موقف عمارة من علي عبد الرازق
في بداية السبعينيات كان خطاب محمد عمارة ينطلق من أهم المرتكزات العقلانية المستنيرة في التراث العربي الإسلامي، ومن أهمها إنجازاتُ المعتزلة؛ لذلك كان حريصًا على نشر تُراث التنوير العربي الحديث، والمصري منه بصفةٍ خاصة، فأسدى للمكتبة العربية خدمةً جليلةً بنشر الأعمال الكاملة لروَّاد النهضة والتنوير والتحديث من رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني حتى علي عبد الرازق. قام بنشر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» أولًا في مجلة الطليعة القاهرية — اليسارية — عام ١٩٧١م، ثم أعاد نشره مع دراسةٍ وافيةٍ للظروف والملابسات التي أحاطت بنشره عام ١٩٢٥م، مزوَّدة بالوثائق الأساسية، وذلك عام ١٩٧٢م، في المؤسسة العربية للدراسات والنشر بلبنان.
يُفضي بنا التحليل السابق لموقف عمارة من كتاب علي عبد الرازق في السبعينيات إلى أنه ينحاز إلى الدور السياسي الذي قام به الكتاب، بل ويبالغ في تقديره إلى حد تجاهُل المعارك الفكرية والسياسية التي أثارها كلٌّ من كتابَي «في الشعر الجاهلي» لطه حسين و«الفن القصصي في القرآن» لمحمد أحمد خلف الله، لكن هذا الانحياز للدلالات السياسية للكتاب لا يُخفي «النقد» الفكري. ومما يؤكد تغلُّب نزعة التقييم السياسي على نزعة التقييم الفكري عند عمارة موقفُه من كتاب الشيخ محمد الخضر الحسين؛ حيث ينحاز إليه فكريًّا ضد كتاب علي عبد الرازق، لكنه يُدينه سياسيًّا لحساب الأخير كذلك، والسؤال الآن: حين يتعارض الفكري والسياسي، لماذا ينحاز عمارة إلى السياسي على حساب الفكري؟
للسؤال أهميته؛ لأن عمارة السبعينيات وما قبلها، أو بالأحرى بداية السبعينيات وما قبلها، أصاب موقفَه السياسي تغيرٌ ملحوظ، فانقلب من الحماس للعقلانية والاستنارة والاشتراكية إلى الحماس لتيار الإسلام السياسي حتى صار في أواخر الثمانينيات والتسعينيات من أعلى الأصوات دعوةً لقيام الدولة الإسلامية، ومن أشدها مهاجمة لخطاب النهضة والتنوير والعلمانية. وكان من الطبيعي أن يعيد النظر — من خلال موقفه السياسي الجديد — في قيمة كتاب علي عبد الرازق، متجاهلًا دلالته السياسية في سياق إنتاجه ونشره، بل لعل نظرة عمارة للسياق وتقييمه للعناصر المكونة له قد تغيَّرت هي الأخرى، فصار الداعون للخلافة والمتحمِّسون لها أعلى قيمةً وقدْرًا من أولئك الذين ناهضوا الدعوة إليها وإلى إحيائها وتنصيب الملك فؤاد خليفة على المسلمين. وفي كل الأحوال نلاحظ أن «السياسة» هي التي تُوجِّه «الفكر» في خطاب عمارة؛ الأمر الذي يعني سيطرة الأيديولوجيا على المعرفة.
في سبعِ مقالات نشرَتْها جريدة «الشعب» — لسان حال حزب العمل الإسلامي — على مدى أكثر من ثلاثة أسابيع، بدءًا من ١١ / ١ / ١٩٩٤م إلى ١ / ٢ / ١٩٩٤م، تصدَّى عمارة لتلويث كتاب «الإسلام وأصول الحكم» بطريقة غير مسبوقة ولا مألوفة في التقاليد العلمية الرصينة. ومن حق عمارة بالطبع أن يُعيد النظر في الكتاب إذا استجدَّت حقائقُ وملابساتٌ كانت خافية ثم ظهرَت، ولكن من واجبه كذلك أن يكون أمينًا في عرض هذه الحقائق التي تستوجب إعادة النظر في موقفه القديم والمُثبَت من الكتاب. هذه هي التقاليد العلمية الرصينة التي لا يعبأ بها عمارة، مضيفًا إلى ذلك عدمَ احترام عقل قارئه، فضلًا عن عمليات التزييف الفاضحة لخدمة أهواءٍ سياسية ذات طبيعةٍ نفعية براجماتية.
الكتاب الذي حرَص عمارة عام ١٩٧٢م على تصنيفه داخل دائرة الفكر «السياسي» منكرًا أنه يطرح قضيةً دينية، يتحوَّل عند عمارة ١٩٩٤م إلى كتابٍ يخدم أهداف الاستعمار الغربي في محاولته للقضاء على «الخلافة»، سعيًا إلى «علمنة» المجتمعات الإسلامية بتفريغها من مضمونها الحضاري والثقافي، وإلحاقها — إلحاقَ تبعية — بالمشروع الثقافي الحضاري الغربي. لم يكن الكتاب إذن — حسب عمارة ١٩٧٢م — محاولةً لمناهضة تحالُف الإنجليز والسراي لملء الفراغ الناتج عن قرار الكماليين بإلغاء الخلافة، وذلك بتنصيب الملك فؤاد خليفةً للمسلمين، يكون تحت سيطرة الإنجليز بالكامل، بل تحوَّل الكتاب هكذا «بقدرة قادر» — حسب عمارة ١٩٩٤م — ليكون جزءًا من المخطَّط الاستعماري الغربي.
لكن ما هو «السر» الذي يكشف عنه عمارة ١٩٩٤م، وراء هذا الإصرار على عدم نشر الكتاب مرةً أخرى؟ بطريقةٍ أشبهَ بطريقة السرد في القصص البوليسية يلجأ عمارة إلى الكشف عن السر خطوةً خطوةً جاعلًا قارئه يُمسِك أنفاسه. إن السر وراء ذلك كله أن الفكرة المحورية في الكتاب، وهي «الإسلام دين لا دولة»، ليست فكرة علي عبد الرازق، بل هي فكرة طه حسین ألقاها — بطريقة شيطانية ماكرة — في الكتاب، وتحمَّل مسئوليتها علي عبد الرازق. ولكي يصل عمارة لكشف السر «الرهيب» يُورِد الأدلة والقرائن التالية بهذا الترتيب:
-
(أ)
بعد أقلَّ من عشرين يومًا من صدور حكم الأزهر ضد الشيخ علي عبد الرازق نَشرَت له جريدة «السياسة» عباراتٍ عن الإسلام والشريعة تضبط الفكر على نحوٍ متميز عما جاء في كتابه. هذه العبارات هي: «إن الإسلام دينٌ تشريعي، وإنه يجب على المسلمين إقامة شرائعه وحدوده، وإن الله خاطبهم جميعًا بذلك، ولكن الله لم يقيِّدهم بشكلٍ مخصوص من أشكال الحكومات، بل ترك لهم حرية الاختيار في ذلك وَفْق مقتضيات الزمن وحيث تكون المصلحة.»
-
(ب)
القرينة الثانية: هي المحاضرة التي ألقاها الشيخ في الجامعة الأمريكية، في مارس عام ١٩٣٢م، وقرَّر فيها أن «الحكم بغير ما أنزل الله كُفرٌ صريحٌ في القرآن». وبالعودة إلى نصِّ المحاضرة التي ألقاها الشيخ، ونُشرَت عام ١٩٣٣م، ينكشف للقارئ تدليس عمارة، وهو التدليس الذي يفضَح سوء القصد والنية المبيَّتة لتلويث سمعة الشيخ وكتابه. إن عنوان المحاضرة: «الدين وأثَره في حضارة مصر الحديثة»، وهي تُحاول تلمُّس أثَر الدين في الحياة المصرية من خلال ثلاثة محاور صاغها الشيخ في أسئلةٍ ثلاثة على النحو التالي:
- (١)
هل الحياة الدينية تتغير في مصر وتتطور أم لا؟
- (٢)
وإذا كانت تتطور وتتغير فما هي الأسباب التي تؤثِّر في ذلك؟
- (٣)
ما هي طبيعة هذه التغيُّرات ومدى أثَرها ومقدار خطرها؟
وبعد أن يستعرض الشيخ مظاهر التغير والتطور في الحياة المصرية، ينتقل في سياق تحليل أسباب هذا التغير إلى بيان أن الالتقاء بالحضارة الأوروبية الحديثة جعل التطور في مصر يسير سيرًا حثيثًا عنيفًا كان في رأي بعض الباحثين ثورةً وانقلابًا. ويضرب مثلًا على هذا بالانقلاب الذي حدث في التشريعات والقوانين نتيجة الاحتكاك بالحضارة الغربية. في هذا السياق وردَت العبارة التي يستشهد بها عمارة ويتخذها قرينةً على تراجُع الشيخ عن أهم أفكار كتابه، وهي عبارة أن «الحكم بغير ما أنزل الله كفرٌ صريحٌ في القرآن». لكن عمارة يتجاهل السياق تجاهلًا تامًّا، السياق الذي يكشف أن العبارة وردَت وصفًا لما كان عليه الحال في مصر قبل لقائها الأخير بالغرب، وهي مِن ثَم ليست «حكمًا» يقرره الشيخ بنفس الدلالة التي يقرِّره بها الأصوليون من المودودي إلى سيد قطب وأخيرًا إلى عمارة. يقول الشيخ في كلامٍ وصفيٍّ لا يحتمل تأويلات عمارة الاستنطاقية «جرت مصر منذ العصور الأولى على أن يكون الحكم فيها شرعيًّا، يرجع إلى أحكام الإسلام والأوضاع الإسلامية، وكان المصريون يفزَعون من أن يحتكموا إلى غير قوانين الإسلام؛ لأن الحكم بغير ما أنزل الله كفرٌ صريحٌ في القرآن، ولكن القوانين قد أصبحَت في مصر تُؤخذ أحيانًا من قوانين أوروبا، ولا يرى المصريون حرجًا في أن يحتكموا إليها، ولا أن يخضَعوا لها وافقَت الفقه الإسلامي أم لم تُوافِقْه. ومِن قبلِ ذلك استطاع الخديوي إسماعيل باشا أن يضربَ على المصريين قانونَ نابليون شريعةً لازمة ويأخذَهم بأحكامها أخذًا. وما كان ذلك كله إلا خضوعًا لما أسلفنا من حُكم الظروف الاجتماعية والتطورات التي نشأَت مع الحضارة الجديدة والجيل الجديد.»
هكذا تتهاوى قرينة عمارة؛ فالشيخ لا يقرِّر ذلك بل يصف الحال في مصر قبل لقائها بالغرب وكيف تغيَّر، فأصبح مقبولًا ما كان من قبلُ مرفوضًا، وتلك سُنَّة التطوُّر وقانون التغيُّر، بصرف النظر عن النوايا والمقاصد. والمحاضرة كلها تسير في خطٍّ فكريٍّ تحليلي للعلاقة بين الدين والمجتمع، وهو سياقٌ يتجاهله عمارة تجاهلًا تامًّا، مكتفيًا بهذا الاجتزاء السيِّئ القصد للعبارة من سياقها، لكي يُوهِمَ القارئ بما يريد. إن عمارة يُخفي موضوع المحاضرة، والهدف هو التزييف لكي يضع على لسان الشيخ عبارةً صارت «شعارًا» أساسيًّا لا من شعارات الفكر الأصولي فقط، بل صارت هي الشعار المؤسِّس للإرهاب الفكري والعقلي، بكل ما يترتب على «الإرهاب» من اغتيالٍ معنوي ومادي.
إن في المحاضرة التي يشير إليها عمارة تحليلًا ناصعًا لعلاقة الدين بالسياسة، يؤكِّد الشيخ من خلاله تمسُّكَه بكل حرفٍ كتبه في «الإسلام وأصول الحكم». إن نقدَه للحكومات الدينية، أو للحكومات التي تعتمد على قوة «الدين»، وعلى تأييد رجال الدين ومساندتهم، لا يقل قوةً عن نقده لرجال الدين الذين يَسعَون لتعزيز سلطانهم بالالتجاء إلى رجال السياسة. وليست مصر بمنأًى عن هذا النقد المزدوج لرجال السياسة ولرجال الدين معًا، ولا تنقُص الشيخ المُضطهَد الشجاعة فيقرِّر: «وعلى هذا الأساس أيضًا أرادت القوة السياسية من قديم الزمان أن تحدثَ لها في مصر قوة دينية تؤيِّدها وتُعارضها فأنشأَت الجامع الأزهر، وأسبغَت عليه اسم الدين، وعلى أهله بُردًا دينيًّا، وما برح الأزهر منذ يومئذٍ ربيبَ السياسة وآلةَ الحكام السياسيين وسندَهم. والحكومات التي تعتمد على قوة الدين وقوة السياسة معًا لا تكون إلا مطلقةً غير محدودة السلطان ولا خاضعة لرقيب. وهذه الحكومات المطلَقة عُرضة دائمًا لأن تستبدَّ وتطغى.»
- (١)
-
(جـ)
القرينة الثالثة التي يستند إليها عمارة ليؤكِّد تغيُّر موقف الشيخ هي اعتراض الشيخ علي عبد الرازق — حين كان عضوًا بمجلس النواب سنة ١٩٤٦م — على المشروع الخاص بقانون الأوقاف؛ لأنه يمكن أن يفتح في باب التشريع الإسلامي حدثًا جديدًا، يخشى معه تمزيق الفقه الإسلامي الذي هو الرابطة الأقوى بين الأمم الإسلامية. ولأن عمارة لا يقول شيئًا عن مشروع قانون الأوقاف يكشف عن سبب اعتراض الشيخ، فإن مقالًا كتبه «ممدوح عبد الرازق» — تعليقًا على ما كتبه جلال كشك عن الشيخ وكتابه — يكشف أن اعتراض الشيخ كان مُنصبًّا على رغبة الملك في نقل أوقاف الخديوي إسماعيل من إدارة وزارة الأوقاف إلى ديوان الأوقاف الخصوصية الملكية. وأثار هذا الاعتراض أزمةً لم يشأ الكاتب — ممدوح عبد الرازق — الدخول في تفاصيلها، مكتفيًا بالإشارة إلى أن هذه التفاصيل نُشرَت في جريدة الأهرام في ٦ / ٨ / ١٩٥٢م.١١
-
(د)
القرينة الرابعة في سعي عمارة لتلويث فكر النهضة، تجاهُله أن كتاب «الإجماع في الشريعة الإسلامية»، الذي صدر للشيخ علي عبد الرازق عام ١٩٤٧م، هو، من الناحية الفكرية، لا علاقة له بكتاب «الإسلام وأصول الحكم»، بل «هو على النقيض منه». ويتجاهل عمارة هنا بطريقةٍ مثيرة للارتياب اختلافَ موضوع الكتابَين من جهة، وكون الكتاب الثاني مجموعةً من المحاضرات التي أُلقيَت على طلاب جامعة فؤاد الأول من جهةٍ أخرى.
-
(هـ)
القرينة الخامسة هي «العقدة» البوليسية في هذا السرد القصصي. وكما أن الوصول إلى «العقدة» يمهِّد السبيل للوصول إلى «حل» الغموض وكشف «السر»، فإن هذه القرينة الخامسة تمثِّل بالنسبة لغرض عمارة ١٩٩٤م محطة الانطلاق لإثبات أن علي عبد الرازق يتبرَّأ من الكتاب. إن شيطانًا — هو طه حسين — هو الذي ألقى على لسانه عبارة «إن رسالة الإسلام روحانية فقط»، وهي العبارة التي كتب أحمد أمين عام ١٩٥١م، في مجلة «رسالة الإسلام»، أن علي عبد الرازق قالها له في حوارٍ دار بينهما حول جمود المسلمين وأسبابه؛ حيث أجاب علي عبد الرازق قائلًا: «إن دواء ذلك أن ترجع إلى ما نشرتُه قديمًا من أن رسالة الإسلام روحانية فقط، ولنا الحق فيما عدا ذلك من مسائل ومشاكل.» ومن المهم هنا أن نلاحظ أمرَين؛ الأول أن عمارة سيتوقف طويلًا عند عبارة علي عبد الرازق «ما نشرتُه قديمًا»، لينطلق منها إلى أن الرأي المشار إليه لم يكتبه علي عبد الرازق، وإنما فقط «نشَره»، وذلك اعتمادًا على أن علي عبد الرازق لم يقُل «ما كتبتُه» بل قال «ما نشرتُه». الأمر الثاني أن عبارة «رسالة الإسلام روحانية فقط» — والتي ينكر عبد الرازق أنه قالها — عبارةٌ لم ترِد بالفعل في الكتاب، وهذا ما قاله علي عبد الرازق في الرد الذي ردَّ به على التُّهَم السبع التي وُجِّهَت إليه من هيئة العلماء؛ ولذلك ردَّ علي عبد الرازق على ما كتبه أحمد أمين في مجلة «رسالة الإسلام» بتعقيبٍ نُشر في العدد التالي (مايو ١٩٥١م) نفى فيه أن يكون القول بأن «رسالة الإسلام روحية فقط» رأيه لا اليوم ولا قديمًا، «إلا أن هناك خطأً في التعبير جرى به لساني في المجلس الذي نتجادل فيه ونستعرض حال المسلمين، وما أدري كيف تسرَّبَت كلمة روحانية الإسلام إلى لساني يومئذٍ؟ ولم أدرِ معناها؟ ولم يكن يخطر لي ببال، بل لعله الشيطان ألقى في حديثي بتلك الكلمة، وللشيطان أحيانًا كلماتٌ يلقيها على ألسنة بعض الناس. هذه كلمة تصحِّح وضعًا شخصيًّا أرى من الإنصاف أن يُصحَّح.»١٢
يتساءل عمارة تعقيبًا على قصة الحوار الذي دار بين أحمد أمين وعلي عبد الرازق عن دلالة عبارة علي عبد الرازق «ما نشرتُه قديمًا»: هل هو مجرد ناشرٍ وليس مؤلفًا؟ ويرى أن هذه القضية تمثِّل علامة الاستفهام الكبرى التي لا يكفي في الإجابة عنها حقيقة نقض الرجل، في سنوات عمره التي تلَت صدور الكتاب، للفكرة المحورية — مرةً أخرى التأكيد على محورية الفكرة — التي دارت حولها صفحاته القليلة. ويتخذ من عبارة الشيخ علي عبد الرازق المجازية بأن الشيطان ألقى على لسانه العبارة التي لم يقُلها ذريعةً لتساؤل أخطر هو: مَن هو الشيطان الذي ألقى هذا الرأي — لاحظ «الرأي» وليس «العبارة» — إلى علي عبد الرازق؟! هنا يتجنَّب عمارة طرح أسئلةٍ أخرى أكثر جدوى في الكشف عن سياق «الحوار» الذي دار بين أحمد أمين وعلي عبد الرازق، أسئلة مثل: لماذا حرَص أحمد أمين على الكتابة عن هذا الحوار؟ ولماذا حرَص على إبراز العبارة الإشكالية التي كانت ضمن الاتهامات التي وُجهَت للرجل؟! هل في الأمر شبهة محاولة «الإيقاع» بالرجل؟! إن حرص علي عبد الرازق على الرد ونفي «العبارة» الإشكالية أن تكون وردَت على لسانه، بل ونسبتها إلى الشيطان، يكشفُ لنا إحساس عبد الرازق أن ثمَّة «وقيعة» في نشر الحوار الذي دار؛ لذلك لجأ الرجل إلى المجاز موظِّفًا قصةَ إلقاء الشيطان بعضَ العبارات على ألسنة الرسل والأنبياء، فما بالك وهو ليس رسولًا ولا نبيًّا. كان الرجل يعتصم بطريقةٍ غير مباشرة بما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى مخاطبًا محمدًا ﷺوَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (سورة الحج، الآية: ٥٢).
لكن عمارة مشغولٌ بأمرٍ آخر هو الانتقال من «العقدة» — علامة الاستفهام الكبرى — إلى «الحل» وكشف «السر»، وهو: «من الشيطان الذي فعل ذلك بعلي عبد الرازق وألقَى في كتابه وعلى لسانه بكلمات الإثم»؟ ولكي يصل إلى أن الشيطان هو «طه حسين» كان عليه أن يخوضَ في سلسلة من المتاهات المضلِّلة — شأن كل كُتاب القصص البوليسية — لكي يجذبَ انتباه القارئ، ويحبسَ أنفاسه، حتى إذا وصل إلى كشف «السر» أحسَّ بالارتياح العميق والاستسلام الكامل للاقتناع به.
يستشهد عمارة — أولًا — بما قاله الشيخ محمد بخيت المطيعي، عضو هيئة كبار العلماء التي حاكمَت علي عبد الرازق، ويصفه عمارة وصفًا لافتًا بأنه «واحدٌ من أصحاب الإنتاج العلمي المتميِّز»!، وذلك في كتابه «حقيقة الإسلام وأصول الحكم»؛ حيث ذهب المطيعي إلى أن الكتاب ليس من تأليف علي عبد الرازق؛ لأن «كثيرين ممن يتردَّدون على المؤلِّف قالوا إن الكتاب ليس له فيه إلا وضع اسمه عليه فقط منسوبًا إليه، ليجعلَه واضعوه من غير المسلمين ضحيةَ هذا الكتاب، وألبسوه ثوب الخزي والعار إلى يوم القيامة، وشهَّروا به تشهيرًا لا يرضاه لنفسه عنده أدنى مُسْكة من العقل.»
والشاهد الثاني هو محمد ضياء الدين الريس الذي يرجِّح أن المستشرق «مرجليوث» أو أحد تلامذته هو مؤلِّف الكتاب، ويستند في ذلك إلى سفَر علي عبد الرازق إلى بريطانيا وإقامته فيها لمدة عامَين: «فلا بد أنه كان متصلًا بالمستر مرجليوث أو تتلمذ عليه، فإن لم يكن مرجليوث نفسه فأحد أعوانه أو أحد المستشرقين الآخرين، مثل توماس أرنولد، الذي يشير إليه الشيخ أو الكتاب في غير موضع ويصفه بالعلَّامة.»
الشاهد الثالث، الذي تتحدَّد على أساس شهادته ماهية الشيطان الذي ورَّط علي عبد الرازق في هذا الكتاب، هو الشيخ أحمد حسن مسلَّم، الذي كان في ضيافة أسرة عبد الرازق — بالمصادفة البحتة — وهناك التقى بالشيخ علي. وبعد صلاة المغرب لاحظ الشيخ مُسلم آيات الخشوع على الشيخ علي عبد الرازق حتى إنه تنفَّل — أي صلى النافلة، وهو ما زاد على الصلاة المفروضة الواجبة — بعد المغرب بست ركعات، والعادة أداء السُّنة بركعتَين فقط. وكان الشيخ مسلَّم قد اندهش لذلك الورع من جانب علي عبد الرازق فسأله: كيف يكون حرصك على أداء السُّنة بهذه الطريقة، وأنت مؤلف كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وهو كتابٌ عليه كثير من المآخذ التي تقدح في العقيدة؟ والغريب أن هذا التساؤل من جانب الشيخ مسلم — وهو من علماء الأزهر وعضو لجنة الفتوى فيه آنذاك — لم يلفت عمارة فيه سوى إجابة علي عبد الرازق غير المعقولة، كأن عبد الرازق تقبَّل — هكذا ببساطة — مقولة أن الكتاب به مآخذ تقدح في العقيدة. لم يلتفت عمارة إلى غرابة السؤال، بل وشذوذه، خاصةً في هذا السياق، والرجل ضيف — بالمصادفة البحتة — في بيت عبد الرازق. لم يلتفت عمارة إلى شيءٍ من ذلك؛ لأن «الحبكة» القصصية تجعل ذلك كله ممكنًا؛ فالمهم هو الإجابة التي رد بها الشيخ على هذا التساؤل الغريب والشاذ. يقول الراوي الثاني — عمارة — على لسان الراوي الأول — الشيخ مسلَّم: «فسكَت علي عبد الرازق قليلًا، وقال لي: «وهل أنا الذي ألَّفتُ هذا الكتاب؟ إنما ألَّفه الدكتور طه حسين!» فسألتُه: ولماذا نسَبه إليك؟ فقال الشيخ: لقد فاجأني بالكتاب وعليه اسمي.» وتستمر الرواية — رواية القصة البوليسية على لسان عمارة نقلًا عن الشيخ مسلَّم — لتحكي أن الشيخ علي عبد الرازق حين سأل طه حسين عن سبب نشر الكتاب، دون علم الأول وباسمه على غلاف الكتاب بوصفه مؤلفًا، أجاب طه حسين — والعهدة على الراوي طبعًا: «لكي تكون لك شهرةٌ عالمية، وذلك بعد أن تنقل عنك وسائل الإعلام الأجنبية والعالمية وتتحدَّث عن هذا الكتاب وما به من فكر.»
لكن هل تنتهي القصة عند هذه النتيجة «المفاجأة» — كما في روايات آجاثا كريستي وقصص شارلوك هولمز — أم لا بد لحبكة السرد من قشرة «الأكاديمية»، التي تعطي لهذا النمط من السرد القصصي طابعًا خاصًّا؟! إن اعتراف علي عبد الرازق — المجني عليه — ليس كافيًا؛ فلا بد للمخبر البوليسي — مؤلف القصة — أن ينتزع اعترافًا من «الجاني» نفسه، لكي تكتمل أركان القضية. إن المجني عليه — علي عبد الرازق — تحمَّل بفروسية نادرة تبعات الكتاب خشية إحراج الصديق أو وضعه في موقفٍ غير كريم، وهذه هي سمة أو سمات الفروسية التي لا بد أن يتحلى بها المجني عليه لكي تنكشف مدى «نذالة» الجاني وخسَّة أخلاقه، وضربه بكل القيم عُرض الحائط. هكذا يعثر المخبر السري — محمد عمارة — على دليل الإدانة باعتراف الجاني نفسه.
ورد هذا الدليل في كتاب: «طه حسين يتحدث عن أعلام عصره» للدكتور محمد الدسوقي، الذي كان يدوِّن عبارات طه حسين فور سماعها أثناء عمله سكرتيرًا لطه حسين في مجمع اللغة العربية بالقاهرة. وفي سياق كلامٍ كثيرٍ قاله طه حسين عن كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، وظروف نشره، يتوقف عمارة أمام شاهدَين في كلام طه حسين: الشاهد الأول هو تلخيص طه حسين للفكرة الأساسية للكتاب؛ حيث يرى محمد عمارة أن ما قاله طه حسين هو «نصٌّ لسطورٍ من الكتاب كانت محفورةً في ذاكرة الرجل»، الذي لم يكن قارئًا، وبين زمن الإملاء — أي إملاء طه حسين لهذا الكلام — وتأليف الكتاب قرابة النصف قرن من الزمان؟
هكذا ضبط عمارة طه حسين متلبسًا بحفظ بعض سطور الكتاب عن ظهر قلب. ولكي يكون الضبط قانونيًّا جعل من الكلام الذي كان يرسله طه حسين حُرًّا — ويدوِّنه الدكتور محمد الدسوقي — «إملاء» قصديًّا واعيًا. ويكون التساؤل: كيف احتفظَت ذاكرة طه حسين بهذه السطور من الكتاب مدة خمسين عامًا إلا أن يكون هو مؤلف الكتاب؟! لكن هذا الشاهد على خطورته ليس كافيًا، وربما استطاع دفاع «المتهم» أن يطعنَ فيه من جوانبَ عديدة، ليس أهمها أن كلًّا من طه حسين وعلي عبد الرازق أبناء مدرسةٍ فكريةٍ واحدة في منطلقاتها الفكرية وأسسها المعرفية؛ لذلك لا بد من شاهدٍ آخر يجده المخبر السري في كلام طه حسين يُثبِت من خلاله «المشاركة» في تأليف الكتاب على الأقل. والعبارة التي يعتبرها عمارة مفتاح سر باب العلاقة بين طه حسين وبين الكتاب «العلاقة الفكرية التي تدخُل في صميم المشاركة في الفكر الذي حملَه هذا الكتاب، وليس مجرد الدفاع عنه بعد صدوره مطبوعًا». هذه العبارة — التي تمثل شاهد الإثبات النهائي — هي قول طه حسين «على أني قرأتُ كتاب الشيخ علي قبل طبعه ثلاث مرات، وعدَّلتُ فيه كثيرًا.»
لكن ما لنا وللمناقشة المنهجية في عملٍ قصصي بوليسي هدفه ليس التسلية والترفيه بل تلويث الكتاب وصاحبه أولًا، وتلويث تيارٍ فكري أصيل في الفكر العربي الحديث والمعاصر ثانيًا. لقد صار علي عبد الرازق «كاذبًا» حين نسَب الكتاب كله لطه حسين في اعترافه للشيخ مسلَّم مُخليًا مسئوليته تمامًا من المشاركة في تأليف الكتاب، أو حتى بالعلم بوجوده قبل صدوره مطبوعًا. ولا شك أنه «كاذب» كذلك حين أعلن مرارًا وتكرارًا مسئوليته الكاملة عن الكتاب. أما طه حسين فهو «مهرِّج» يؤلِّف كتابًا وينشُره باسم صاحبه، ثم يقول له مازحًا أردتُ أن أجلب لك الشهرة والمجد. ومع تسليمنا «بكذب» علي عبد الرازق في التبرؤ من الكتاب تمامًا، بناءً على النتيجة التي انتهى إليها عمارة، فإن فروسية الرجل النادرة التي تبدَّت في عدم رغبته في إحراج الصديق أو مضايقة الضيف تتبدَّد تمامًا. ويبقى السؤال الذي يتحاشاه عمارة: إذا كان الأمر هو ما انتهى إليه عمارة، فلماذا تحمَّل علي عبد الرازق كل ما حدث له، وهو ليس قليلًا، واستمر في تحمُّله حتى مات؟! ولماذا لم يجد سوى الشيخ «مسلَّم» ليُفضيَ إليه بسرِّه الرهيب! وما شأن طه حسين، الذي لم يتبرأ من الأفكار، لماذا ترك الرجل يعاني وحده دون أن يتقدم ليشارك الرجل بعض المسئولية؟! أليست هذه قمة «الخسَّة» و«النذالة»؟!
لكن الأمر كله ينكشف من وراء هذه القصة البوليسية — غير المحبوكة وغير المسلية — حين يدرك القارئ أن عمارة أراد إلصاق مسألة «أن الإسلام عقيدةٌ روحية لا تشريعية» بالكتاب. ولما كانت العبارة لا وجود لها في الكتاب، كما أنها عبارةٌ ما فتئ علي عبد الرازق يتبرأ منها منذ مذكِّرته الدفاعية التي قدمها إلى هيئة كبار العلماء عام ١٩٢٥م، وحتى رده على أحمد أمين في مجلة «رسالة الإسلام»، فقد كان الحل هو نسبتها إلى «مشاركة» طه حسين في تأليف الكتاب. ومن الواضح أن عمارة في هذا السرد القصصي المُمِل والمُضجِر كان يتحاشى الظهور بمظهر «المتراجع» عن الحماس للكتاب؛ الأمر الذي يعني دفاعه عن فكرة «الخلافة» التي سبق له أن نقدَها عام ١٩٧٢م، وهي الفكرة التي تمثِّل محور الكتاب.
لقد قام عمارة بإعادة «محورة» كتاب علي عبد الرازق، فنقله من محور الصراع السياسي ضد فكرة «الخلافة»، التي أراد الملك فؤاد أن يتربع على عرشها بمساندة الإنجليز (عمارة ١٩٧٢م)، إلى محور «الإسلام عقيدة لا شريعة»، وذلك لكي يُعيد زرعه في سياق التآمر الاستعماري الغربي ضد الإسلام والمسلمين، ويُعيد توظيفه في الصراع الفكري الحالي بين «أنصار الإسلام هو الحل» وأنصار «الدولة المدنية». من هنا الحرص على الوصول إلى نتيجة «مشاركة» طه حسين في تأليف الكتاب، لكي تكون الفكرة المحورية المبتدعة عام ١٩٩٤م من صنع طه حسين، ويظل علي عبد الرازق — المحتفى به عام ١٩٧٢م — بمنأًى عن القول الجديد.
وإذا كان السياق الآني للصراع بين أنصار الدولة «الدينية» والمدافعين عن الحكم المدني هو الذي فرض «المواجهة» بين الفريقين، فقد كان كتاب علي عبد الرازق — وما يزال — سلاحًا من أهم أسلحة هذه المواجهة. من هنا نفهم سر هذا الحرص من جانب عمارة على إعادة «محورة» الكتاب، في محاولةٍ مستميتةٍ لتفريغ الكتاب من محتواه وطاقته لمنع القُرَّاء من تداوله. وهنا نرى عمارة يحطب في حبل الأزهر تمامًا، الأزهر الذي أدان الكتاب وصاحبه عام ١٩٢٥م، ثم برَّأ الكتاب وصاحبه عام ١٩٤٦م، ثم عاد يُدينه ويلعنه عام ١٩٩٣م. هكذا تنكشف الدلالة العميقة لهذه القصة البوليسية التي سردَها عمارة عن كتاب علي عبد الرازق، دلالة سيطرة الذهنية «التقليدية» النقلية واستبدالها بالذهنية «العقلية» الاستدلالية التي كانت في السبعينيات وما قبلها.