الفصل الثاني

زكي نجيب محمود رمز التنوير

(I) كتاب «حصاد السنين»

وأسئلة التنوير المكبوتة

أن أحسن تكريم نقدمه لمفكِّر هو قراءة فكره قراءةً نقدية، قراءة تستنبط الجوهري والثابت، وتفصل بينه وبين المؤقَّت اللحظي، ولأن راحلنا العظيم زكي نجيب محمود واحدٌ من أهم التنويريين، فهو الحلقة الوسطى بين جيل الروَّاد وبين جيل المحدَثين، يجب علينا اليوم أن نقدِّم الخطوط الرئيسية لمشروع قراءته، والسؤال الذي يشغل ذهن هذه القراءة هو السؤال نفسه الذي شغل زكي نجيب محمود في كتاباته كلها، وربما يكمُن الفارق في طبيعة تحليل عناصر السؤال؛ الأمر الذي يُفضي إلى خلافٍ في الإجابة عن السؤال.

رغم أنه غنيٌّ عن التعريف، فقد شاء أن يتقدَّم لنا بسيرته العلمية — ولا نقول الذاتية — ربما لكي يؤكِّد لنا مجددًا أن التنوير، الذي أخلَص له حياتَه كلها منذ كان طالبًا حتى لفَظ أنفاسه الأخيرة ما زال في حاجة إلى دماءٍ جديدة وعقولٍ تُواصِل المسيرة.

يقدِّم لنا زكي نجيب محمود كتابه «حصاد السنين» بوصفه شهادةً على الحياة المصرية الثقافية من منظور مواطنٍ مصريٍّ عربي، «شاءت له فطرتُه أن يجعل من تحصيل العلم وكسب الثقافة مهنتَه.» وهي شهادةٌ تمتد من أواخر العشرينيات من هذا القرن حتى لحظة صدور الكتاب، فتستوعب ثلاثة أرباع هذا القرن بكل ما اشتمل عليه من أحداثٍ وتغيُّرات على المستويَين المحلي والعالمي على السواء. وهذه الفترة تجسِّد حياة الكاتب العقلية، وتطوُّره الفكري في أربعِ مراحلَ كبرى هي: مرحلة التعرُّف على الحياة الفكرية والثقافية، ومحاولة الاندماج فيها، وهي المرحلة التي استغرقَت أواخر العشرينيات والثلاثينيات من القرن. والمرحلة الثانية هي مرحلة الارتحال إلى الغرب في بعثة دراسية إلى إنجلترا لمدة أربع سنوات، تعرَّف من خلالها على الآخر الغربي، الذي كشف ﻟ «الأنا» عن تخلُّفها، وحدَّد لها من ثَم منظور رؤية ذلك التخلف. وفي هذه الرحلة أيضًا أمكَن لمفكرنا أن يری ثقافته من بعيد، وأن يرصُد من ثَم إيجابياتها وسلبياتها. والمرحلة الثالثة هي مرحلة الانخراط في الحياة الثقافية والفكرية خلال عقدَي الخمسينيات والستينيات؛ حيث أسهم زكي نجيب محمود في عضوية العديد من اللجان الثقافية والفنية، بالإضافة إلى رئاسته تحرير مجلة «الفكر المعاصر»، ودوره أستاذًا للفلسفة بكلية الآداب.

وتتجمَّع الخيوط الناتجة عن تلك المراحل الأربع في منظومةٍ فكريةٍ موحَّدة، أو «رؤيةٍ موحَّدة»، كما يُطلِق عليها الكاتب، تمثِّل محور كتاباته الأخيرة، والتي دأَب على نشرها تباعًا في جريدة الأهرام. وإذا كان الكاتب يقدِّم لنا كتابه هذا بوصفه «تغريدة البجعة»، فإن المعنى المزدوج للتغريدة — معنى الألم لإحساس البجعة باقتراب الموت، وما يلزم عنه من متعة ونشوة من جانب البشر في تلقِّيهم لتلك التغريدة — ماثلٌ في بنية الكتاب ذاته، ماثل في ذلك الصُّراخ، الذي يصل إلى حد اليأس أحيانًا، من حالة التردي والتخلُّف اللذَين تعاني منهما كل المجتمعات العربية. أما المتعة والنشوة فهما ما يأمل مفكِّرنا أن يغرسَهما فينا، خاصةً بعد أن وصف لنا الداء وأشار إلى الدواء. إننا نرفض وبإصرارٍ دلالة «الموت» المتضمَّنة في تغريدة البجعة تلك، لا لأن الموت في حد ذاته شيءٌ كريه، خاصةً أنه ماثلٌ في أفقَي حياتنا الفكرية والثقافية، يختطف رموزها واحدًا بعد الآخر، بل لأننا لا نتفقُ مع كثيرٍ من البكَّائين المتشكِّكين في خصوبة رحم هذه الأمة.

والسؤال الذي يجب أن نطرحه ونحن نقرأ «حصاد السنين»: ما الذي جعل «حصاد التنوير» فقيرًا إلى هذا الحد؟ والإجابة عن هذا يجب أن نبحثَ عنها في طبيعة الخطاب التنويري ذاته، بكل ما يتضمَّنه هذا الخطاب من عناصر الإيجاب ومن عناصر السلب. والأهم من ذلك كله أن نبحثَ في الخطاب التنويري عن الأسئلة المضمَرة والمكبوتة، بل والمقهورة إلى حدِّ التحريم. ودون البحث عن هذه الأسئلة من أجل إزاحة القهر والتحريم عنها، سيظل خطاب التنوير رهينَ قُضبانِ اللحظة التاريخية الأولى التي أنتجَته وحاصرَته في الوقت ذاته. لقد كان الخطاب التنويري في صيغته التي قابلها المؤلِّف في مُستهَل حياته مجرَّد صدًى للفكر الأوروبي الذي أمكَن له تلخيصه في بُعدَين؛ الإيمان بقيمة الحرية والمطالبة بها على مستوى الشعوب والأفراد، وفهم الحياة الاجتماعية والطبيعية على أساس أن «التطوُّر» جوهرها. كان مطلب «الحرية» مطلبًا أساسيًّا في الحياة المصرية، أما فكرة «التطوُّر»، فلم يعرف منها معظَم المثقفَّين: «إلا الصورة البيولوجية التي تُنسَب إلى «داروين» في كتابه «أصل الأنواع» وانعكاساتها التطبيقية على كثيرٍ من جوانب الحياة الاجتماعية، كما أوضحها بصفةٍ خاصةٍ هربرت سبنسر.»

واستمر الخطاب التنويري يكتسب أرضًا جديدة، ويعمِّق جذوره في التربة الثقافية المصرية على يد كلٍّ من «أحمد لطفي السيد بما نادى به من وجوب الحرية الفردية المسئولة، رجلًا كان ذلك الفرد أم امرأة، وطه حسين بما عمل على إشاعته في النفوس من إزاحة التقديس عن حقائق التاريخ … وعباس محمود العقاد بمجموعة دواوينه الشعرية إنما قدَّم للناس تطبيقًا مجسدًا للفردية المستقلة الحرة التي اضطلَع لطفي السيد بالدعوة إليها في مجال السياسة.» ومع ذلك فلم يكن خطابُ التنوير صدًى سلبيًّا لما تُنتِجه أوروبا من أفكار، بل كان كثيرًا ما يجد نفسه في علاقة تضاد مع بعض أطروحات المفكِّر الغربي عن الإسلام والمسلمين؛ أي إن انعكاس ضوء التنوير على مرآتنا كان كثيرًا ما يثور على الأصل ويتجاوزه، خاصة إذا تعارَضَ مع ركائز ثقافتنا «ومن هنا رأينا بين روَّادنا من شغل نفسه بالردِّ الرافض لما يُكتب عبْر البحر أو يُقال، على غِرارِ ما فعل الأفغاني في «الرد في الدهريين» والشيخ محمد عبده في الرد على «هانوتو» و«رينان» والعقاد في الرد على كثير مما قاله مستشرقون كتبوا عن الإسلام والمسلمين.»

ولم يكن الخطاب التنويري محاصرًا بتناقُضه مع بعض أطروحات نموذجه الغربي فحسب، بل كان محاصَرًا بالدرجة الأولى بنقيضه السلفي الذي يرى في أوروبا، وفي كل ما يأتي من جهتها، قضاءً على الذات وانتهاكًا للأصالة، لا يستثني ذلك إلا الناتج التكنولوجي المُيَسِّر لشئون الحياة اليومية. وهكذا يدرك مؤلِّفنا أن «أزمة العقل» هي المسئولة عن عثَرات التنوير في بلادنا، ذلك أن: «الموقف العام في بلادنا تسودُه نظرةٌ لا علمية على نحوٍ لا يدع مجالًا للشك، خصوصًا إذا رأينا حقيقة الموقف من وجهة نظر الجمهور … إنه لا عَجبَ أن تعَرَّض العقل ويتعرَّض في حياتنا لأزماتٍ لا تنتهي؛ فللرأي العام عندنا قوةٌ ضاغطة، لا يجرؤ على عصيانها علنًا إلا مغامر، وهو رأيٌ عامٌّ تسوده اللاعلمية كما أسلفنا.»

إن الحديث عن أزمة العقل وربطها بانعدام التفكير العلمي، خاصةً عند الجماهير، يشير إشارةً ضمنية إلى أحداثٍ وقعَت للمؤلف نفسه، حين اصطدم بالخطاب الديني السلفي ممثلًا في قطبٍ من أبرز أقطابه، هو الشيخ محمد متولي الشعراوي، وذلك في تعليقه على ما يُعرف بحديث الذبابة، التي في أحد جناحَيها الداء وفي الآخر الدواء. لقد استطاع الشيخ أن يؤلِّب «العامة» على فيلسوفنا، كما ألَّبَهُم، في مناسبةٍ أخرى، على «توفيق الحكيم» حين بدأ ينشُر سلسلةً في «الأهرام» بعنوان «حديث مع الله». وإذا كنا نختلف مع توصيفِ المؤلِّف لظاهرة تأليب العامة بأنها «رأيٌ عام»، فإن هذا لا ينفي دلالةَ الوقائعِ التي يَستشهِد بها. ولأمرٍ ما — لعله إيثار السلامة — لم يذكُر زكي نجيب محمود هذا الصدام، واكتفى، في سياقٍ آخر، بالإشارة إلى ما عاناه هو شخصيًّا من هجومٍ بسبب دعوته المستمرَّة إلى «الوضوح». ورغم تفرقته الدائمة بين مجالات المعرفة، وتمييزه بين أنماط الخطاب العلمي والديني والأدبي، ورغم أنه يجعل مطلب «الوضوح» مقصورًا على الخطاب العلمي، فإن هذا لم يمنع المهاجمين من اتهامه بالتنكُّر للدين وللأخلاق. والحقيقة أن الاتهام بالتنكُّر للأخلاق لم يكن عند صاحبنا بذي خطر.

أزمة مثقَّفين أم أزمة ثقافة؟

هذا الهجوم الدائم على العقل يفسِّر لنا ظاهرة الانسحاب السريع، الذي يصل إلى حدِّ الاستسلام والاعتراف بالهزيمة، وهذا الانسحاب والركون إلى التقيَّة أمرٌ متكرِّر، عدا استثناءاتٍ قليلة، في علاقة الخطاب التنويري بنقيضه السلفي، وهذا ما يؤكد «أزمة العقل» في واقعنا الثقافي، لكن أزمة العقل هذه ظاهرةٌ تحتاج إلى التفسير، ولا بد من الغوص في تاريخنا الثقافي بحثًا هذا التفسير، ومع ذلك فقراءة زكي نجيب محمود لتراثنا الفكري والديني — في المرحلة الثالثة من سيرته العلمية — كشفَت له أن «العقل» دعامةٌ أساسية من دعائم بنائنا الثقافي، بل هو المقابلة لدعامة الدين، الذي يمثِّل البُعد الوجداني. وإذا كان الأمر كذلك، فإن «أزمة العقل»، في الواقع الثقافي تحتاج إلى تفسيرٍ آخر، ويبدو أن فيلسوفَنا يجد هذا التفسير الآخر في «ازدواجية المثقَّف» أو مفكِّر التنوير.

لكن ازدواجية المثقَّف، كما تتجلى في التناقُض بين فكره وسلوكه، تمثِّل هي الأخرى ظاهرةً تحتاج للتفسير، بل الأَولى القول بأنها أحد تجلِّيات أزمة العقل على مستوى الصفوة. ومعنى ذلك أننا ما نزال في إطار وصف الظاهرة، ولم نتحرك خطوةً واحدة نحو تفسيرها، وهي ظاهرةٌ تتفاقم بشكلٍ ملحوظٍ في كل أنماط الخطاب. ولعل ما حدث في ندوة «نحو علم كلام جديد» — الندوة التي أقامتها الجمعية الفلسفية المصرية في جامعة الأزهر في الفترة من ١٥–١٧ يناير ١٩٩١م — من اغتيالٍ للعقل، وتسفيه لأي اجتهادٍ في قراءة التراث وتأويله، لعل تلك الندوة تمثِّل مؤشرًا كاشفًا لحالة التردِّي الفكري التي يعانيها واقعُنا الثقافي. ولقد تعرَّض فيلسوفنا لهجومٍ ظلاميٍّ عاتٍ في الجلسة الافتتاحية لتلك الندوة، لمجرَّد أنه أكَّد حاجتنا إلى الاطلاع على الثقافة الأوروبية الحديثة. ليس ثمَّة خلافٌ إذن في توصيف الأزمة، إنما يتركَّز الخلاف على تفسيرها. والميل إلى تبرئة تاريخنا الثقافي والفكري من مسئولية الأزمة — كما هو الحال في قراءة زكي نجيب محمود للتراث — ميلٌ يمثِّل هو الآخر أيضًا وجهًا من وجوه أزمة الخطاب التنويري ذاته، وبخاصةٍ إذا كان الحديث عن التراث الديني. يبدو الخطابُ التنويري شديدَ الجرأة في تحليل الواقع الثقافي وتشريحه، لكن تلك الجرأة تتحوَّل إلى نوع من «التبرير»، الذي يصل إلى حد «التحسين» عندما يتصل بالتراث الديني. كان طه حسين جريئًا شديد الجرأة في نقد الواقع الثقافي، بل وفي نقد تاريخنا السياسي والأدبي، لكنه كان يقتربُ من التراث الفكري الديني على استحياء. وسرعان ما تراجَع عن بعض مقولاته الفكرية، وحذفَها في الطبعة الثانية من كتابه «في الشعر الجاهلي» بعد تغيير العنوان. وهو نفسُ ما قام به زكي نجيب محمود حين غيَّر عنوان كتابه من «خرافة الميتافيزيقا» إلى «الموقف من الميتافيزيقا». ولأن مشروع علي عبد الرازق في «الإسلام وأصول الحكم» كان نقدًا مباشرًا للتراث الديني، فقد تم إسكات صوت الرجل إسكاتًا شبه نهائي. والمشكلات التي تثور بين الحين والآخر حول تلك الرواية — («أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ مثلًا) — أو تلك الأغنية أو هذا العرض المسرحي أو السينمائي، ناهيك عن المطالبة ﺑ «أسلمة» الآداب والفنون — بل والعلوم — تؤكِّد أن خطاب التنوير فشل في إحداث التنوير. وأحد أسباب هذا الفشَل يرتدُّ إلى عجزه عن إحداث وعيٍ علميٍّ حقيقي بالتراث الديني خصوصًا، وعيٍ ينقل الثقافة، كما ينقل المواطن الفرد، من حالةٍ إلى حالةٍ أخرى.

التنوير: نقلًا عن أوروبا أم نقدًا للتراث؟

وليس معنى نقدنا للخطاب التنويري تحميله — وحدَه فقط — مسئولية الإخفاق في إحداث التنوير المطلوب؛ ذلك أن «الخطاب» وحده، أيًّا كانت درجة الوعي المُعبر عنها وحِدَّته وإرهافه، ليس مسئولًا عن إحداث التغيير، الذي هو فاعليةٌ شاملة تُساهِم فيها كلُّ عناصر الوجود الاجتماعي ومحرِّكاته. نقدُنا هنا ينصَبُّ على الخطاب بما هو موضوع تحليلنا ونقاشنا؛ فلا بد بالتالي من البحث عن عوامل الإخفاق في بنية الخطاب ذاته، دون تقليلٍ من شأن العوامل الأخرى التي لا تَعْنينا هنا. وما طرحناه حتى الآن هو الموقفُ التبريري لخطاب التنوير من التراث الديني بشكلٍ خاص، وهو الموقف الذي حوَّل هذا التراث إلى منطقةٍ «محرَّمة» تتأبَّى على آليات التحليل العلمي، ويُكتفى بالقول إنها أُدخلَت في دائرة «الوجدان» والشعور، كما يذهب زكي نجيب محمود. وإذا كنا فيما سبق قد بيَّنَّا أثر الخطاب السلفي النقيض في إحداث بعض خطوات التراجع في بنية الخطاب التنويري، فإن السِّجال الأيديولوجي بين الخطابَين لا يمثِّل كل القصة؛ فعلاقة الخطاب التنويري العربي بمثيله الأوروبي يمثِّل بُعدها الآخر.

وإذ وقع الخطاب التنويري بين سِنْدان نقيضه السلفي ومِطرَقة الخطاب الاستشراقي، أصبح الدفاع عن التراث الديني — لا نقده أو تحقيق وعيٍ علمي بدلالته — إحدى مهامه. هكذا دافع محمد عبده عن العقيدة في «رسالة التوحيد»، جامعًا بين المفهوم الاعتزالي «للعدل» والمفهوم الأشعري «للصفات»، دون أدنى إحساسٍ بتعارُض المفهومَين. وحين يتخلَّى المفكِّر التنويري عن موقف «الدفاع»، يظل في خانة «التبرير» تعبيرًا عن عجزه عن «النقد». وإذا كان قد تم اختزال الأنا في «العقيدة»، وما يرتبط بها من «تراث»، فقد كان من الطبيعي والمنطقي أن يُختزل الآخر — أوروبا — في «العلم»، وما يرتبط به من تكنولوجيا، ويصبح السؤال: كيف حقَّقَت أوروبا تلك النقلة الهائلة من ظلام عصورها الوسطى إلى نور التقدم سؤالًا مُضمَرًا مكبوتًا هو الآخر؛ ذلك أن الإجابة الحقيقية عنه — والمتمثلة فيما أحدَثه الفكر التنويري هناك من نقدٍ للتراث والعقائد — تكشف لخطابنا التنويري عن مكامن العجز والقصور في بنيته.

مشروع النهضة: الأصالة والمعاصرة

يفخَر كاتبنا — على طول الكتاب — بأنه كان من أوائل الذين تنبَّهوا لأهمية هذه القضية، بل يؤكِّد أنه الوحيد الذي رأى في حلها حلًّا لإشكالية النهضة. والغريب أن أحدًا ممن أثاروا تلك القضية لم يتنبه إلى اعتمادها ثنائيةً رئيسية، يمكن أن تنحلَّ إلى ثنائياتٍ لا تنتهي ولا تُحل؛ إذ يفترض مفهوم «الأصالة» هُويةً ذاتيةً تمتد في الماضي موغلةً فيه، وهي الهُوية التي حددها فيلسوفنا في محور «الثقافة» بأبعادها الثلاثة: الدين، والفنون والآداب، والأعراف والتقاليد. أما جانب المعاصرة، فيرتبط ارتباطًا وثيقًا ببُعد «العلم»، الذي أبدعَتْه أوروبا في الأساس. وهكذا تنحلُّ ثنائية «الأصالة والمعاصرة» إلى ثنائيةٍ أخرى هي ثنائية «العلم والثقافة»، وإذا كانت هُويتنا التاريخية تتحدد «بالأصالة/الثقافة»، فإن نهضتَنا وتقدُّمَنا لن يتحقَّقا إلا بإضافة — لاحظ هنا مفهوم الجمع الرياضي — جانب المعاصرة/العلم إليها. هكذا نُكرر أو نُعيد ما توهَّمنا أن أوروبا قد حقَّقَت نهضتَها به، ويظل السؤال الأساسي عن سر الأزمة سؤالًا مكبوتًا محبطًا، ويظل الحديث عن تأويل العقائد أو نقد التراث — وهو ما حقَّقه الغرب في سعيه لتجاوُز العصور الوسطى — حديثًا محرمًا.

هذه الإضافة بالجمع الرياضي لا تعني تحولًا كيفيًّا، وغاية ما تؤدي إليه هو التراكم الكمي المؤدي إلى ازدواج الوعي، وعي الفرد والأمة على السواء؛ حيث يحيا العقل ويفكِّر طبقًا للقيم والأعراف والتقاليد الموروثة، بينما يحيا الجسد في العصر متمتعًا بكل ما أنتجه العلم، دون أن يكون له دورٌ مشارك في إنتاجه. والأمر بالنسبة للصفوة لا يختلف إلا في أنهم يمكن أن يفكِّروا بطريقةٍ عصرية، بينما تتحرك مشاعرهم وعواطفهم ورغباتهم وفقًا للموروث الثقافي. وحين يتعارض الجانبان — الأصالة والمعاصرة، أو لنقل العلم والثقافة، أو جانب الفكر وجانب الوجدان، أو ما شئتَ من ثنائياتٍ متفرعة — يكون «التلفيق» بينهما هو الحل، وهو تلفيقٌ يجنح في الغالب إلى جانب التراث/الأصالة، فإذا حدث تناقض بين نتائج العلم وبعض النصوص الدينية: «كما حدث مثلًا عندنا وعند غيرنا من أصحاب الديانات الأخرى» حيال النظرية الداروينية في تطور الحيوان تطورًا جعل الإنسان حلقة أخيرة من حلقات السلسلة، بينما يرِد في النص القرآني الكريم — وكذلك في التوراة والإنجيل — ما يدُل على أن كل كائنٍ حي بصفةٍ عامة، والإنسان بصفةٍ خاصة، قد خُلق على نحوِ ما خُلق منذ لحظة خلقه بأمرٍ إلهي قُضي له بأن يكونَ فكَان.

الحصاد الحقيقي ما هو؟

يتجلى ضعف فكر النهضة التنويري على مستوياتٍ عديدة، تلتقي كلها في البحث عن حلولٍ وسطى لكل المتناقضات التي يزخر بها الواقع الاجتماعي والثقافي من جهة، وفي البحث عن «مبدأ واحد» يُعد بمثابة «العِلة الأولى» أو «عِلة العِلل» لتفسير أي تعددية فكرية كانت أم اجتماعية سياسية، من جهة أخرى. وإذا كان رد الفروع إلى أصولها والبحث عن مبدأ واحد يفسِّرها يُعد — من منظور زكي نجيب محمود — المهمة الجوهرية للفلسفة، فإن البحث عن حلولٍ وسطى لكل التناقضات التي يزخر بها الواقع الاجتماعي والثقافي يعكس موقفًا يلوذ بالسلامة، ولو على حساب التواطؤ الفكري والعقلي. وكلا النمطَين من البحث ينتهي في التحليل الأخير إلى وضع «الغَلَّة» كلها في حقل الخطاب الديني السلفي.

لكنَّ هناك فروقًا لا بد من الإشارة إليها والإشادة بها، ولو كانت فروقًا جزئية؛ لأن تلك الفروق هي التي تمكِّننا اليوم من نقد خطاب التنوير نقدًا يستهدف تجاوُزه لتأسيس خطابٍ تنويري لا يتجاهل الأسئلة المكبوتة والمحرَّمة، خطابٍ لا يخشى المغامرة، فينقل تلك الأسئلة من مستوى الكبت والتحريم إلى مستوى الإفصاح والعلَن، نازعًا عنها قِناع التحريم ومسلطًا عليها ضوء العقل. ولعل أهم تلك الفروق هو الحرص الدائم على طرح إشكالية «المنهج»، بوصفها الإشكالية التي تميِّز العقل «المتسائل» من العقل «المُذعِن» من جهة، كما أنها تميِّز العقل القادر على إنتاج المعرفة من ذلك «القابل» للمعلومات لحفظها وتكرارها، من جهةٍ أخرى. تلك إشكاليةٌ طرحها التنويريون جميعًا.

الفرق الثاني — ويرتبط بإشكالية المنهج ارتباطًا وثيقًا — هو التشديد الدائم على ضرورة وضوح الأفكار في ذهن المتعاملين بها، وهو الوضوح الذي يجب أن يتجلى على مستوى التعبير عن الفكرة انطلاقًا مبدأ أن «اللغة هي الفكر». ولولا استثناء التراث الديني من هذا الشرط، تأسيسًا على أنه ينتمي لمجال «الوجدان» والشعور، لأمكن لهذا المبدأ أن ينقل الخطاب التنويري إلى مرحلةٍ أخرى. إن تحليل اللغة، وصولًا إلى تحليل الفكر، هو الذي قادنا إلى مفهوم «تحليل الخطاب»، والفارق بين المفهومَين أن الأخير لا يفرِّق بين خطابٍ وخطابٍ بناءً على اختلاف قنوات الإدراك عند الإنسان إلى عقلي ووجداني؛ ذلك أن «الإنسان» وحدةٌ واحدة، مهما تعدَّدَت قنواتُ الإدراك والتعبير؛ لذلك لا يستبعد نهج «تحليل الخطاب» من مجال فاعليته أيَّ نمطٍ من أنماط الخطاب.

ولعل من أهم إنجازات خطاب التنوير، المميِّزة له عن الخطاب السلفي، نظرته الديناميكية للماضي والتراث؛ فرغم أنه يضعه — على سبيل التقيَّة ربما — في خانة «الوجدان» والشعور، التي لا تخضع لآليات التحليل العلمي ومنهجه، فإنه يفرِّق في التراث بين «المعقول واللامعقول». والأهم من ذلك أنه يقف في صف «المعقول»، على عكس الخطاب الديني السلفي الذي لا يكتفي بالوقوف في صف «اللامعقول»، بل يُعيد إنتاجه في ثقافتنا وواقعنا. هذا الانحياز للمعقول يمهِّد الأرض لتأصيل «تاريخية التراث الديني»، ومن شأن إدراك هذه التاريخية أن يؤدِّيَ في نهاية الشوط إلى طرح كل الأسئلة الممكنة، بلا خوف، ولا تردُّد، ولا تواطُئية تبريرية. إنها ممارسة «الحرية»، على مستوى الفكر والقول والفعل، الحرية التي اعتبرَها التنويريون صرخةَ العصر، وشارةَ إنسانه وشعوبه التي تسعى لقهر «الضرورة» على مستوى العلم بفهم قوانين الطبيعة والمجتمع، والحرية كما تتجلى في تعبيره الجميل عن أحلامه وأشواقه. إن ممارسة هذه الحرية في نقد التراث تُعَد شرطًا ضروريًّا في مشروع النهضة، سعيًا لتغيير بنية العقل من حالة «الإذعان» و«التقبُّل السلبي» إلى حالة «التساؤل» و«إنتاج المعرفة».

وهل للتنوير معنًى دون هذا الشرط الجوهري؟ ولكن ما هو السؤال المحوري الشاغل لخطاب التنوير كما يصوغه مفكِّرنا وكاتبنا؟

ثمَّة نصٌّ مهمٌّ في كتابه، «تجديد الفكر العربي»، يمكِن أن يلخِّص لنا السؤال ويُحيل إلى طبيعة الإجابة، يقع هذا النص في مُفتتَح الفصل الرابع بعنوان: «غربة الروح بين أهلها» وهو عنوانٌ لا تخفى دلالته على معاناة الأزمة؛ فالخطاب يعرض لنا أزمته بنفسه؛ يقول زكي نجيب محمود (ص٩٧–٩٩):

«يُخيَّل إليَّ أن الكاتب العربي المعاصر — وسنفترض فيه أمانةَ الأداء وصدقَ العبارة — محتومٌ عليه أن يقع بين نارَين، لا يدري كيف ينجو بنفسه منهما؛ فهو إذا نظر إلى أمام، وجد ثقافةً تعصف عليه أعاصيرها من الغرب، بكُل ما تحمله من علوم وفنون وآداب ونظمٍ سياسية وتياراتٍ فلسفية، فيُحِس وكأنه الغريب الذي يبسط الكفَّين ابتغاء الصدقة؛ لأنه لا يملك من ذاته شيئًا يتبلَّغ به — ذلك إن قبلها — فإن أخذَته الكبرياء الرافضة، وأشاح بوجهه عن زادٍ لم يكن له فضلٌ في إنباته وإنضاجه وإعداده، لم يجد أمامه عندئذٍ إلا أن يَلويَ عنقه إلى الوراء ليأخذ زاده من مخلاة آبائه؛ فمثل هذا الزاد — مهما يكن فيه من شظف — فهو نباتُ أرضه وعبيرُ زهره، يكفيه ذُل الصَّغار الذي يُعانيه حين يتسوَّل في أسواق الآخرين، لكن الكاتب العربي المعاصر، لا يكاد يفتح خزانات آبائه، راجيًا أن يجد فيها مراده، حتى يأخذ منه القلقُ مأخذًا لا أظنه يعبر عليه طويلًا؛ لأنه إنما فتح تلك الخزانات، وبين يدَيه مشكلاتٌ يعانيها ويريد لها الحلول، ولم يفتحها ليجعل من رفوفها متاحفَ يملأ بمرأى نفائسها المعروضة ناظرَيه؛ فكيف يطول به المقام عندها وهي لا تقدِّم له حلًّا واحدًا لمشكلةٍ واحدة؟ أم تُرانا ناصحيه بأن ينفضَ يدَيه من عصره ومن حياته ومن مشكلات العصر والحياة، ليطيبَ له العيش بين نفائس القديم بكل ما تعرضه عليه من أزماتٍ ليست أزماته بل كانت أزمات أصحابها، ومن معالجاتٍ لا يدري ماذا يصنع بها، إلا أن يعلِّقها على جدرانه للزينة؟

وهكذا يجد الكاتب العربي المعاصر نفسه بين هاتَين النارَين؛ فإما أن يختار حياةً فكريةً حقيقيةً تنبض بمشكلاته وأزماته وما يقترح لها من منافذ للنجاة، لكنه في هذه الحالة يكون في حياته الفكرية متسولًا — كما هو بالفعل متسول في حياته المادية بأنظمتها وأجهزتها — وإما أن يلوذ بأصالة آبائه فيما خلَّفوه من إرثٍ عظيم، لكنه في هذه الحالة الثانية مضطَر أن يقضيَ حياته في مُتحف الآثار النفيسة، فلا تعود له صفةٌ حيوية مع دنيا الفاعلية والنشاط؛ لأنه عندئذٍ يكون قد بتر شرايين الحياة الفاعلة النشيطة التي تصله بدنياه، وفي كلتا الحالتَين يُحِس الكاتب مرارة الغربة؛ فلا هو بين أهله إذا شرب من ينابيع الثقافة الأوروبية، ولا هو غنيٌّ بنبض حياته إذ قفل راجعًا إلى ثقافة آبائه.»

ولنا على هذا النص المهم — والمركزي في خطاب زكي نجيب محمود — مجموعةٌ من الملاحظات التي قد تفتح لنا سبيل القراءة الواعية.

  • الملاحظة الأولى: إننا في هذا النص إزاء أزمة الكاتب – المثقَّف ولسنا إزاء أزمة المجتمع – الثقافة. إنها أزمة مثقَّفٍ مشدود إلى طرفَين يتجاذبانه وبعنف؛ المعرفة الحية النشطة التي مركزها الغرب، والمعرفة المجمَّدة الساكنة التي مصدرها التراث. والمثقَّف هنا إما أن يحيا الحاضر فيغترب عن أصالته، أو يحيا في التراث فيغترب عن الحياة، في الحالة الأولى يكون المثقف متسولًا يبحث عن الصدقة (وهذا اغترابٌ عاطفي)، وفي الحالة الثانية يكون المثقَّف سعيدًا بإنجازات آبائه (نفي للاغتراب العاطفي) لكنه يقع في اغترابٍ فكري، هكذا تتلخَّص أزمة المثقَّف العربي في هذا التعارض بين «العاطفة» و«الفكر».
  • الملاحظة الثانية: إن العلاقة بین ثقافة الغرب وثقافة التراث تقع على محور التعارض، بل والتضاد؛ فالأولى غنية بالعلوم والفنون والآداب والنظم السياسية والتيارات الفلسفية، أما الثانية فهي «شظف» لا تقدِّم حلًّا لمشكلةٍ واحدة، الأولى تمثِّل شرايين الحياة الفاعلة النشيطة، والثانية مجرَّد نفائسَ قديمة معروضة في مُتحفٍ للزينة لا نفع لها إلا مجرَّد متعة النظر.

والملاحظتان معًا تكشفان لنا عن طبيعة «الهُزال» الذي أصاب مشروع النهضة حين وصل إلى عقل مفكِّر مثل زكي نجيب محمود، مشروع النهضة كما نعرفه بدءًا من رفاعة الطهطاوي، مشروع مجتمع وثقافة وأمة وليس تعبيرًا عن أزمة مثقَّف وكاتب. ومشروع النهضة من جهةٍ ثانية لم يضع ثنائية الغرب/التراث أبدًا على محور التعارض الحاد الذي نجده في الملاحظة الثانية، وهذا «الهُزال» الذي أصاب المشروع كان قد حدث تدريجيًّا بحكم تطور العلاقات السياسية العربية الأوروبية من جهة، وبحكم تطور علاقة المثقف العربي بمشروعات التحديث والنهوض التي تبنَّتها السلطات السياسية من جهةٍ أخرى.

بالنسبة لتطور العلاقات السياسية العربية الأوروبية، فقد سافر الطهطاوي إلى باريس بريئًا من ذلك الإحساس الطاغي بالدونية، كان يُحِس قطعًا بالفارق بين المجتمعات المتقدمة والمجتمع الذي جاء منه، لكنه كان يجد في تراثه وثقافته ما هو جديرٌ بالتمسك به، خاصةً في جانب القيم والأخلاق، كان تقدم الغرب تقدمًا في علوم المادة والطبيعة. وهو تقدُّم كان يجد في تراثه ما يدعو للأخذ به دون أدنى إحساسٍ بالعار، كان الطهطاوي ربما مليئًا بزهو الانتصار الذي حققه الشعب المصري سياسيًّا وعسكريًّا ضد القوات الفرنسية الغازية بقيادة نابليون، لكن التعارض بين أوروبا والعالم العربي بدأ يتزايد مع حركة المد الاستعماري التي نجد لها صدًى في خطاب محمد عبده، يبدأ محمد عبده خطابه بالاندهاش للمفارقة التي يصوغها على النحو التالي: أوروبا المسيحية التي يأمرها دينها باللين والخضوع والرقة تجتاح العالم بقوَّتها، في حين يخضع العالم الإسلامي ويستكين، ودينه هو دين المغالبة والقوة. هكذا يضع عبده أوروبا المسيحية في جانب والعالم الإسلامي في الجانب المقابل، لكنه لا يزال يرى إمكان «إصلاح» الإسلام عن طريق العودة إلى الينابيع الأولى قبل عصور التخلف والانحطاط، والعودة إلى هذا الإسلام «الأصلي» تكشفُ أنه لا يعارض التقدم ولا يقف في وجه المدنية.

أما صياغة مشروع النهضة في خطاب زكي نجيب محمود فقد تخلَّق في سياق الهزيمة العربية الكبرى، هزيمة العام السابع والستين، كان الكاتب ينتمي إلى التيار العلماني العصروي الذي بدأه شبلي شميل وسلامة موسى وفرح أنطون، ذلك التيار الذي وجد في حضارة الغرب السبيل الوحيد للتقدم. يحكي لنا زكي نجيب محمود نفسه كيف بدأ حياته بالدعوة إلى بتر التراث بترًا، والحياة مع مَن يعيشون في عصرنا علمًا وحضارةً ووجهةَ نظر إلى الإنسان والعالم، بل إنه كان يتمنى أن نأكلَ كما يأكلون، ونجدَّ كما يجدُّون، ونلعب كما يلعبون، وتكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون (انظر: تجديد الفكر العربي، ص١٣)، ولكن نظرة الكاتب تغيَّرت مع بروز العداء الأمريكي الأوروبي لمشروعات التقدم والتنمية في العالم العربي، وهو الذي أفضى إلى هزيمة ١٩٦٧م. حينذاك تنبه زكي نجيب محمود إلى بُعد التعارض والتضاد «فما دام عدوُّنا الألد هو نفسه صاحب الحضارة التي تُوصف بأنها معاصرة، فلا مناصَ من نبذه ونبذها معًا، وأخذتُ أنظر نظرةَ التعاطف مع الداعين إلى طابعٍ ثقافي عربي خالص» (المرجع السابق).

من الضروري هنا أن نلاحظ أن لفظ «النبذ» بكل ما يعنيه من رفض وتجاهل يمثِّل تعويضًا مقابلًا للفظ «البتر» الذي استخدم ضد التراث فيما سبق، وسيعود اللفظ الأخير ليعبِّر عن النتيجة المنتظرة في حالة «نبذ» الحضارة المعاصرة، والاكتفاء بالتراث. وبعبارةٍ أخرى كان موقف الكاتب قبل الهزيمة يتمثل في ضرورة «بتر» التراث والانقطاع عنه تمامًا والتواصل مع حضارة الغرب تواصلًا تامًّا، وبعد الهزيمة انتقل الكاتب إلى الموقف النقيض المتمثل في «نبذ» الحضارة المعاصرة ما دام ممثلها عدوًّا لنا. وهكذا تم وضع العلاقة بين أوروبا والعالم العربي على محور التضاد الكامل بحيث لا يجتمعان معًا، وصار المثقف العربي مشدودًا بين خيطَين يمزِّقانه، وهو ما عبَّر عنه في كتاب «عربي بين ثقافتَين».

المثقف يدفع الثمن

إذا كان تطور العلاقات السياسية مع الغرب هو الذي أدى إلى وضع إشكالية النهضة في صيغة التعارض، فإن تحوُّل المشكل من مشكلٍ ثقافي اجتماعي إلى مشكل أزمة مثقَّف نجد تفسيره في علاقة المثقف العربي، بالسلطة السياسية وبمشروعاتها. وعلينا في هذا السياق أن نذكُر أن مثقَّف مشروع النهضة كان هو دائمًا الذي يدفع ثمن الإخفاقات والانتكاسات، دفع الثمنَ رفاعة الطهطاوي بالنفي إلى السودان، وكذلك دفعه محمد عبده وعلي عبد الرازق وطه حسين مع أن الأول كان بطل «الترجمة» واستحضار تقنية الغرب وعلومه، وكان الثاني صانع صحافة الدولة ومجدِّد اللغة ومصلح الفكر. وبالمثل كان علي عبد الرازق مناهضًا لمشروع الخلافة ضد الملك، كما كان طه حسين صاحب مشروع «مستقبل الثقافة في مصر». كانوا جميعًا مفكِّري النهضة، مشروع الطبقة الوسطى لمناهضة الهيمنة التركية العثمانية من جهة، ولمناهضة الهيمنة الاستعمارية الأوروبية من جهةٍ أخرى، لكنهم كانوا جميعًا يدفعون الثمن في لحظات الانكسار السياسي. وقد بدأ زكي نجيب محمود فعاليته الفكرية مع تخلُّق مشروع الستينيات القومي الاشتراكي بكل سلبياته، وأخطرها معاداة الديمقراطية وحرية الفكر، وهنا يلجأ المفكِّر إلى التقية والمداراة والمساومة، وهو أمرٌ نجد تحليلًا وافيًا له في تجربة المؤلف الحياتية والثقافية التي صاغها في «حصاد السنين»، الذي سبق تناوله.

إن ذلك الإحساس القاهر بغربة الروح (بين أهلها) نجد له أصداء في كتابات زكي نجيب محمود، وفي كتاب «تجديد الفكر العربي»، بصفةٍ خاصة يتقنع الكاتب بقناع أبي حيان التوحيدي للتعبير عن هذا الاغتراب. يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإشارات الإلهية» وهي عباراتٌ تعبِّر عن حال المثقف العربي في نظر زكي نجيب محمود، رغم اختلاف الطرفَين اللذَين كان على أبي حيان أن يختار بينهما وكلاهما لا يلائمه، عن الطرفَين اللذَين على المثقف العربي المعاصر أن يختار أحدهما.

«أما حالي فسيئة كيفما قلبتُها؛ لأن الدنيا لم تُواتِني لأكونَ من الخائضين فيها، والآخرة لم تغلب عليَّ فأكون من العاملين لها … فإلى متى نعبد الصنم بعد الصنم، كأننا حمُرٌ أو نَعَم؟ إلى متى نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا؟ إلى متى ندَّعي الصدقَ، والكذبُ شعارُنا ودثارُنا؟ إلى متى نستظل بشجرة تقلَّب عنا ظلها؟ إلى متى نبتلع السموم ونحن نظنُّ أن الشفاء فيها؟» (ص٩٩ من تجديد الفكر العربي).

هذه عباراتٌ كاشفة عن أزمة المثقف الغربي، يتقنَّع بها زكي نجيب محمود مخفيًا نفسه خلف قناع أبي حيان التوحيدي، لكي يقول ما يشاء في زمنٍ صار القول فيه محصورًا في دائرة التبرير السياسي والدفاع عنه. وإذا كان مفكِّرو النهضة قبل زكي نجيب محمود قد انخرطوا بدرجاتٍ متفاوتة في العمل السياسي ودفعوا الثمن، فإن زكي نجيب محمود لم ينخرط مثل انخراطهم، ولكنه أيضًا لم يكن منعزلًا في برجه العاجي كما يتوهَّم البعض، كان يقترب من دائرة المحرَّم ويتباعد، يوشك أن يقع في المحظور لكنه سرعان ما ينتبه، هكذا تحوَّل مشروع النهضة إلى أزمة مثقَّف وتحوَّلَت إشكالية الفكر إلى مشكلة مفكِّر.

هذا «الهُزال» الذي أصاب مشروع النهضة كان من الطبيعي أن يصيب معادلتها التوفيقية، تلك المعادلة التي بدأَت بالطهطاوي، وسقطَت نهائيًّا مع حرب الأيام الخمسة، إنها التوفيقية التي وقعَت في التلفيقية؛ أي في إخضاع طرف لحساب الطرف الآخر، ولم تنجح في إنتاج مركبٍ جديد يستوعب الطرفَين ويلغيهما في الوقت نفسه، كانت المعادلة قد سقطَت، لكن زكي نجيب محمود كان ولا يزال يحاول ترميمها، فتنبه إلى أهمية التراث عام ١٩٦٨م، حين بدأ إعارته للكويت، التي أتاحت له الاطلاع على التراث العربي والكتابة عنه، فصدر كتابه «تجديد الفكر العربي» في طبعته الأولى سنة ١٩٧١م. ورغم أن المؤلف يكشف عن إحساس بضرورة البحث عن «تركيبةٍ عضوية يمتزج فيها تراثنا مع عناصر العصر الراهن الذي نعيش فيه، لنكون بهذه التركيبة العضوية عربًا، ومعاصرين في آنٍ» (ص١٤) فإن محاولته الترميمية تظل تدور في إطار التلفيق الذي أشهَر إفلاسه.

قناع التراث

يُعلن زكي نجيب محمود مفتاح الحل الذي يقضي على الأزمة ويُعيد السلام والوئام للمثقَّف العربي، وهو مفتاح يجده في عبارة لهربرت ريد مفادها، «الاستخدام النفعي للتراث»، نأخذ من تراث الأقدمين ما نستطيع تطبيقه اليوم تطبيقًا عمليًّا … «إن الثقافة — ثقافة الأقدمين والمعاصرين — هي طرائقُ عيش، فإذا كان عند أسلافنا طريقةٌ تفيدنا في معاشنا الراهن أخذناها، وكان ذلك هو الجانب الذي نُحييه من تراثنا، وأما ما لا ينفع نفعًا عمليًّا تطبيقيًّا فهو الذي نتركه غير آسفين، وكذلك نقف الوقفة نفسها بالنسبة إلى ثقافة معاصرينا من أبناء أوروبا وأمريكا» (ص١٨).

ولكي يسهُلَ علينا «الاستخدام النفعي» للتراث علينا أن نفرِّق في إنجازات التراث بين «الشكل» و«المضمون»، إننا نستعير الشكل التراثي لكي نملأه بمضمونٍ من عصرنا ومن حياتنا ومن خبراتنا: «وإنما قصدتُ بالشكل هنا القيمة أو طريقة النظر وميزان الحكم، كمن يستعير من صاحبه منظارًا مقربًا أو مكبرًا، لا لينظر به إلى المشهد نفسه الذي كان ينظر إليه صاحب المنظار، بل ليكون له هو مشهده الخاص وإدراكه المتميز الأصيل، برغم المشاركة مع الآخر في منظارٍ واحد» (ص٣٠) [وانظر أيضًا ص١١٨، ص١٢٣.]

وهذا بالضبط ما فعله زكي نجيب محمود في قراءاته للتراث؛ حيث استعار منظور القدماء — أو منظارهم — ليقرأَهم، فلم تكد القراءة تُضيف جديدًا. في كتابه «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، تنهض بنية الكتاب على أساس بنية التأويل في كتاب الغزالي «مشكاة الأنوار»، فيقسِّم تاريخ التراث إلى أربع مراحل كما قسم الغزالي دلالة «النور» إلى أربعة مستويات تنتقل من العام إلى الخاص، ومن الحسي إلى العقلي، ومن العقلي إلى الخيالي ومن الخيالي إلى الروحي. مثلَ الغزالي يرى زكي نجيب محمود أن تاريخ التراث ينقسم إلى مراحل؛ المرحلة الإدراكية، وهي مرحلة الصراع السياسي حول الخلافة، والمرحلة الثانية هي المرحلة المصباحية، وهي مرحلة انبثاق الجماعات الفكرية كالمعتزلة والمرجئة، يلي ذلك المرحلة الثالثة مرحلة «المصباح العقل» الذي يشتد وهجُه بالترجمة والفلسفة، ثم تأتي المرحلة الرابعة «زجاجة المصباح» وهي مرحلة النهوض الشامل. ومن الواضح أن استعارة بنية التأويل عند الغزالي ليست إلا مجرد قناعٍ شفَّاف لعرض تاريخ الفكر الإسلامي، قناع لا يضيف جديدًا للتقسيم المعروف والمتداول.

الأمر نفسه يفعله في كتاب «تجديد الفكر العربي»؛ حيث يقوم باستعراض قضايا التراث واتجاهاته اعتمادًا على منظور الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» (ص٨٦–٨٨)، «ومعنى ذلك أنه يفهم التراث بالتراث، أي يفهم التراث بالتراث؛ أي من خلال منظور التراث ذاته. إذا أضفنا إلى ذلك أن فكر «الغزالي» ليس هو «التراث» بل هو أحد اتجاهاته، لأدركنا أن منظور فهم التراث إنما يتم على أساس منظورٍ محدد من داخل التراث ذاته وليس من خارجه، لكن هذا التراث المقروء من داخله، حين يُنظر إليه من الجانب النفعي؛ أي صلاحيته للتطبيق العملي في حياتنا، يبدو فاقدًا للأهمية بالنسبة لعصرنا، وذلك لأنه يدور أساسًا على محور بين الإنسان والله، على حين أن ما نلتمسُه اليوم في لهفةٍ مؤرقة هو محورٌ تدور عليه العلاقة بين الإنسان والإنسان» (ص١١٠).

هكذا ينتهي زكي نجيب محمود إلى أن التراث لا يحل مشكلةً واحدةً من مشكلاتنا التي يحصُرها في:

  • (١)

    مشكلة الحرية بأبعادها السياسية والاجتماعية وحرية المرأة.

  • (٢)

    مشكلة الدخول في عصرَي العلم والصناعة، وهي مشكلة يحيلها زكي نجيب محمود إلى طبيعة الثقافة العربية التي هي ثقافةُ لغةٍ في الأساس؛ أي ثقافة لا تزال تعتمد نهج المنطق الأرسطي.

  • (٣)

    مشكلة الوحدة العربية والقومية العربية.

تلك هي المشكلات التي لا نجد لها في التراث حلًّا، وهي مشكلات الواقع المُلِحَّة (انظر: مشكلات الحياة المعاصرة، ص٧٤–٨٢).

هذه النتيجة الفاجعة لمسألة التراث لم يتوقف أمامها زكي نجيب محمود طويلًا، ولم يتأملها تأملًا كافيًا؛ لأن العودة إلى التراث كانت بمثابة العودة إلى الملاذ والحماية، إنها عودةٌ عاطفية فرضَها موقف الهزيمة الشامل. ولأنها موقفٌ عاطفي فهي في منطقةٍ خارج التأمل والاستبصار، إنها «القناع» الذي يُخفي العار والذل والمهانة، قناع «الغزالي» أو قناع «أبي حيان» لا يهم، ما دام يحمي الذات — ولو بشكل مؤقت — من الانهيار؛ لذا تحول مشروع النهضة إلى أزمة مثقف كما سبقَت الإشارة، لكن التفات مفكِّر في قامة زكي نجيب محمود لمسألة التراث وضرورة تطويره وتجديده، وجد تحقُّقه في الجيل التالي، فانتقل مشروع النهضة من «قناع» التراث إلى «تجديد التراث» مع حسن حنفي، ولعله ينتقل من «التجديد» إلى «القراءة العلمية» عند الجيل الثاني من تلاميذ الراحل العظيم.

(II) مات الرجل وبدأت محاكمته

في مقالته عن الراحل زكي نجيب محمود حاول الدكتور محمد عمارة جهده أن يُبرزَ الجانب الإسلامي في كتاباته، وقد كان واضحًا أن محمد عمارة يريد أن يدافع عن الرجل الذي وضعه منهجه «الوضعي المنطقي» في خانة «الكفر والإلحاد» خاصةً في كتابه «خرافة الميتافيزيقا»، وهو الكتاب الذي غيَّر زكي نجيب محمود عنوانه إلى «موقف من الميتافيزيقا»، حين أعاد طبعه في «دار الشروق». لكن دفاع محمد عمارة لم يَنتهِ إلى تبرئة ساحة الرجل تبرئةً تامة من المنظور الإسلامي الذي ينتمي إليه عمارة. وكعادة الدكتور عمارة في منهجه الوسطي — الذي يعني إمساك العصا من المنتصف — انتهى إلى أن صورة الإسلام لدى زكي نجيب محمود «قد تعدَّلَت كثيرًا لكنه لم يبلغ مرتبة من يلتزم بالمنهج الإسلامي التزامًا كاملًا» (جريدة الشعب بتاريخ ١٩٩٣/٩/١٤م).

ومسألة «الالتزام بالمنهج الإسلامي» هي مربط الفرس في كل محاولات تشويه التراث قديمًا وحديثًا، وبدلًا من الدخول في نقاشٍ حقيقي للأفكار والأطروحات، نقاشٍ يُثري الفكر ويُعلِّم من يحتاج للتعلم بإشاعة المعرفة، بدلًا من ذلك يتم تناول كل الأفكار والإبداعات من منظور مفهومٍ خاص وتفسيرٍ بعينه للإسلام. والأخطر من ذلك والأفدح أن هذا المنظور وذلك التفسير يُطرح دائمًا على أنه «الإسلام» الوحيد الصحيح، وكل ما سواه زيفٌ وإلحاد. بل إن «تعددية» التراث الفكري العربي الإسلامي، تلك التعددية التي وسمَتْه بالخصوبة والعمق، والناتجة عن التفاعل الحر الخلَّاق مع كل التراثات الإنسانية السابقة على الإسلام، صارت الآن موصومةً بشبهة الانحراف عن «المنهج الإسلامي» هي الأخرى.

لذلك لم يحقِّق دفاع محمد عمارة عن «إسلام» زكي نجيب محمود غايته؛ فالرجل باعترافه هو لم يصل إلى حدود الالتزام بالمنهج الإسلامي. من هنا تصدَّى من يردُّ على محمد عمارة واصفًا كلامه بأنه من قبيل التهاون وتمييع الأمور؛ لأن زكي نجيب محمود من منظور صاحب الرد «يُخرج الدين بالكامل من منطقة التعقُّل التي تقبل الصواب والخطأ إلى منطقة الوجدان الخاصة بكل شخصٍ على حدة بما يميل إليه قلبه، وترتاح إليه نفسه، دون أن يكون هناك مجالٌ لأن نعتقد بأن هناك من هو على صواب على عقيدته ومن هو على خطأ، وإلا وقعنا في تهمة التطرف.»

(جريدة الشعب بتاريخ ٢٨/ ٩/ ١٩٩٣م).

ولسنا هنا في معرض الدفاع عن «عقيدة» زكي نجيب محمود التي يحاول المقال السابق أن يحاكمها، لسببٍ بسيط هو أن هذه المحاكمة تمثِّل سلوكًا مرفوضًا؛ فالعقيدة محلها القلب. وقد تحدَّث الرجل عن عقيدته بنفسه في حوار نُشر بجريدة «الوفد»، بتاريخ (٩/٢٣) ونقلَت جريدة الشعب (٩/٢٨) الجزء الخاص بالدين في هذا الحوار، وأعادت نشره مجاورًا للمقالة المذكورة بعنوان «الدين في عالم شيخ الفلاسفة». إننا هنا في مجال تحليل ظاهرة إصرار «البعض» على اعتبار أنفسهم المتحدِّثين الوحيدين باسم الإسلام، وعلى اعتبار كل من يختلف مع بعض آرائهم وأطروحاتهم «خارجًا» عن الملة مشكوكًا في عقيدته. يقول كاتب المقالة المذكورة في مُفتتَح مقالته: «عندما نتحدث عن الدكتور زكي نجيب محمود فإننا باعتبارنا إسلاميين ننظر إليه من حيث مواقفه الفكرية من الإسلام التي تتحدَّد على أساسها أهمية فكره وخطره.»

واللافت جدًّا في هذه المقدمة حديث الكاتب بصيغة «الجمع»، وهي صيغة تعلِّق مسئولية الإسلام في رقبة «جماعة» بعينها تستأثر وحدها بصفة «الإسلاميين». وهذه الصفة تجعل من فهم الإسلام وتفسيره حقًّا قاصرًا على أعضاء تلك الجماعة؛ بحيث يُعد أيُّ فهمٍ أو تفسيرٍ صادرٍ عمن هو خارج الجماعة «تحريفًا» أو «إلحادًا» وكفرًا والعياذ بالله. ومن الضروري تبيان أن لفظ «الإسلاميين» المتداول يشير إلى جماعةٍ سياسيةٍ تمارس فعاليتها تحت يافطة «الإسلام»، ومعروفٌ أن ثمَّة خلافاتٍ سياسية بين الجماعات الفرعية داخل إطار تلك الجماعة السياسية؛ فالإسلاميون شأنهم شأن أي حزبٍ سياسي بينهم من عناصر الاتفاق الكثير، ولا يقل عنه ما بينهم من عناصر الاختلاف، لكنهم في مواجهة الجماعات السياسية الأخرى يتمترسون جميعًا خلف «الإسلام» ويستخدمونه جدارًا حاميًا وأداةً أساسيةً في «الحشد» السياسي.

هذا الخلط بين السياسي والفكري (الفكري الديني بصفةٍ خاصة) يحوِّل السياسة إلى «دين»، ويجعل من الأحكام السياسية أحكامًا دينية. وهذا يُفضي في نهاية الأمر إلى أحكام «الكفر» و«الردة». وحين انكشف للعامة والخاصة دلالة تلك الأحكام — بفضل ما أثارته فتوى الشيخ محمد الغزالي من مناقشات — حاول البعض أن يُعطيَ لأحكام «الكفر» و«الردة» طابعًا سياسيًّا من زاويةٍ خلفية، فأرادوا أن يربطوا بين «الارتداد» عن الدين وبين جريمة «الخيانة الوطنية». وبذلك تجاهلوا عامدين الفارق بين الأمرَين؛ حرية الإنسان في اختيار دينه، وهي الحرية التي أقرَّها الإسلام في نصوصه الأساسية، وبين «الخيانة» التي تهدف الإضرار بالوطن لصالح أعدائه، لكن الأخطر في هذا الخداع والتلاعب أن التسوية بين «الردة» و«الخيانة الوطنية» يعني الإقرار الضمني بجعل «الدين» وطنًا، وحين يتحول الدين وطنًا يصبح من حق الأقليات الدينية الاستقلال داخل أوطانها الخاصة، وهو ما يؤدِّي إلى تمزيق الوطن ذاته.

لكن الكُتاب الإسلاميين في محاكمتهم لعقيدة زكي نجيب محمود الدينية، من منطلق عدم الالتزام بالمنهج الإسلامي، لا يتورَّعون عن التفتيش في نوايا الرجل حين بدأ دراسة التراث الإسلامي متراجعًا عن موقفه الفكري الأول الذي كان يرى ضرورة احتذاء النموذج الغربي. ينكر كاتب مقالتنا المذكورة على زكي نجيب محمود محاولته الاقتراب من الإسلام وتفهُّم تراثه، ويرى أنه تعامل مع التراث «باعتباره تراثًا عقليًّا يرفض منه ويقبل على نفس الأسس والمعايير الغربية التي ينتمي إليها، معتمدًا في ذلك على المنهج البراجماتي في التفكير — الذي يقترب كثيرًا من وضعيته المنطقية — والذي يعامل التراث الإسلامي كتراثٍ عقلي مجرد من أسسه العقائدية»، وإذا كنا نتفق مع كاتب المقال على الطبيعة البراجماتية لتعامل زكي نجيب محمود مع التراث، وهو ما أشرنا إليه في السابق، فإننا نختلف معه في كل أحكامه الأخرى، ومن الضروري الإشارة إلى أن منهج التعامل البراجماتي مع التراث الإسلامي ليس منهج زكي نجيب محمود وحده، بل هو منهج كثيرين وعلى رأسهم الإسلاميون.

ويبدو أن الكاتبَ شديدُ الحساسية للوصف «عقلي»، شأنه شأن معظم أقرانه؛ فهو يَعيب على زكي نجيب محمود التعامل مع التراث كتراثٍ عقلي، وكأن هناك وسيلةً أخرى للتعامل مع التراث، أو كأن التراثَ يمكن أن يُوصف بصفةٍ أخرى. إن التراث نتاجٌ عقلي أنتجَته عقولٌ بشرية، وليس وحيًا من عند الله تعالى، ومن الطبيعي أن يتعامل معه الباحث — أي باحث — بوصفه نتاجًا عقليًّا. وليس من الضروري أن يكون هذا التراث متماثلًا مع أساسه الديني العقائدي؛ فاختلاف الفِرق والجماعات الإسلامية في تاريخ التراث الإسلامي عبَّر عن نفسه عن طريق تأويل العقائد؛ فهناك عقيدة المعتزلة، وعقيدة الأشاعرة، وعقائد الشيعة، وعقيدة أهل السنة. وحين نقول اختلاف العقائد فإنما المقصود اختلاف «التصورات» حول العقيدة. عقيدة التوحيد مثلًا كثُرَت التصورات حولها بين الفِرق؛ لذلك نجد من الغريب حقًّا أن يحكُم الكاتب على دراسة زكي نجيب محمود للتراث بأنها دراسةٌ للتراث مجردًا من أسسه العقائدية، لكن حِرْص الكاتب على اتهام زكي نجيب محمود أهم من حِرْصه على الدقة العلمية؛ فالمهم اغتيال الرجل عقليًّا بإخراجه من دائرة الإسلام.

قلنا إن البراجماتية في التعامل مع التراث ليست قاصرةً على زكي نجيب محمود، والكاتب يعطينا الدليل على أنها صفةٌ جوهرية في خطاب «الإسلاميين». والبراجماتية بدأَها سيد قطب في «المعالم» حين وصف كل اتجاهات الفلسفة الإسلامية بأنها أبعدُ عن الإسلام، وأقربُ إلى فلسفة الإغريق. وتواصَل هذا الوصف عند كثيرين حتى بدا أن التراث الإسلامي تم اختصاره في بُعده الحنبلي الأشعري المختلط بالتصوف. هذا التصور الجزئي — أو بالأحرى التجزيئي — للتراث نجده عند الكاتب الذي يصف الجانب العقلاني — الذي احتفى به زكي نجيب محمود — بأنه متأثر بالفلسفة الإغريقية «التي تمثِّل الأساس الفلسفي للفكر الغربي بوجه عام، الذي ينتمي الدكتور إلى إحدى مدارسه». ومعنى هذا الحكم نزع صفة «الإسلامية» عن تلك الاتجاهات، وهو ما يُفضي إلى التعامل معها مجردةً عن أسسها الدينية، أليس هذا هو النقد الذي وجَّهه الكاتب لزكي نجيب محمود؟ فما الفارق إذن؟

ليس معنى ذلك أن فِكر زكي نجيب محمود لا يقبل النقد والاختلاف، لكنَّ هناك فارقًا بين النقد والاختلاف وبين الإدانة، ونَزْع صفة «الإسلام» عن المفكِّر لأنه يُنتِج فكرًا لا يتطابق مع ما نؤمن به من أفكار. لقد حاول الكاتب أن ينقد «الوضعية المنطقية» لكن نقده لها هو النقد العامي المبتذل، وليس النقد العلمي.

إن نقد الوضعية المنطقية يختلف جذريًّا عن مجرد وضعها في خانة «معاداة الدين». وإذا كان زكي نجيب محمود قد تراجع عن موقفه الأول المتمثل في ضرورة احتذاء النموذج الغربي، فلا شك أن فهمه للوضعية المنطقية قد أصابه بعضُ التعديل، لكن ذلك يستلزم إعادةَ قراءةٍ لإنتاج الرجل من هذه الزاوية، قراءة لا تسعى إلى الإدانة بقَدْر ما تسعى إلى الفهم والحوار. وأول شروط الحوار: التخلي عن تصوُّر امتلاك الحقيقة، والاستئثار بالحديث عن الإسلام؛ فكلنا مسلمون بداهة، وإسلامنا هو الأصل الذي لا يحتاج لبرهان. ليس مطلوبًا من المفكِّر أو المواطن أن يُثبِتَ إسلامه لأحد، ومن الخطر أن يدور الحوار دائمًا من نقطة التفتيش عن «الإيمان». هذا مسلكٌ مباحثيٌّ انتهى عهده في حياتنا السياسية حين كان المواطن يُستدعَى فجرًا لكي يُسأل عن رأيه في «انتفاضة يناير» هل هي شعبيةٌ أم انتفاضةُ حرامية؟ هذا التفتيش في النوايا والضمائر هيِّن إذا قُورن بما يحدث اليوم من خلال بعض الكتابات. لقد صار المثقف المصري للأسف يبادر عند بادرة أي شك إلى إعلان إسلامه بين يدَي أي شهادةٍ يُدلي بها، ها هو — على سبيل المثال — الدكتور يحيى الجمل القانوني والوزير السابق وعضو مجلس الشعب يبدأ حواره مع الشيخ محمد الغزالي حول فتواه المشهورة عن الردة على الوجه التالي: (جريدة أخبار الأدب، العدد الثاني، ٢٥ / ٧ / ١٩٩٣م، ص١٤).

«الشيخ محمد الغزالي في نظري من العلماء الفضلاء الواسعي الأفق، وأنا باستمرارٍ أحترم رأيه وأقرأ له، وأُفيد من قراءتي له، ولكني واثقٌ أن الشيخ محمد الغزالي لا يرى أن ذلك كله لا يدعو إلى الاختلاف معه أحيانًا؛ فهو رجلٌ مستنيرٌ واسع الأفق. وهذا يعني أول ما يعني أنه مؤمنٌ بحق الاختلاف في الرأي، وأنا رجلٌ لا أدَّعي أنني صاحبُ فقه في الشريعة الإسلامية، ولكني بحمد الله مسلم، أدَّيتُ وأؤدِّي الفرائض، وأمتنع عن إتيان ما نهى عنه الدين، ومع ذلك فأنا من المؤمنين بحرية الرأي إيمانًا كاملًا، وأقرأ قول الله عز وجل لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ وإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وأقرأ سيرة الرسول الكريم وأعرف كيف كان يختلف أحيانًا مع صحابته، وأقرأ سيرة أبي بكر وسيرة عمر وأعلم منهما مثل ذلك.»

ولا تعليق لنا على هذا الافتتاح بالدفاع عن النفس ودفع تهمة «الإلحاد» التي يعرف الدكتور يحيى أنها مُضمَرة في تفكير الإسلاميين، ولا تعليق لنا؛ لأنه كاشفٌ عن حالة «الترقب» التي يحياها المثقَّف المصري، لكن نهج التفتيش في الضمائر والحكم على النوايا لا تخدعُه مظاهر الإيمان ولا الأيمان المغلَّظة؛ لأن الشيخ علي عبد الرازق لم يَحمِه كونُه من علماء الأزهر حين كتب «الإسلام وأصول الحكم»، بل لم يجد بين زملائه من يتصدَّى للدفاع عنه حين أعادت هيئة الكتاب نشر كتابه ضمن سلسلة كُتب «المواجهة»، وصدَر كتابٌ عن مجلة «الأزهر» يتضمَّن المقالات التي تهاجم الكتاب وتشكِّك في عقيدة مؤلِّفه.

إنها الدائرة الجهنَّمية التي بدأَت في العقدَين الأخيرَين بتقرير الشيخ محمد الغزالي ضد «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ وما جاء بعدها.

ليس مهمًّا أن نتفق؛ فذلك ضد طبيعة الأمور وضد الفطرة التي خلقنا الله سبحانه وتعالى عليها، لكن المهم أن نحترمَ الاختلاف وأن نحاول أن نحِّدد محاوره بدلًا من الاكتفاء بوصم كل اختلاف تحت يافطة «مخالفة المنهج الإسلامي»؛ فليس الإسلام حكرًا على أحد، وليس ملكًا لأية جماعة. وليس مطلوبًا من ثَم أن يتقدم كل مفكِّر أو كاتب أو مبدع بشهادة تبرئةٍ من اثنَين من الإسلاميين مختومة بشعار «الإسلام هو الحل» لكي يُثبِت إسلامه. آن الأوان أن ينهض المثقَّفون بمناقشة كل القضايا التي أصبحَت حكرًا على خطاب الإسلاميين؛ لأن مزيدًا من الخوف والترقب والانتظار ليس في مصلحة أحد، وليس في مصلحة الإسلاميين أنفسهم. إن عدم الحوار جديرٌ بإشاعة جوٍّ من «العفن» الفكري والركود العقلي، وهو عفنٌ كلما تزايد تآكل عقل الأمة. إن مفاهيم مثل «العلمانية» و«الردة» و«الدولة الدينية» و«الكفر» و«الإيمان» و«العقيدة» و«الحقيقة» و«التصور» و«الحكم» و«الفتوى» و«المقاصد الكلية» و«الاجتهاد» و«النصوص» تحتاج كلها للشرح والحوار. وليس الهدف من «الحوار» بالضرورة «إقناع» الطرف الآخر وإن كان ذلك مطلوبًا، بل الهدف الأسمى «المشاركة» الواسعة للطرف الثالث، أبناء هذا الوطن بكل طوائفه، ذلك وحده هو السبيل لنشر المعرفة وإشاعة جو الحوار في ربوع الوطن لنتحرَّر من حوارات اللقاءات المغلَقة، حوارات النخبة والصفوة، لكن هل تتحمل أجهزة إعلامنا مسئولية مساندة هذا النوع من الحوار؟ هذا هو السؤال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥