإنساني جهتَين؛ فهو مخلوق من جهة الله — فالله خالق كل شيء — و«مكتسَب» من جهة الإنسان.
لكن مبدأ «الاكتساب» يبدو منحازًا انحيازًا واضحًا للجَبْرية، وذلك رغم القشرة «الوسطية» التوفيقية. ومع تطوُّر الفكر الأشعري، في سياق تطوُّر حركة الواقع والفكر، انتهى إلى إهدار قانون «السببية» فيما يتصل بعلاقة الفعل الإلهي بقوانين الطبيعة. وكان هذا التطوُّر من إنجاز أبي حامد الغزالي في «تهافت الفلاسفة»؛ حيث ذهب إلى أن الله سبحانه وتعالى هو «الفاعل» على الحقيقة في كل جزئيات العالَم وأحداثه. إن معنى الفعل فيما يرى الغزالي «إخراج الشيء من العدم إلى الوجود بإحداثه»، ولما كانت «الأعراض» لا تبقى زمانَين بل تفنى، فمعنى ذلك أنها بحاجةٍ مستمرةٍ إلى عملية «الإخراج من العدم». ومن الطبيعي بعد هذا التوحيد بين «الخلق» و«الفعل» أن ينكر الغزالي «الفعل الطبيعي»، وذلك لتجنُّب الإيهام بأن الطبيعة «خالقة». إن وصف الطبيعة بأنها فاعلةٌ تعبيرٌ متناقضٌ من منظور الغزالي؛ لأن فعل «الإحراق» لا ينتج بالضرورة عن ملامسة النار للقطن مثلًا؛ فالعلاقة بين «النار» و«الإحراق» علاقة «لزوم» وليست علاقة «ضرورة». إنها أشبه بالعلاقة بين المصباح والضوء، أو العلاقة بين الشخص والظل، وهذه ليست علاقة «ضرورية» وليست من ثَم «من الفعل في شيء» إلا على سبيل التوسُّع والمجاز.
هكذا تنتهي الرؤية الأشعرية للعالم إلى جعل الوجود الإلهي وجودًا مطلقًا ومهيمنًا لا وجود إلا في ظله. ومن السهل بعد ذلك أن يُلقى العالم كله في هوة «العدم» الأزلي، وأن يكون وجوده مجردَ مظهرٍ وتجلٍّ للوجود الإلهي لا يعني ثنائية أو كثرة. والحال كذلك، فليس من الصعب أن يكون أبو حامد الغزالي هو همزة الوصل بين الحلَّاج — الذي سيستشهد بأقواله، مبهمًا اسمه غالبًا — وبين ابن عربي الذي سيُكثر من بعدُ الاستشهاد بالأبيات التي استشهَد بها الغزالي عن الزجاج والخمر للدلالة على خفاء «القديم» في «المحدَث»:
فلا يعرف المرتدي إلا باطن الرداء — وهو الجمع — ويصير الرداء على شكل المرتدي. فإن قلت: واحد، صدقتَ، وإن قلتَ: ذاتان صدقتَ عينًا وكشفًا، ولله دَرُّ مَن قال:
هكذا تنتفي أسطورة «التصوف السنِّي» عند الغزالي، وتنتفي معها «وسطيته» المزعومة، كما انتفت وسطية «الأشعرية» وظهر انحيازها للجبر والإرجاء، بل وللتشبيه كذلك. ولا يمكن أن ينكشف المشروع الفكري «الوسطي» انكشافًا تامًّا إلا بتحليل آليات السجال «العقلي»، التي قام بها أبو حامد الغزالي ضد المشروع الفكري «الشيعي»، في كتابه «فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية». ومن عنوان الكتاب — الذي اختصره المحقق على الغلاف في شطره الأول فقط «فضائح الباطنية» — ندرك أنه كتابٌ سجالي يقوم على كشفِ عَوار الفكر الباطني من جهة، وعلى إظهار فضائل الخليفة العباسي المستظهر بالله من جهةٍ أخرى. ومعنى ذلك أن الغزالي في هذا الكتاب لا يحارب معركةً فكريةً خالصةً دفاعًا عن الدين والعقيدة، بل يُساهِم بفكره وبقدرته العقلية السجالية في معركةٍ سياسية. لقد قَويَت شوكة الشيعة في مناهضة النظام العباسي، وانبثَّ دعاة الإسماعيلية من قِبل الدولة الفاطمية في مصر للدعوة إلى الخليفة الفاطمي المستنصر بالله ضد الخليفة العباسي المستظهر بالله. وكانوا يعتمدون على عمليات «الاغتيال» التي راح ضحيتَها كثيرون من رجال الحكم والسياسة، لعل أهمهم بالنسبة للغزالي «نظام الملك»، مؤسِّس المدرسة النظامية التي ترأسها الغزالي قبل أن يصيبه مرض «الحُبْسَة» المصحوب بآلامٍ جسدية، وهي «الأزمة» التي جعلَته يتخلى عن كل شيء بحثًا عن طريق الخلاص، كما شرح هو باستفاضة في «المنقذ من الضلال».
هذا التَّوقُ إلى «الخدمة»، المقترن بكل أوصاف «التقديس» إلى أحد الوصف بالنبوة، ليس أقلَّ من تَوقِ «الشيعي» إلى خدمة إمامه بكل وسيلة. وهذه الأوصاف التي يُضفيها أبو حامد على الخليفة العباسي ليست أقلَّ من الأوصاف التي يُضفيها الشيعة على إمامهم. من هنا تبرُز سجالية الموقف الفكري للإمام الغزالي الذي طال تشوُّقه لخدمة الخليفة:
بتصنيف كتاب في علم الدين أقضي به شكر النعمة وأقيم به رسم الخدمة، وأجني بما أتعاطاه من الكُلفة ثمار القبول والزُّلفة … حتى خرجَت الأوامر الشريفة المقدَّسة النبوية المستظهرية، بالإشارة إلى الخادم في تصنيف كتاب في الرد على الباطنية، مشتملٍ على الكشف عن بدَعهم وضلالاتهم، وفنون مكرهم واحتيالهم، ووجه استدراجهم عوامَّ الخلق وجُهَّالهم، وإيضاح إغوائهم في تلبيسهم وخداعهم، وانسلالهم عن رِبْقة الإسلام وانسلاخهم وانخلاعهم، وإبراز فضائحهم وقبائحهم بما يُفضي إلى هتك أستارهم وكشف أغوارهم (الغزالي، «فضائح الباطنية»، ص٢-٣).
هكذا يمكن القول إن تصدِّي الغزالي لمناهضة فكر الباطنية لم يكن موقفًا فكريًّا بقَدْر ما كان إسهامًا سياسيًّا للدفاعِ عن حق الخليفة العباسي في الإمامة، والذبِّ عن استقرار الوضع السياسي الذي كان يهدِّده «التطرُّف» الشيعي. لم يقتصر الغزالي على مناهضة «التطرف» — وهي مهمةٌ جليلة في ذاتها — بل انطلق إلى تبرير النظام القائم، والدفاع عنه بنفس آليات الفكر الشيعي الباطني «المتطرف». وقد كان اختيار الغزالي تحديدًا للقيام بهذه المهمة نابعًا من إدراكٍ لقدراته الذهنية والعقلية، وتبحُّره في علومٍ شتى تكاد تستوعب علوم الثقافة العربية الإسلامية كلها تقريبًا. ولم يكن الغزالي غافلًا عن قدراته العلمية تلك إطلاقًا؛ لأنه حين راح يبرِّر لنفسه ضرورة الامتثال للأوامر «الشريفة المقدَّسة النبوية المستظهرية» أعطى ثلاثة مبرِّرات؛ مبررًا من جهة الأمر وهو الخليفة، وآخر من جهة المأمور به وهو الرد على الباطنية، والمبرِّر الثالث مبرِّر ذاتي راجع إلى نفسه وإلى قدراته العلمية النادرة. هكذا يتساءل مستنكرًا:
هذا الإحساس الطاغي بالقدرات العلمية التي يتمتع بها الإمام — مضافًا إليه إدراكه أن التصدي للضلال والإلحاد في حقه هو بالذات «من فروض الأعيان»، وليس من فروض الكفاية — كان كفيلًا بأن يحُثَّ الإمام على تأليف هذا الكتاب دون انتظارٍ للأوامر «الشريفة المقدَّسة النبوية المستظهرية». أم تُرَى كان الإمام خائفًا متردِّدًا أن تنالَه يد الاغتيال كما نالت نظامَ المُلكِ وغيرَه من أعيان رجال الدولة وفقهائها، حتى حسم تردُّدَه وخوفَه صدورُ الأوامر «الشريفة المقدَّسة النبوية المستظهرية»؟! وما علاقة هذه الاستجابة السريعة، ذات الطابع السياسي الواضح، بأزمة الإمام الروحية النابعة من إدراكه أن كل نشاطه الفكري في التأليف والتدريس لم يكن مرادًا به وجه الله تعالى، كما قرر هو في «المنقذ من الضلال»؟! تلك كلها أسئلةٌ نُرجئ الإجابة عنها بعد الكشف عن نموذجٍ واحد لتناقُضِ الإمام في هذا الكتاب.
والنموذج الذي نختاره هو موقف الإمام من واحدةٍ من أهم الأفكار الشيعية، تلك هي قولهم إن الإمامة بالنصِّ وليست بالاختيار. وقد اعتمد الغزالي في إبطال هذه الفكرة على مجموعةٍ من الحُجَج، تتعلق كلها بنقد الأخبار التي يتعلق بها الشيعة للقول بإمامة علي بن أبي طالب «نصًّا»، وهي نفسُ الحُجَج التي يستخدمها في إبطال قولهم إن الإمام لا بد أن يكون معصومًا من الخطأ والزلَل والصغائر والكبائر، لكن الإمام حين ينتقل للتدليل على أحقية الخليفة المستظهر بالله بإمامة المسلمين دون غيره، يكاد ينتهي في تحليله لهذه الأحقِّية إلى ما يتجاوز القول بالنص — قول الباطنية — إلى القول بالاختيار «الإلهي» المباشر. وبعبارةٍ أخرى إذا كان الباطنية يُقيمون مشروعية أئمتهم على «نص» من النبي عليه السلام، فإن الغزالي يقيم مشروعية إمامة المستظهر بالله على «الاختيار» المباشر من الله عز وجل.
إن الإمامة، فيما يرى الغزالي، إما أن تنعقد بالنص أو باختيار المسلمين، ولأن القول بالنص باطلٌ فلا إمامة إلا بالاختيار، لكن مسألة «الاختيار» تثير إشكالاتٍ لا حصر لها؛ اختيار من عامة المسلمين أم أهل الحل والعقد؟ وهل يصح الاختيار وتنعقد البيعة بكل المسلمين دون استثناء، أم بكل أهل الحل والعقد، أم يُكتفى بالبعض من ذلك؟ وما قدْر «البعض» الذي تكون مبايعتُه مبررًا لانعقاد الإمامة؟ تلك كلها إشكالاتٌ يحلُّها الغزالي بالتخلي تمامًا عن مبدأ «الاختيار» الذي واجه به مبدأ «النص»، وذلك استنادًا إلى مبدأ جواز انعقاد الإمامة «بالشوكة»؛ أي بالقوة والقهر والغلبة، لكنه يفعل ذلك بنفس المنهج الأشعري «الوسطي» ظاهرًا، والمنحاز حقيقة؛ يقول:
ومن المؤكَّد أن الغزالي يعتمد في هذا الاجتهاد على بعض الحقائق التاريخية المُنتزَعة من تاريخ الدولة الإسلامية؛ فقد تم اختيار أبي بكر من جانب عمر بن الخطاب في اجتماع السقيفة، وتم اختيار عمر من جانب أبي بكر بالتعيين. أما اختيار الخليفة الثالث عثمان بن عفان فقد تمَّ بانعقاد إجماع الستة الذين اختارهم عمر بن الخطاب لاختيار واحدٍ منهم، ثم بدأ الصراع عقب مقتله والخلاف حول إمامة علي بن أبي طالب؛ حيث نازعه معاوية بن أبي سفيان حتى قُتل علي، وانعقدَت الإمامة لمعاوية بمبايعة الحسن فيما عُرف بعام الجماعة، ومنذ تلك اللحظة صار اختيار الخليفة يتم بآليات المبايعة الشكلية لمن يختاره الخليفة القائم بالأمر، والذي يمتلك «الشوكة». هكذا كانت تقاليد تنصيب الأئمة في الدولتَين الأموية والعباسية وراثة، وهي تقاليدُ لا تختلفُ كثيرًا عن وراثة الإمامة في البيت النبوي عند الشيعة. الفارق بين الشيعة وبين السنة هو حرص الشيعة على ربط قضية الإمامة بسلطةٍ أعلى هي السلطة الإلهية، وذلك من خلال القول إن الإمامة بالنَّص. وهذه السلطة العليا هي ما كانت تحتاجه دولة السنة في صراعها السياسي ضد خصومها الإسماعيلية.
لذلك حرص الإمام الغزالي على ربط «الاختيار» بالمشيئة الإلهية المطلَقة، ولو كانت من طرف شخصٍ واحد، ما دام يمتلك «الشوكة» التي تؤدي إلى طاعة الناس له. وهذا الربطُ إلى جانب اتساقه التام مع نهج التفكير الأشعري، الذي يرتهن كلًّا من الإنسان والطبيعة في أَسْر «جَبْرية» صارمة، يهدفُ إلى تأبيد الواقع التاريخي والسياسي، وذلك عن طريق ارتهانه بدوره داخل سياج تلك «الجبرية»:
هكذا ينتهي الإمام الغزالي إلى جعل خلافة المستظهر بالله اختيارًا إلهيًّا، ما دامت خلافة انعقد الإجماعُ عليها ولو برجلٍ واحد أمال الله له القلوب، لكنه لكي يفعل ذلك ألقى بالتاريخ كله في مجال «الاختيار الإلهي»، الذي لا يظهر للناس إلا بعد متابعتهم لشخصٍ واحد أو أشخاص. وبذلك أسقط الغزالي قوانينَ الاجتماع البشري «ودفع الله الناس بعضهم ببعض»، وذلك بعد أن كان قد تم له إسقاط فاعلية الفعل الإنساني وإهدار قوانين الطبيعة. لقد أراد أن يُناهض «الباطنية» ويبدِّد مزاعمهم حول «النص» على الإمام وعصمته من الصغائر والكبائر، وحول وراثته للعلم النبوي دون حاجة إلى تعليم، لكنه انتهى إلى جعل المستظهر بالله فوق إمام الشيعة في كل تلك الجوانب:
هل يمكن لنا بعد هذا التحليل المستفيض أن نقول إن وسطية الغزالي الأشعرية قد انتهَت إلى نوعٍ من محاولة الجمع بين «النقائض»؟ وهل نستطيع بهذا الاستنتاج أن نفسِّر حقيقة الأزمة العقلية والروحية التي مرَّ بها الرجل، وحسمَت اختيارَه في «العرفان» بديلًا عن «البيان» و«البرهان» معًا؟ الحق أننا نستطيع أن نُجيب بالإيجاب، متفقين في ذلك مع محمد عابد الجابري الذي يُرجع أزمة الغزالي:
كانت وسطية الغزالي كما رأينا — بصرف النظر عن النتائج التي انتهت إليها — تتمتع بقَدْر لا يمكن إنكاره من الحيوية الفكرية والسجالية؛ حيث اجتمعَت في منظومته الفكرية بالغياب، أو بالحضور، أو بالمساجلة، كل التيارات الفكرية الإسلامية، وتلاقت الأنظمة المعرفية الثلاثة الكبرى؛ البيان والبرهان والعرفان وهي في عُنفُوانها، لكن هذه الوسطية ذاتها قد أفضَت إلى تبرير السياسي بالفكري، وجعلَت المعرفي تابعًا للسياسي. وحدث ذلك كله في سياق انهيارٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ شاملٍ أدى إلى نكوص العقل الإسلامي، وتحصُّنه وراء متاريس «السلفية»، دفاعًا عن وجوده ضد هجمات المغول والتتار، ومحاولتهم تخريب الذاكرة الجمعية، بتخريب المكتبات وحرق الكتب والمساجد … إلخ.
(II) ابن رشد امتداد التراث المهمَّش
لكن نقده لمنهج المتكلمين بشكلٍ عام — أصحاب الجدل — يتناول المعتزلة كما يتناول الأشاعرة، وإن كان هجومه على الأشاعرة يتميَّز بنبرةٍ حادة، لعل مردَّها إلى حالة «الحضور» التي كان يتمتع بها الفكر الأشعري على مستوى وعي العامة — من خلال الفقهاء — إذا قُورن إلى حالة «غياب» كتب الفكر الاعتزالي. وهو «الحضور» الذي فرض على الخليفة، التضحية — ولو مؤقتًا — بابن رشد نفسه ثمنًا لتأييده في حروبه ضد الأعداء. إن علم الكلام قد ارتكَب — في نظر ابن رشد — أخطاءً جسيمةً في حق الشريعة، وسبَّب لها أذًى شديدًا على مستوى «الفكر»، وعلى مستوى «التأويل» كذلك.
هنا بالضبط يكمُن الخطر الذي يحاول خطاب ابن رشد مجابهته والقضاء عليه، خطر أن يكفُر الناس ﺑ «الحكمة» أو أن يكفُروا ﺑ «الشريعة»، أو يجمعوا بين الكفرَين، نتيجةً لإشاعة التأويلات بين الناس بأدلة الجدل والأدلة الخطابية، كما فعل الغزالي. وهنا تنكشف الضغوط التي يمارسها خطاب الغزالي، خاصةً بعد أن ساد وسيطر في المشرق، وبدأ يمارس ضغوطه في المغرب، على خطاب ابن رشد. إنها ضغوط «المركز» على «الهامش»، فكيف يمارس «الهامش» فعاليته تحت وطأة تلك الضغوط؟
هنا وقع ابن رشد في شِراك الغزالي حيث أراد أن يتصدَّى له؛ فالغزالي هو صاحب مفهوم «المضنون به على غير أهله» في مجال المعرفة، وهو الذي يُكثِر من الاستشهاد بأقوالٍ من مثل «لا تعلِّقوا الدُّر أعناق الخنازير»، شارحًا المثل بأنه إفشاء المعرفة لغير أهلها. والغزالي، الذي يطرح مثل تلك المفاهيم من منظورٍ صوفي غنوصي، هو نفسه الذي قام بنشر «التأويلات» وإفشائها للعامة في كل كتبه تقريبًا. وهو بالإضافة إلى ذلك كله «المعلِّم» الذي ترأس أكبر مؤسَّسةٍ أكاديمية وتعليمية في عصره، وهي المدرسة النظامية.
وإذا صح أن يُقال إن هذه القسمة في منظومة الفكر الصوفي تُعَد، في جانبٍ منها، انعكاسًا للقسمة الاجتماعية إلى عامة وخاصة، على أساس الثروة أو على أساس المكانة، فما هو الأساس الذي ينبني عليه تقبُّل ابن رشد لهذه القسمة؟ من الواضح أن هذه القسمة إلى عامة وخاصة من الوجهة المعرفية، هي التي تعطي «المثقَّف» أو «المفكِّر» — وكذلك الفيلسوف — مكانةً في نسقٍ اجتماعي يعتمد هذه القسمة أساسًا. لقد كان من الضروري للفكر تأسيسُ سلطته الخاصة في مقابل سلطتَي الثروة والجاه من جهة، والمكانة والقوة من جهةٍ أخرى.
هذا التقسيم الثلاثي إذن تقسيم معرفي — طبقًا لأنواع الأدلة في المنطق — ولكنه أيضًا تقسيمٌ شرعيٌّ ديني. وتلك هي القراءة التي يقدِّمها ابن رشد للآية القرآنية التي يَستشهِد بها في هذا السياق، وهي قوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل: ١٢٥)؛ حيث تكون «الحكمة» هي البرهان، و«الموعظة» هي الأدلة الخطابية، والأدلة الجدلية يشير إليها الفعل «جادلهم».
وإذا كانت «العادات» و«عدم أسباب التعلم» يمكن أن تكون علَّة اختلاف قدرات الناس في الفهم، ألم يكن متوقعًا من فيلسوف قرطبة — بدلًا من الوقوع في «فخ» الغزالي، المتمثل في تقسيم الناس إلى عامة وخاصة — أن يكون داعيةً لإشاعة المعرفة البرهانية، ولنشرها لتواجه فساد المعرفة الجدلية؟ قد يكون هذا التساؤل غير ذي موضوعٍ بالنسبة لابن رشد، لكنه بالتأكيد سؤالٌ هامٌّ جدًّا بالنسبة لنا في عصر ديمقراطية المعرفة وتدفُّق المعلومات، العصر الذي لا يليق به أن يظل معلقًا — في صراع الأيديولوجيات الدينية وتبادلها المواقع أحيانًا — إلى مقولة «الخاصة والعامة»، وما يجوز التصريح به وما لا يجوز من الناحية المعرفية.
لكن إلى ماذا يؤدي هذا الحرص من جانب ابن رشد على «إغلاق» مسائل التأويل في كتب «البرهان» التي لا يصل إليها إلا أهل البرهان؟ وماذا عن العامة: هل يظلون على عقائدهم الخطابية والجدلية محرومين من حقهم العقيدي، ناهيك بحقِّهم الطبيعي، في فهم المعاني والدلالات الحقيقية؟
في الاستجابة لهذا التحدي يبدو حل ابن رشد حلًّا وسطيًّا إلى حدٍّ كبير، يتمثل في الإبقاء على الوضع كما هو عليه في قضايا «التأويل» على وجه الخصوص، بمعنى أن يظل أهل الأدلة الخطابية في إطار أدلتهم دون أن تُطرح عليهم الأدلة الجدلية. وبالمثل يظل أصحاب الجدل في إطار جدلهم دون أن يُسمح لهم بالاطِّلاع على «تأويلات» أهل البرهان، الذين هم «الراسخون في العلم» في قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا (آل عمران: ٧).
•••
الحركة المعرفية في نظام ابن رشد حركةٌ معاكسة تمامًا؛ لأنها تبدأ من العالم الطبيعي إلى ما وراء الطبيعة أو ما بعدها. إن الطبيعي عند ابن رشد هو المدخل للوصول إلى «ما بعد الطبيعة». إن «ما بعد الطبيعة» سابقٌ وجوديًّا على العالم الطبيعي، لكن الحركة المعرفية تبدأ من هذا «الطبيعي». إن موضوع ما بعد الطبيعة هو «الموجود بما هو موجود»، وهو موضوعٌ لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال علوم الكَم (الرياضيات)، والطبيعيات التي تتناول الموجودات من حيث حركتها وسائر أحوالها المتمثلة في «المقولات العشر».
وإذا كانت علوم الكَم والحركة تتناول عوارض الوجود وتعتمد على منهج القياس المنطقي، فإن علم «ما بعد الطبيعة»، يتناول الكليات ويعتمد على منهج التحليل والبرهان. ومعنى ذلك أن «ما بعد الطبيعة»، مخالفٌ في موضوعه ومنهجه للعلوم الطبيعية، وإن كان يعتمد على نتائجها؛ إذ لا يمكن الوصول إلى الكُليات إلا من خلال الجزئيات والمشخصات والمتعينات. «ما بعد الطبيعة» يشبه من هذه الزاوية العلم الإلهي إلى حدٍّ كبير، ولا يستطيع الفيلسوف الوصول إلى علم «ما بعد الطبيعة» إلا بعد أن يصل إلى تجاوز مرحلة الإدراكات المادية والتفكير في الجزئيات النوعية، لكي يصل بمنهج التحليل والبرهان إلى تمييز «الطبائع المفارقة» من بين الموجودات.
وعلى ذلك يشتد هجوم ابن رشد على المتكلمين — الأشاعرة والمعتزلة على السواء — في تصوُّرهم للصفات الإلهية، هل هي عين الذات الإلهية أم هي زائدة عليها؟ والواضح من هجومه عليهم في «مناهج الأدلة» — القسم الرابع من الكتاب — أن تصوُّراتهم إما أن تؤدي إلى «التعطيل» عند المعتزلة أو إلى «التشبيه» عند الأشاعرة. وهنا يتبدَّى الاختيار الوسطي لابن رشد، لكنه الاختيار النابع — كما هو الحال في قضية «التأويل» — من الرغبة في إنقاذ العامة من الاضطراب والارتباك، الذي يمكن أن ينتج عن «التعطيل» وعن «التشبيه» كذلك.
في مثل هذا الاقتراح لا يكاد يختلف ابن رشد عن الغزالي — ولا عن المتصوفة الإشراقيين خصوصًا — في كتابه «مشكاة الأنوار» المخصَّص تمامًا لشرح فكرة «النور» الوجود الحق المحض … إلخ. بل يمكن القول إن طرح ابن رشد لهذا المفهوم باعتبار صلاحيته للعامة؛ أي لأسبابٍ نفعيةٍ خالصة، يؤدِّي في التحليل الأخير إلى «إشاعة» هذا المفهوم الإشراقي ونشره، وذلك مما يرسِّخ مقاومة العامة للبرهان، ويرسِّخ من ثَم المفاهيم التي يصارعها أهل البرهان، وعلى رأسهم ابن رشد نفسه.
إن نقد ابن رشد القاسي والحاد للأشاعرة عامة، وللغزالي بصفةٍ خاصة، يبدو في سياق هذه الترضيات والتنازلات نقدًا مجانيًّا، رغم أهميَّته على المستوى المعرفي والعقيدي على السواء:
هذا النقد الذي يتلخَّص في أن مفهوم المتكلمين للإله لا يزيد عن كونه «إنسانًا أزليًّا»، يتطلب تأويل كل آياتِ الصفات الواردة في القرآن الكريم. ومن الواضح أن ابن رشد من منظور البرهان يفعل ذلك، لكنه من قبيل التأويل الذي لا يجب التصريح به لغير أهل البرهان، ولا يجب ذكره إلا في كتب البرهان. وردًّا على اتهام الغزالي للفلاسفة بأنهم ينفون عن الله تعالى صفة الإرادة؛ إذ يقولون بقِدَم العالم وأزليَّته، كما ينفون عنه الحياة حين ينفون الإرادة، يتمسَّك ابن رشد بالالتزام بهذا التمييز بين الله والإنسان، التمييز الذي أهدَره المتكلمون فجعلوا «الإله» إنسانًا أزليًّا؛ يقول ابن رشد:
وكما تنتفي الإرادة — لأنها متضمَّنة في صفة العلم — تنتفي صفات السمع والبصر كذلك. وما ورد في القرآن أنه «سميع بصير» إنما هو تنبيه.
وينتهي تأويل الصفات المعتمد على البرهان، والمؤسَّس على «ما بعد الطبيعة»، إلى أن الله سبحانه «عقلٌ خالص» لا يعقل إلا ذاته، وذاته عقلٌ بالضرورة. وهذا كافٍ للرد على هجوم الغزالي وتسفيهه لقول الفلاسفة بتعلُّق علم الله بالكليات دون الجزئيات. في «التهافت» يصل ابن رشد إلى أن تعلُّق علم الله بالموجودات لا بد أن يكون على:
هكذا يختلط «العرفان» و«البرهان» عند ابن رشد، لدرجة أنه يكاد يقترب هنا من ابن عربي الأندلسي، كما اقترب في فكرة «النور» المقترَحة لتعليمِ العوامِّ من الغزالي. والقنطرة بين الغزالي وابن عربي ليست شاسعةً على كل حال، لكن اقترابه من ابن عربي هو الأدنى إلى طبيعة الأمور، وهو اقترابٌ يتأكد من خلال منهج «التوفيق» الوسَطي الذي يمارسه ابن رشد في قضيتَين من أخطر القضايا الخلافية؛ القضية الأولى هي قضية «العدل» الإلهي، والقضية الثانية هي قضية «قِدم العالم».
وأما الاختلاف بين المتكلمين من الأشعرية والفلاسفة حول «قِدم» العالم و«حدوثه»، فإنه اختلافٌ راجعٌ إلى التسمية عند ابن رشد:
والدلالة الواضحة من منظور ابن عربي على الأقل أن «العرفان» أعلى من «البرهان»، وهي دلالة عند الغزالي كذلك، خاصة في «المنقذ من الضلال»، لكن الغريب أن تتسرَّب تلك الدلالة إلى كتابات ممثِّل «البرهان» من الضغوط التي مارسَها ضدَّه الخطاب النقيض من داخله؛ تلك الضغوط التي تبلورَت في المطالبة بسجن «التأويل» البرهاني داخل دائرة الخاصة؛ بحيث لا تتجاوزهم، ولا تصل إليها عقول العامة.
إن الذي سكت عنه الشرع هنا مما دلَّ عليه «البرهان» يقع في دائرة «المباح» المعرفي، وهو كل ما توصَّل إليه البرهان مما لا ذكر له في النصوص الشرعية. وما توصل إليه البرهان مما ذُكر في الشرع منصوصًا عليه نصًّا لا يحتمل التأويل كان من قبيل «المشروع»؛ لأن مشروعيته مزدوجة من جانبَي البرهان والشرع على السواء، فإذا كان هذا الذي توصَّل إليه البرهان مخالفًا لما نصَّ عليه ظاهرُ الشرع فلا مجال سوى «التأويل». في مثل هذه المقارنة يبدو «التأويل» كما لو كان «المحظور» الذي تُبيحه الضرورة، والضرورة هنا هي المعرفة البرهانية التي تكتسب ضروريَّتها من كونها معرفةً يقينية.
وإذا كان التأويل بمثابة «المحظور» الذي تُبيحه الضرورة في هذه المقارنة، فإن إخراجه من دائرة «المحظور» يتحقَّق فيكون مباحًا، بل وحلالًا، خاصةً حين ندرك الفارق بين لغة «البرهان» ولغة الخطاب الشرعي؛ تلك اللغة الثلاثية الأبعاد والمستويات لكي تكون صالحةً لمخاطبة الناس، على تبايُن قرائحهم وفطرتهم ومستويات تعليمهم وعاداتهم.
هذا القطع والجزم اليقيني بأن كل ما ورد في ظاهر الشرع مخالفًا للبرهان يقبل التأويل على قانون التأويل العربي — الذي هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير إخلال بقوانين اللسان العربي في التجوز — يبدو حاسمًا وحادًّا، خاصة إذا قُورن بتحديد مجال «التأويل» في المجاز وحده. إن التأويل بالمجاز على عادة اللسان العربي هو المنهج الذي أسَّسه المعتزلة وتطَّور من خلال ممارستهم. وإذا كان الفكر الاعتزالي جزءًا من منظومة علم الكلام التي تعتمد على الحُجج والأدلة الجدلية — وليست البرهانية — فمن المتوقع أن يكون التأويل على قانون المجاز أداةً غيرَ كافية بالنسبة للبرهان.
وأخيرًا فإن هجومَ ابن رشد على المتكلمين وعلى تأويلاتهم التي سبَّبَت الاضطراب والفساد، وشوَّهَت العقيدة، ليس مُبرَّرًا ولا مفهومًا، إذا كان «المجاز» هو قانون التأويل؛ لأن هذا بالضبط هو القانون الذي حكَم تأويلات علماء الكلام.
ومن الواضح من الأسئلة المطروحة هنا، أن ابن رشد في سجاله ضد المتكلمين اضطُر للتنازل لهم، كما تنازَل مع الغزالي وتقارَب مع المتصوفة، ولكن يبقى لابن رشد — فرقًا حاسمًا بينه وبين الغزالي — أن حركة المعرفة عنده تبدأ من العالم الطبيعي استدلالًا إلى «ما بعد الطبيعة»، ثم نزولًا إلى النص بالتأويل. ذلك في تقدير هذه الدراسة هو إنجاز ابن رشد، وهو إنجازٌ متواصلٌ مع التراث الاعتزالي غيرُ متناقضٍ معه. إنه تواصلٌ تعمَّق بالشروح والتفسيرات والقراءات التي أضافَت لوعي ابن رشد ما لم يكن ممكنًا بنفس الدرجة لشيوخ الاعتزال.
ليس ابنُ رشد بدعةً في التراث العربي الإسلامي، كما يتوهَّم البعض، بل هو امتدادُ التراث المهمَّش، وإن كان سعيه للانزياح من موقع الهامش قد فرَض عليه تنازلاتٍ وترضياتٍ عمَّقَت هامشيته؛ لأنها ساهمَت — بطريقة غير مباشرة — في تكريس مركزية الغزالي بكل ما يمثِّله من دلالاتٍ ناقشناها قبل ذلك. وإذا كان لا بد لنا الآن من استدعاء ابن رشد، فليكن استدعاؤنا له ليس من أجل الصراع الأيديولوجي، بل من أجل تعميق فهمنا لأنفسنا ولتراثنا ولواقعنا في نفس الوقت.
(III) التعددية ودلالة الاختلاف
أما عن جوانب الخطاب الرشدي التنويري — التي ما تزال قادرة على التواصل معنا، والمساهمة في تعميق الحوار حول قضايانا — فإنها جوانب تُشكِّل عنصرًا جوهريًّا أصيلًا من عناصر هذا الخطاب وبنيته الأساسية. وبالنظر إلى السياق الذي كتب فيه ابن رشد، فإنه من الواضح أنه كتب خطابًا عقلانيًّا تنويريًّا، خاصةً حين كان متحررًا من ضغط الخطاب النقيض.
ويمكن البرهنة على ذلك من خلال مناقشة قضيتَين من قضايا الخطاب الرشدي.
القضية الأولى قضية «التعددية»، بكل ما تنطوي عليه من دلالة «الاختلاف»، لا في شئون الحياة والمجتمع فحسب، بل في شأن الدين والعقيدة أيضًا. وإذا كان الاختلاف في شئون الحياة والمجتمع هو اختلاف مصالح وأغراض، فإن الاختلاف في شأن الدين والعقيدة هو اختلاف «تأويلات»، ليست بدورها بمنأًى تامٍّ عن اختلاف المصالح والأغراض. هكذا تُفضي التعددية إلى التأويل من حيث إن جذرهما واحد في الحكمة الإلهية. وإذا كان «التأويل» يمثل القضية الثانية التي سنتوقف عندها في محاولة استعادة ابن رشد، فإن وقوعه فرعًا للتعددية لا ينفي أنه يؤصِّل للتعددية. وبعبارةٍ أخرى إذا كان تعدُّد التأويلات في فهم النصوص الدينية أمرًا مشروعًا، فإن الاختلاف والتعدد في شئون الحياة والمجتمع يكتسب، بتعدُّد التأويلات، مشروعيةً أعمق، تُضاف إلى مشروعيته العقلية الخالصة.
والغريب أن كثيرًا من الباحثين في زمن الميل إلى إلغاء التعدد والاختلاف، لحساب هيمنة فصيلٍ اجتماعي وسياسي واحد، وسيطرة اتجاهٍ فكري واحد بعينه، فهموا من ابن رشد أن جلَّ همِّه ومحور فلسفته هو إبراز عدم الاختلاف بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة. وتناسَوا، أو بالأحرى تجاهلوا، أنه، وهو يؤكِّد عدم الاختلاف، كان يؤصِّل التعددية والاختلاف بين البشر. وكان في الوقت نفسه يؤكِّد أن رفع الاختلاف لا يتم إلا بآليات العقل الإنساني، لاكتساب المعرفة البرهانية اليقينية من جانب، ولتأويلِ ما يتعارض مع هذه المعرفة تأويلًا صحيحًا من جانبٍ آخر. وبعبارةٍ أخرى اهتم الباحثون غالبًا بثمرة فكر ابن رشد ونتيجته دون أن يكتسبوا آليات تفكيره ذاتها. وهذا النهج بعينه هو نهجُنا في التعامل مع الفكر شرقيًّا كان أم غربيًّا، فلا نتعامل معه بوصفه فعاليةً متحركةً دينامية، بقَدْر ما نهتم بالنتائج النفعية المباشرة.
عدم التناقض … واكتساب المعرفة
وسنركِّز تحليلنا هنا على رسالته «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» (تحقيق محمد عمارة، دار المعارف، مصر، ١٩٧٢م) لكي نُحلِّل من خلالها الكيفية التي يتناول بها هذا «الاتصال»، دون أن نقف عند حدود النتيجة ونستثمرها استثمارًا نفعيًّا. والرسالة تلخيص لفلسفة ابن رشد التي لا تسعى إلى إلغاء الحكمة لحساب الشريعة كما توهَّم البعض، ولا لإلغاء الشريعة لحساب الحكمة كما توهَّم آخرون. والأحرى القول إنها فلسفة تؤكِّد عدم التناقض المعبَّر عنه بكلمة اتصال، التي تؤكِّد التمايز والاختلاف في المناهج والأدوات والأساليب، وتؤكِّد في الوقت نفسه التآلف والانسجام. وبعبارةٍ أخرى يذهب ابن رشد إلى أن حاجتنا إلى الشريعة لا تقل عن حاجتنا إلى الحكمة ولا تزيد؛ لأنهما نهجان متمايزان في المعرفة تحتاج إليهما البشرية. وتعليل ذلك يُوجَد في تعدُّد طباع الناس، واختلاف استعدادهم.
إن طباع الناس — فيما يقول ابن رشد — تختلف في قابليَّتها لاكتساب المعرفة؛ فمن الناس من يكتسب المعرفة بالأقاويل البرهانية، وهي الأقاويل الفلسفية؛ أي بآليَّات التفكير النظري التجريدي، ومنهم من لا يقبل عقلُه هذه البراهين، ويكتفي بالأقاويل الجدلية التي يكتسب بها المعرفة، كما يكتسب الفريق الأول معرفته بالبراهين، لكنَّ ثمَّة فريقًا ثالثًا من البشر لا يقبل الأقاويل البرهانية ولا الأقاويل الجدلية، ولا يتسع طبعُه إلا للأقاويل الخطابية (ص٣١). هذا الاختلاف في طبائع البشر لم يُفضِ فقط إلى تعدُّد وسائل اكتساب المعرفة — الأقاويل — بل أفضَى إلى أن تُراعيَ الشرائع السماوية هذا الاختلاف. وهذه نقطةٌ مهمة في خطاب ابن رشد، الذي لا نحتاجُ إلى تأكيدِ أنه يری أن المعرفة اليقينية هي المعرفة البرهانية، في حين أن المعرفة الجدلية معرفةٌ ظنية فقط، ويبقى للمعرفة الخطابية أنها معرفةٌ تخيُّلية.
رغم هذا التفاوت في قيمة المعرفة المنتَجة في كل نمطٍ من الأقاويل، حرَصَت الشرائع السماوية على استخدامها جميعًا، بما هي خطاب للناس جميعًا، وليست خطابًا لفريقٍ من البشر دون فريق؛ لذلك عمَّ التصديقُ بها كلَّ إنسان، كما يقول ابن رشد «إلا من جحدها عنادًا بلسانه، أو لم تتقرَّر عنده طرقُ الدعاء فيها إلى الله تعالى لإغفاله ذلك من نفسه؛ ولذلك خُص عليه الصلاة والسلام بالبعث إلى الأحمر والأسود، أعني لتضمُّن شريعته طرقَ الدعاء إلى الله تعالى، وذلك صريحٌ في قوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (ص٣١). إن تضمُّن الخطاب الإلهي لأنماط الدعوة الثلاثة — الحكمة والموعظة والجدل — يؤكِّد من منظور ابن رشد التسليم بتعدُّد الطباع. ولم يكن للخطاب الإلهي أن يتجاهل هذا التعدُّد، الذي يرتد إلى الطبائع التي خلق الله الناسَ عليها من جهة، وإلى اختلاف المرجعيات الاجتماعية والمعرفية من جهةٍ أخرى. وليس اختلاف الطبائع من منظور ابن رشد مجرَّد اختلافٍ في الاستعداد الفطري الطبيعي، بل لهذا الاختلاف أسبابه في العادات الاجتماعية وفي طبيعة التعليم؛ يقول ابن رشد: «وأما الأشياء التي لخفائها لا تُعلم إلا بالبرهان، فقد تلطَّف الله فيها لعباده الذين لا سبيل لهم إلى البرهان؛ إما من قِبل فِطَرهم، وإما من قِبل عاداتهم، وإما من قِبل عدمهم أسبابَ التعلم، بأن ضرب لهم أمثالها وأشباهها، ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال؛ إذ كانت تلك الأمثال يمكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع، أعني الجدلية والخطابية. وهذا هو السبب في أن انقسَم الشرع إلى ظاهر وباطن؛ فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني، والباطن هو تلك المعاني التي لا تنجلي إلا لأهل البرهان» (ص٤٦).
الشرائع لا تُلغي التعددية
التعددية إذن، تلك القائمة في طباع البشر وفي اختلاف عاداتهم ومرجعياتهم، أمرٌ حرَصَت الشرائع على التعامل معه بوصفه حقيقةً سابقةً عليها. ولم تسعَ الشرائع لإلغاء التعددية أو للقضاء عليها، بدليل أنها انطوت في بنية خطابها — الخطاب الإلهي — على تعدديةٍ مماثلة تجعل الخطاب مفتوحًا لآفاق التأويل والفهم. إن ثنائية الظاهر والباطن التي يتضمَّنها الخطاب الإلهي ليست ثنائية تسعى إلى الإخفاء، كما فهم بعض المتصوفة والباطنية، ولكنها ثنائية التعددية في البشر، والتي تسمح لكل البشر بأن يكونوا مخاطَبين بالخطاب الإلهي. وبعبارةٍ أخرى ليست الشرائع خطابًا موجَّهًا للصفوة التي تمتلك حق احتكار الفهم والتأويل، بل هي خطابٌ للناس جميعًا، تعدَّدَت مستوياته مراعاةً لاختلاف مستويات المخاطَبين.
هذه التعددية المنعكسة في تعدُّد مستويات الخطاب الإلهي، من شأنها أن تُفضيَ إلى تعددية «التأويلات»، لكن هذا شأنه، لو تُرك الأمر بدون ضابطٍ معرفي، أن يشوِّشَ المعرفة الدينية ويُخضعَها للأهواء. ويبدو أن ابن رشدٍ كان حريصًا أشد الحرص على الضوابط المعرفية التي لا تُلغي التعددية، ولا تسعى للقضاء عليها من بابٍ خلفي تحت عناوينَ ويافطاتٍ مضلِّلة. إن السبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هو اختلافُ نظر الناس وتبايُن قرائحهم في التصديق، والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها (ص٣٣-٣٤)، لكن ألا تتعارض «التعددية» مع مفهوم «الإجماع»؟ يورد ابن رشد الاعتراض على الوجه التالي:
إن في الشرع أشياء قد أجمع المسلمون على حملها على ظواهرها، وأشياء على تأويلها، وأشياء اختلفوا فيها، فهل يجوز أن يؤدي البرهان إلى تأويل ما أجمعوا على ظاهره؟ أو ظاهر ما أجمعوا على تأويله؟ (ص٣٤) وبعبارةٍ أخرى: هل يمكن أن يحدُثَ تعارضٌ بين الفهم والتأويل المعتمد على البرهان وبين الإجماع المعرفي؟
في سياق الرد على هذا الاعتراض يبدو ابن رشد حريصًا أشدَّ الحرص على السياج المعرفي — البرهان — بوصفه السياجَ العاصمَ من الزلَل. والإجماع ليس سياجًا معرفيًّا بمستوى السياج البرهاني؛ لأنه ينتمي إلى الظني في الغالب، ولا ينتمي إلى البرهان. قد ينتمي الإجماع إلى مجال البرهان، ويتمتَّع بدرجة المعرفة اليقينية في مجال الشئون العلمية، لكنه في مجال المعرفة النظرية — أو النظريات بلغة ابن رشد — لا يكاد يتجاوز حدود «الظني» والاحتمالي. وبعبارةٍ أخرى لا يرقى الإجماع معرفيًّا لمستوى البرهان، ويظل في حدود الجدلي. بالإضافة إلى ذلك — أي إلى ظنيته — فهو يكاد يكون مستحيل الوقوع؛ لأنه ليس ممكنًا أن يتقرر الإجماع في مسألةٍ ما في عصرٍ ما، إلا بأن يكون ذلك العصر عندنا محصورًا، وأن يكون جميعُ العلماء الموجودين في ذلك العصر معلومين عندنا، أعني معلومًا أشخاصهم ومبلغ عددهم، وأن يُنقل إلينا في المسألة مذهبُ كل واحدٍ منهم فيها نَقْلَ تواتُر. ويكون مع هذا كله قد صحَّ عندنا أن العلماء، الموجودين في ذلك الزمان، متفقون على أنه ليس في الشرع ظاهر وباطن، وأن العلم بكل مسألةٍ يجب ألَّا يُكتمَ عن أحد، وأن الناس طريقُهم واحد في علم الشريعة (ص٣٥). وينتهي ابن رشد إلى أنه لا يمكن أن يتقرَّر في التأويلات التي خصَّ الله العلماء بها إجماعٌ مستفيض، وهذا بيِّن بنفسه عند من أنصف (ص٣٨).
هذا الحرص على التعدد والاختلاف لا ينفي وجود الثوابت المتفق عليها في الشرائع عند ابن رشد. وتتحدد تلك الثوابت في المعارف التي يمكن الوصول إليها بالطرائق الثلاث المذكورة — البرهان والجدل والخطابة — بالدرجة نفسها من الوضوح واليقين. وتتحدَّد هذه الثوابتُ في أصولٍ من أهمها: «الإقرار بالله تبارك وتعالى، وبالنبوات، وبالسعادة الأخروية والشقاء الأخروي. وذلك أن هذه الأصول الثلاثة تؤدي إليها أصنافُ الدلائل الثلاثة التي لا يَعْرى أحدٌ من الناس من وقوع التصديق له من قِبلها بالذي كُلِّف معرفتَه، أعني: الدلائل الخطابية، والجدلية والبرهانية؛ فالجاحد لأمثال هذه الأشياء، إذا كانت أصلًا من أصول الشرع، كافرٌ، معاندٌ بلسانه دون قلبه، أو بغفلة عن التعرُّض إلى معرفة دليلها؛ لأنه إن كان من أهل البرهان، فقد جُعل له سبيل إلى التصديق بها بالبرهان، وإن كان من أهل الجدل فبالجدل، وإن أهل الموعظة فبالموعظة» (٤٥-٤٦)، لكن هذه الأصول لا تتميز بالوضوح الذي لا يحتاج إلى التأويل إلا على مستوى المعرفة الكلية العامة؛ أي المعرفة غير التفصيلية. من هنا يميِّز ابن رشد بين مستوياتٍ ثلاثة في التأويل تتجاوب مع مستويات المعرفة الثلاثة؛ المستوى الأول هو مستوى الخطاب الذي يُفهَمُ على ظاهره بلا تأويل، والمستوى الثاني هو المستوى المختلَف فيه بين من يرَون ضرورة تأويله وبين من يرَون عدم تأويله. والمستوى الثالث هو المستوى الذي يتفق الجميع على ضرورة تأويله لأن حملَه على الظاهر مُحال.
مستويات التأويل … مستويات المعرفة
وفي المستويَين الثاني والثالث يقع الخلاف بین العلماء في التأويل، وذلك بحسب مرتبة كل واحدٍ من معرفة البرهان، أو بسبب غموض الموضوع أو عواصته بلغة ابن رشد — أي لكونه عويصًا — واشتباهه، والمخطئ في هذا معذور، أعني من العلماء (ص٥١). والمثال الذي يوضِّح أن الاختلاف في فهم الأصول اختلافٌ مشروع، أن السعادة الأخروية والشقاء الأخروي من الأمور المقرَّرة الظاهرة في الشريعة؛ أي من الأمور المعلومة بالطرق الثلاث؛ البرهانية والجدلية والخطابية. من هذه الزاوية يرى ابن رشد أن المتأول لهذا الأصل من أصول الشريعة كافر «مثل أن يعتقد أنه لا سعادةَ أخرويةً ها هنا ولا شقاء، وأنه إنما قصد بهذا القول أنْ يسلَم الناس بعضُهم من بعضٍ في أبدانهم وحواسهم، وأنها حيلة، وأنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط» (ص٤٧). ومعنى ذلك أن تأويل الخطاب بهدف إلغائه وإنكار السعادة والشقاء الأخرويَّين هو التأويل المخالف للأصل، وليس كذلك الأمر في تأويل كيفية السعادة وكيفية الشقاء؛ يرى ابن رشد أن هذه المسألة «من الصنف المختلف فيه، وذلك أنَّا نرى قومًا ينسبون أنفسهم إلى البرهان، يقولون: إن الواجب حملُها على ظواهرها إذا كان ليس ها هنا برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها، وهذه طريقة الأشعرية. وفي هذا الصنف أبو حامد (الغزالي) معدودٌ هو وكثيرٌ من المتصوفة، وقومٌ آخرون أيضًا ممن يتعاطى البرهان يتأوَّلونها، وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافًا كثيرًا؛ منهم من يجمع فيها التأويلَين كما فعل ذلك أبو حامد في بعض كتبه.
ويشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذورًا، والمصيب مشكورًا أو مأجورًا، وذلك إذا اعترف بالوجود، وتأوَّل فيها نحوًا من أنحاء التأويل، أعني في صفة المعاد لا في وجوده، إذا كان التأويل لا يؤدي إلى نفي الوجود. وإنما كان جحدُ الوجود في هذا كفرًا؛ لأنه في أصلٍ من أصول الشريعة، وهو مما يقع التصديقُ به بالطرق الثلاث المشتركة للأحمر والأسود» (ص٤٩-٥١).
هكذا تتحدَّد الأصول عند ابن رشد — المجمع عليها دون خلاف — في التي لا يُعذَر أحدٌ بجهالتها، إذا استخدمنا عبارة علماء أصول الفقه. وهذا تحديدٌ ينفي عن الإجماع السلطة المعرفية البرهانية التي أُضفيَت عليه في سياق تاريخنا الفكري والعقلي. الإجماع المعرفي، الذي هو إجماع العلماء، أمرٌ عسير، فضلًا عن أنه ظني وليس برهانيًّا. هكذا يصبح الاختلاف الناتج عن التعدد أمرًا مقررًا مفروغًا منه، وليس قيمة في حاجة إلى إثبات أو اعتراف. وليس تعدد التأويلات واختلاف العلماء في التأويل إلا نتيجةً طبيعيةً لهذا التعدد الطبيعي والاختلاف بين البشر، لكن إذا كانت الشريعة قد استَخدمَت في خطابها الأقاويل الثلاثة، وإذا كان البرهان هو المعرفة اليقينية، فمن الضروري أن يكون البرهان هو أساس التأويل ومعياره؛ لذلك نفهم التفرقة التي أكَّدناها في النص السابق، والتي يضعُها ابن رشدٍ بين من ينسبون أنفسهم إلى البرهان وهم الأشعرية، وبين الفلاسفة ممن يتعاطى البرهان بالفعل.
بين البرهان والشريعة
وللتأويل في خطاب ابن رشد جانبان؛ الأول ضرورة اعتماده على البرهان الذي يحدِّد مرجعية المعنى والدلالة، الثاني: أن يوافقَ قوانينَ اللغة العربية ولا يتعارضَ معها.
يحدِّد ابن رشد الجانبَ الأوَّل على الوجه التالي: الشريعة حق، وهي تدعو إلى معرفة الحق، ومعنى ذلك أن النظر البرهاني لا يمكِن أن يُفضيَ إلى مخالفة الشرع: «فإن الحقَّ لا يُضادُّ الحق، بل يوافقه ويشهد له» (ص٣١-٣٢). وللبرهان في علاقته بالشريعة ثلاثة احتمالات؛ الاحتمال الأول أن يصل البرهان إلى حقائقَ سكت عنها الشرع سكوتًا تامًّا؛ أي حقائق تقع خارج مجال الشريعة والدين. ولا مشكلة إزاء هذا الاحتمال الأول؛ فالفيلسوف هنا — أو صاحب البرهان — يخوضُ في شئونٍ لا دخل للشريعة بها، ومثله في ذلك مثل الفقيه الذي يستنبطُ بالقياس الشرعي حكمَ ما سكت عنه الشرع من الأحكام (ص٣٢). لكنَّ ثمَّة فارقًا مهما يُلِحُّ عليه ابن رشد بين درجة اليقين البرهاني عند الفيلسوف وبين المعرفة الظنية التي يُنتِجها القياس الشرعي عند الفقيه «فإن الفقيه إنما عنده قياسٌ ظني، والعارف عنده قياسٌ يقيني» (ص٣٣). الاحتمال الثاني أن يكون هناك اتفاقٌ بين الحقيقة التي نتوصَّل إليها بالبرهان وبين حقيقة ندركها من ظاهر الخطاب الشرعي؛ أي من ظاهر الدلالة اللغوية دون الحاجة إلى التأويل. ولا مشكلة على الإطلاق إزاء هذا الاحتمال الثاني؛ لأن الاتفاق بين البرهان والخطاب الشرعي اتفاقٌ ملموس. تتركَّز المشكلة إذن في الاحتمال الثالث، وهو أن يقع الاختلاف والتناقض بين الحقائق البرهانية وظاهر الخطاب الشرعي. وحلُّ ذلك الاختلاف لا يكون إلا بالتأويل الذي يعتمد على طبيعة التعدد التي سبق الحديث عنها في الخطاب الإلهي مراعاة لأحوال المخاطبين وتعدُّد مستوياتهم. هذا إلى جانب اعتماده مبدأ «عدم مخالفة الحق للحق»، لكنَّ للتأويل شرطًا مهمًّا هو عدم مخالفة قوانين اللغة العربية، وهو الجانب الثاني من جوانب التأويل، الجانب الذي يمثِّل وجهًا آخر لغويًّا للجانب الأول البرهاني. يقول ابن رشد محررًا معنى التأويل ودلالته من الجانبَين المشار إليهما:
ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يُخلَّ ذلك بعادة لسان العرب في التجوُّز، من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مُقارِنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عدِّدَت في تعريف أصناف الكلام المجازي. وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثيرٍ من الأحكام الشرعية، فكَم بالحريِّ أن يفعل ذلك صاحبُ علم البرهان؛ فإن الفقيه إنما عنده قياسٌ ظني، والعارف عنده قياسٌ يقيني. ونحن نقطع قطعًا أن كل ما أدَّى إليه البرهان، وخالفَه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه القضية لا يشُك فيها مسلم، ولا يرتاب فيها مؤمن، وما أعظمَ ازديادَ اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجرَّبه، وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول (ص٣٢-٣٣).
وإذا كان التأويل يُستَمد من مرجعية البرهان من جهة، ومن قوانين الكلام من جهةٍ أخرى، فإن درجات الناس في العلم بالجهتَين متفاوتة، وهذا هو الذي يجعل عملية الإجماع صعبة، بل مستحيلة. ومعنى ذلك أن الاختلاف والتعدُّد يظلَّان قائمَين رغم بذل الوسع في الوصول إلى الحقائق البرهانية اليقينية من جهة، وفي فهم قوانين اللغة التي هي أساس التأويل من جهةٍ أخرى. هكذا يفهم ابن رشد من الآية السابعة في سورة آل عمران أن قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا: إن «الراسخون في العلم» معطوف على اسم الجلالة وإنهم يعلمون التأويل. وهو بهذا الفهم يعارض قراءةً أخرى للآية يقف أصحابها عند اسم الجلالة على أساس أنه نهاية الجملة، ويرَون أن «والراسخون في العلم» بدايةُ جملةٍ جديدة؛ يقول ابن رشد جامعًا أطراف القضية كلها:
«وقد تبيَّن من قولنا أنه ليس يمكن أن يتقرَّر إجماعٌ في أمثال هذه المسائل، لما رُوي عن كثيرٍ من السلف الأول، فضلًا عن غيرهم، أن ها هنا تأويلاتٍ يجب ألا نُفصحَ بها إلا لمن هو من أهل التأويل، وهم الراسخون في العلم؛ لأن الاختيار هو الوقوف على قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ؛ لأنه إذا لم يكن أهل العلم يعلمون التأويل، لم يكن عندهم مزيَّة تصديقٍ توجب لهم من الإيمان به ما لا يُوجَد عند غير أهل العلم. وقد وصفَهم الله تعالى بأنهم المؤمنون به، وهذا إنما يُحمل على الإيمان الذي يكون من قِبل البرهان، وهذا لا يكون إلا مع العلم بالتأويل، فإن غير أهل العلم من المؤمنين هم من أهل الإيمان به لا من قِبل البرهان، فإن كان هذا الإيمان الذي وصَف الله به العلماء خاصًّا بهم، فيجب أن بهم، يكونَ بالبرهان، وإن كان بالبرهان فلا يكونُ إلا مع العلم بالتأويل؛ لأن الله عز وجل قد أخبر أن لها تأويلًا هو الحقيقة، والبرهان لا يكون إلا على الحقيقة. وإذا كان ذلك كذلك، فلا يمكن أن يتقرَّر في التأويلات، التي خصَّ الله العلماء بها، إجماعٌ مستفيض، وهذا بيِّن بنفسه عند من أنصَف» (ص٣٧-٣٨).
لكن ابن رشد الداعي للتعددية والحريص عليها، المؤمن بحق الاختلاف، الذي يجعل من التأويل الصلة الجامعة بين البرهان والشريعة، كان يُنتِج خطابه في سياقٍ ثقافيٍّ حضاريٍّ مُؤذِنٍ بالأفول. وقد كانت محاولات ابن عربي للجمع والتوفيق بين فِرق الأمة وفصائلها، بل بين الأمة وغيرها من الأمم، في منظومةٍ فكريةٍ تأويليةٍ واسعة هي خاتمة المطاف في ثقافة التعدُّد وحضارة الاختلاف. وكان أبو حامد الغزالي قد سبقَهما في القرن الخامس الهجري — الحادي عشر الميلادي — في سبيل مشابه، ولكن نحو غايةٍ مغايرة؛ إلغاء العقل والبرهان لحساب النقل والسماع، وإن كان قد فعل ذلك بآليات البرهان ذاته. كان الغزالي قد وجَّه هجومه الحادَّ والقاسي، والذي كان أشبه بالضربة القاضية في «تهافُت الفلاسفة»؛ حيث لجأ إلى تكفير الفلاسفة في مجموعةٍ من القضايا والأفكار. ورغم أن ابن رشد حاول أن يكشفَ تهافُت التهافُت، ويستعيدَ للبرهان مكانتَه في مرجعية التأويل، فإنه لم يسلَم هو نفسه من علامات التراجع التي كانت واضحةً في الثقافة التي ينتمي إليها.
هذا الانحياز للبرهان وللتعددية والاختلاف حتى على مستوى التأويل هو ما يدعونا اليوم لاستدعاء عقلنا المنفى ابن رشد، لحاجتنا إليه في ظروف واقعنا المأزوم الأصعدة. ولكن ونحن نستدعي ابن رشد، لا بد أن نُضيفَ إليه ما حقَّقَته البشرية من إنجازات المساواة بين البشر، وفي مجال حقوق الإنسان. ومن أهم تلك الحقوق حق المعرفة والتعلُّم واكتساب اليقين. إن البرهان الذي انحاز له ابن رشد، والتعددية والاختلاف اللذَين حرَص عليهما، كان بمثابة الأساس للإنجاز الإنساني في مجال حقوق الإنسان.
من هنا فنحن حين نختلف مع حرصِ ابن رشد على التمايز والفصل بين المستويات، إنما نختلف معه ونحن على الأرض التي ساهم في إخصابها بثمار عقله. وقد يصحُّ أن نقول في هذه الحالة: إنها بضاعتُنا رُدَّت إلينا، ولكن بشرط أن نفهم أنها البضاعة التي أضاف إليها الآخرون وبلوَروها باستثمار أكثر جوانبها إشراقًا وإيجابية.
وهذا الموقف شبيهٌ إلى حدٍّ كبير بما يُروى عن الخليفة العباسي المأمون، الذي كان في صفِّ الفكر الاعتزالي إلى حدِّ «التعصب»، ومحاولة فرضه بقوة السيف، خاصةً فيما يتصل بقضية «خلق القرآن»؛ هذا بالإضافة إلى حماس المأمون لتشجيع ترجمة كتب أرسطو، لكن النظام السياسي في سياق صراعاته الأيديولوجية يعود ليتنكَّر للفكر الذي سبق له تشجيعُه وتبنِّيه. ويكفي، إشارةً إلى تكرار الموقف في تاريخنا الثقافي الحديث، تذكُّر موقف النظام السياسي من رفاعة الطهطاوي، فهل نتعلَّم من دروس التاريخ أم سيظل المفكِّر، والمثقَّف، واقعَين هكذا بين «الرضا» السياسي الذي يمنحُهما بعض «السلطة»، ثم ينزعها عنهما مُلقيًا بهما في «منفى» الغضب؟ (ناقشنا هذه القضية بالتفصيل في كتاب «النص، السلطة، الحقيقة»، بيروت والدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط١، ١٩٩٥م، «التمهيد»، ص١٣–٦٥).
والذي ينحلُّ به الشك عندنا هو أن يُعرف أن الحال في العلم القديم مع الموجود خلاف الحال في العلم المحدَث مع الموجود، وذلك أن وجود الموجود هو علَّةٌ وسببٌ لعلمنا. والعلم القديم هو علةٌ وسببٌ للموجود؛ فلو كان إذا وُجد الموجود بعد أن لم يُوجد، حدث في العلم القديم علمٌ زائد، كما يحدث ذلك في العلم المحدَث، للزم أن يكون العلم القديم معلولًا للموجود لا علَّة له، فإذا واجبٌ ألَّا يحدُث هناك تغيُّر كما يحدُث في العلم المحدَث. وإنما أتى هذا الغلط من قياس العلم القديم على العلم المحدَث، وهو قياس الغائب على الشاهد. وقد عُرف فسادُ هذا القياس. وكما أنه لا يحدث في الفاعل تغيُّر عند وجود مفعوله — أعني تغيُّرًا لم يكن قبل ذلك — كذلك لا يُحدث في العلم القديم سبحانه تغيُّرًا عند حدوث معلومه عنه (ص٩٠-٩١).