الفصل الرابع
اللغة الدينية والبحث عن ألسنية جديدة
قراءة في فكر محمد أركون
١⋆
من الصعب — إن لم يكن من المستحيل — على الباحث في فكر
محمد أركون أن يتوقف عند أحد جوانبه دون أن يجد نفسه منخرطًا
في تحليل الجوانب الأخرى. وإذا کنا سنركِّز هنا على محاولته
الهامة لبحث خصوصية اللغة الدينية، فإننا لا نستطيع أن نناقش
هذه المحاولة بمعزلٍ عن سياق الجوانب الأخرى لمشروعه الفكري
المتعدِّد الجوانب والمركَّب من طبقات — أو طوابق — يصعب الفصل
بينها. إن البحث عن خصوصية اللغة الدينية ينطلق من مسلَّمة
أساسية مفادُها قدرة هذه اللغة على تحويل الآني والتاريخي
والنسبي — الاجتماعي إن شئنا الدقة — إلى مجال «المطلق»
و«المتعالي» و«الأزلي». وهذه القدرة تحتاج من الباحث إلى
تحليل «آليات» تلك اللغة، والتي تمكِّنها من إحداث هذا التحوُّل.
وهذا التحليل قد يُفضِي في النهاية — بذلك يحلُم أركون — إلى
تأسيس «ألسنيات» خاصة بتلك اللغة، وإلى طرح مفهومٍ جديد
للتيولوجيا.
ندرك على الفور ودون حاجة إلى إثبات أن المشروع الفكري
لأركون مشروعٌ ينبني داخل منظومة الفكر الديني بصفةٍ عامة،
والفكر الإسلامي بصفةٍ خاصة. وهذا ما يحدِّد نقاط الاختلاف بين
منهجه وبين المنهجية الوضعية الاستشراقية؛ فالمستشرق يدرُس
الإسلام بوصفه موضوعًا متخارجًا عنه، موضوعًا قابلًا للفحص
والقياس والوصف بحياديةٍ تامة. هذا بالطبع إذا استبعدنا بعض
الدراسات الاستشراقية الممالئة والمنافقة لتحقيق مصالح
ومنافع مادية أو سياسية على حساب العلم والمعرفة؛ فالمستشرق
«الموضوعي»، بالمعنى الوضعي السالف، لا ينخرط انخراطًا
علميًّا نقديًّا في تحرير المشكلات، بل يكتفي بالوصف الخارجي
المحايد، تاركًا الانخراط للمسلمين أنفسهم، وذلك على أساس أن
تلك المشكلات هي مشكلاتهم هم. منهج أركون يتنكَّر لهذه
الموضوعية «الباردة»، بل ويُدينها من منظور أن توهُّم الفصل بين
الباحث وموضوعه هو وهمٌ «كاذب» يسعى إلى إخفاء الجانب
الأيديولوجي في الخطاب الاستشراقي.
٢
لكن موقف أركون النقدي من الخطاب الاستشراقي لا يضعه في
خانة الخطاب الإسلامي الشائع والمنتشر والمسيطر؛ لأن هذا
الأخير يمثِّل في علاقته بالتراث الإسلامي الكلاسيكي «الصدى»
الخافت والضعيف. إنه يُعيد إنتاج الجانب «الأرثوذكسي» في هذا
التراث عن طريق «التكرار» و«الانتقاء» النفعي الخالص دون
قدرة على ممارسة «الحيوية» التي كان يتمتع بها التراث حتى في
صيغته الأرثوذكسية الجامدة. لعل هذا هو الفارق الواضح
الملموس بين «رسالة التوحيد» لمحمد عبده مثلًا وبين كتابات
أبي حامد الغزالي،
٣ أو بين «الغزالي» أشعري القرنِ الخامسِ الهجري
وتسامحه وبين «الغزالي» — الشيخ محمد — في القرنِ الخامسَ عشر.
وإذا كان الخطاب الإسلامي المسيطر في علاقته بالتراث يمثل
ضعفًا وتهافتًا، فإنه في بُعده السياسي يمثِّل قوةً على الحشد
و«التجييش» في مواجهة الأطماع الاستعمارية والإمبريالية من
جهة، وفي مواجهة عجز الأنظمة السياسية العسكرية أو التقليدية —
ذات المظهر العلماني الشكلي — عن إحداث «تنمية» حقيقية في
المجتمعات العربية الإسلامية من جهةٍ أخرى، لكن ليس معنى هذه
القدرة على الحشد والتجييش امتلاك هذا الخطاب للسلامة
المعرفية والصحة الإبستمولوجية، إنه خطابٌ أيديولوجي يستخدم
الإسلام «أداة» سياسية مستغلًّا حالة العجز المشار إليها،
والتي جعلَت الإسلام بالنسبة إلى المسلمين «الملاذ» أو
«الملجأ» الذي يسوِّر ذاتيتهم ويمثِّل حائط «الحماية» من كل الأخطار.
٤
هذا الخطاب الأيديولوجي يفتقد الأساس الفكري للفهم العلمي،
ويُضحِّي بالنقد الحر — الخلَّاق والمبدع — لحساب الاستهلاك الأيديولوجي.
٥ وأكثر من ذلك فإنه يمثِّل خطرًا فعليًّا على كل
خطابٍ نقدي يسعى للفهم والاستبصار، وللمساهمة في وضع الفكر
الديني في قلب التطورات العلمية الراهنة للوعي الإنساني. إنه
باختصارٍ خطابٌ يمثِّل خيانةً للتاريخ لأنه يكتفي بتقديم عملية
تعويضٍ «سيميائي» عن الوجود السياسي الهش للواقع الإسلامي.
٦
وإذا كان خطاب الاستشراق يكتفي بالوصف «المحايد» المغلَّف
بادعاء «الموضوعية»، فإن الخطاب الإسلامي يعاني من إشكاليةٍ
أخرى، تلك هي تمسُّكه بآليات الفهم والتحليل الكلاسيكيَّين، وهو ما يجعله
معاديًا — لا مجردَ ناقدٍ فحسب — للخطاب الاستشراقي ولمنهجه الفيلُّوجي وتحليله
التاريخاني. وهذا العداء غالبًا ما يعبِّر عن نفسه في صيغة
تعارضاتٍ يضعُها بين «الإسلام» وبين الديانتَين الكتابيتَين
الأخريَين؛ المسيحية واليهودية. وعن طريق هذه التعارضات يصبح
فهم «الإسلام» من حق «المسلم» وحده دون غيره من البشر. لكن
للخطاب الاستشراقي مسئوليته التي شارك بها في صياغة هذا
التعارض، وذلك حين يرفض الانخراط في مناقشة إشكاليات الوضع
الإسلامي، مكتفيًا بدور الواصف.
١
يُقدِّم أركون مشروعه الفكري على أساس أنه مشروعٌ يسعى لتجاوز
عملیات الاستخدام الأيديولوجي للدين في الخطاب الإسلامي من
جهة، ومن جهةٍ أخرى يسعى إلى تجاوز الموقف الوضعي الحيادي
البارد للخطاب الاستشراقي. وتتحدَّد ملامح المشروع أساسًا من
خلال وعي الباحث بأنه وُلد في مجتمعٍ مسلم. ورغم أنه يحيا
ويُمارِس إنتاجه الفكري في مجتمع غير مسلم (فرنسا) فإنه — على
خلاف الموقف الاستشراقي — يحيا «تضامنًا تاريخيًّا مع هذا
المجتمع»، لكن هذا التضامن التاريخي لا يعني «الانحياز»
الأعمى إلى موقف الخطاب الإسلامي السائد والمسيطر؛ فالتضامن
التاريخي لأركون يتمثل في تبنِّي «طريق التفكير الحر والكامل
(بحسب أفضل طرق الاجتهاد) في شروط وجود مجتمعات الكتاب.»
٧
نحن إذن أمام باحث يعي أهمَّ شرطَين من شروط إنتاج المعرفة:
الشرط الأول هو الوجود الاجتماعي للمفكِّر، الذي هو في حالة
أركون الميلاد في مجتمعٍ مسلم وتحصيل المعرفة في مجتمعٍ آخر
«من مجتمعات الكتاب»، وهي إشارةٌ ذكية إلى الثقافة الأوروبية
التي تمثِّل مرجع التفكير عند أركون. وهذا الوجود الاجتماعي
للمفكِّر حدَّد لأركون منظوره لرؤية الفكر الإسلامي، وللإسلام
كدين، في سياقٍ أوسع هو السياق الذي يطلق عليه مصطلح «مجتمعات
الكتاب». الشرط الثاني من شروط إنتاج المعرفة، وهو مؤسَّس على
الشرط الأول، هو الشرط الإبستيمي ممثلًا في أفضل طرق
الاجتهاد المتاحة للمفكِّر في عصره. ووعيُ أركون لهذا الشرط،
واستثمارُه لكل إمكانات المعرفة الممكِنة، هما اللذان يفصلان
بينه وبين الخطاب الإسلامي السائد فصلًا يصل إلى حدِّ التميُّز
الكامل.
في ردِّه على بعض الاعتراضات التي قيلت تعقيبًا على إلقائه
لبحث «العجيب الخلَّاب في القرآن»، يُحدِّد أركون إحدى مهام مشروعه
الفكري في مكافحة الاستخدام الأيديولوجي للدين، يقول: «أبذل
جهودًا عديدة لمكافحة الاستخدامات الأيديولوجية المحتدمة
اليوم في البلدان الإسلامية، وأقصد بذلك الاستخدام
الأيديولوجي للإسلام کدین (…). إن كل دراستي التحليلية وكل
جهودي تهدف إلى شق الطريق وتأمين شروط إمكان وجود فكرٍ
إسلامي، نقدي وحر. وأقصد بذلك الفكر الذي يطارد كل
الاستخدامات الأيديولوجية داخل الفكر الديني الذي يريد أن
يكون منفتحًا وحُرًّا. والآن ربما لم أكن قد نجحتُ تمامًا في
مهمتي هذه؛ لأني أعرف بسبب ممارستي لعلم الألسنيات أنه ليس
هناك خطابٌ بريء. بالطبع يمكنك استخلاصُ بعض الترضيات الضمنية
مما أقوله وأكتبه، ولكني مستعدٌّ لإدانة المسلَّمات الأيديولوجية
التي تستطيع اكتشافَها في بحوثي، ومستعدٌّ لإخلائها من أجل
التوصُّل إلى الهدف الأساسي الذي أبتغيه؛ أي تحرير الفكر
الإسلامي وتحرير الإسلام بصفته دينًا من الاستخدامات
الأيديولوجية التي تعرَّض لها في الماضي، والتي
هي ملتهبة الآن كما تعرفون في البلدان الإسلامية.»
٨
من الواضح في هذه الإجابة أمران؛ الأمر الأول: أن أركون لا
ينكر تموضعه «داخل» الفكر الإسلامي، ويعترف في الوقت نفسه أن
هذا التموضع يتطلب «بعض الترضيات الضمنية». الأمر الثاني:
إنكاره التام لوجود «قصد» أيديولوجي في كتاباته. قد يكون
هناك نوعٌ من التقصير، لكنه يُبدي استعداده التام للتنازل عن
أية أفكار أو أطروحات تنكشفُ له أيديولوجيتُها، لكن أليست هذه
«الترضيات الضمنية» التي يعترف بها أركون نابعةً من وجود
أسبقياتٍ فكرية ذات طابعٍ أيديولوجيٍّ ما متجذِّر في قلب الوجود
الاجتماعي التاريخي؟ هذا سؤال لا يمكن تجاهلُه في مناقشة
مشروع أركون الفكري، خاصة في تردده — كما سنشير فيما بعدُ —
بين الحفاظ على «التيولوجيا» وبين التخلُّص منها من أجل تأسيس
«الوعي العلمي».
ومع ذلك لا يمكن أن نتجاهل الشجاعة الفكرية لأركون حين
يعترف بوجود هذه الترضيات الضمنية، وهذه الشجاعة عينُها هي
الضمان والحماية من وقوع المفكِّر في «التورُّطات» الأيديولوجية.
تلك الشجاعة هي التي تميِّز خطاب أركون عن مجمل الخطاب
الإسلامي. وبعبارةٍ أخرى نقول إن هذه الشجاعة هي التي تُبرز
جانب «النقد الحر» في خطاب أركون. إنها شجاعةٌ نابعة من الوعي
بأن كل خطابٍ يزعُم امتلاکه للحقيقة هو خطابٌ مشبوه، وأن القراءة
البريئة — والمعرفة المحايدة — لا وجود لها. إن الترضيات
التي يعترف بها أركون — رغم أنها ضمنية ومضمَرة — تفقد بهذا
«الإعلان» أو «الاعتراف» قدرتها على أن تمثِّل خطرًا على بنية
الخطاب، كما هو الأمر في نمطَي الخطاب اللذَين لا يكُف أركون عن
توجيه سهام نقده إليهما؛ الاستشراقي والإسلامي الكلاسيكي
والراهن على السواء.
هذه الترضيات في الحقيقة هي نتيجةٌ طبيعية لموقف «التضامن»
مع المجتمع الذي وُلد فيه المفكِّر، كما سبقَت الإشارة. وإذا كان
«التضامن» يتطلب بعضَ الترضيات فما ذلك إلا لأن الفكر ظاهرةٌ
تاريخيةٌ اجتماعية. ووعيُ المفكر لانخراطه التاريخي ورهاناته
الاجتماعية هو الوعيُ الضامن لعدم تحوُّل «الترضيات» إلى
أيديولوجيا؛ أي إلى وعيٍ زائف، وخطابٍ مزيف.
ينطلق مشروع أركون إذن من موقف «تضامن» مع الإسلام بوصفه
الإطار المرجعي للمجتمع الذي ينتمي إليه؛ أي إنه تضامنٌ نابع
من «هُوية» الباحث. وهذا التضامن تحديدًا هو الذي يحدِّد
مستويات مشروعه الفكري، المكوَّن من ثلاث طبقات أو مستويات:
-
المستوى الأول: هو المستوى النقدي، على أساس أن
«النقد» شرطٌ جوهري لتأسيس كل ما هو
جديد معرفيًّا. يبدأ أركون مشروعه
بنقد الخطاب الإسلامي والخطاب
الاستشراقي معًا. وهذا النقد يتضمَّن
نقد مشروع «التنوير» العربي، من حيث
إنه مشروعٌ اعتمد بصفةٍ أساسية على
العقلانية الوضعية الأوروبية التي
يوجِّه إليها أركون نقدًا قاسيًا من
منظور المنهجية العلمية المعاصرة،
تلك المنهجية التي لا تضع العلاقة
بين العقلي والأسطوري على مستوى
التضاد والتناقض، كما الحال في
عقلانية النهضة الأوروبية.٩
-
المستوى الثاني: من مستويات المشروع الفكري لأركون
هو التوجُّه إلى نقد الماضي والتراث.
وإذا كان الهدفُ من نقد الخطابات
السابقة نزعَ قناع الأيديولوجيا عن كل
واحد منها، فإن قراءة التراث قراءةً
نقديةً تهدف إلى إعادة موضعته في
«التاريخ» بعد أن أدَّت سيادة
«الأرثوذكسية» إلى دمج التاريخي
الاجتماعي في «المقدَّس» وتحويله إلى
«وحي». إنها قراءةٌ «تفكيكية» تكتشفُ
تعدُّديته التي حاولَت «الأرثوذكسية»
تغطيتَها في محاولة لمصادرة التاريخ
كله لصالحها. هذا التراث ينتظم في
الواقع ثلاثة تراثات لكلٍّ منها
أرثوذكسيته الخاصة؛ فهناك التراث
السني والتراث الشيعي والتراث
الخارجي (نسبة إلى الخوارج). ومن
اللافت هنا أن أركون يُدمج التراث
المعتزلي في دائرة التراث السني، وهو
إدماجٌ يصادر حقَّه في أن يكون تراثًا
مستقلًّا كالتراث الخارجي. ولا
تفسير لهذا الدمج — والاستبعاد — إلا
أن أركون يتعامل مع التراث من منظور
«التراث الحي»؛ أي التراث الذي ما
زالت له امتداداتُه المجتمعية. ولعل
اندراج التراث الاعتزالي الفكري في
التراث الشيعي الزيدي — وهو تراث حي — هو
الذي سوَّغ لأركون عملية الإدماج تلك.
وعلى أية حال يبدو حضور التراث
المعتزلي في كتابات أركون — المترجَم
منها بالعربية بصفةٍ خاصة — شاحبًا، فضلًا عن أن
قراءة أركون لبعض أطروحاته تُعد قراءةً
إسقاطية إلى حدٍّ كبير.١٠
-
المستوى الثالث: يُعد نقد الخطابات المعاصرة
والتراث هو المحاولة الجسورة لقراءة
الوحي/القرآن قراءةً تزامنيةً مضادة
للقراءة الإسقاطية التي استمرَّت
قرونًا وقرونًا في الفكر الإسلامي
والمستمرة حتى الآن. والمقصود
بالقراءة التزامنية استعادة لحظات
التلقي الأصلية «حيث كان العقل يمارس
آليته وعمله بطريقةٍ معيَّنة ومحدَّدة،
دون إسقاط مفهوم العقل، أو العقلاني
المتأثر بالفلسفة الإغريقية … إنها
قراءة العجيب المدهش كما كان يتلقاه
العربي المعاصر لتكوُّن النص»،١١ وكما أن القراءة
التزامنية تمثِّل نقيضًا للقراءة
الإسقاطية، فإنها تمثِّل من جهةٍ أخرى
نقيضًا للقراءة التجزيئية، وذلك من
حيث هي — التزامنية — قراءة «كلية» تنظر
إلى القرآن في كُليَّته، لكن هذه
القراءة تحتاج لكي تتحقَّق إلى ضرورة
اختراق التراكمات الدلالية
والسيميائية التي أنتجَتها القراءات
التراثية، وكذلك القراءات المعاصرة
ذات الطابع المدرسي؛ أي إنها تحتاج
إلى عملياتٍ مرهقة من النفي والاختراق
حتى يصل الباحث إلى اكتشاف «آليات»
اللغة الدينية وطرائق اشتغالها.١٢
هذا المشروع المتعدِّد المستويات ليس مشروعًا ناجزًا، بل هو
مشروع في حالة إنجازٍ يومي؛ ولذلك يحتاج إلى جهودٍ كثيرة
ومتعدِّدة. ولصعوبة المشروع وتعدُّد مستوياته يبدو أن أركون حريصٌ
على الحَفْر في جميع الاتجاهات والمجالات، فاتحًا الأبواب
لجهود باحثينَ آخرين يمكِن أن يجذبَهم المشروع. من هنا تأتي
صعوبة الحكم على المشروع حكمًا نقديًّا نهائيًّا؛ لأن ما يقدِّمه
أركون هو كالهيكل العام والخطوط الرئيسية. وهناك دعوةٌ مفتوحة
للباحثين والدارسين إلى المشاركة في المشروع وإغنائه وإخصابه
بالإضافة أو الحذف؛ أي بالنقد الحر الخلَّاق؛ يقول أركون: «إن
مشروعي العام يتعلق فعلًا بالقيام بدراسةٍ نقدية — بالمعنى
الفلسفي للكلمة — لشروط ممارسة الفكر الإسلامي عَبْر حلقات
تاريخه الطويل؛ لهذا السبب فإني أرجو من القارئ ألَّا يُطلق
حُكمه على كل كتابٍ منفصلًا على حدة، وحتى ألَّا يُطلق حُكمه على كل
الكتب التي نشرتُها حتى الآن، بل ينتظر ويتروَّى قليلا.»
١٣
والأسئلة التي يثيرها هذا المشروع كثيرة، والإشكاليات التي
يواجهها لا حصر لها؛ فكيف يُمكِن على سبيل المثال ممارسة فكرٍ نقدي
حر من داخل «الفكر الإسلامي» بتاريخ تورُّطاته الأيديولوجية
الطويل منذ لحظة اكتمال الوحي؟ وأي طاقةٍ يحتاجها المفكِّر
للخروج من هذه الورطات التي لم يكد ينجو منها اتجاه أو مفكِّر،
بما في ذلك الفكر العقلاني النقدي الحر المُمثَّل في التيار
الاعتزالي والفلسفة الرشدية؟ وإلى أي حدٍّ يمكن للقراءة
التفكيكية أن تساعد في عملية الاختراق، اختراق تلك الحُجُب
الأيديولوجية، وصولًا إلى قراءة النص الأصلي قراءةً تزامنية
كلية؟! وهل هذه الرحلة العلمية — التي تعتمد منهج التحليل
الأركيولوجي — قادرة على تحقيق تلك الغايات؟ أو بعبارةٍ أخرى
هل تلك الغايات مشروعة معرفيًّا؟ وهل يمكن للباحث — أي باحث —
أن يتجاوز طبقات التراكُم الدلالي والسيميائي الكثيفة لكي يصل
إلى المعنى السيميائي «الأصلي»؟ وهل ثمَّة وجودٌ فعلي لهذا
المعنى «الأصلي»؟
٢
تلك كلها أسئلة يثيرها مشروع أركون، وكلها أسئلة مشروعة
وحرجة، خاصةً في إطار مستوى الوعي الذي يتحرَّك فيه الخطاب
الإسلامي، الذي يسعى أركون لتنشيطه بالنقد الحر. إنه خطابٌ
حريصٌ أشد الحرص على طابعه الكلاسيكي، خطابٌ يتمسَّك بلغة تحليلٍ
وأدوات فهمٍ متخلفة عن لغة العلوم المعاصرة في الوعي الغربي. وهذا
التعارض بين اللغات هو منشأ سوء الفهم وسوء التقدير الذي
يعوق أيةَ محاولةٍ للبحث النقدي الحر. ومما يُساعِد على تعقيد
الموقف — بالنسبة إلى أي خطابٍ علمي — هو طبيعة التناقض الذي
تعيشه المجتمعات الإسلامية، وهو تناقض يكرِّس هيمنة الخطاب
الإسلامي المدرسي.
يعيش العالم الإسلامي لحظتَين متناقضتَين تؤدِّيان إلى حالةٍ من
الشيزوفرانيا الاجتماعية والفكرية؛ لحظة التقدم المادي
التكنولوجي التي أنتجَها الوعي الأوروبي، وهي لحظةٌ يحيا فيها
الإنسان المسلم بكل كيانه، وبكل تفاصيل حياته اليومية،
واللحظة الأخرى لحظة الوعي الديني، وهو وعيٌ لم يتطوَّر تطورًا
جذريًّا منذ القرنِ الرابعِ الهجري، الحاديَ عشرَ الميلادي. وهذا
التناقض بين اللحظتَين هو الذي يجعل الطبيب المسلم قادرًا على
ممارسة العمل في عمليات التخصيب في أنابيب الاختبار دون أن
تتطوَّر رؤيته إلى نفسه وإلى الواقع بحكم هذا التطور العلمي
الذي يمارسه. إنه قادر على الفصل بين الممارسة العلمية داخل
المعمل وبين الاندماج في الوعي الأسطوري خارجه.
هذا الموقف المعقَّد اجتماعيًّا وفكريًّا يزرع في اللاوعي
الجمعي حالةً من الخوف من تطبيق مناهج الدرس العلمي في
تطوراتها المعاصرة على مجال الفكر الديني. هناك دائمًا ذلك
الذعر على الحساسية الدينية من أن يصيبَها ضرر الامِّحاء
والزوال إذا اقترب منها أحدٌ بمناهجَ علميةٍ غير مألوفة بالنسبة
إلى الخطاب المدرسي. إن الانخراط التام في ممارسة العلم قد
يؤدي إلى «إلغاء» حقيقة الوحي والرسالة السماوية، هكذا يعتقد
الناس، خاصةً إذا تمَّ تناول مسألة الوحي والدين تناولًا علميًّا
يتجاوز حدود الأطروحات الأيديولوجية الأثيرة جدًّا على قلب
الفكر الديني الكلاسيكي. هكذا ينشأ «التعارض الثنائي الغالي
جدًّا على الفكر الإصلاحي ما بين رسالةٍ متعالية، نهائية،
ثابتة لا تتغير ولا علاقة لها بأية رسالةٍ أخرى من جهة،
وبين تاريخ البشر المصنوع من أحداثٍ مرحليةٍ أو ظرفيةٍ عابرة من
جهةٍ أخرى.»
١٤
هذ الموقف الإبستيمي حاضرٌ بدرجة أو بأخرى في قلب مشروع
«الفكر النقدي الحر»، حاضرٌ فيه بالسلب كما هو حاضرٌ بالإيجاب.
وقد أشرنا إلى حضوره الإيجابي من حيث هو موضوع للنقد وكشف
قناع الأيديولوجيا عنه، بمعنى أنه حاضرٌ إيجابيًّا من حيث هو
نقيضٌ ممدَّد فوق مائدة التشريح النقدي، لكن هذا الحضور
الإيجابي ليس كل القصة؛ فللحضور وجهُه السلبي المتمثِّل في كونه
يتحول إلى قوة «قمع» داخل بنية الخطاب النقدي الحر، بمعنى
أنه يمثِّل نوعًا من «الرقابة» الداخلية التي يُمارِسها الخطاب
على نفسه، ورغم أن الخطاب النقدي الحر يُحاوِل اختراق مساحات
«اللامفكَّر فيه» و«غير المسموح التفكير فيه»؛ أي رغم أنه
يحاول اختراقَ الأسوار المفروضة، فثمَّة أسوارٌ لا يسمح لنفسه
باختراقها.
ورغم أن أركون يدرك جيدًا «عدم التعارض» بين تطبيق المناهج
العلمية في دراسة الإسلام وتراثه وبين «العقيدة» نفسها، من
حيث هي قوةٌ روحية محركة وفاعلة، فإن هذا الوضع «الإبستيمي»
المشار إليه في الواقع الإسلامي يجعله دائمًا في حالة «حذر».
هذا «الحذر» ناشئ عن رغبةٍ عميقة في الوصول إلى عقل القارئ
العربي المسلم وقلبه، دون التضحية في سبيل ذلك بالدقة
المنهجية والصراحة المعرفية. إن وضع التاريخية في قلب تجارب
المجتمعات الإسلامية، ثم تتبُّع مصدر الدين من حيث هو أحد
مكوِّنات تلك التاريخية، لا يعني — فيما يرى أركون — «أنه
ينبغي أن نهجُر مفهوم كلام الله الموحى به في القرآن. وكل
الفكر الإسلامي لا يمكِن بعد الآن أن يتحاشى الدروس الجديدة،
حتى بالنسبة إلى الوعي الغربي، لتاريخ الأديان، والأديان
المقارنة، وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، والسيكولوجيا
الاجتماعية، والتحليل النفسي والألسنيات؛ أي باختصارٍ كل علم
يتعذَّر الوصول إليه الآن عن طريق اللغات الإسلامية الأساسية.
إن الأمر يتعلق بطرح مفهوم كلام الله طرحًا إشكاليًّا ضمن
التوجُّهات التي فتحَها العلم المعاصر، ثم طرح مفهوم الكتابات
المقدَّسة للمرة الأولى في تاريخ الأديان، خارج نطاق أي تيولوجية.»
١٥
لكن ليس المهم هو ما يعتقده أركون في هذا الصدد؛ فالقارئ
العربي في الشروط الإبستيمية المشار إليها سيظل يتشكَّك في
«حسن نوايا»، أي باحثٍ من طراز أركون. والأخطر من ذلك أن سلاح
«التكفير» والوصف بالإلحاد والردَّة جاهزٌ ومُشْرَع في
أيدي ممثلي الخطاب الديني الشائع والمسيطر. وأعنف من ذلك موقف ممثلي
السلطات السياسية — الذين ينازعون الإسلاميين سلطة الحديث
باسم الإسلام الصحيح — الذي قد يصل إلى فرض أنواعٍ مختلفة من «العقاب»
الصريح أو الضمني على مثل ذلك الطراز
من البحث. من هنا منشأ «الحذر» الذي يتآلف مع «التضامن
التاريخي» ليتولد عنهما معًا «بعض الترضيات».
٣
كيف يمكن قراءة القرآن قراءةً «كلية» مع الاحتفاظ بمفهوم
«التاريخية»؟ هذا سؤالٌ أوَّلي وبديهي؛ لأن إعادة وضع النص في
التاريخ تعني النظر إليه في «تكوُّنه»؛ كيف تكوَّن وتركَّب من
خلال «النزول» على مدى بضعٍ وعشرين سنة؛ حيث كانت الآية أو
الآيات تتلبَّس ببعض الوقائع الجزئية. وبنية النص، كما هو في
المصحف الآن، مخالفةٌ في ترتيب الآيات والسور — كما هو معروف —
لترتيب النزول؛ أي لسياق التكوُّن؟ إن القراءة الكلية التي
يسعى أركون لتحقيقها تتعارض تعارضًا شبه تام مع محاولة تحقيق
إعادة وضع النص في التاريخ. وليس كافيًا لتجاوز هذا التعارض
تلك الفُرقة التي يصطنعها أركون بين الظاهرة «القرآنية»
والظاهرة «الإسلامية»،
١٦ إن هذه التفرقة في الواقع تفرقةٌ شكلية؛
فالظاهرة القرآنية — بحسب أركون نفسه — ظاهرةٌ لغوية تعتمد
على المجاز من أجل «خلق الرأسمال الرمزي»، لكن ذلك الخلق يتم
عَبْر تحويل التاريخي المولِّد لتلك اللغة إلى مُتعالٍ عن طريق حجب
وطمس الشروط الفعلية لهذا التوليد والإنتاج. إن اللغة
المجازية تنبثق إذن من شروط ممارسةٍ اجتماعيةٍ تاريخية، لكنها
تقومُ بحجب هذه الممارسات لصالح الدلالة الرمزية التي لا بد
منها من أجل التوصُّل إلى التصورات الأكثر دوامًا.
١٧
ومعنى ذلك أن الظاهرة القرآنية متولدة أساسًا من التاريخ،
لكنها تُعيد إنتاج دلالاتٍ أكثر دوامًا، وتلك الدلالات هي التي
انبنَت عليها الظاهرة الإسلامية. والنظر إلى القرآن نظرةً كليةً
هو إسقاطٌ أحدثَته الظاهرة الإسلامية على الظاهرة القرآنية،
إذا ظلِلْنا نستخدم لغة أركون. وبعبارةٍ أخرى: إن اللغة
المجازية للقرآن التاريخي والاجتماعي تتسم بالتسامي إلى مجال
المطلَق، ثم تُعيد توليدَ التسامي وتُضْفيه على التاريخي
والاجتماعي في كل مرحلة. من البديهي أن ذلك يحدث بفعل انفتاح
دائرة «التأويل». ودائرة التأويل تلك التي أضفَت صفة «الكلية»
على «الظاهرة القرآنية»، التي هي ظاهرةٌ في تاريخيتها مجزَّأة.
من هنا لا يصح استنتاج أركون أن «كلية» النص هي كليةٌ جوهرية
ثابتة في طبيعته، إلا إذا كان هذا الاستنتاج من قبيل
«الترضيات الضمنية».
من المؤكَّد أن القرآن أحدث تجديدًا معنويًّا — سيمانتيًّا — عن
طريق استخدام المجاز، وعن طريق هذه اللغة المجازية تكتسب
اللغة الدينية رمزيَّتها القابلة دومًا للانفتاح من خلال دائرة
«التأويل» المشار إليها،
١٨ ومن المؤكَّد كذلك أن للغة القرآنية سيميائيتها
الخاصة على مستوى بِنْيتها الكلية من جهة (مُرسِل – وسيط – مُستقبِل
– جماعة – تأويل)، أو على مستوى مخاطبتها للوعي الكلي عن
طريق القلب أو اللُّب والشعور من جهةٍ أخرى،
١٩ لكن الأهم من ذلك أنها تحوِّل «العالم» إلى
«علامة» دالة على المطلَق، علامة كلية متجزِّئة إلى مجموعة من
العلامات الفرعية (الآيات). تُحيل اللغة القرآنية إلى بِنْية
العالم تلك عن طريق خلق حالةٍ من «الإبهار» في وعي المتلقي
أمام معجزة الخلق التي تتجاوز الإنسان.
٢٠ وكان يمكن لأركون أن يقف عند البِنْية الكلية
للقرآن المتماثلة — من حيث الشكل — مع بِنْية العالم كما
صاغتها اللغة القرآنية نفسها، أعني كونه نصًّا متسلسلًا
مُكوَّنًا من آيات وسُوَر (آية بمعنى علامة وبمعنى الوحدة اللغوية
المستقلة في القرآن، وكلا الاستخدامَين موجودٌ في لغة القرآن)
هي كلام الله، كما أن العالَم هو فعل الله.
لكن أركون راح يبحث عن «كلية» النص في «الظاهرة
الإسلامية»، رغم أنه بدأ من إقرار الاختلاف بينهما. راح يبحث
عنها في «التقمُّص الجسدي» المتمثل في الشعائر الدينية، وذلك
على أساس أن مجازية القرآن، أو بالأحرى تشكيلته المجازية،
لا تقع في النص وحده، بل في تحوُّل النص إلى ممارساتٍ شعائرية
وتلاوةٍ تعبدية.
٢١ لكن هذه «الكلية» تكون كذلك من منظور المسلم
الذي يمارس فعل التقمُّص، وليس من الضروري أن تكون كذلك من
منظور التحليل العلمي الذي يسعى إلى تحقيق قراءةٍ تزامنيةٍ ذات
طابعٍ تاريخي. في هذا الدمج بين «الكلي» و«التاريخي» نلمح
بعضًا من تلك «الترضيات الضمنية» التي أشار إليها أركون في
خطابه.
مما يدخل في باب «الترضيات» أيضًا إصرار أركون على مجازية
اللغة الدينية بصفةٍ عامة واللغة القرآنية بصفةٍ خاصة، ورفضه
للتفرقة المعروفة في علوم القرآن بين المكي والمدني في
القرآن، وهي تفرقةٌ لا تتناول المضمون فقط، بل تطال اللغة
والأسلوب. وفي تحليله لسورة التوبة يُضطَر إلى الإقرار بأنها
استثناء من الطابع المجازي للغة الدينية.
٢٢ والحقيقة أن إصرار أركون على «مجازية» اللغة
الدينية نابعٌ من مفهومه للكلية السابق الإشارة إليه، وهو
مفهومٌ يعتمد على عدم الفصل بين المجاز «اللغوي» والمجاز
بالمعنى الأنثروبولوجي. إن عملية التقمُّص الجسدي المتمثِّلة في
أداء الشعائر تحوِّل النص إلى مجازٍ بالمعنى الأنثروبولوجي؛ إذ
غاية كل مسلم أن يصبح قرآنًا متحركًا للاقتداء بالنبي الذي
قالت عنه زوجته السيدة عائشة: «كان خلقه القرآن.» وقد عمَّق
متصوفة الإسلام هذا المفهوم لفكرة القرآن المُشخَّص المتحرك من
خلال «الأفراد»، وخلاصةُ القول أنَّ تلك «الكلية» قيمةٌ مضافة من
«الظاهرة الإسلامية» على «الظاهرة القرآنية»؛ ولذلك تتعارض مع
مفهوم القراءة التزامنية لتقع في باب القراءة
الإسقاطية.
إن القراءات المتعددة للنص القرآني في تاريخ الفكر
الإسلامي تختلف حول موضَعه «المجاز» في القرآن من جهة، وتختلف
حول موضَعة «الغامض» و«الواضح» — ما يُعرف بإشكالية «المحكم
والمتشابه» في علوم القرآن — من ناحيةٍ أخرى. وخلافهم حول
المجاز معروف، لدرجة أن هناك من يُنكرون وجود المجاز لا في
القرآن فحسب، بل في اللغة أيضًا.
٢٣ وهذا الاختلاف حول المجاز فرعٌ لاختلافهم حول
قاعدة التأويل، وإن كانوا قد اتفقوا جميعًا على أن «المحكم/الواضح» هو الذي يُمكِن على
أساسه فهم «المتشابه/الغامض». ويُمكِن
النظر إلى هذا الاختلاف حول موضَعة المحكم والمتشابه باعتباره
خلافًا حول بِنية النص، أو بالأحرى حول «مركز» إنتاج المعنى
والدلالة. وذلك كله يؤكِّد أن التعامل مع النص القرآني بوصفه
وحدةً دلاليةً كلية لها مركز وأطراف هو تعاملٌ نابع من تطور
«الظاهرة الإسلامية» في التاريخ. لقد كانت مهمة «التأويل» في
تاريخ الفكر الإسلامي دائمًا إزالة «تعارُضات» دلالية بين بعض
أجزاء النص، دون إدراك أن هذه «التعارضات» ناشئة عن التعامل مع
النص بوصفه وحدةً كلية. وهي تعارضاتٌ تسهُل إزالتها بالعودة إلى
سياق التنزيل، وهو ما يُعرف بأسباب النزول.
من الضروري قطعًا لدراسة آليات اللغة الدينية، والكشف عن
طريقة اشتغالها بتحويل التاريخي والنسبي والظرفي إلى مطلَق
ودائم «تجاوز علم أسباب النزول بتأمل شروط صلاحية كل مرورٍ من
السبب الذريعة إلى الحكم الشرعي. حتى تلك الوثبة الروحية
الداخلية لإطلاق طاقة التأمل، لإدراك المطلَق، ترتكز بشكلٍ ما
على التجربة المحسوسة؛ أي على التاريخ.»
٢٤ لكن هذا التجاوز — الذي حققَته دراسات أركون،
بعمق — لا ينفي أهمية علم أسباب النزول لإعادة وضع النص في
التاريخ. إن الزمن القرآني يتشكل أساسًا من خلال الزمن المحدود
(الواقعة) بعد أن يُعيد غرسَه في كلية الزمن اللامحدود؛
٢٥ لذلك يجب أن تهتم القراءة التزامنية باستعادة
الزمن المحدود، بدلًا من الاستغراق في «كلية» الزمن اللامحدود.
ودراسات أركون التطبيقية تنجح إلى حدٍّ كبير في ذلك؛ بحيث
يبدو أن الإصرار على «الكلية»، بوصفها صفةً جوهرية، يكاد يخرج
بالتحليل العلمي من دائرة «الترضيات»، ويقترب من دائرة
«الأيديولوجيا».
٤
من المؤكَّد أن قراءة أركون العميقة للتراث الإسلامي وللنصوص
التأسيسية قد مكَّنَته من وضع يده على أهم آليات اشتغال اللغة
الدينية؛ تحول الآني والتاريخي إلى مجال المطلَق باستخدام
المجاز وعمليات الحذف والإضافة، وما يفضي إليه كل ذلك من
ارتهان العالَم كله لدائرة المطلَق والأبدي. وقد تمكَّن من ذلك
كله بفضل اتخاذ منهجيةٍ أساسية من الألسنية والسيميولوجيا،
بوصفها علومًا تهتم جيدًا بالسؤال المركزي عن انبناء المعنى
وإنتاجه أو انحلاله وانحجابه. وهي علوم تفترض أن «تاريخيتنا
هي بالضبط نسيجٌ من العلامات والرموز التي نستثمر (نوظِّف) فيها
رغائبنا وهلوساتنا وطوباوياتنا ومفهوماتنا ونجاحاتنا
وإخفاقاتنا، ثم صراعنا ضد الموت»؛
٢٦ أي إنها باختصارٍ تتعامل مع الكائن الثقافي في
تاريخيته؛ الإنسان، بوصفه كائنًا منتجًا للمعنى الذي يعيش
فيه، ومستهلكًا له في الوقت نفسه.
لكن أركون مسكون، ذلك علاوة على هاجس خصوصية «اللغة
الدينية» التي تحتاج دراستها إلى إبداع ألسنيةٍ خاصة، وذلك
رغم النجاح الذي حققَته قراءته من خلال الألسنية العامة
والسيميولوجيا. ما مصدر هذا الهاجس؟ هل؟ هل هو كون اللغة
الدينية حظيَت «بامتياز تقديم التعبيرات الأولى النموذجية
للحالات المحدودة للوضع البشري»؟
٢٧ أم لكونها لغةً لا يمكن «اختزالها إلى مجرد لغةٍ
عادية كبقية اللغات، أي كلغة توصيل، ولا يمكِن اختزالها
حتى إلى اللغة الأدبية»؟
٢٨ إن خصوصية اللغة الدينية تتجلى —
فيما يرى أركون — في تجاوزها للغة التوصيل؛ لأنه عندما
«يصلِّي شخصٌ ما بلغةٍ دينيةٍ معيَّنة، سواء أكانت لغة القرآن أم
التوراة أم الإنجيل أم أية لغةٍ أخرى، فإنه لا يعبِّر بواسطة
الكلمات التي يلفظها بقَدْر ما يعبِّر بواسطة الطقوس والشعائر
التي تخلق مجموعةً من الحقائق الدالة، والتي لا يمكِن للدارس
المحلِّل أن يتجاهلها إذا ما أراد أن يأخذ بعين الاعتبار كلَّ
مستويات الدلالة والمعنى الخاصة باللغة الدينية.»
٢٩
لكن هذه الخصائص ليست قاصرةً على اللغة الدينية؛ فكل نظامٍ
لغويٍّ ثانوي يمكن أن يتحول إلى مجال الدلالة السيميولوجية
يُنتِج مستوًى معقدًا من الدلالة يتجاوز دلالة المنطوق اللغوي؛
فالأناشيد الوطنية، والشعارات الكفاحية السياسية، والصِّيَغ
الجنائزية، وعبارات التحية والوداع واللقاء؛ كلها تتجاوز
دلالتُها دلالةَ المنطوق اللغوي، خاصةً في السياقات الاحتفالية.
لا ننكر بالطبع أن للغة الدينية خصائصَها، لكنها خصائصُ لا
تُخرجها كليةً عن نطاق اللغة، كما أن للغة الشعر خصائصَها التي
لا تُخرجها عن نطاق اللغة. والألسنيات والسيميولوجيا لا
يقصُران مجالَ اهتمامهما على النظم العامة للغات، بل يهتم كلٌّ
منهما بالأنساق الفرعية والثانوية، من هنا تنبع خصوبة هذه
المنهجية التي طبَّقها أركون بمهارة، مضيفًا إليها بعضَ
الإضافات التي تفرضها طبيعة المادة التي يقوم
بدراستها.
إن ما یمیز اللغة الدينية — من منظور أركون — ويحدِّد
خصوصياتها أنها لغةٌ تستمد قوةً خاصة في «مجتمعات الكتاب» —
وفي المجتمعات الإسلامية بشكلٍ أخص — من طابعها التيولوجي
المحدد للسيادة العليا التي تنبثق منها كل مشروعيات السيادة
في تلك المجتمعات. ومرةً أخرى ليست هذه خصيصةً لها من حيث هي
لغة، بل هي خصيصةٌ يُضْفيها المجتمع المؤمن بمصدر تلك اللغة
العُلوي المُفارِق، والذي يحاول دائمًا استمداد مشروعية وجوده
من تلك القوة العليا. ولمَّا كانت كل القوى الاجتماعية
والسياسية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة تتعارك حول
الاستئثار بتلك المشروعية، فإن اللغة الدينية تكتسب، والحال
كذلك، طاقةً هائلة وقدرةً على «الحشد» يصعُب تجاهلها، لكن هذا
العراك السياسي الاجتماعي أدى — فيما يرى أركون — إلى «ضعف
تيولوجيا التراث»، بمعنى أن كل أنواع التجديد الحاصلة في
الحياة الاجتماعية واليومية بعد فترة القرآن والحديث تبدو
شاذةً وغيرَ مشروعة إن لم تُخلع عليها مشروعية أصول الفقه، ولكن
هذه المنهجية الأخيرة بحدودها الثابتة التي رسَّخها التراث
تبدو أضيقَ من أن تستوعبَ كل الابتكارات والمستحدَثات التي لا
تزال تحصُل حتى هذا اليوم؛ ولذا ينبغي تجديد المنهجية بشكلٍ
جذري وإلا بدا المجتمع كله وكأنه يعيش حالة اللامشروعية أو
حالة «الجاهلية».
٣٠
هل يمكن أن نفترض أن بحث أركون عن «ألسنية جديدة» خاصة
باللغة الدينية ينبُع من ذلك الإحساس بالحاجة إلى إعادة ترميم
«التيولوجيا»، التي فقدَت مكانتها نتيجةَ هذا التنازع على
المشروعية من جهة، والاعتماد على منهج علم «أصول الفقه»
التقليدي من جهةٍ أخرى؟ وهل يمكن القول إن هذه المحاولة تدخل
في إطار التعبير عن موقف «التضامن التاريخي» مع مجتمعه، وهو
التضامن الذي يتطلب بعض الترضيات؟ إن مشكلة الفكر الأصولي،
فيما يرى أركون، أنه يتصور إمكان فك شيفرة اللغة الدينية
«اعتمادًا على علم النحو العربي وعلم المفردات والبلاغة وعلم
المعنى»، وهي أدواتٌ غير كافية على الإطلاق، لكن الأدوات والمناهج
المُستحدَثة في إطار الفكر الغربي، والجديدة على الوعي الغربي
نفسه — تاريخ الأديان، والأديان المقارنة، وعلم الاجتماع،
والانثروبولوجيا الدينية، والسيكولوجيا الاجتماعية، والتحليل
النفسي والألسنيات — من شأنها أن تُثير فزعَ الخطاب الإسلامي
والهيئة الاجتماعية من خطر التضحية بمفهوم كلام الله الموحَى
به في القرآن، كما سبقت الإشارة.
ولا حل لهذا التعارض المتجذِّر في الموقف الإبستيمي إلا
بالبحث عن تيولوجيا جديدة تتجاوز الموقف التيولوجي القديم،
تيولوجيا تتقبَّل مناهج الدرس المعاصر. وبعبارةٍ أخرى يمكن
القول إننا داخل مشروع أركون نتحرك في دائرة: محاولة قراءة
التراث والدين قراءةً تاريخية «خارج نطاق أي أسبقيةٍ تيولوجية»،
٣١ لكن هذه القراءة من شأنها أن تثير الفزع
والاعتراض والرفض؛ هذا بالإضافة إلى حاجة المجتمعات
الإسلامية إلى مشروعيةٍ تستند إليها، مشروعيةٍ دينية تحتاج
بدورها إلى تيولوجيا تحتاج إلى تأسيسٍ جديد؛ يقول أركون:
«أرجو أن يكون القارئ قد فهم أني لا أستبعد التيولوجيا من
حقل التفحُّص والدراسة الخاصة بالإنسان والمجتمع، ولكن ينبغي
على التيولوجيا أن تخضَع للقواعد والمناهج المشتركة المطبَّقة
على كل عمليةٍ معرفية، ولكي تحقِّق ذلك ينبغي عليها أن تستعيد
من جديدٍ دراسة كل مسألة الوحي استنادًا على معطياتٍ جديدة.»
٣٢
ومما يؤكد افتراض أن هذا كله نابعٌ من موقف «التضامن
التاريخي»، وهو ليس تضامنًا قاصرًا على المجتمع الإسلامي
الذي وُلد فيه أركون، بل هو تضامُن مع «مجتمعات الكتاب» كما
سبقَت الإشارة، أنه حين يتحدث أركون عن خصوصية اللغة الدينية
لا يكون حديثه قاصرًا على التيولوجيا الإسلامية، بل يتناول
مشروعًا أوسع هو «تيولوجيا الكتابات المقدَّسة». إن القرآن من
منظور أركون جزءٌ من «الكتاب» الذي يضُم كلًّا من التوراة
والإنجيل.
وهكذا يتسع مشروع أركون ليتجاوز مسألة تنشيط الفكر
الإسلامي إلى محاولة وضع تيولوجيا جديدة: «إذا كان صحيحًا
أن الكلام المحفوظ في «الكتابات المقدَّسة» أو «الكتاب» كما
يقول القرآن، يمتلك حتى اليوم طاقةَ إثارة رمزية، وفضاءً من
التساؤل المنعش، ومنبعًا يَرِده الجميع، فإنه يصبح لازمًا أن
نخلُقَ الشروط الثقافية، التي تسمح بأن نتعرَّف على الإمكانات
الكامنة الإيجابية الموجودة في كل التراثات المقدسة، من توراة وإنجيل
وقرآن. يفترض هذا العمل مسبقًا إيجاد تيولوجيا جديدة للوحي،
هذه التيولوجيا التي لم يتكلم عليها أحدٌ حتى اليوم، وذلك لأن
ما يهم كل أمةٍ دينية حتى الآن هو تقوية التلاحم النضالي بين
أعضائها، وذلك بتركيزها على الموضوعات الأكثر تراثيةً للتمجيد
الدفاعي أو الهجومي.»،
٣٣ ويقول: «إن الأمر لا يخص فقط الدعوة إلى السماح
بتعايش الخطابات الثلاثة التي يصف بها كل تراثٍ نفسه، وإنما
ينبغي علينا أولًا أن نوضِّح بجلاءٍ الظروفَ التاريخية والنفسية
والأنثروبولوجية لانبثاق كل تراثٍ منها وآلية اشتغاله
الوظائفية، ثم ينبغي أن نفعل الشيء نفسه بالنسبة إلى
التراثات التوحيدية الثلاثة، عندئذٍ يصبح ممكنًا تأسيسُ
الروابط بين الكتابات المقدَّسة والوحي والتراث في مجتمعات الكتاب.»
٣٤
البداية في تنشيط الفكر الإسلامي هي خلق فكرٍ نقدي حر من
ناحية، وإعادة التاريخية إلى قلب المجتمعات الإسلامية من
ناحيةٍ أخرى. ولا يمكن إحداث هذا التنشيط إلا بالخروج عن
المنهج الكلاسيكي المدرسي وتبنِّي الآفاق المعرفية والمنهجية
الجديدة حتى على الوعي الأوروبي عينه، ولكن تطبيق هذه
المنهجيات يطرح احتمال رفضها من جانب الخطاب الديني والهيئة
الاجتماعية الخاضعَين لأفقٍ إبستيميٍّ راكد ومتخلف، ويحتاج إلى
جهودٍ كثيفة بنقله إلى أفقٍ إبستيمي آخر. والباحث — مهما بلغَت
موضوعيته — كائنٌ اجتماعي تاريخي لا يُنتِج خطابه في فراغ، بل
يسعى دائمًا ليموضع خطابه في قلب وعي أمته، إن له، من حيث هو
كائنٌ اجتماعي تاريخي، قدرتَه على تجاوز الوعي السائد
والمسيطر، لكن خطابه تتحكم فيه خطاباتٌ أخرى، تمارس عليه من
الداخل دور الرقيب والمسيطر.
أركون على وعيٍ بهذا كله؛ ولذلك أعلن «تضامنًا تاريخيًّا» لا
مع مجتمعه الإسلامي فقط، بل مع «مجتمعات الكتاب»، وذلك
تعبيرًا عن محاولته الخروجَ من الوعي السائد بتأسيس وعيٍ جديد،
لا يتصادم كليًّا مع الرهان التاريخي لمجتمعه وأمته. هذا
التضامن من شأنه أن يؤسِّس بعضَ «الترضيات». وهي التي حاولنا
تلمُّس جوانبها في دراستنا هذه؛ خصوصية اللغة الدينية، الحاجة
إلى ألسنية خاصة وتيولوجيا جديدة. وتبقى أسئلةٌ تُبرز أن
المسألة مسألة «ترضيات» ليس إلا: لماذا تتمثل اللغة الدينية
في الكتب الثلاثة (التوراة والإنجيل والقرآن)؟ وماذا عن كتب
الأديان الأخرى خارج دائرة السامية؟
إنه هاجس التعايش بين الخطابات الدينية الثلاثة من جهة،
وبين الخطاب العلمي لأركون
والخطاب الديني الإسلامي السائد والمسيطر من جهةٍ أخرى، هو
الذي يحرِّك خطاب أركون داخل تلك الدائرة؛ التحليل العلمي
طبقًا لمنهجيات العلوم المعاصرة، والحفاظ في الوقت نفسه على
القوة الرمزية القادرة على بعث الحركة وإنعاش الروح. وهنا
يمكن أن نلمسَ اختلاطَ الهاجس السياسي بالطموح المعرفي، وهو
اختلاطٌ لا ينجو منه خطاب. يبقى لخطاب أركون هذا الاعتراف
العلني بتلك الهواجس، وهذه القدرة الفذَّة على مقاومتها
بالإصرار على الصرامة العلمية. إنها في النهاية «عدم
البراءة» التي لا يخلو منها خطاب.