العقل العربي بين سلطتَين: الدين والسياسة
لا تكتفي القوى المسيطرة بالتحدث باسم المصالح العامة وبابتلاع ثقافة الطبقات المُنتِجة، بل تتجاوز ذلك إلى تأويل التاريخ والتراث — بمعناه الشامل الواسع — ليكون ناطقًا باسمها، حاملًا لطموحاتها ومحققًا لمصالحها وآمالها. وهكذا تُحاول الاستيلاء على الماضي إحكامًا لقبضتها على الحاضر، فتصوغ مصالحها في لغة مصالح الجماهير، وتُنتِج ثقافتها وتبثُّها على الناس باسم الثقافة الوطنية، وتنشُر قيَمَها على أنها القيَم الحقة النابعة من تراثنا وحضارتنا، وفي غياب ديمقراطيةٍ حقيقية تسمح بتداول السلطة السياسية، وتسمح بوجود منابرَ ثقافيةٍ وفكريةٍ حرة تعبِّر عن كل الاتجاهات والقوى في الواقع، تتجمَّد حركة المجتمع، ويُصاب عقل الأمة بالتعفُّن، ويصبح أيُّ حديث عن التنمية حديثَ خرافة.
النص الديني والنص السياسي
التساؤل عن الأزمة الراهنة للثقافة العربية يشُد الخيط إلى جذور الأزمة في التاريخ والتراث، ودون الدخول في إشكاليات تعريف التراث وتحديد مجالاته — وهي إشكاليات لا ينبغي التقليل من أهميتها — نكتفي هنا بالتراث القريب المباشر، ونعني به التراث العربي الإسلامي، الذي لا يشكِّك أحدٌ في أنه استوعب التاريخ والتراث السابقَين عليه. يبدو أن العقل العربي في التاريخ والتراث ظل مشدودًا إلى سلطتَين قامتا دائمًا بدور الكابح الذي يمنعُه من الإنتاج الحر للمعرفة، هاتان السلطتان هما سلطة النص الديني والسلطة السياسية الحاكمة. ولقد تم فرض السلطتَين بشكلٍ تزامني في الصراع العلَوي/الأُموي، الذي دارت رحاه بين الخليفة الرابع علي بن أبي طالب وبين معاوية بن أبي سفيان في موقعة «صفين»؛ حيث أمر معاوية جنوده الذين كانوا على وشك الانهزام أن يرفعوا المصاحفَ للاحتكام إليها في حسم الصراع. وقد كان الداهية عمرو بن العاص هو صاحب ذلك التكتيك، وكان واثقًا من نتيجته في بلبلة عقول أتباع علي واختلافهم، وهذا ما تحقَّق بالفعل كما ذكر المؤرخون، لكن الذي لم يذكُره المؤرخون، ربما لأنهم لم يدركوه، أن تلك «الحيلة» كانت موجَّهة بنفس القَدْر لجنود معاوية، تزييفًا لوعيهم، بإقناعهم أن قوَّادهم يخوضون حربًا دينية مقدسة، وذلك إخفاءً للأطماع والمصالح الدنيوية الطبقية المباشرة. وقد أثمرَت الحيلة الأيديولوجية نتائجها في تحويل الوعي بالصراع من مجال الصراع الاجتماعي السياسي إلى مجال الصراع حول إدراك معنى النصوص الدينية، وحول تأويلها. ومنذ تلك اللحظة التاريخية والمسلمون يخوضون صراعاتهم الاجتماعية والسياسية باسم الدين وتحت مظلة النصوص.
لكن السلوك الأموي لم يكن لحظة البداية الباكرة؛ فقد تم من قبلُ، وربما عشية وفاة النبي ﷺ في خلاف السقيفة بين المهاجرين من أهل مكة والأنصار من أهل المدينة حول من يخلُف النبي — تم توحيد السلطتَين الدينية والدنيوية في سلطةٍ واحدة هي سلطة قريش. وهذا فتح الباب على مصراعَيه لعودة الصراع الهاشمي/الأموي الذي كان مستعرًا قبل الإسلام، في ثوبٍ جديد وفي ظل العقيدة الجديدة. وهو الصراع الذي استمر بعد ذلك، وشكَّلَت تجلياته ومظاهره المختلفة ملامح التاريخ الاجتماعي السياسي للمسلمين حتى القضاء على الخلافة العباسية باستيلاء المغول على بغداد. وإذ توحَّدَت السلطتان الدينية والدنيوية كان تأويل النص الديني دائمًا شأنًا من شئون الدولة، وصار رجل الدين — فقيهًا أم مفسرًا أم محدثًا — موظفًا في بلاط الدولة/الخلافة. في هذا السياق يمكن أن نفهم حرص الدولة — ممثَّلة في الخليفة الثالث عثمان بن عفان — على القضاء على تعدُّدية النص التي تمثَّلَت في السماح بقراءته وفقًا للهجات العربية المختلفة — التي حُصرَت في العدد سبعة — وذلك بإلغاء كل القراءات لحساب القراءة بلهجة قريش. ولم يكن من الغريب أن يُعلَن في عهد الخليفة نفسه بشكلٍ صريح ومباشر مبدأ الحكم الثيوقراطي، وذلك في رد الخليفة على الثوار الذين جاءوا يَشْكون إليه من عَسْف الولاة وظُلمهم وفوجئوا في طريق عودتهم بالبريد يحمل أمرًا بقتلهم مختومًا بخاتم الخليفة، فعادوا إلى مقر الخلافة، وتأزَّمَت الأمور حتى خيَّروه بين الموت أو العزل من المنصب — كان الرد: «لا أخلع قميصًا ألبسَنيه الله.» وهكذا أصبحَت الخلافة هبةً ربانية لا اختياراتٍ إنسانية، وكان تقرير هذا المبدأ بمثابة إلغاءٍ تامٍّ للفارق بين الديني والدنيوي من جهة، وتحويل للسلطة السياسية إلى «نصٍّ» إلهي؛ الأمر الذي جعل امتلاك السياسية للنصوص الدينية تحصيل حاصل.
لا غرابة إذن أن يُبرِّر الأمويون أحقِّيتَهم للخلافة بالاستناد إلى حقِّهم في الثأر من الثوار، وأن يجعلوا من دماء الخليفة المقتول رايتَهم في قتال بني هاشم. وقد أدى التوحيد بين سلطة النص الديني وسلطة النظام السياسي إلى نتائجَ خطيرة على مستوى آليات العقل العربي المسلم في إنتاج المعرفة؛ حيث أصبحَت النصوص الدينية الإطار المرجعي الأول والأخير بالنسبة لكل القوى الاجتماعية والسياسية، هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى ظل تأويل النصوص يدور دائمًا وعينُ المفكِّر وعقلُه على اتجاه السلطة السياسية، تأييدًا أو معارضة، وبذلك انحصرَت حركة العقل بين قطبَين؛ أحدهما النص الديني، وثانيهما السلطة السياسية. ومثل هذا الحصر، أو بالأحرى السجن، يؤدي لا إلى جعل النشاط العقلي نشاطًا هامشيًّا فحسب، بل يجعله نشاطًا تبريريًّا من الدرجة الأولى. وحين يمارس المثقف/المفكر فعالية التفكير وعينُه على السلطة السياسية مؤيدًا لها، فإنه يتجاوز التبريرية إلى التواطُئية. وبعبارةٍ أخرى تبدو التبريرية لصيقة الصلة بمحاولة المفكر إيجاد مرجعيةٍ دينية نصِّية لمواقفه الفكرية؛ حيث تتميع أصالة الموقف لحساب الثبات الأيديولوجي الراسخ للنصوص الدينية. وحين يُضاف إلى هذه التبريرية الانتماء الأيديولوجي لموقف السلطة، يتحول الموقف إلى التواطُئية.
ونستطيع أن نضرب أمثلةً كثيرة من تاريخنا الثقافي القديم والحديث، لكشف بُعدَي التبريرية والتواطئية في بِنْية العقل العربي، ونعني بالتحديد العقل السائد والمسيطر. ولعل في أحداث الخليج وما كشَفَت عنه ما يقف شاهدًا معاصرًا حيًّا على تلك البِنْية المسيطرة والسائدة. ولا نريد أن نخوض في جذور الأزمة وأسبابها القريبة والبعيدة، ودَور البِنْية العقلية السائدة في تداعياتها، وتكفينا الإشارة إلى محاولة معظَم الأطراف الاستناد إلى مرجعية الدين تبريرًا لمواقفها، وترسيخًا لمصداقيتها في وعي الجماهير، لكن ما يحدث في واقعنا الثقافي الراهن من سجن نشاط العقل بين سلطة النصوص الدينية وبين براثن السلطة السياسية ليس إلا امتدادًا للبِنْية القديمة التي بدأَت بتوحيد السلطتَين الدينية والدنيوية، وما أدى إليه ذلك من تأميم السلطة للنصوص الدينية، وابتلاعها تمامًا لحسابها الأيديولوجي.
يرتبط البُعد التواطُئي التبريري في بنية العقل العربي بسيطرة فعالية التفكير الديني الغيبي التواكلية على نشاط ذلك العقل فتراتٍ طويلةً من التاريخ. ولم يقلِّل من سلطة تلك السيطرة بزوغُ بعض الاتجاهات والتيارات العقلانية بين الحين والآخر؛ فقد ظلت تلك التياراتُ هامشية، ولم تستطع لأسبابٍ كثيرة معقَّدة ومتشابكة — ليس هنا مجال شرحها وتحليلها — أن تكون اتجاهاتٍ مركزية في أية فترة من فترات تاريخنا. والمعتزلة الذين يُستشهد بهم عادةً في مجال العقلانية الدينية ظلوا هامشيين، وحين واتتهم الفرصة في عصر المأمون ارتبط فكرهم بالبلاط، وتحوَّلوا إلى متواطئين تبريريين في محنة «خلق القرآن»، وأصبحوا أداةً في جهاز السلطة لقمع المخالفين في الرأي باسم العقلانية. وقد كان حدث المحنة كاشفًا للطبيعة التبريرية للنسَق العقلي الاعتزالي، ولم يكن مؤسِّسًا له، أو بعبارةٍ أخرى نقول: لم يتحوَّل المعتزلة إلى التبريرية بحكم عواملَ خارجيةٍ سياسية بقَدْر ما كانت العوامل الخارجية السياسية عواملَ مساعدةً في كشف المستور والمطمور في نسَقهم الفكري. ومن المؤكَّد أن المثقَّف المعتزلي لم يستطع أن يؤسِّس نسقًا فكريًّا حرًّا من آفة التبريرية — التي بدأَت دينية ثم تحوَّلَت إلى سياسية — بحكم أنه ظل مرتبطًا في فعاليته الذهنية — فعالية إنتاج الأفكار وصياغة المفاهيم — بالنظام السياسي بشكلٍ أو بآخر. ولأن النظام السياسي العربي صاغ نفسه منذ البدايات الأولى بوصفه امتدادًا للنبوة والوحي — في شكل الخلافة — لم تستطع العقلانية الدينية تجاوُز إطار تأويل النصوص الدينية، إلى تأسيس رؤيةٍ عقلانيةٍ حقَّة للعالم والواقع والإنسان.
وليس معنى ما سبق أن «التبريرية العقلية» و«التواطئية» السياسية سمةٌ للفكر ذي الطابع الديني الواضح والمباشر فقط، بل يمكن القول إنها تحوَّلَت إلى طابعٍ عقلي في بِنْية الثقافة العربية. ولم تنجُ من سيطرة هذا الطابع كثيرٌ من التيارات العلمانية العربية في تاريخنا الحديث؛ فالقوميون وضَعوا الدين والعِرق أساسَين أوليَّين للقومية العربية، ولم يخفِّف من حدَّة تلك الصياغة التعامل مع الدين بوصفه معطًى ثقافيًّا لا مجرد نسقٍ من العقائد والشعائر. ومن اللافت للانتباه أن هذا المفهوم الأخير للدين لم يتمَّ تأسيسه بشكلٍ علمي راسخ، بل ظل شعارًا مرفوعًا بشكلٍ خطابي لتحقيق هدفَين؛ الأول منهما ضمان تأييد العامة، والثاني مساجلة الاتجاهات السلفية الدينية التي لا ترى جامعًا للبشر يوحِّد بينهم إلا العقائد. وبعبارةٍ أخرى ظل مفهوم القوميين للدين مفهومًا أيديولوجيًّا يُستخدم في مجال السجال السياسي. وبعد أن سقطَت الشعارات في عصر الهزائم لم يبقَ إلا الدين العقائدي الشعائري، ولم يبقَ من «العِرقية» القومية إلا الطائفية تفتِّت أركان العالم العربي، وتمنَح الوجود الصهيوني شرعيةً دينية وعِرقية. وإذا كان القول بأن استيلاء النظام العراقي على أرض الكويت بالقوة يعطي لإسرائيل مشروعية في بقاء احتلالها للأرض العربية؛ قولًا صحيحًا في مجمله، فإنه يحتاج إلى إضافة أن الوجود الصهيوني الإسرائيلي ذاته قد حصل على مشروعية قيامه من الفكر القومي العربي ذاته. إن إسرائيل التي تقوم أيديولوجيًّا على أساس الدين والعِرق تحقِّق المفهوم العربي للقومية بأجلى معانيه، هذا بالإضافة إلى عامل الثقافة والتاريخ المشتركَين اللذَين تُحاول أجهزتها الثقافية والإعلامية تأصيلَهما ولو بالتزييف والسطو على التراث العربي الفلسطيني.
ولم ينجُ من الوقوع في وَهْدة التبريرية والتواطئية كثيرٌ من فصائل اليسار العربي وتياراته، فاستخدم الدين لتبرير الاشتراكية العربية، التي هي وسطية بين الماركسية العلمية وبين الرأسمالية، والقارئ لميثاق العمل الوطني المصري يُدرِك هذه الحقيقة بجلاء، لكن ذلك لم يمنع الحزب الشيوعي المصري من حل نفسه، وتحوُّل كوادره إلى العمل السياسي والثقافي مع النظام في الستينيات، وهكذا تكرَّر بشكلٍ ما الموقف الاعتزالي المشار إليه سابقًا، موقف التواطؤ مع النظام السياسي وتبرير توجُّهاته. وفي الخطاب السياسي المعاصر ارتبك الأمر واختلط، وأصبح الدين إطارًا مرجعيًّا لكل الاتجاهات؛ فخصوم الاتجاهات السلفية — مثلًا — لا يختلفون معهم في شأن مرجعية النصوص الدينية، بل يختلفون معهم حول معناها. ويصبح الجدل بين السلفيين وخصومهم جدلًا حول تأويل النصوص لا جدلًا حول هموم الواقع التي يتحتم أن تُستنبَت منها الحلول. كما أن غاية كثيرٍ من الأبحاث والدراسات التي يقدِّمها بعض هؤلاء هي إثبات أن «الدين ليس كما يفهمه السلفيون، وأنه ليس كذلك، بل كذا». وفي مثل هذا الجدل تتبدَّى التواطُئية وينزلق البحث والدرس إلى التبريرية الأيديولوجية لا إلى فهم الظواهر باكتشاف أصولها ورصد غاياتها.
تبدو مشكلة المثقَّف العربي تاريخيًّا أنه يمارس إنتاج الفكر وعينُه على السلطة السياسية، وسواء أكان موقفه منها الرفض أو القبول فإنه لا يستطيع الفكاك من أَسْر طابعها الأيديولوجي ذي التوجُّه الديني الظاهر أحيانًا والباطن أحيانًا أخرى. الدليل الواضح على ذلك موقفُ البعض من جماعات الإسلام السياسي؛ فهم في حَيْرة بين أمرَين؛ بين التحالف مع بعض فصائل هذه الجماعات، بما أنها تنتمي إلى المعارضة السياسية وتُناهِض نظام الحكم القائم، وهنا تأتي التفرقة بين «المعتدلين» و«المتطرفين» لتبرير هذا الموقف، موقف التحالف. الأمر الثاني المحيِّر هو الموقف من الجماعات الدينية التي ينطبق عليها وفقًا للتصنيف السابق اسم «المتطرفين»؛ فمناهضة هذه الجماعات سياسيًّا وفكريًّا يضع المثقف — وإن بشكلٍ غير مباشر — في خندق النظام السياسي الذي يسعى للقضاء عليها وتصفيتها بكل الطرق والوسائل. وفي وسط موقف الحَيْرة، المعقَّد هذا، يحدث التستر على طبيعة الأيديولوجيا الدينية المتطرفة إلى أبعد الحدود للنظم السياسية العربية، ويقع المثقَّف في التبريرية التواطئية بقصد أو عن غير قصد. وليس هذا من قبيل ممارسة السياسة بالفكر أو ممارسة الفكر لأهدافٍ سياسية وقتية فحسب، بل هو علاوةً على ذلك هروبٌ من تأسيس المعرفة والوعي بالاستغراق في الأيديولوجيا.
ولا خلاص من تلك الوضعية إلا بتحرير العقل من سلطة النصوص الدينية، وإطلاقه حرًّا يتجادل مع الطبيعة والواقع الاجتماعي والإنساني، كما يتجادل مع الغيب والمستور، فينتج المعرفة التي يصل بها إلى مزيد من التحرُّر، فيصقُل أدواته، ويطوِّر آلياته. ولا بد له بالمثل من التحرُّر من السجن الآخر، سجن الدوران في فلَك السلطة السياسية وأيديولوجيتها، تأييدًا أو معارضة، وذلك للخروج من أَسْر إنتاج الأيديولوجيا إلى فضاء إنتاج المعرفة العلمية بالواقع وبالتراث، بالحاضر وبالماضي، بل وبالسلطة ذاتها.
الذاكرة بين المحو والإثبات
إذا كان العقل هو مُنتِج المعرفة، فإنه لا يُنتِجها في فراغٍ تأمليٍّ مفارقٍ للنشاط المادي، الذي يتحدد على أساسه مستوى تطوُّر الجماعة التي ينتج العقل لها المعرفة. والذاكرة الجمعية — الثقافة — هي التي تختزن الخبرات والمعارف، وبذلك تمنح النشاط العقلي قدرته على التواصل والاستمرار والتطور. وحين يحدُث انقطاعٌ في بنية الذاكرة يبدو العقل كما لو كان يبدأ دائمًا من نقطة الصفر، وهذا ما يبدو أنه يتكرر دائمًا في تاريخنا الثقافي، لا العربي الإسلامي فقط، بل إيغالًا في الزمن إلى مصر القديمة، مصر الفرعونية. ومن اللافت للانتباه أن جدلية المحو/الإثبات تمارس نشاطها في ذاكرتنا الثقافية، لا وفقًا لقوانين التطور الثقافي الطبيعية؛ حيث ينبثق الجديد من القديم ويتجاوزه تجاوزًا جدليًّا، بل يتم ذلك بفعل تدخُّل سلطة ذات طابعٍ أيديولوجي تحاول محو السابق بوصفه نقيضًا، وإثبات ذاتها بوصفها بديلًا. وقد سهَّل عمليات المحو والإثبات الصناعية تلك ما سبقَت الإشارة إليه من توحُّد السلطتَين الدينية والدنيوية، وهو ما أعطى للسلطة السياسية، ولأيديولوجيتها المسيطرة، قوة الإلزام، وحقَّق لها من ثَم قدرةً دائمة على إعادة بناء الذاكرة الثقافية.
شهدَت المعابد والمسلَّات المصرية القديمة هذا الصراع الدائم بين المحو والإثبات، لا على مستوى الأُسر الحاكمة فقط، بل على مستوى العصور الملكية داخل الأسرة الواحدة. وكان الصراع يحتدم كلما أصبح الكهنة، والآلهة الذين يخدمونهم، طرفًا في تلك الصراعات، فيتحوَّل الصراع إلى صراعٍ بين الآلهة، ويفرض الإله الأقوى أناشيده وصلواته، نافيًا أناشيد الآلهة الأخرى وصلواتها. وهكذا صار البحث في تاريخ الثقافة المصرية القديمة، أو محاولة إعادة بناء تاريخها من الشذرات والمِزَق التي وصلَت إلينا، أمرًا مرهقًا لا يصل في أحسن الأحوال إلا إلى نتائجَ احتمالية. ومما له دلالةٌ في هذا الصدد أن ما كتبه المؤرخون اليونان أو الرومان يُعد من المصادر الأساسية لمعرفة التاريخ المصري القديم، دون المسجَّل على حوائط المعابد، أو المدوَّن في المدوَّنات الهيروغليفية. ولا غرابة بعد ذلك كله أن يحدث الانقطاع الملموس على جميع المستويات بين تلك المرحلة من التاريخ وما تلاها، باستثناء ما وعَتْه الذاكرة الشعبية الجمعية من عادات وتقاليد وأعراف دخلَت في بنية الثقافات التالية، وما زال بعضها حيًّا إلى اليوم.
إذا انتقلنا إلى التاريخ العربي الإسلامي نجد أن الإسلام حل محل الأديان المتعدِّدة في جزيرة العرب، فاستبدل بالآلهة المتعدِّدة إلهًا واحدًا، واستوعب اليهودية والمسيحية كلتَيْهما عن طريق الانتساب إلى النبي إبراهيم بشكلٍ مباشر. وكانت الدعوة إلى الإله الواحد تهدف إلى إحلال نظام الدولة العربية الموحدة محلَّ النظام القَبلي القائم على الصراع والتناحر؛ لذلك كان الإله الواحد، معبود الدولة الجديدة، هو إله إبراهيم الجد الأعلى للعرب أولاد إسماعيل، لكن الإسلام لم ينفِ التعدُّدية القبلية نفيًا كاملًا، بل احتفظ لها بأهم خصائصها الثقافية متمثِّلة في اللهجة الخاصة إلى درجة السماح بتعدُّد قراءات النص الديني — القرآن — وَفقًا للسان كل قبيلة، وذلك فيما عُرف ﺑ «الأحرف السبعة». وبعبارةٍ أخرى يمكن القول إن الإسلام أراد إقامة الوحدة السياسية دون القضاء على التعددية الثقافية، وهي التعددية التي تم القضاء عليها لحساب قريش، بعد أن استولَت على الإسلام ذاته، وحوَّلَته لأيديولوجيتها الخاصة. وإذ استولت قريش على زمام الذاكرة العربية بدأ الصراع بين أبناء العمومة — وهو صراعٌ له مرتكزاته الاجتماعية الاقتصادية لا شك في ذلك — يفعل فِعلَه في عمليات المحو والإثبات.
كانت عمليات المحو والإثبات تلك تتم على جميع المستويات؛ على مستوى التاريخ كان انتحال الشعر، ونسبته إلى مشاهير شعراء ما قبل الإسلام، نوعًا من تزوير الوثائق التاريخية لحساب هذا الطرف أو ذاك. وعلى مستوى الأدلة الدينية النصية كان مجال الحديث النبوي — الذي اعتُبر مصدرًا ثانيًا للمعرفة الدينية — يتسع للمرويات الموضوعة على لسان النبي ﷺ حتى تضخَّمَت الأحاديث تضخمًا أرهق العلماء، الذين بذلوا جهودًا مشكورة للتمييز بين الأصيل والزائف. ولم ينجُ النص القرآني من آثار عمليات المحو والإثبات تلك؛ فقد زعم الشيعة أن مصحف عثمان — وهو المصحف الموجود بين أيدينا اليوم — قد مُحيَت منه عمدًا كل النصوص الدالة على إمامة علي، وعلى فضل أهل البيت على العرب والناس كافة. وقد لجأ الشيعة، إثباتًا لحقِّ إمامهم ولحقِّهم في السلطة، إلى الاتساع في استخدام آلية تأويل النص العثماني، وذلك تعويضًا لما يزعمونه نصوصًا صريحة تم إخفاؤها ومحوها. هذا بالطبع إلى جانب الكَم الهائل من الأحاديث النبوية التي تُروى عن أئمتهم لإثبات تلك الحقوق. ولم يكن الأمويون والعباسيون، في صراع كلٍّ منهم ضد العلويين، أو صراعهم بعضهم ضد بعض، بمنأًى عن القيام بجهد في تلك العمليات، ولا نذكُر في هذا السباق عملیات نبش القبور، والتمثيل بالجثث، وقتل الأطفال، وخصاء الرجال، بالإضافة إلى تحريم ذكر الأسماء على المنابر، ولو كان في رواية سند حديث.
وكما كان انتقال السلطة يتم بوسيلة الصراع العسكري، كان انتقال الفكر من مرحلة إلى أخرى يتم بوسيلة «الانقلاب». هكذا كان انتقال الحياة الفكرية من «النقل» إلى «العقل» وتبنِّي نهج التفكير الاعتزالي بالانقلاب الذي قام به الخليفة المأمون بعد تغلُّبه عسكريًّا على أخيه الأمين؛ ولذلك كان من السهل أن يحدث الانقلاب الفكري المضاد في عصر المتوكل من الاعتزال إلى الأشعرية، المذهب الأيديولوجي الذي ما يزال سائدًا حتى الآن، لا في العالم العربي فحسب، بل في معظم أنحاء العالم الإسلامي. وبعد عصر الإمبراطورية الإسلامية الكبرى، وانقسام الدولة إلى دويلات، ظل الصراع بين الأنظمة صراعًا حول السيطرة السياسية والهيمنة الدينية في نفس الوقت، في شكل ادِّعاء الحق في الخلافة. وانحسم الصراع في النهاية لحساب الأتراك، وتبنَّى العثمانيون الخلافة الإسلامية، ذات الأيديولوجية الممتزجة من أنساقٍ فكرية وعقائدية متعدِّدة إلى حد التناقض أحيانًا. هكذا حدث التجاور بين النسق الأشعري الكلامي، والنسق الصوفي العرفاني، والنسق الفلسفي الإشراقي، وتم محو النسق الاعتزالي الكلامي، والنسق الفلسفي العقلي؛ حيث انحصر الأول في ذاكرة الشيعة الزيدية في اليمن حتى تم العثور على مؤلفاتهم في منتصف القرن الحالي، عن طريق البعثة العلمية المصرية التي ترأس أعمالها طه حسين. أما نسق التفكير الفلسفي العقلي فقد صار، مثله مثل الإرهاصات التجريبية العلمية، نسقًا هامشيًّا، أفادت منه أوروبا في بناء نهضتها، وكان قد تم نفيه نفيًا شبه تام بالأيديولوجية الغزالية (نسبة لأبي حامد الغزالي المتوفَّى ٥٠٥ﻫ).
وقد ظل طابع الانقلابات العسكرية للاستيلاء على السلطة السياسية، وما يقترن به من انقلاباتٍ فكرية للسيطرة على العقل والهيمنة على الذاكرة، هو الطابع المهيمن على عملية انتقال السلطة في عالمنا العربي بعد زوال السيطرة المباشرة للاستعمار الأجنبي وحتى هذه اللحظة. وقد زاد من تعقيد المشكل ما أضافه التحدي الثقافي الأوروبي من تناقض بين تيارَين أساسيَّين يتبنَّى أولهما مفهومَ التقدُّم على الطريقة الأوروبية، بينما يلوذ الثاني بمفهوم التقدُّم بالإسلام؛ أي بالعودة إلى المنابع الأولى لشخصيتنا الحضارية التاريخية. وقد أدى ذلك الموقف المعقَّد إلى حالةٍ أشبه بحالة انفصام الشخصية، تتبدَّى مظاهرها في أشكالٍ متعددة؛ انفصام التعليم إلى نظامَين التعليم الديني والتعليم المدني، وزاد الانفصام الآن بتقسيم التعليم المدني إلى تعليمٍ أجنبي (مدارس أجنبية) وتعليمٍ حكومي. ومن الطبيعي في ظل هذا الانقسام أن يكون هناك تعليمٌ دينيٌّ إسلامي وتعليمٌ دينيٌّ مسيحي، ولا يكاد المسلم يعلم عن المسيحية إلا ما يقوله الوعاظ وخطباء المساجد، ولا يكاد المسيحي بالمثل يعلم عن الإسلام إلا ما تبثُّه أجهزة الإعلام، وما يُقال في شبه سرية داخل المؤسَّسات المسيحية التي لا تجرؤ على المناقشة الحرة للإسلام بالقَدْر الذي تُناقَش به المسيحية في أروقة المساجد وعلى المنابر. هكذا تتحول المعرفة الدينية إلى معرفةٍ سريةٍ غنوصية، خاصة إذا اتصل الأمر بالدين المسيحي في مصر. ويتجاوز الأمر ذلك إلى أن يسقطَ تاريخ مصر المسيحية من مقرَّرات التعليم سقوطًا شبه كامل، وكأنه تاريخ أمةٍ غير الأمة المصرية، ولم يدرك أحدٌ حتى الآن أن وجود جامعةٍ حكومية، هي جامعة الأزهر، لا يُقبل فيها الطلاب المسيحيون حتى في الكليات العلمية — كالطب والتجارة واللغات — أمرٌ يتعارض مع الدستور والقانون الذي يُقِر تكافؤ فرص التعليم بين المواطنين. وحين أُنشئَت الجامعة المصرية — جامعة القاهرة — أُنشئَت جامعةً مدنية بكل كلياتها وأقسامها، لكنها الآن تضم كلية دار العلوم التي لا تقبل إلا المسلمين. ورغم أن قسم اللغة العربية في كلية الآداب لا يفرِّق في قواعد القبول فيه بين الطلاب على أساس الدين، فقد لُوحظ أخيرًا إحجامُ الطلاب المسيحيين عن الالتحاق به.
وليس انقسام التعليم هو المظهر الوحيد لانفصام الشخصية الوطنية، وإن كان هو المظهر البارز؛ فهناك العديد من المظاهر الأخرى التي يطول بنا أمر تَعدادها، ونظرة واحدة إلى الشارع المصري في مدينة القاهرة تُبرز كَمْ أن التناقض هائل على جميع المستويات، بدءًا من الأزياء ووسائل الانتقال إلى تفاوت لغة الخطاب. ومعنى ذلك كله أن عمليات المحو والإزالة بوسائل الخطاب الأيديولوجي السلطوي لا تؤدِّي إلا إلى الخفوت الظاهر، وبانقلابٍ سلطويٍّ آخر، ينطلق خطابٌ أيديولوجيٌّ آخر، يقوم بإظهار المضمَر وإضمار الظاهر، وتظل الذاكرة نَهْب هذه العمليات المستمرة من الاستدعاء والكبت، فيصبح من السهل تزييفها، وتزييف التاريخ كله من ثَم. هكذا يبدأ التاريخ دائمًا من نقطة الصفر على المستوى السياسي، وتتوقف الذاكرة عن ممارسة فعاليتها الحرة على المستوى الثقافي. ولا خلاص من هذا الموقف، ولا استعادة للذاكرة إلا بالإقرار بالتعددية السياسية والفكرية، وترسيخ مبدأ الصراع الحر الخلَّاق بين الاتجاهات المتعدِّدة، والتحوُّل من نظام الوثب على السلطة إلى نظام التداول الديمقراطي الحق.
وهل يتم ذلك كله إلا بتحرير العقل من سلطتَي النصوص الدينية والسلطة السياسية، وبتحرير الذاكرة من عمليات المحو والإثبات الأيديولوجية؛ أي بتحرير الثقافة من عوائق النمو؛ أي بتنميتها.