الفصل الثاني

إشكالية الخلافة بين التاريخ واللاهوت

وضوح النص أم غموض التاريخ

الواقع أن إشكالية «الخلافة» لم تختفِ إطلاقًا من منظومة الفكر الإسلامي الحديث، رغم اختفاء «المنصب» الحامل للاسم منذ سبعين عامًا. كان الحديث عن البُعد السياسي للمفهوم يخفُت أحيانًا ويُستبدل به حديثٌ أكثر بروزًا عن «الأمة» الإسلامية، التي تتجاوز الحدود السياسية وحدود القومية. في «رسالة المؤتمر الخامس» للإخوان المسلمين — عام ١٣٥٧ﻫ/١٩٣٨م — ورَد: «يُعتبر الوطن الإسلامي وطنًا واحدًا مهما تباعدَت أقطاره وتناءت حدوده، وكذلك الإخوان المسلمون يُقدِّسون هذه الوحدة، ويؤمنون بهذه الجامعة.» وتحت عنوان «الإخوان المسلمون والخلافة» يرِد في نفس الرسالة الآتي: «إن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرةٌ إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها، والاهتمام بشأنها، والخليفة مناطُ كثيرٍ من الأحكام في دين الله.»

وتمضي الوثيقة الإخوانية، ذات الدلالة الهامة جدًّا، خطوةً خطوةً في الكشف عن أسلوب الوصول إلى إنجاز «الخلافة» واستعادة منصب «الخليفة» مرةً أخرى، والذي تَصِفه بأنه «الإمام الذي هو واسطة العقد، ومجتَمَع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظل الله في الأرض.»١ ومعنى ذلك أن مفهوم «الخلافة» — بكل دلالاته الرمزية والسياسية والدينية — ظل محايثًا للخطاب الإسلامي، وإن اعتبر ممثلو هذا الخطاب أن الوصول إلى تحقيق هذا المفهوم، على أرض الواقع الاجتماعي والسياسي، يحتاج إلى العمل البطيء الدءوب الذي لا يتعجَّل الثمرة. وإذا كان صحيحًا أن كل تيارات الإسلام السياسي وفصائله — بدءًا من «التكفير والهجرة» وحتى أصغر «الخلايا»، التي تنامَى عددُها في شكل تنظيماتٍ مستقلة — قد خرجَت من عباءة التنظيم الأم «الإخوان المسلمين» بالانشقاق أو التمرد، فإن السعي إلى إقامة دولة «الخلافة» هو الهدف الأسمى الذي تتفق عليه كل التيارات، وإن اختلفَت أساليب العمل وآلياته بينها وبين التنظيم الأم.

إن إقامة حكمٍ «إسلامي» يستلزم «حكومة إسلامية» تستند إلى مرجعية «الشريعة الإسلامية» في كل تفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية «الداخلية والخارجية على السواء»، فضلًا عن سلوك الأفراد وشئون الأسرة والمعاملات. وإذا قامت حكوماتٌ إسلامية — بهذا المعنى — في كل الأقطار، التي يعتنق أغلبيتها الإسلام، تصبح الحاجة إلى «الوحدة» الإسلامية حاجةً ماسةً وضروريةً لتحقيق الهدف الأسمى «الجامعة الإسلامية». وهذا الهدف الأسمى النهائي لا بد أن يتجلى في مظهر ويتجسَّد في رمز، هو الخلافة التي تُعد شعيرةً إسلامية يحتلُّ كرسيَّها الخليفةُ ظلُّ الله في الأرض.

يصعُب الفصل بين نُمو تيار الإسلام السياسي وبين تعاظُم الدور السياسي للنفط في المنطقة، خاصة في حقبة الثمانينيات، كما يصعُب كذلك الفصل بين تصاعد نغمة الدعوة للخلافة في خطاب الإسلام السياسي الراديكالي بصفةٍ خاصة وبين الحُلم السعودي بزعامة العالم الإسلامي. هذا الحُلم عبَّر عن نفسه بأشكالٍ شتى ليس آخرها اللقب الذي أطلَقه على نفسه الحاكم السعودي: «خادم الحرمَين الشريفَين» في الخطاب السياسي، لكن المهم بالنسبة لنا هنا الدلالة «الرمزية» لمثل هذا اللقب، وهي دلالةٌ شبيهة بتلك الدلالة التي حاول السلطان التركي، في منتصف القرنِ التاسعَ عشَر، أن يُضفيَها على ذاته: «سلطان الأمة الإسلامية «السُّنية»، وظل الله في الأرض، الذي يدعو كل المسلمين للالتفاف حول عرشه للدفاع عن الأمة، مؤكدًا الدور الذي يقومُ به في حماية الحج» … وقد تم إدراج هذه الدلالة في الدستور الذي صدر عام ١٨٧٦م، والذي نصَّ على أن جلالة السلطان هو حامي الدين الإسلامي بوصفه الخليفة الأعظم.٢

هناك إذن علاقة ترابط لا يمكن إنكارها، أو التهوين من شأنها، بين تنامي الدعوة إلى قيام الدولة الإسلامية، بما تنطوي عليه من الدعوة إلى إعادة تأسيس «الخلافة»، وبين النفوذ السعودي المتزايد في المنطقة. ولعلَّ هذا الترابط هو الذي ردَم الفجوة بين المفاهيم «الوهابية» عن الإسلام وبين مفاهيم المؤسسة الدينية المصرية «الأزهر»، وأدَّى من ثَم إلى تنامي نقاط الاتفاق بين مفاهيم تيار الإسلام السياسي ومفاهيم المؤسسة الدينية الرسمية للدولة. ولعل هذا يمكن أن يفسِّر لنا — ولو تفسيرًا جزئيًّا — هذه الفتاوى المتناقضة التي تُصدِرها المؤسَّسات الدينية الرسمية، خاصةً في شئون المال والاقتصاد وغيرهما من المسائل التي باتت تشغل المواطن المسلم.

إن موقف مؤسَّسة الأزهر من مفكِّر «التطرف» قد أصابه تغيُّرٌ ملحوظ خلال العشرين سنة الأخيرة؛ فالأزهر الذي اغتالت جماعة التكفير والهجرة أحد علمائه المرموقين — الشيخ محمد حسين الذهبي — عام ١٩٧٧م، ليس هو نفس الأزهر الذي لم يصدُر عنه أي بيان احتجاجٍ حين تم اغتيال الكاتب فرج فودة عام ١٩٩٢م، باسم الدفاع عن الإسلام. وليس هو بالتأكيد الأزهر الذي دأَب منذ ذلك الحين على مهاجمة الكُتاب والمفكِّرين والمبدعين والتصدي لمصادرة إنتاجهم، وإصدار بيانات «التكفير»، ووصف كل ما يخالف قناعات بعض علمائه بأنه «هرطقة» وتهديد للإسلام. لقد صار التطابق كبيرًا بين أطروحات «الأزهر» وأطروحات الإسلام السياسي، لا على مستوى المنطلقات الفكرية الأساسية فقط، والتي من الطبيعي ألا ينشب خلافٌ حولها، بل على مستوى التفاصيل الجزئية التي تمسُّ تفاصيل الحياة اليومية للمواطن، ناهيك بالقضايا المحورية في خطاب الإسلام السياسي.

من هنا كان موقف الأزهر من المؤسَّسات الثقافية للدولة موقف الإدانة والهجوم، وتزايدَت حدة الإدانة وعلَت نبرة الهجوم حين أصدرَت الهيئة المصرية العامة للكتاب سلسلة كتب «التنوير» في سياق «مواجهة» الإرهاب والتطرف عام ١٩٩٣م. ومن اللافت جدًّا أن يكون كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، الذي أصدره الشيخ علي عبد الرازق ١٩٢٥م، والذي أعادت الهيئة نشره ضمن سلسلة «المواجهة»، من أكثر الكتب التي تعرَّضَت لهجوم الأزهر، حتى أصدر كُتيبًا يتضمَّن رأي علمائه في الكتاب وصاحبه، وزِّع مجانًا مع أحد أعداد مجلة «الأزهر». رغم أن علماء الأزهر الذين أدانوا الكتاب وصاحبه عام ١٩٢٥م، حتى أخرجوا علي عبد الرازق من زمرة «العلماء»، قد أعادوا للرجل اعتباره عام ١٩٤٦م، واعتبروه في زمرة العلماء، بعد أن أعادوا إليه شهادة العالمية، التي سبق أن سحبوها منه. وفي نفس العام تقريبًا تولَّى الرجل وزارة الأوقاف حوالي ثلاث سنوات، من ١٩٤٦–١٩٤٩م.

إن مشكل «الخلافة» والحفاظ عليها بعد استعادتها هاجسٌ مقلق في خطاب الإسلام السياسي، رأيناه عند حسن البنا — مؤسس جماعة الإخوان المسلمين — وهو ماثل في خطاب عمارة التسعينيات، كما يعبِّر عنه كذلك بشكلٍ واضحٍ جليٍّ الدكتور يوسف القرضاوي وهو أشهر من أن يُعرَّف. في مساجلةٍ أخيرة جرت بين سيد ياسين والقرضاوي حول «تقرير الأمة في عام» الذي ساهم القرضاوي مع طارق البشري في صياغته، يقرِّر القرضاوي — ردًّا على سيد ياسين — أن الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية، ومجامع الفقه الإسلامي، وأساتذة الجامعة الإسلامية في العالم الإسلامي، يقرِّرون جميعًا أن «تنصيب الإمام أو الخليفة … فرضٌ واجبٌ شرعًا». كما يقرِّر في نفس المساجلة أن مفهوم «الإمام» أو «الخليفة» بوصفه: «الذي ينوب عن رسول الله في إقامة الدين وسياسة الدنيا به … هو قول الأئمة الرازي والتفتازاني وابن خلدون وغيرهم.»٣

إشكالية فصل السلطنة عن الخلافة

تمتد جذور المناقشات الحديثة حول «الخلافة» إلى قرار إلغاء الخلافة، الذي صدر عن السلطة الكمالية في تركيا سنة ١٩٢٤م، ولكن هذا القرار سبقه بعدة شهور قرارٌ آخر بفصل السلطتَين السياسية والدينية، وذلك بفصل السلطة عن الخلافة. ومن الصعب هنا استعراض تاريخ ملامح وسمات التمزُّق التدريجي للإمبراطورية العثمانية الذي بدأَت بوادره في الربع الأخير من القرنِ الثامنَ عشر، ووصل إلى ذروته مع نهاية الربع الأول من القرن العشرين. هذا بالإضافة إلى حاجتنا إلى تحليل ما استند إليه رجال الجمهورية من النصوص والأحاديث واجتهادات الفقهاء بشأن جواز «تفريق السلطنة عن الخلافة»؛ ذلك أن الكتاب الذي صدر متضمنًا هذه الاجتهادات — كتاب «الخلافة وسلطة الأمة» — يُعد بمثابة وثيقةٍ هامة تكشف عن الأوضاع ولا تُنشِئُها من عدم. وبعبارةٍ أخرى نقول إن الكتاب ثمرةٌ لواقعٍ فَرض على المسئولين الأتراك الفصل بين «السلطنة» و«الخلافة»، وليس هو — أي الكتاب — الذي صنع هذا الفَصل.

ومن الضروري الإشارة، قبل الدخول في تحليل السياق الذي فَرض هذا الفصل، إلى أن قرار فصل «السلطنة» و«الخلافة» قُوبل بارتياحٍ كبير في العالم الإسلامي عمومًا والعالم العربي على وجه الخصوص. واعتبر الكماليون رجالًا أفذاذًا وأبطالًا وطنيين جديرين بكل تقدير واحترام. وإنما حدث ردُّ الفعل العكسي والعنيف ضد الكماليين وضد كمال أتاتورك حين قاموا بإلغاء منصب «الخلافة» إلغاءً تامًّا. لم يكن الفصل بين «السلطنة» و«الخلافة» — وهي الخطوة العلمانية الجوهرية — يعني الاعتداء على رمز «الجامعة الإسلامية»، بقَدْر ما كان يعني الاعتراف بالاستقلال السياسي للدول والحكومات بعيدًا عن «التبعية» للأتراك سياسيًّا. وكان بقاء «الخلافة» منصبًا روحيًّا رمزيًّا يعني الإبقاء على الوحدة الروحية المعنوية. والسبب في ذلك أن دولة «الخلافة» كانت قد صارت تاريخًا، خاصة بعد أن احتلَّت القوات الأوروبية دار الخلافة «الآستانة».٤
والحقيقة أن الذي يفسِّر حالة «الارتياح»، أو على الأقل حالة «عدم الاعتراض»، على قرار المجلس الوطني الكبير في أنقرة، في أكتوبر ١٩٢٣م، بإعلان تركيا «جمهورية» وإلغاء «السلطنة» أمران؛ الأمر الأول: إحساس المسلمين أن هذا الفصل بين «الحكم» و«الخلافة» — حيث تم عزل الخليفة السلطان وحيد الدين تمامًا، وعُيِّن ابن عمه عبد المجيد «خليفة» بلا سلطنة — يمكن أن يعطي للخلافة حيويةً أعظم؛ حيث كان الانشغال بالحكم يربط الخلافة بهموم المجتمع التركي ومشكلات تركيا مع العالم. وهذا ما يعبِّر عنه مترجم كتاب «الخلافة وسلطة الأمة»٥ بقوله إن السلطنة السياسية لم تكن تسوِّغ للخليفة: «تأسيس العلاقات بينه وبين الشعوب الخارجة عن الحكم التركي؛ ولهذا كانت الخلافة عبارةً عن اسم بلا فعل. أما بعد أن رُفعَت عنه السلطة السياسية التركية أصبح بصفته خليفة المسلمين كافةً مرتبطًا فعلًا، وبلا أدنى مانع، بالأمم الإسلامية كلها، وأمسى حرًّا بتأسيس العلاقات معها من حيث واجباته الدينية والاجتماعية والأدبية.»

والأمر الثاني الذي يفسِّر حالة «الارتياح» أو حالة «عدم الاعتراض» على الفصل بين «السلطنة» و«الخلافة» — وهو الذي يمثل محور اهتمامنا هنا — أن هذا الفصل لم يكن شيئًا ابتدعه الكماليون بقَدْر ما كان تواصلًا مع تقاليد التاريخ الحقيقي العميقة في ممارسة «الخلافة». إن الفجوة الزمنية بين هذا الفصل وبين ممارسة «الخلافة» التي تجمع بين السلطتَين الدينية والسياسية تمتد من عصر الخليفة العباسي الرشيد (١٧٠–١٩٣ﻫ/٧٨٦–٨٠٩م) إلى عصر عبد الحميد الأول الخليفة العثماني (١١١٨–١٢٠٤ﻫ/١٧٧٤–١٧٨٩م)؛ أي حوالي عشرة قرون ميلادية وأحدَ عشرَ قرنًا هجريًّا. في هذه الفجوة الزمنية الطويلة تحوَّلَت الخلافة إلى رمزٍ ديني لا فعالية له في الفعل السياسي. وهذا أمرٌ يحتاج لتفصيل:

  • (١)
    في الفترة الواقعة بين خلافة الرشيد وسقوط بغداد عام ٦٥٧ﻫ/١٢٥٨م، تحوَّلَت السلطة السياسية الفعلية من أيدي الخلفاء وممثليهم إلى بعض حكام الأقاليم، الذين تمتَّعوا بقَدْر من الاستقلال الذاتي مع الاعتراف بسلطة الخليفة العباسي في بغداد. قامت دولة بني طاهر، ومؤسِّسها طاهر بن حسين الخراساني، قائد جيوش المأمون في صراعه ضد أخيه الأمين، وعاصمتها «مرو» في خراسان، في الفترة بين ٨٢٠–٨٧٢م. ثم قامت دولة بني الأصفر في الفترة بين ٨٧٦–٩٠٨م، وقامت دولة بني سامان على أنقاض دولة بني الأصفر في خراسان واستمرت حتى ٩٩٩م. وهذه الدولة الأخيرة قضت عليها الدولة الغزنوية مع تزايد الصراع التوراني-الفارسي على حدود الإمبراطورية. وقد قامت الدولة الغزنوية أولًا في أفغانستان والبنجاب، وامتدَّت في عهد سوبو كستجين لتشمل بيشاور في الهند وخراسان في فارس، واستمرَّت حتى عام ١١٨٦م. وكان الذي قضى على الدولة الغزنوية خانات تركستان وسلاجقة فارس العظام.٦
    ولسنا نتفق مع ما يذهب إليه بعض الباحثين من أن تضاؤل سلطة الخلافة بدأ يبدو واضحًا عام ٩٢٠م في عصر المقتدر (٩٠٨–٩٣٢م)؛٧ ذلك أن الخليفة الرشيد كان قد أحسَّ بتضاؤل سلطته وانفلاتها من بين يدَيه على يد «البرامكة»؛ الأمر الذي دفعه إلى التعجيل بكسر شوكتهم قبل أن يستأثروا بالسلطة دونه، وذلك فيما هو معروف في كتب التاريخ والأدب باسم «نكبة البرامكة». وفي الصراع بين «الأمين» و«المأمون» تصاعد نجم العناصر العسكرية الفارسية حتى كانت دولة بني طاهر دولةً مستقلة، من حيث توارُث السلطة، مع الارتباط بسلطة الخلافة في بغداد والإقرار بها.

    واستعان الخليفة المعتصم (٨٣٣–٨٤٢م) بالعنصر العسكري التركي، ليقلِّل من سطوة العنصر الفارسي، وحين تزايَد عددهم وتكاثَر نقَل مركز الخلافة من «بغداد» إلى «سامرا» التي أطلق عليها اسم «سُر مَن رأى». وتنامى من ثَم نفوذ العناصر العسكرية التركية وزادت سيطرتهم، وهكذا يمكن اعتبار عصر المعتصم بمثابة علامة على بداية النهاية لقوة الخلافة العباسية؛ حيث عاش الخلفاء في العاصمة الجديدة (سامرا) — التي انتقلَت إليها الخلافة — سجناء. وكان مقتل الخليفة المتوكل في ديسمبر ٨٦١م، على مرأًى من ابنه الأول، بداية لسلسلة من الأحداث التي أفضَت إلى انهيار نظام الخلافة.

    ومع بداية القرن العاشر الميلادي — أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجريَّين — كان العالم الإسلامي تتنازعه ثلاث «خلافات»؛ الخلافة الشيعية ممثَّلة في الدولة العبيدية في شمال أفريقيا (٢٩٧ﻫ / ٩٠٩م)، والخلافة الأموية في الأندلس — التي أقامها عبد الرحمن الداخل — (٣١٧ﻫ / ٩٢٩م)، والخلافة العباسية التي كانت قد دخلَت دَور الانقسام والتفتُّت، سواء في عاصمة الخلافة نفسها، أو في أطراف الدولة. كانت مصر قد استقلَّت — مع اعترافٍ رمزي بسلطة الخليفة العباسي — تحت حكم ابن طولون.

    وفي الفترة من ٣٣٥–٩٤٥ﻫ/٤٤٧–١٠٥٥م استطاع أحمد بن بُوَيْه أن يقيم دولة البُوَيْهيين على أنقاض حكم العسكر الأتراك، الذين كانت سيطرتهم على شئون الخلافة قد وصلَت إلى حد عزل الخلفاء وتوليتهم، بعد أن لُقِّب رئيس الحرس باسم «أمير الأمراء»، وصار الحاكم الحقيقي. كان مؤنس المظفَّر أول من حمل هذا اللقب من العسكر الأتراك، فقام بعزل الخليفة المقتدر (٩٠٨–٩٣٢م)، وولَّى مكانه القاهر (٩٣٢–٩٣٤م). ونفس المصير واجهَه كلٌّ من المتقي والمستكفي على يد نفس «أمير الأمراء» الذي صار في عهد المستكفي أحمد بن بُويه الذي مُنح لقب «معز الدولة» إلى جانب كونه «أمير الأمراء»، وكان اسمه يُذكر في خطب صلاة الجمعة إلى جانب اسم الخليفة.

    «كان عصر البويهيين أكثر إظلامًا بالنسبة لتاريخ الخلافة — وإن لم يكن كذلك بالنسبة للتاريخ الحضاري الثقافي بالطبع — فبرغم أنهم قضَوا على سلطة العسكر الترك فقد حلُّوا محلهم، ولم يتغيَّر وضع الخلفاء أو يتحسَّن تحت وصاية السيد الجديد».٨ ورغم أن عاصمة حكم البويهيين كانت شيراز في فارس، فقد كان العراق يُحكم بوصفه مقاطعةً من المقاطعات، وليس مركز الخلافة. لم تعُد بغداد في عصرهم قِبلةَ العالم الإسلامي، ولم تعُد شيراز وحدها التي تُشاركها في هذا المركز، بل شاركَتْها القاهرة وقرطبة وغزنة أيضًا.
    وقد بلغ من سيطرة البويهيين على منصب الخلافة وتحكُّمهم فيه أن طمع عضد الدولة (٩٤٩–٩٨٣م) في أن يحتل واحدٌ من نسله منصب الخليفة، فتزوَّج بنت الخليفة الطائع (٩٤٧–٩٩١م)، وقام في نفس الوقت بتزويج أخته للخليفة (٩٨٠م). وكان عضد الدولة هذا أول حاكم في تاريخ الدولة الإسلامية يحمل لقب «شاهنشاه»؛ أي «ملك الملوك».٩
    كانت دولة السلاجقة، التي قامت على أنقاض دولة البويهيين، بمثابة الفصل الأخير من دراما «الخلافة» في التاريخ الإسلامي. وإذا كان أمير الأمراء عضد الدولة قد لقَّب نفسه بملك الملوك، فإن طغرل السلجوقي الذي دخل بغداد عام ١٠٥٥م، معلنًا نهاية الدولة البويهية، أطلق على نفسه — في حضرة الخليفة القائم (١٠٣١-١٠٧٥م) — لقب «ملك الشرق والغرب»، وكان لقبه الرسمي «السلطان».١٠ ومنذ ذلك الحين تأسَّسَت في الفكر الإسلامي — كما سنرى في الفقرة التالية — مسألة الفصل بين «السلطنة» و«الخلافة»، لكن ذلك لم يحدث إلا بعد ثلاثة قرون تقريبًا من ممارسة هذا الفصل على صعيد الحياة السياسية الفعلية.
  • (٢)

    بدخول المغول بغداد عام ٦٥٧ﻫ/١٢٥٨م، تم القضاء نهائيًّا على الخلافة العباسية، التي كانت قد تحوَّلَت إلى مجرد رمزٍ تعرَّض لمهاناتٍ وانتهاكاتٍ لا حصر لها، لكن القضاء النهائي على الخلافة/الرمز لم يمنع بعض سلاطين المماليك في مصر — الذين تصدَّوا للمغول وهزموهم في «عين جالوت» — من محاولة إعطاء مشروعية دينية لنظامهم العسكري، بعد إثبات جدارته العسكرية والسياسية في التصدِّي لأعداء الإسلام والمسلمين.

    هكذا قام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري (١٢٦٠–١٢٧٧م) — رابع سلاطين المماليك — باستدعاء كلٍّ من عمِّ الخليفة العباسي الأخير المستعصم (١٢٤٢–١٢٥٨م) مع أحد أبناء الخليفة الظاهر (١٢٢٥–١٢٢٦م)، اللذَين كانا قد هربا من مذبحة بغداد إلى دمشق. قام ركن الدين بتنصيب ابن الخليفة الظاهر خليفةً يحمل لقب «المستنصر»، وذلك في مقابل أن يمنحه ذلك الخليفة/الدمية حقَّ الحكم والتصرُّف في مصر وسوريا وديار بكر والحجاز واليمن وأرض الفرات. وقد حاول ركن الدين، بعد ثلاثة أشهر من تنصيب الخليفة/الدمية عام ١٢٦١م، أن يحمله إلى بغداد — بعد أن منحَه ما يريد — ليستقر فيها خليفةً على المسلمين، لكنه تخلى عن الفكرة بعد أن وصل بقواته إلى دمشق، وهناك تخلى عن الخليفة تاركًا إياه لمصيره في الصحراء، ولم يسمع به أحدٌ بعد ذلك.١١
    بعد عامٍ واحدٍ حضر إلى القاهرة واحدٌ آخر من بني العباس، فأقامه ركن الدين خليفة تحت لقب «الحاكم»، الذي لم يكن له من الخلافة أو الحكم سوى وجود اسمه على العملة المتداولة، والدعاء له في خطبة الجمعة في كلٍّ من مصر وسوريا فقط. واستمَر المنصب يتداوله أبناء «الحاكم» واحدًا بعد الآخر حوالَي قرنَين ونصف من الزمان. وحين استولى السلطان سليم على مصر (١٥١٧م) حمَل معه إلى القسطنطينية الخليفة «المتوكل».١٢
    لكن إذا كانت الخلافة قد انتهت في بغداد، وحاول المماليك إحياءها في مصر، فإن «السلطنة» السلجوقية — التي هربَت من بغداد أمام زحف المغول — كانت لها قاعدتُها التي تأسَّسَت قبل حوالَي قرنَين من الزمان في آسيا الصغرى على حساب الإمبراطورية الرومانية الشرقية. واتخذَت هذه القاعدة — السلطنة السلجوقية — من «قونية» عاصمةً لها منذ عام ١٠٤٨م، حتى قضى عليها أبناء قبيلتهم «غز» من آل عثمان بعد حوالي ثلاثمائة سنة.١٣
    ولقد حاول آل عثمان منذ بداياتهم الأولى أن يُعطوا لمغامراتهم العسكرية وفتوحاتهم دعامةً أيديولوجية، شأن كل تكوينٍ سياسي، لكن الدعائم الأيديولوجية التي قُدِّمَت لتبرير هيمنة آل عثمان كانت «تتبدَّل في سياق السنين». كان «قانون السيف» في البداية هو الأيديولوجية المطروحة، وذلك يتجلَّى في قول «عثمان» في سياق تعيين قاضٍ لإحدى المدن التي فتحها: «لقد فتحتُ هذه المدينة بحد سيفي، فلماذا يتوجَّب عليَّ طلبُ إذنِ السلطان الذي لا يملك حق التدخل في هذا الأمر؟ إن الله الذي منحَه شرف أن يكون سلطانًا قد منحَني شرف أن أكون خانًا بفضل الجهاد.»١٤
    نلاحظ هنا أن أيديولوجية «قانون السيف» لا تنفصل عن أيديولوجية «الجهاد»، رغم أن العبارة السابقة تمثِّل «تمردًا» على سلطة السلطان السلجوقي المسلم الذي منح عثمان وآله كل مساعدةٍ ممكنةٍ للاستقرار. وفكرة «الغازي» المجاهد في سبيل الله نجدها في أيديولوجية الدولة العثمانية فكرةً متغلغلةً متكررة: «فقد جرى تصویر عثمان وأورخان في صورة زعيمَين لا يهدفان إلا إلى نشر الدين الإسلامي. وكان جميع المحيطين بهما مُفعَمِين بمَثلٍ أعلَى واحد؛ القضاء على الكفار العصاة الذين لا يريدون الإذعان لرفعة الإسلام. ألا يحمل أورخان في النقش المسجَّل على مسجد الشهادة، في بورصا، لقب «سلطان المشاركين في الجهاد والمجاهدين في سبيل الله»؟»١٥
    لكن مفهوم «المشاركة» في الجهاد سرعان ما سيتحول إلى «استئثار» بعد تزايد النفوذ العثماني، واتساع الأراضي التي تم الاستيلاء عليها بالجهاد ضد الكفرة، أو بالانتزاع من أيدي حكامٍ مسلمين. في عصر مراد الأول (١٣٦٣–١٣٨٩م) حدث أول صدامٍ بين العثمانيين والسلطان السلجوقي؛ حيث شاركَت في قوات مراد ضد السلطان علاء الدين الكرماني وحداتٌ لتابعي مراد من المسيحيين الصربيين والبيزنطيين، وهو أمرٌ ينال من مفهوم «الجهاد» بدرجةٍ جسيمة، لكن ذلك لم يمنع بايزيد الأول (١٣٨٩–١٤٠٢م) ابن مراد من أن يطلب من الخليفة العباسي في القاهرة عام ١٣٩٤م منحه لقب «سلطان الروم».١٦
    ظل صعود العثمانيين متواليًا على جبهتَين؛ جبهة الإمبراطورية الرومانية الشرقية المسيحية من جهة، وجبهة السلطنة السلجوقية وتوابعها من جهةٍ أخرى. على الجبهة الأولى تم فتح القسطنطينية في ٢٩ مايو ١٤٥٣م في عهد محمد الثاني (١٤٥١–١٥١٢م)، أما على الجبهة الثانية فقد ظلت الأمور بين مدٍّ وجَزْر دون استقرارٍ تام أو سيطرةٍ نهائية. «والواقع أن انعدام الاستقرار في الأناضول يرجع إلى أسبابٍ عميقة؛ فالسكان الذين لم يعترفوا البتة بالارتباط بالإمبراطورية العثمانية، ظلوا أوفياء لأمرائهم، وكانت القبائل التركمانية المترحِّلة تردُّ بعنفٍ على ممارسات بيت المال العثماني.»١٧

    وقد انضافت إلى عوامل «عدم الاستقرار» الداخلي ظهور سلطة من نوعٍ جديد في فارس؛ حيث استولى الشاه إسماعيل الصفوي على السلطة عام ١٤٩٩م، ثم فتح بغداد عام ١٥٠٨م، ولكن المواجهة الفعلية بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية لم تقع إلا في عهد سليم الأول، وهي المواجهة التي جعلَت أيديولوجية الدولة العثمانية تتبلور أكثر فأكثر في حماية الإسلام «السُّني»، وبعث الخلافة الإسلامية «السُّنية».

    لقد بدأ سليم الأول صراعه ضد إسماعيل الصفوي باستصدار فتوى من شيخ الإسلام — أعلى مرجعٍ ديني في الإمبراطورية — «تُخرِج الشاه إسماعيل وأتباعه من الجماعة الإسلامية؛ لأنها تُجيز ذبحهم حتى آخر رجل واسترقاق نسائهم وأطفالهم؛ ومن ثَم فإن هذه الفتوى تُضفي الشرعية على الدخول في حربٍ ضد الشاه، الحرب التي كانت الاستعدادات لها قد بدأَت على قدم وساق، وسوف تكون مواصلتُها حتى القضاء على الخصم هي الهدف الثابت لسياسة السلطان حتى موته؛ حيث كان كل مشروعٍ آخر يتوقف على تحديد هدف القضاء على الخصم الفارسي.»١٨
    وكان مشروع السلطان سليم الأول للاستيلاء على مصر وسوريا جزءًا من تلك الغاية الهامة والهدف الثابت للسلطان، وذلك من زاويتَين؛ الزاوية الأولى أن الإمبراطورية المملوكية كانت تبدو عام ١٥١٦م «القوة الرئيسية في العالم الإسلامي؛ فقد كانت أراضيها تمتد من صعيد مصر إلى وسط الأناضول، محتويةً فلسطين وسوريا. وكان السلطان المملوكي يحتفظ بحاميات في موانئ الحجاز، وكان شريف مكة تابعًا له، وكان يحتفظ في القاهرة بخليفة من أصلٍ عباسي كان مختلف الملوك المسلمين يتوجَّهون إليه طالبين إذن التولية حين يرتقون العرش.»١٩ الزاوية الثانية أن الممتلكات العثمانية — بعد عمليات الإلحاق الكثيرة — لم يعد ممكنًا اتصال إحداها بالأخرى، «إلا بالدوران حول النتوء المملوكي الممثل في بلاد الرافدين العليا، الذي كان يمتد بعيدًا عن عين طابا وملاطيا … وكان ذلك عقبةً استراتيجية تُثير قلقًا لدى السلطان من منظور شن عملیاتٍ تالية في اتجاه إيران.»٢٠
    ومعنى ذلك أن فتح مصر ودمجها في الكيان السياسي للإمبراطورية العثمانية حقَّق للسلطان سليم الأول غايتَين؛ الأولى استراتيجية، والثانية أيديولوجية، وهي التي تعنينا هنا. إن حمل السلطان سليم للخليفة العباسي «المتوكل» معه إلى الآستانة عام ١٥١٧م، كان بمثابة محاولة، لا تخلو من دلالة، لإغلاق ملف الخلافة العباسية الهزلية التي استمرَّت أكثر من قرنَين ونصف من الزمان، لكن هذا الإغلاق لملف الخلافة كان يستهدف فتح باب الخلافة العثمانية السُّنِّية لمواجهة الدولة الصفوية المحتمية بالأيديولوجية الشيعية والمستولية على بغداد. ولا يخلو من دلالة في هذا الصدد أن نصَّ الخطبة التي أُلقيَت في مساجد القاهرة، في الأول من محرَّم عام ٩٢٣ﻫ/٢٢ يناير ١٥١٧م — اليوم التالي للفتح — كان: «اللهم انصر السلطان ابن السلطان، ملك البرَّين والبحرَين، كاسر الجيشَين، سلطان العراقَين، خادم الحرمَين الشريفَين، الملك المظفَّر سليم شاه.»٢١
    في الآستانة وُجِّهَت للخليفة العباسي «المتوكل» تهمة الاختلاس، وتم سجنه، ثم سمح له السلطان سليمان القانوني (١٥٢٠–١٥٦٦م) بالعودة للقاهرة؛ حيث مات عام ١٥٤٣م. وسواء قام هذا الخليفة «المتوكل» بالتنازل عن الخلافة للسلطان العثماني — كما تزعم بعض الوثائق المشكوك في صحتها — أم لم يفعل، فقد قام حكام تركيا في القسطنطينية بالاستيلاء تدريجيًّا على كل سمات الخلافة وملامحها، حتى وصلوا إلى اللقب ذاته. ورغم أن بعض خلفاء سليم الأول اعتبروا أنفسهم خلفاء وكانوا يحبُّون أن يُخاطَبوا بهذا اللقب، فإن اللقب كان لقبًا إضافيًّا، كما أنه لم يكن يُستخدم خارج حدود المناطق الخاضعة للنفوذ العثماني. وأول وثيقةٍ دبلوماسيةٍ تتضمَّن اللقب — خليفة — صفةً رسمية للسلطان العثماني هي الاتفاقية الروسية التركية «كوتشوك – كانيارجي» الموقَّعة عام ١٧٧٤م، والتي تعترف بالسلطة الدينية للسلطان على المسلمين خارج تركيا.٢٢
  • (٣)

    هذه الفجوة الممتدة من القرن التاسع إلى القرن الثامنَ عشرَ — بتدرُّجاتها وانحناءاتها — هي تاريخ الخلافة الإسلامية، التي استقلَّت عنها السلطنة استقلالًا شبه تام في البداية، ثم أصبحَت السلطنة مهيمنةً على الخلافة، ومسيطرةً عليها سيطرةً كاملة بعد ذلك. إن حصول عبد الحميد الأول على لقب «خليفة» لا يعني عودة الخلافة إلى مسار التاريخ الإسلامي، بقَدْر ما يُبرز التوظيف الأيديولوجي للقب في الصراع العسكري السياسي الذي كانت تخوضُه الإمبراطورية العثمانية على أكثر من جبهة. كان توقيع اتفاقية «كوتشوك – كانيارجي» بمثابة الفصل الافتتاحي لما أصبح يُعرف باسم «المسألة الشرقية»، التي تتطابق مع جملة الوقائع التي تدور بين عامَي ١٧٧٤م و١٩٢٣م، العام الذي وُقِّعَت فيه معاهدة لوزان.

    وتتلخَّص السمتان الأساسيتان لهذه الوقائع في التمزُّق التدريجي للإمبراطورية العثمانية، وفي تنافس الدول العظمى بهدف فرض سيطرتها أو نفوذها على أوروبا البلقانية والبلدان الواقعة على الجانب الشرقي للبحر المتوسط (حتى الخليج الفارسي والمحيط الهندي) وعلى ضفافه الجنوبية؛ فالروس، متذرِّعين بحماية الأرثوذكس والسلاف، يرمون إلى مد سيطرتهم على البلقان وإلى الوصول إلى البحر المتوسط. والإنجليز يسعَون إلى حماية طريق الهند؛ ومن ثَم إلى السيطرة على الممر الذي يفصل البحر المتوسط عن المحيط الهندي، ومن هنا كان هذا الاهتمام الذي يُبدونه بالبلدان العربية في تلك المنطقة. والفرنسيون يريدون الدفاع عن مواقعهم التجارية والثقافية لدى مسيحيِّي المشرق ويجدون أنفسهم في تعارض، بحسب الظروف، مع الروس أو الإنجليز. والنمساويون، الخائفون من توسُّع النفوذ الروسي في البلقان، يحاولون إقامة سدٍّ هناك، خاصةً في البوسنة والهرسك. وفيما بعدُ، سوف يهتم الألمان هم أيضًا بالإمبراطورية العثمانية من منظور سياسة الدرانج ناش أوستين (الاندفاع نحو الشرق). والحال أن الحروب التي سيخوضها العثمانيون خلال القرن التاسعَ عشرَ سوف تكون كلها تقريبًا خاسرة، وسوف تؤدي إلى حرمان الإمبراطورية من شبه إجماليِّ أراضيها قطعةً قطعة، في حين سيُسهِم انتقال جانبٍ كبير من مواردها للوقوع تحت سيطرة الشركات الغربية في تحجيمها، وفي تأكيد تبعيَّتها.٢٣
    وهكذا تنتهي الحرب العالمية الأولى، ويتم تقسيم تركة الرجل المريض؛ لأن الإمبراطورية العثمانية لم تخسر الحرب وحدَها، بل «كفَّت في واقع الأمر عن الوجود، حتى وإن كانت خرافة دولة مستقلة قد بقيَت على الورق.»٢٤ لقد احتل الحلفاء أرض تركيا ذاتها، وهذا هو معنى خرافة الدولة المستقلة؛ لذلك كان هدف الحركة الكمالية — بزعامة مصطفى كمال — أساسًا: «هو رد الثقة إلى الجيش العثماني الذي أصابته الهزيمة بالتفسُّخ العميق، وكذلك السعي إلى إعادة تجميع كل حركات المقاومة تحت سلطةٍ موحدة. والخصم الذي يجب محاربته ليس هو المحتل الأجنبي وحده»، يكتب مصطفى كمال فيما بعدُ: «لا بد من الثورة مهما كان الثمن على الحكومة العثمانية، على السلطان، على خليفة كل المسلمين، وحثِّ الجيش والأمة كلها على الثورة.»٢٥
    ومما زاد من حالة الغليان والسخط ضد الحكومة العثمانية، وسلطانها خليفة المسلمين، التفافُها حول نضال الكماليين ضد المحتل في الأناضول، وتورُّطها في مساومات صلحٍ طويلة مع الدول الأوروبية، مساومات انتهت إلى الإذعان للإملاء الذي فرضَته عليها الدبلوماسية الأوروبية. هكذا أدت معاهدة «سيفر» «الموقَّعة في ١٠ أغسطس ١٩٢٠م، إلى تكريس تمزيق الإمبراطورية العثمانية. والواقع أن تركيا، المجرَّدة من كردستان، ومن الولايات التي يسكنها الأرمن، ومن ثراس، ومن إقليم إزمير، ومن سوريا، ومن شبه الجزيرة العربية، ومن بلاد الرافدين، إنما تجد نفسها مختزَلة إلى دولةٍ أناضوليةٍ صغيرةٍ محصورةٍ بين بلدَين ما تزال حدودهما غير محدَّدة؛ أرمينيا واليونان.»٢٦

    وإذا كان انتصار الكماليين واستردادهم لإزمير في ٩ سبتمبر ١٩٢٢م، قد مكَّنهم من تحويل المهانة التي شكَّلَتها معاهدة سيفر، وذلك بإملاء شروطهم هم في معاهدة لوزان في ٢٤ يوليو عام ١٩٢٣م، فإن ذلك أمكن تحقيقُه بعيدًا عن السلطنة التي كان قد تم إلغاؤها في نوفمبر عام ١٩٢٢م، لصالح حكومة أنقرة، التي اعتبرَت نفسها السلطة التشريعية الوحيدة. وفي ٢٩ أكتوبر ١٩٢٣م أعلن المجلس الوطني في أنقرة تركيا جمهورية. إن إلغاء «السلطنة» كان يعني ضمنًا إلغاء منصب «الخلافة»، لكن المجلس الوطني فصل بين الأمرَين في البداية؛ لذلك لقي قراره التأييد، خاصة في مصر؛ لأن «الخلافة» و«السلطنة» كانتا لفترةٍ طويلة كما رأينا شأنَين متمايزَين، هذا بالإضافة إلى أن القرار لم يُنشئ وضعًا جديدًا، ولكنه قنَّن واقع الحال معترفًا بالمتغيرات التي لا مجال لإنكارها.

    ثم جاء قرار إلغاء منصب الخلافة في مارس ١٩٢٤م، وهو القرار الذي أثار من الضجيج والغضب العاطفي ما أثار — ولا يزال — في نفوس المسلمين. ومع نُمو تيار الإسلام السياسي اعتُبر القرار طعنةً أصابت الوجود الإسلامي في الصميم، كأنه الذي قسَّم وحدة العالم الإسلامي، وهي وحدةٌ موهومة إلى حدٍّ كبير كما رأينا. وكان ثمَّة سعي — وراءه الإنجليز — لتنصيب الملك فؤاد خليفةً للمسلمين، وكان ثمَّة أطماع من زعماء آخرين. ولعل هذا التنافس على المنصب هو الذي أفسد المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في القاهرة في مايو عام ١٩٢٦م ولم يسفر عن شيء.٢٧
  • (٤)

    كان إلغاء منصب الخلافة بمثابة صدمة لم يتقبَّلها العقل الإسلامي، كما تقبَّل قرار الفصل بين الخلافة «والسلطنة». وإذا كان كتاب «الخلافة وسلطة الأمة» الذي صدر عن علماء تركيا ينصبُّ أساسًا على تقديم البراهين الشرعية والتاريخية على مشروعية هذا الفصل بين السلطة والخلافة، فهو يختلف عن كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»؛ لأن هذا الأخير ينطلق أساسًا من فكرة أن «الخلافة»، نظام دنيوي سياسي لا علاقة له بالدين، وأن الإسلام لم يحدِّد للناس شكلًا للحكم والسياسة، بل ترك لعقولهم حرية التصرُّف في هذا الشأن.

    وقد سبق كتاب علي عبد الرازق كتابان يدافعان عن «الخلافة»، ويثبتان مخالفة قرار المجلس الوطني التركي بالفصل بين «السلطة» و«الخلافة» لما هو معلوم من الدين بالضرورة. هذان الكتابان هما: «الخلافة والإمامة العظمى» لمحمد رشيد رضا، الذي نُشر في مجلة «المنار» على ست حلقات، والكتاب الثاني هو «النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة» لمصطفى صبري. وإذا كان كتاب محمد رشيد رضا يتبنَّى المقولات والقواعد الفقهية الكلاسيكية لمفهوم الخلافة، ويدافع عنها، فإنه لم ينسَ انتماءه إلى ما يُطلق عليه «حزب الإصلاح السياسي المعتدل»، وهو حزب الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده؛ لذلك يضيف إلى الجانب الفقهي لقضية «الخلافة» في الكتاب، معالجة المشكلة من جانبها السياسي في ضوء واقع العالم الإسلامي.

    في الجانب الفقهي من الكتاب يرى رشيد رضا أن نصب الخليفة واجبٌ على المسلمين شرعًا، مستشهدًا بحديثٍ يُنسب للنبي : «من مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتةً جاهلية.» والكتاب يكاد يكرِّر الشروط المعتبَرة في الخليفة، التي أفاض فيها القدماء، تكرارًا حرفيًّا، بما في ذلك شرط «القرشية»، إلا أنه يضيف إلى هذا الشرط بعض الاستدراكات الناتجة من استحالة تحقيقه في العصر الحديث. ويقول: «فإن لم يُوجد في قريش من يستجمع الصفات المعتبَرة (الحرية، والذكورة، والاجتهاد، والشجاعة، هذا بالطبع بالإضافة إلى الإسلام والبلوغ) وُلي كناني (نسبة إلى كنانة)، فإن لم يُوجد فرجلٌ من العجم.»

    أما الجانب السياسي لمشكلة الخلافة، وعلاقته بواقع العالم الإسلامي المعاصر، فقد تناوله محمد رشيد رضا من ثلاثة جوانب؛ الجانب الأول: بيان أن نهضة المسلمين تتوقف على إقامة الخلافة، والجانب الثاني: الدعوة إلى تعاون العرب والترك على إقامة الخلافة، أما الجانب الثالث فهو يتصل بمناقشة التيارات الفكرية في العالم الإسلامي. هذه التيارات يحصُرها رشيد رضا في ثلاثة اتجاهات؛ حزب المتفرنجين الذين يناهضون فكرة الحكومة الدينية — وحزبهم قوي ومنظَّم في الترك — وحزب حشوية الفقهاء الجامدين، وهم جماعة علماء الدين وأكثر العامة المقلدين لهم، والذين يتمنَّون قيام حكومة إسلامية ولكنهم عاجزون عن الاجتهاد ومتمسكون بالفقه التقليدي. أما التيار الثالث فهو التيار المعقود عليه أمل الإصلاح، وهو حزب «الإصلاح الإسلامي المعتدل» الجامع بين الاستقلال في فهم فقه الدين وحكم الشرع الإسلامي، وذلك هو حزب الأستاذ الإمام.٢٨

    أما الكتاب الثاني فهو كتاب «النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة»، وهو هجومٌ على الكماليين أساسًا؛ لأن مؤلِّف الكتاب واحدٌ من معارضيهم الأتراك، فرَّ إلى مصر فرارًا بدينه كما يقول، لكن يبدو أن المصريين لم يُحسِنوا استقباله؛ لذلك حمَل عليهم في كتابه في مواطنَ عدة. والكتاب ينقسم إلى قسمَين؛ يركِّز أولهما على تحذير العالم الإسلامي من خطر الكماليين، وينبِّه المصريين خاصةً إلى سوء نيتهم. ويتناول القسم الثاني دوافعَ الكماليين في الاستيلاء على السلطة والتفريق بينها وبين الخلافة.

    ومن الطريف أن الكتاب يتناول الحركة الكمالية تشويهًا من كل جوانبها، محاولًا التهوين من شأن إنجازاتها في كل المجالات؛ فهو يتحدث عن «فساد» دينهم، وعن عصبيتهم للجنس التركي، ومحاربتهم للعصبية الإسلامية، فضلًا عن اتهامهم بالتواطؤ مع الإنجليز واليهود. إن تجريد الخلافة عن السلطة يعود في نظر المؤلف إلى «ارتداد الحكومة التركية، وانتزاعها من لباسها الديني»، وليست الخلافة عنده إلا قيام حكومةٍ نائبةٍ منابَ الرسول في إقامة أحكام الشريعة.

    ومن الضروري هنا الإشارة إلى الخاتمة التي ألحقها المؤلف بالكتاب، بعد أن صدَر قرار إلغاء الخلافة والكتاب مائلٌ للطبع؛ ذلك أن هذه الخاتمة كاشفةٌ عن وقوف المصريين إلى جانب الحركة الكمالية قبل قرارهم الأخير. يقول المؤلف مشيرًا إلى المصريين «وقد أردتُ أن أبيِّن لهم الحق قبل هذا بسنة ونصف سنة، فأمطروا عليَّ الشتم واللعن. وكرَّرتُ النذير بعد سنة فكرَّروا النكير، وأصرُّوا على ضلالهم وتحبيذ الضلال الكمالي، إلى أن اعترفوا بالحق، وعنَّفوا الحكومة التركية، حين لا ينفع الاعتراف والتعنيف؛ فقد سبق السيف العذل، وشابه الجد في إبطائه الهزل؛ فما لصولة صُحُفهم اليوم على مصطفى كمال وحكومته إلا قيمة الندم. فليفتح عالم الإسلام عينَيه، وليأخذ حِذرَه من الملحدين الذين دبَّت عقاربهم، ونجحَت في بلادنا تجاربُهم، فلا ينقذه المسلك الذي سلكه. ينام وينخدع بهم إلى ما شاء الله وشاءوا، ثم يتنبَّه بعدما كانت الكائنة، ولات حين جدوى لذلك الانتباه.»٢٩

    والحقيقة أن هذه الخاتمة تمثِّل خطابًا تردَّد صداه الآن بقوة في السنوات الأخيرة من القرن العشرين. ربما تختلف المفردات، وربما يميل الأسلوب على مستوى بِنْيته اللغوية إلى شكل اللغة العصرية، لكن المحتوى الأيديولوجي للخطاب واحد، لا فرق كبيرًا بين مصطفى صبري ومحمد عمارة، ولا بين محمد رشيد رضا ويوسف القرضاوي.

الخلافة في التاريخ الاجتماعي والسياسي

لقد صدر كتاب «الخلافة وسلطة الأمة» عن منشورات المجلس الكبير الوطني «الجمهوري» بأنقرة، أصدرَتْه الحكومة بعد قرار إلغاء «السلطنة» والتفريق بين «الخلافة» و«الحكم». ومن الواضح أن الجهد الذي بُذل في الكتاب — من الناحيتَين الفقهية والتاريخية — جهدٌ علميٌّ جادٌّ يُضفي على الكتاب سماتٍ معرفية تتجاوز حدود «الغرض» أو «الهدف» الذي سعى المجلس الوطني إلى تحقيقه بنشر هذا الكتاب. يظل الكتاب من الزاوية المعرفية الخالصة دراسةً رصينة لإشكالية «الخلافة» في سيرورتها التاريخية.

ومما استعرضناه من تاريخ الخلافة، في الفِقرة السابقة، يتبيَّن لنا أن هناك فجوةً عميقة وواسعة بين «المثال» و«النموذج» النظري لمفهوم الخلافة في الوعي الإسلامي — كما يتجلى ذلك الوعي في بعض كتب العقائد التي تتعرَّض للإمامة — وبين التحقُّق الواقعي الفعلي في التاريخ الاجتماعي للمسلمين. وتلك هي الإشكالية التي يتعرَّض لها الكتاب.

إذ يبدو الكتاب حريصًا غاية الحرص على الاحتفاظ لمقام الخلافة بكل أبعاده ودلالاته الدينية الرمزية، التي تتمثل في الحفاظ على وحدة العالم الإسلامي تحت زعامةٍ روحيةٍ واحدة، مع الاحتفاظ في نفس الوقت للأمة — ممثَّلة في شعوبها المختلفة — باختيار شكل الحكم الملائم لها، والمشاركة الفعلية في إدارة شئون الحكم والسلطة؛ لذلك يعترضُ مترجم الكتاب على قرار المجلس الوطني التركي بإلغاء منصب الخلافة، ويعتبر ذلك القرار باطلًا، ويرى أنه «لا بد من وجود قطبٍ يجمع بين تلك الشعوب ويقوم بتقوية علاقاتها، وهذا القطب الجامع ليس سوى الخليفة، وقد أقرَّت بوجوده الأمم الإسلامية منذ الخلفاء الراشدين.» لكن هذا الحرص يكاد يتضاءل بشكلٍ ضمني في التحليلات النقدية العميقة التي يقدِّمها الكتاب لإشكالية الخلافة من جانبَيها النظري والتطبيقي على السواء.

على المستوى النظري يطرح الكتاب هذا التساؤل الجوهري: هل الخلافة مسألةٌ اعتقاديةٌ أصيلة في بِنْية «الدين» ذاته أم أنها من المسائل الفرعية والفقهية «ومن جملة الحقوق والمصالح المختصة بالأمة ولا علاقة لها بالاعتقاد»؟ وموقف الكتاب واضح لا يحتمل اللبس في أنها ليست مسألةً اعتقادية، بل هي مسألةٌ دنيوية وسياسية أكثر من كونها مسألةً دينية، وأنها من المسائل التي تنتمي إلى اجتهاد الأمة نفسها مباشرة. وينبثق عن هذا التساؤل تساؤلٌ آخر هو: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا شغلَت مسألة «الإمامة» و«الخلافة» هذا الحيز اللافت في كتب «العقائد»؟ وتقتصر إجابة الكتاب عن هذا السؤال الثاني على الإشارة إلى حقيقة أن الصراع الفكري الأيديولوجي بين الدولة الأموية وخصومها من الخوارج والشيعة — وهو صراع اجتماعي سياسي أساسًا — هو الذي فجَّر مسألة «الخلافة»، وهو الذي حفَّز علماء أهل السنة إلى البحث بمؤلَّفاتهم في الاعتقاديات عن مسألة الخلافة أيضًا تحت عنوان «مبحث الإمامة»، ليدحضوا «آراء المخالفين»، ويردُّوها على القائلين بها.

عند هذه الحدود تقف الإجابة التي تحتاج منَّا هنا إلى متابعة تكشف عن حقيقة الإشكالية المثارة في سياق التاريخ. لقد ثارت مشكلة الخلافة أوَّل ما ثارت وجسَد النبي لم يُدفن بعدُ. ومما يرويه محمد بن جرير الطبري في تاريخه روايةٌ على لسان عمر بن الخطاب يذكُر فيها انقسام معسكر المسلمين إلى ثلاثة أقسام؛ قسم يضم عليَّ بن أبي طالب والزبير بن العوام، وقسم ثانٍ يضم الأنصار من أهل المدينة، والقسم الثالث يضم أبا بكر وعمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح. يقول: «وإنه كان من خبَرنا حين تَوفَّى الله نبيه أن عليًّا والزبير ومن معهما تخلَّفوا عنا في بيت فاطمة، وتخلَّفَت عنا الأنصار بأَسْرها، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلتُ لأبي بكر: «انطلِق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار.» وحين ذهب المهاجرون إلى حيث يجتمع الأنصار في سقيفة «بني سعد» دار بينهم حوارٌ حول أمر من يخلُف النبي في ولاية شأن المسلمين.

والملاحَظ في هذا الحوار والجدل أنه كان يدور على مسألة «الأحقِّية» من منظور «الواقع» لا من منظور «الدين»؛ حيث كان الأنصار يرَون أنهم أحقُّ بالأمر؛ لأنهم «الأنصار وكتيبة الإسلام». ويعبِّر عمر بن الخطاب عن دخيلة نفسه حين يقول: «فلما رأيتُهم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويغصبونا الأمر، وقد كنتُ زوَّرتُ في نفسي مقالةً أقدِّمها بين يدَي أبي بكر، وقد كنتُ أداري منه بعض الحد، وكان هو أوقر مني وأحلم، فلما أردتُ أن أتكلم قال: «على رسلك! فكرهتُ أن أعصِيَه.» لكن أبا بكر يشرح الأمر على النحو التالي: «يا معشر الأنصار، فإنكم لا تذكُرون منكُم فضلًا إلا وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، وهم أوسط العرب دارًا ونسبًا.»

وقد عبَّر الأنصار عن رفضهم لاقتراح أبي بكر بمبايعة أبي عبيدة بن الجراح، وذلك على لسان «سعد بن عبادة» — سيد الخزرج — الذي قال: «أنا جُذَيلُها المُحكَّك، وعُذَيقُها المُرجَّب، منا أميرٌ ومنكم أمير، يا معشر قريش.» وهو اقتراحٌ رفضه المهاجرون. ويحكي عمر: «فارتفعَت الأصوات وكثُر اللغط، فلما أشفقتُ الاختلاف قلتُ لأبي بكر: ابسُط يدَك أبايعك، فبسَط يدَه فبايعتُه وبايعَه المهاجرون، وبايعَه الأنصار. ثم نزَوْنا على سعد، حتى قال قائلهم: قتلتم سعد بن عبادة! فقلتُ: قتل الله سعدًا!»٣٠ وإذا كنا في هذه الرواية على لسان ابن الخطاب نفتقد أي وجودٍ لدليلٍ ديني يدُل على أحقية قريش في الخلافة، فإن ثمَّة روايةً أخرى — أقل شأنًا من رواية ابن الخطاب دون شك — يَرِد فيها أن أبا بكر قال: «لقد علمتم أن رسول الله قال لو سلك الناس واديًا وسلكَت الأنصار واديًا لسلكتُ واديَ الأنصار، ولقد علمتَ يا سعدُ أن رسول الله قال وأنت قاعد: قريشٌ ولاة هذا الأمر فبرُّ الناس تبعٌ لبرِّهم، وفاجرُهم تبعٌ لفاجرِهم. قال: فقال سعد: صدقتَ فنحن الوزراء وأنتم الأمراء.»٣١
وتتفق الروايتان — فيما عدا ذلك — على تخلُّف علي بن أبي طالب والزبير بن العوام عن بيعة أبي بكر، فتذهَب الرواية الثانية إلى أن الزبير اخترطَ سيفه، وقال: «لا أغمده حتى يُبايَع علي.» وهذا التراخي من جانب علي والزبير في البيعة شمل فيما يُقال بني هاشم كلهم الذين لم يبايعوا إلا بعد مُضيِّ ستة أشهر، وبعد وفاة السيدة «فاطمة» تحديدًا. وكان مما قاله علي لأبي بكر وهو يبايعه: «فإنه لم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر إنكارٌ لفضيلتك، ولا نفاسةٌ عليك بخيرٍ ساقه الله إليك، ولكنا کنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقًّا، فاستبددتُم به علينا.»٣٢
وحاصل هذا كله أن هذا الانقسام في شأن الخلافة كان يدور على أرضٍ لا علاقة لها بالدين وبالعقيدة، كان عليٌّ يرى نفسه أحق بالأمر للقرابة والمصاهرة، ومواصلةً للانتصار الذي حقَّقه بنو هاشم على خصومهم ومنافسيهم التقليديين على زعامة قريش. وكان الأنصار يجدون الخلافة حقًّا لهم؛ فلولا الهجرة والدعم المعنوي والمادي الذي قدَّموه لإخوانهم المهاجرين لكان للدعوة مصيرٌ آخر؛ لذلك كله قال عمر بن الخطاب خلافة أبي بكر، والطريقة التي تمَّت بها بيعته، وذلك تعليقًا على قولٍ سمعه يتردَّد «إن بيعة أبي بكر كانت فلتة»، قال عمر: «فقد كانت كذلك، غير أن الله وقَى شرَّها، وليس منكم من تُقطَع إليه الأعناق مثل أبي بكر.»٣٣ وهو قولٌ يعكس إدراك عمر أن بيعة أبي بكر كانت محاطةً بظروفٍ وملابساتٍ خطيرة، وقَى الله المسلمين شرَّها باختيار أبي بكر «دون غيره».

ومن نافلة القول هنا أن نذكُر أن هذا الانقسام ينفي وجودَ نصٍّ يدُل على كون الأئمة من قريش، أو يدُل على لزوم طاعة الإمام … إلخ. وغالب الظن أن هذه النصوص تم إنتاجُها في سياق الصراع الاجتماعي السياسي بين علي ومعاوية منذ معركة صفِّين. وحين استقر الأمر لبني أمية كان لا بد من إنتاج نصوصٍ تدل على مشروعية «النظام الأموي» القرشي، وذلك لمواجهة النصوص التي كان الشيعة ينتجونها لإثبات مشروعية مقاومة النظام الأموي الذي لا مشروعية له. وهكذا دخلَت المشكلة السياسية نطاقَ «الدين» وصارت جزءًا من «العقيدة» في كتب «أهل السنة»؛ لذلك يزول عجبُنا من إدراك الآمدي في القرن السابع الهجري (٦٣١ﻫ) لهذه المفارقة التي يُضطَر إلى الانسياق في تيارها.

يقول الآمدي تعبيرًا عن هذه المفارقة في تمهيده للقانون الثامن «في الإمامة»: «واعلم أن الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات، ولا من الأمور اللابُدِّيات (من «لا بد» أي من الضروريات الدينية) بحيث لا يسَع المكلَّفَ إلا الإعراضُ عنها، والجهلُ بها، بل لعمري إن المعرِض عنها لأرجى حالًا من الواغل فيها؛ فإنها قلَّما تنفكُّ عن التعصُّب والأهواء، وإثارة الفتن والشحناء، والرجم بالغيب في حق الأئمة والسلف بالإزراء، وهذا مع كون الخائض فيها سالكًا سُبُل التحقيق، فكيف إذا كان خارجًا عن سواء الطريق. لكن لمَّا جرَت العادة بذكرها في أواخر كُتب المتكلمين، والإبانة عن تحقيقها في عامة مصنَّفات الأصوليين، لم نرَ من الصواب خرقَ العادة بترك ذكرها، في هذا الكتاب، موافقةً للمألوف من الصفات، وجريًا على مقتضى العادات.»٣٤
ومع ذلك يمضي الآمدي بعد ذلك ليقرِّر ما سبق تقريره في مصنَّفات الأصوليين قبله، حتى ليكاد القارئ يُصدَم وهو يتابع دفاعَه الحادَّ عن «أن إقامة الإمام واتِّباعه فرضٌ على المسلمين شرعًا لا عقلًا». ويكاد هذا الدفاع الحاد أن يتمحور على حقيقةٍ مفادها أن المتواتر «من إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة رسول اللہ على امتناع خلو الوقت من خليفة وإمام» دليلٌ قاطعٌ على وجوب قيام الإمام واتِّباعه شرعًا. هكذا يتحول الإجماع «الاجتماعي»، على ضرورة وجود «خليفة» بعد وفاة الرسول ، إلى «إجماع» ديني يندرج تحت مفهوم «التواتر» في الأحكام الدينية، لكن ما يقوله الآمدي هنا سبقه إليه «الماوردي» (٤٢٣ﻫ) في «الأحكام السلطانية»، وأبو حامد الغزالي (٥٠٥ﻫ) في كثيرٍ من كتبه. وكان ذلك كله مسبوقًا بما قام به علماء الأصول — أصول الفقه — من جعل «الإجماع» أصلًا من أصول الدين، ومنبعًا من منابع الشريعة، تاليًا للقرآن الكريم والسنة النبوية، وسابقًا على «القياس» والاجتهاد.٣٥
هكذا ينتقل مفهوم «الإجماع» من علم أصول الفقه إلى علم أصول الدين، فيحمل معه دلالته الدينية إلى مجال «الفكر السياسي»، وذلك بعد أن أصبح «الفكر السياسي» ذاته جزءًا من «أصول الدين»؛ أي صار جزءًا من العقيدة. وهكذا أمكن إقامة مفهوم «وجوب الإمامة» على دليلَين سمعيَّين؛ الأول تواتُر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة الرسول على امتناع خُلو الوقت عن إمام، ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر في حاجة إلى تنصيب إمامٍ مُتَّبَع أو مُطاع. ومستند الإجماع نقل متواتر توفرت الدواعي والقرائن عليه. والدليل السمعي الثاني هو «المصلحة»؛ «وبالتالي يصبح للدليل مقدمتان؛ الأولى قطعية وهي أن نظام الدین مقصودٌ لصاحب الشرع قطعًا، والثانية جزئية وهي أنه لا يحصُل نظام الدين إلا بإمامٍ مطاع. وتكون النتيجة قطعية وهي وجوب نصب الإمام. ويمكن البرهنة على المقدمة الثانية الجزئية بأمرين؛ الأول بأن نظام الدين لا يحصُل إلا بنظام الدنيا، والثاني أن نظام الدنيا لا يحصُل إلا بإمامٍ مطاع. وفي هذا الدليل تظهر حجة المصلحة أساس المقدمتَين معًا كقصد للشارع وكضرورة في الدنيا؛ فالمصلحة هي التي تجمع بين الدين والدنيا، أساس الدين وضرورة الدنيا.»٣٦
لكن اعتماد «الإجماع» القائم على «التواتر» مرجعيةً دينية في مسألة «الخلافة» كان صياغةً نظرية لتبرير ممارسةٍ تاريخيةٍ محدَّدة في شكل الحكم، وذلك بدليل غياب مرجعيةٍ دينيةٍ نصيةٍ أخرى سوى ما تم إنتاجُه بعد ذلك من نصوصٍ عن إمامة قريش كما سلفَت الإشارة. والذي يؤكِّد أن الصياغة النظرية كانت صياغة تبريرية، إصرار المتكلمين من «أهل السنة» على «أن مُستنَد التعيين»؛ أي تعيين الخليفة، لا يقوم على النص كما يزعم الشيعة، بل يقوم على «الاختيار». لكن ليس هذا «الاختيار» من جانب الأمة هو الذي يفرض على أفرادها طاعة «الخليفة»، بل يمثل «الاختيار» إجماعًا يستمدُّ مشروعيته من «الإجماع» الأصلي على «وجوب» نصب الأئمة واختيار «الخلفاء»، ومن هذا الإجماع الأصلي تنبع طاعة الإمام. معنى ذلك أن «الاختيار» وحده ليس شرطًا لطاعة الإمام؛ لأن «طاعته بعد ذلك إنما صارت واجبة بالإجماع المستند إلى الكتاب، أو قول الرسول لا إلى نفس الاختيار له أولًا.»٣٧
هذه التفرقة بين «الاختيار» و«الإجماع» مقدِّمة تنبني عليها عدم أهمية «الإجماع» في اختيار الإمام، ولو كان إجماع «أهل الحل والعقد»؛ فإن ذلك «مما لم يقم عليه دليلٌ عقلي ولا سمعي نقلي، بل الواحد من أهل الحل والعقد — والاثنان — كافٍ في الانعقاد، ووجوب الطاعة والانقياد، لعلمنا بأن السلف من الصحابة — رضوان الله عليهم، مع ما كانوا عليه من الصلابة في الدين، والمحافظة على قواعد المسلمين — اكتفَوا في عقد الإمامة بالواحد والاثنين من أهل الحل والعقد كعقد عمر لأبي بكر! (الصواب: كعقد أبي بكر لعمر) وعبد الرحمن بن عوف لعثمان، ولم يشترطوا إجماع من في المدينة من أهل الحل والعقد، فضلًا عن إجماع الأمصار واتفاق مَن في سائر الأقطار. وكانوا على ذلك من المتفقين وله من المتبعين، من غير مخالفة ولا نكير. وعلى ذلك انطوَت الأعصار في عقد الإمامة في كل حين، وعليه اتفاق كافة المسلمين.»٣٨

نلاحظ أن المرجعية المعتمدة في هذا التوصيف النظري (التنظير) هي مرجعية الواقع التاريخي للممارسة السياسية للجيل الأول من المسلمين، وذلك بعد أن تمَّ تحويلُ هذه الممارسة — استنادًا إلى مقولة «الإجماع» — إلى شأنٍ دينيٍّ عقيدي. هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى تم اعتماد هذه الممارسة «نموذجًا» تُقاس عليه الممارسات التالية، فيتحاشى المفكِّر السني الإشارة إلى ما حدث لنظام الخلافة وما يرتبط به من شورى، وبيعة، من انتهاكٍ جذريٍّ مع قيام الدولة الأموية؛ حيث صارت «الخلافة» ميراثًا أسريًّا أو ملكًا عضوضًا، وهو أمرٌ استمر موجودًا في الدولة العباسية حتى سقوط نظام الخلافة سقوطًا نهائيًّا عام ٦٥٦ﻫ.

هل يمكن القول بناءً على هذا التمييز بين مرحلتَين في تاريخ الممارسة السياسية للمسلمين أن ما يُسمَّى بالخلافة — بالمعنى الذي تتوحد فيه السلطتان السياسية والدينية — قد انتهى مع قيام الدولة الأموية؟ واقع الأمر أن توحُّد السلطتين ظاهرةٌ لم تحدث في التاريخ الإسلامي إلا في عصر النبوة في المرحلة المدينية فقط، حين أُضيفَت إلى أعباء الدعوة والنبوة أعباءُ الزعامة السياسية مع قيام شكلٍ من الأشكال الاجتماعية فوق القبلية. كان اختيار الخليفة الأول أبي بكر الصديق — كما رأينا — «فلتة وقَى الله شرَّها»؛ لأنه لم ينعقد عليها إجماع أهل الحل والعقد إلا بعد حوالي ستة أشهر. وقد كان الخلاف — كما رأينا — خلافًا سياسيًّا لا دينيًّا، وإن كانت الأدلة الدينية لكل الأطراف قد انبثقَت في مرحلةٍ تالية.

وكان استخلاف عمر بن الخطاب نتيجةً لمشاورة اثنين فقط الصحابة؛ أولهما عبد الرحمن بن عوف، الذي حرص أبو بكر على أن ينبهه على «سرية» هذا التشاور قائلًا: «لا تذكر يا أبا محمد مما قلتُ لك شيئًا». والثاني هو عثمان بن عفان، الذي قال له مثل ما قال لعبد الرحمن بن عوف عن «السِّرية»، لكنه أضاف لعثمان: «لو تركتُه (عُمرَ) ما عدَوتُك، وما أدري لعله تاركه، والخِيَرة له ألا يليَ من أموركم شيئًا … يا أبا عبد الله لا تذكُرن مما قلتُ لك من أمر عمر، ولا مما دعوتك له شيئًا.»٣٩ هذه المشاورة لا تعني إلا نوعًا من «المداولة» بين الخليفة واثنَين من خلصائه، ولا تدخل تحت مفهوم «الشورى» بالمعنى الذي يجعل «أهل الحل والعقد» هم «مجلس الشورى». ولا يُمكِن تجاهل هذا «الوعد» الضمني الذي أفضى به الخليفة إلى عثمان بن عفان أن يكون هو المرشَّح التالي لعمر في حالة اعتذار الأخير.

وقد كان اختيار الخليفة الثالث «عثمان بن عفان» اختيارًا منبثقًا عن مجلس شورى مكوَّن من ستة من كبار الصحابة «المبشَّرين بالجنة»، اختارهم الخليفة المُحتضَر عمر بن الخطاب، لكن التعليمات التي أعطاها عمر بن الخطاب لقواعد الاختيار تبدو غريبة، لأنها تعكس بطريقة ضمنية محاولة ابن الخطاب توقِّي «أسباب الفرقة» التي يتوقَّعها ويخشى أضرارها. يقول الخليفة لأعضاء مجلس الشورى الخمسة — وكان طلحة غائبًا عن المدينة: «فإذا متُّ فتشاوروا ثلاثة أيام، وليصلِّ بالناس صهيب، ولا يأتين اليوم الرابع إلا وعليكم أميرٌ منكم؛ ويحضر عبد الله مشيرًا، ولا شيءَ له من الأمر، وطلحة شريكُكُم في الأمر، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأَحضِروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضُوا أمركم … أرجو ألا يخالف إن شاء الله.»

وإلى جانب هذا التنظيم حرص ابن الخطاب على تكوين قوة «ضبط» و«ردع»، في حالة الاختلاف بين الستة أعضاء مجلس الشورى، وعدم اتفاقهم على واحدٍ منهم يتولى الأمر. واعتمد ابنُ الخطاب في تكوين هذه القوة على «الأنصار»، ربما تحقيقًا لقول أبي بكر في اجتماع السقيفة — منا الأمراء ومنكم الوزراء، لا نقضي دونكم أمرًا — فتوجه لأبي طلحة الأنصاري قائلًا: «يا أبا طلحة، إن الله عزَّ وجل طالما أعزَّ الإسلام بكم، فاختَر خمسين رجلا من الأنصار، فاستحثَّ هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلًا منهم.» وقال لصهيب: صلِّ بالناس ثلاثة أيام، وأَدخِل عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قدم، وأحضر عبدَ الله بن عمر ولا شيء له من الأمر، وقم على رءوسهم، فإن اجتمع خمسةٌ ورضوا رجلًا وأبي واحدٌ فاشدخ رأسه — أو اضرب رأسه بالسيف — وإن اتفق أربعةٌ فرضُوا رجلًا منهم وأبي اثنان، فاضرب رءوسهما، فإن رضي ثلاثةٌ رجلًا منهم وثلاثةٌ رجلًا منهم، فحكِّموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلًا منهم! فإن لم يرضَوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتُلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس.»٤٠

هذا الترتيب السياسي لمسألة اختيار الخليفة الثالث يعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على محاولة الحفاظ على «التوازنات، السياسية القبلية، حرصًا على سلامة الدولة من التفكُّك والتصدُّع والانهيار. وهو ترتيبٌ كاشف عن «السياسة» وليس عن «الدين»، كاشف عن ذلك في اختيار الستة أولا، وكاشفٌ عنه كذلك في إدخال «الأنصار» عنصرًا في إحداث التوازن المطلوب، ولو بالتصفيات الجسدية. ويزداد الأمر وضوحًا في كشف الوجه السياسي لمسألة «الخلافة» حين نستعرض موقف بني هاشم من هذا الترتيب.

في البداية، كان رأي العباس بن عبد المطلب، والذي أفضى به لعليٍّ عقب إعلان أسماء المرشَّحين الستة — الذين هم مجلس الشورى: «لا تدخل معهم»، فقال علي: «أكره الخلاف» فردَّ عليه العباس: «إذن ترى ما تكره»!٤١ وحين كشف عمر آليات الاختيار التي يجب اتباعها، وحصَره في كلٍّ من علي وعثمان مع الإشارة العاجلة لإمكانية اختيار سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف، دار الحوار التالي بين علي والعباس، فقال علي: «عدلَت عنا (يعني الخلافة)، فقال (العباس) وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان، وقال (يقصد عُمر): كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلًا، ورجلان رجلًا، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف.» ويواصل علي بن أبي طالب تحليله للموقف وتوقُّعه لما سيحدث: «فسعد (بن أبي وقاص) لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن (بن عوف)؛ وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن؛ فلو كان الآخران معي لم ينفعاني، بله (فما بالك) إني لا أرجو إلا أحدَهما». وكان تعليق العباس على تحليل علي: «لم أتبعك في شيء إلا رجعتَ إليَّ مستأخرًا بما أكره؛ أشرتُ عليك عند وفاة رسول الله أن تسألَه فيمن الأمر فأبيت، وأشرتُ عليك بعد وفاته أن تُعاجلَ الأمر فأبيت، وأشرتُ عليك حين سمَّاك عمر في الشورى ألا تدخُلَ معهم فأبيت؛ احفظ عني واحدة؛ كلما عرض عليك القوم، فقل: لا، إلا أن يُولُّوك؛ واحذَر هؤلاء الرهط، فإنهم لا يبرَحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنا به غيرنا.»٤٢

ولو تأملنا ما حدث في بيعة علي بن أبي طالب، عقب مقتل الخليفة الثالث، أدركنا أنها بيعةٌ لم ينعقد عليها إجماعٌ أبدًا، بل إن بعضَ من بايعوه في المسجد نقضوا بيعتهم وشنُّوا ضده حربًا، ثم تصدى له معاوية بن أبي سفيان، وكان واليًا لعثمان على الشام، محاربًا تحت «يافطة الثأر للخليفة المقتول». وحين انتهى الأمرُ لبني أمية بتصالُح الحسن مع معاوية، فيما أصبح يُعرف بعام الجماعة، تحوَّل النظام السياسي إلى نظامٍ ملكيٍّ وراثي لا شبهة في ذلك. وصارت آليات الشورى والبيعة آلياتٍ شكلية رفضَها بعض الفقهاء، وعلى رأسهم أبو حنيفة النعمان: «لم يقبل الخلافة الأموية ولا العباسية ولم يُجزْها؛ ولهذا رفض القضاء أولًا في زمان الأمويين، ثم في دور العباسيين حين كلَّفوه به.»

إن ما يُسمَّى بتاريخ «الخلافة» إذن ليس إلا تاريخًا لنظامٍ سياسي لا علاقة له بالدين من قريب أو بعيد، نظام سياسي اختارته الجماعة وَفْق «موازين» القوى الاجتماعية وقدراتها السياسية من جهة، ووَفْق المتاح من معرفة وخبرة تاريخية ثقافية من جهةٍ أخرى. ولعل هذا هو الذي دعا ابنَ الخطاب لإهمال لقب «خليفة» مستبدلًا به لقب «أمير المؤمنين»، وهو لقبٌ يكشف عن الطابع السياسي الدنيوي للمنصب. وظل هذا اللقب ملازمًا للمنصب أمدًا من الزمن، وأغلب الظن أن المنصب لم يَستعِدْ لقب «خليفة» إلا بعد أن تحوَّلَت «الإمارة» إلى يد العسكر، حين بدأَت سيطرتهم على شئون الحكم تظهر، كما سلفَت الإشارة، حقيقةً من الحقائق.

لكن آيات الصراع السياسي على المنصب، خاصة منذ ما يُسمَّى بعصر «الفتنة» جعلت كل فريق يسعى إلى تثبيت مشروعيته السياسية استنادًا إلى «نص ديني». حدث ذلك في حصار الثوار لعثمان بن عفان، الذي طلبوا منه أن يعزل العمال الفسَّاق، وأن يستعملَ عليهم من لا يُتَّهم على دمائهم وأموالهم؛ أي من لا يعتدي على دمائهم وأموالهم، وطلبوا منه أخيرًا أن يردَّ عليهم مظالمهم؛ أي ما أخذ منهم ظلمًا من عطاء. كان ردُّ عثمان: «ما أراني إذن في شيء إن كنتُ أستعمِل من هوَيتُم، وأعزِل من كرهتُم، الأمر إذن أمركم»، وهو قول يكشف عن إحساس عثمان بأن هؤلاء الثوار يعتدون على «السلطة» المخوَّلة له، كما يكشف عن رفضٍ تامٍّ لتحقيق المطالب العادلة لهؤلاء الثوار. حين ذاك احتد النقاش: «قالوا: لتَفعلنَّ أو لتُعزلنَّ أو لتُقتلنَّ. فانظر لنفسك أو دَعْ. فأبى عليهم النقاش وقال: لم أكن لأخلع سربالًا سربلَنيه الله.»٤٣
هكذا تحوَّلَت «الإمارة» — في منطق الخليفة المحاصر — إلى هِبةٍ إلهية، رغم أنها في الأصل اختيارٌ بشريٌّ؛ حيث كان يمكن لمجلس الشورى الذي عيَّنه عمر اختيار أميرٍ آخر. هكذا صار ما كان شأنا إنسانيًّا سياسيًّا شأنًا إلهيًّا دينيًّا، لكن مروان بن الحكم مثلًا — وهو أحد مستشاري عثمان والمسئول عن كثيرٍ من الأخطاء والممارسات التي ألَّبَت الناس ضد عثمان — كان ينظر للأمر على اعتبار أنه «ملك» بني أمية. قال ذلك بشكلٍ واضح وعبَّر عنه حين خرج على الثوار المتزاحمين على باب عثمان وصرخ فيهم: «ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم جئتم لنهب! شاهت الوجوه! كل إنسانٍ آخذ بأذُن صاحبه. ألا من أريد! جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا! اخرجوا عنا، أما والله لئن رُمتُمونا ليمُرَّن عليكم منا أمرٌ لا يسرُّكم، ولا تحمدوا غبَّ رأيكم. ارجعوا إلى منازلكم! فإنا والله ما نحن بمغلوبين على ما في أيدينا.»٤٤

لقد كان الصراع السياسي الاجتماعي إذن هو الحافز دائمًا للتخفي وراء ستارٍ ديني بحثًا عن «مشروعية» عُليا تحقِّق الانتصار على الخصوم. من هنا أبدع الشيعة — بعد مقتل علي — مسألة الإمامة بالنصِّ لا بالتعيين والاختيار، وقاموا على امتداد تاريخهم بمراكمة نوعٍ من الرأسمال الرمزي، بدايةً ببعض الأقوال والمواقف النبوية المرتبطة بشخص علي بن أبي طالب. وكان على «العثمانية» ثم «الأمويين» فيما بعدُ، أن يخلقوا رأسمالهم الرمزي الذي تمحوَر أساسًا حول «القرشية» و«فضل قريش» على الناس، بدءًا بتقديم أبي بكر وعمر وعثمان على عليٍّ، وانتهاءً بما أضافه «العباسيون» على «البيت النبوي» مستغلين التراث الشيعي لمحاربة الرأسمال الأموي.

الخلافة من الدنيوي إلى الديني

وظل الأمر كذلك حتى ثبت في تاريخ الفكر البُعد الديني لمسألة «الخلافة»، خاصةً مع تضاؤل سلطة الخلفاء السياسية، مع سيطرة العناصر العسكرية على شئون الحكم، واستئثارهم بالإمارة. لم يعُد لمنصب الخليفة إذن منذ منتصف القرن الثالث الهجري تقريبًا سوی دلالته الرمزية الدينية، التي التصقَت به التصاقًا تامًّا في الوغي الإسلامي حتى صار المساس به «كفرًا» و«إلحادًا»، وتبعيةً للغرب الاستعماري … إلخ. ومما له دلالة في هذا الصدَد أنه في هذه الفترة تقريبًا بدأَت الكتابة عن حق الخليفة في تفويض بعض سلطاته أو كلها إلى «أمير» خارج عاصمة الخلافة، أو إلى «وزير» يقوم بشئون الحكم داخل العاصمة. كان هذا ما ذهب إليه «الماوردي» في أحكامه السلطانية، وذلك في محاولةٍ لإيجاد شرعيةٍ للوضع الذي فرض نفسه سياسيًّا.٤٥ ولم يكن هذا في حقيقته سوى تنظير لفصل «السلطنة» عن «الخلافة» منذ ذلك الوقت المبكِّر في التاريخ السياسي للمسلمين.

وفي ظل الحكم السلجوقي صار التهديد الإسماعيلي للنظام السياسي للدولة واضحًا ملموسًا في تزايد حدة الاغتيالات، التي انصبَّت أساسًا على كبار رجال الدولة؛ الأمر الذي استدعى التصدي للفكر الإسماعيلي بالتفنيد والنقض. وأصدر الخليفة المستظهر بالله تعليماتٍ لأبي حامد الغزالي للقيام بهذه المهمة، فكتب كتابه المعروف باسم «فضائح الباطنية». والذي يهمُّنا التركيز عليه في تحليل هذا الكتاب الكشف عن بُعد النزاع على «الرأسمال» الرمزي بين السنة والشيعة، وهو الأمر الذي ساهم في تثبيت مسألة أن الخلافة شأنٌ ديني وليس دنيويًّا، جزءٌ من العقيدة وليس مجرد ممارسةٍ سياسيةٍ إنسانيةٍ تاريخية.

يبدأ الغزالي كتابه بإبطال فكرة الشيعة المحورية، التي مفادها أن الخلافة بالنص؛ لأنها شأن ديني لا يُترك للاختيار أو التعيين أو الشورى. وقد اعتمد الغزالي في إبطال هذه الفكرة على مجموعة من الحُجَج، تتعلق كلها بنقد «الأخبار» التي يتعلق بها الشيعة للقول بإمامة علي بن أبي طالب «نصًّا». ونفس الحُجَج يستخدمها الغزالي في إبطال مفهوم «عصمة» الإمام من الخطأ والزلل والصغائر والكبائر عند الشيعة، لكن حين ينتقل الغزالي للتدليل على أحقية الخليفة المستظهر بالله بإمامة المسلمين دون غيره يكاد ينتهي في تحليله لهذه الأحقية إلى ما يتجاوز القول بالنص — قول الباطنية — إلى القول بالاختيار «الإلهي» المباشر. وبعبارةٍ أخرى إذا كان الباطنية يقيمون مشروعية أئمتهم على «نصٍّ» من النبي فإن الغزالي يقيم مشروعية إمامة المستظهر بالله على «الاختيار» المباشر من الله عز وجل.

إن الإمامة فيما يرى الغزالي إما أن تنعقدَ بالنصِّ أو باختيار المسلمين، ولأن القول بالنص باطلٌ فلا إمامة إلا بالاختيار، لكن مسألة «الاختيار» تثير إشكالاتٍ لا حصر لها؛ اختيار مَن؟ عامة المسلمين أم أهل الحل والعقد؟ وهل يصح الاختيار وتنعقد البيعة بكل المسلمين دون استثناء، أم بكل أهل الحل والعقد، أم يكتفي بالبعض من ذلك؟ وما قَدْر «البعض» الذي تكون مبايعتُه مبررًا لانعقاد الإمامة؟ تلك كلها إشكالات يحلُّها الغزالي بالتخلي تمامًا عن مبدأ «الاختيار»، الذي واجه به مبدأ «النص»، وذلك استنادًا إلى مبدأ جواز انعقاد الإمامة «بالشوكة»؛ أي بالقوة والقهر والغلبة. لكنه يفعل ذلك بنفس المنهج الأشعري «الوسطي» ظاهرًا والمنحاز حقيقة، يقول «نعم! لا مأخذ للإمامة إلا النص، أو الاختيار. ونحن نقول: مهما بطل النص ثبت الاختيار. قولهم إن الاختيار باطلٌ — لأنه لا يمكن اعتبار كافة الخلق ولا الاكتفاء بواحد، ولا التحكُّم بتقدير عددٍ معيَّن بين الواحد والكل — فهذا جهل بمذهبنا الذي نختاره ونُقيم البرهان على صحته. والذي نختاره أنه يكتفي بشخصٍ واحد يعقد البيعة للإمام مهما كان ذلك الواحد مطاعًا ذا شوكة لا تُطال، ومهما كان مالَ إلى جانبٍ مال بسببه الجماهير، ولم يخالفه إلا من لا يُكتَرث بمخالفته؛ فالشخص الواحد المتبوع المطاع الموصوف بهذه الصفة إذا بايع كفى.»٤٦

ومن المؤكد أن الغزالي يعتمد في هذا الاجتهاد على بعض الحقائق التاريخية المُنتزَعة من تاريخ الدولة الإسلامية؛ فقد تم اختيار أبي بكر من جانب عمر بن الخطاب في اجتماع السقيفة، وتم اختيار عمر من جانب أبي بكر بالتعيين. أما اختيار الخليفة الثالث عثمان بن عفان فقد تم بانعقاد أغلبية من الستة الذين اختارهم عمر بن الخطاب لاختيار واحدٍ منهم، ثم بدأ الصراع عقب قتله، والخلاف حول إمامة علي بن أبي طالب؛ حيث نازعه معاوية بن أبي سفيان حتى قتل علي، انعقدت الإمامة لمعاوية بمبايعة الحسن فيما عرف بعام الجماعة. ومنذ تلك اللحظة كان اختيار الخليفة يتم بآليات المبايعة الشكلية لمن يختاره الخليفة القائم بالأمر، والذي يمتلك «الشوكة». هكذا كانت تقاليد تنصيب الأئمة في الدولتَين الأموية والعباسية وراثة، وهي تقاليد تختلف كثيرًا عن وراثة الإمامة في البيت النبوي عند الشيعة. الفارق بين الشيعة وبين السنة هو حرص الشيعة على ربط قضية الإمامة بسلطةٍ أعلى هي السلطة الإلهية، وذلك من خلال القول إن الإمامة بالنص. وهذه السلطة العليا هي ما كانت تحتاجه دولة السُّنة في صراعها السياسي ضد خصومها الإسماعيلية.

لذلك حرَص الإمام الغزالي على ربط «الاختيار» بالمشيئة الإلهية المطلقة، ولو كانت من طرَف شخصٍ واحد، ما دام يمتلك «الشوكة» التي تؤدي إلى طاعة الناس له. وهذا الربط إلى جانب اتساقه التام مع نهج التفكير الأشعري، الذي يرتهن كلًّا من الإنسان والطبيعة في أَسْر «جبرية» صارمة، يهدف إلى تأبيد الواقع التاريخي والسياسي، وذلك عن طريق ارتهانه بدوره داخل سياج تلك «الجبرية»: «اكتفَينا بشخصٍ واحدٍ يبايع، وحكَمنا بانعقاد الإمامة عند بيعته، لا لتفرُّده في عينه، ولكن لكون النفوس محمولةً على متابعته ومبايعة من أذعَن هو لطاعته، وكان في متابعته قيام قوة الإمام وشوكته. وانصراف قلوب الخلائق إلى شخصٍ واحد أو شخصَين أو ثلاثة على ما تقتضيه الحال في كل عصر، ليس أمرًا اختياريًّا يُتوصَّل إليه بالحيلة البشرية، بل هو «رزقٌ إلهي يؤتيه الله من يشاء» (التأكيد لنا)؛ فكأنا في الظاهر ردَدنا تعيين الإمامة إلى اختيار شخصٍ واحد، وفي الحقيقة رددناها إلى اختيار الله تعالى ونَصْبه؛ إلا أنه قد يظهر اختيار الله عقيبَ متابعة شخصٍ واحد أو أشخاص. وإنما المصِّحح لعقد الإمامة انصرافُ قلوب الخلق لطاعته والانقياد له في أمره ونهيه. وهذه نعمة وهدية من الله تعالى.»٤٧
هكذا ينتهي الإمام الغزالي إلى جعل خلافة المستظهر بالله اختيارًا إلهيًّا، ما دامت خلافةً انعقد الإجماع عليها ولو برجلٍ واحدٍ أمال الله له القلوب، لكنه لكي يفعل ذلك ألقى بالتاريخ كله في مجال «الاختيار الإلهي»، الذي لا يظهر للناس إلا بعد متابعتهم لشخصٍ واحد أو أشخاص، وبذلك أسقط الغزالي قوانين الاجتماع البشري «ودفع الله الناسَ بعضَهم ببعض»، وذلك بعد أن كان قد تم له إسقاطُ فاعلية الفعل الإنساني، وإهدارُ قوانين الطبيعة. لقد أراد أن يُناهض «الباطنية» ويفنِّد مزاعمهم حول «النَّص» على الإمام وعصمته من الصغائر والكبائر، وحول وراثتِه للعلم النبوي دون حاجةٍ إلى تعليم، لكنه انتهى إلى جعل «المستظهر بالله» فوق إمام الشيعة في كل تلك الجوانب: «ولما نسَبونا (يقصد الشيعة) إلى أننا ننصِّب الإمام بشهوتنا واختيارنا، ونَقِموا ذلك منا، كشَفنا لهم بالآخرة «أنَّا لسنا نقدِّم إلا من قدمَّه الله»؛ فإن الإمامة عندنا تنعقد بالشوكة، والشوكة تقوم بالمبايعة، «والمبايعة لا تحصل إلا لصرف الله تعالى القلوب قهرًا إلى الطاعة والموالاة، وهذا لا يقدر عليه البشر». ويدُلك عليه أنه لو أجمع خلقٌ كثير لا يُحصى عددُهم على أن يصرفوا وجوه الخلق وعقائدهم عن الموالاة للإمامة العباسية عمومًا، وعن المشايعة للدولة المستظهرية — أيدها الله بالدوام — خصوصًا، لأفنَوا أعمارَهم في الحيل والدسائس لتهيئة الأسباب والوسائل، ولم يحصلوا في آخر الأمور إلا على الخيبة والحرمان»٤٨ (التأكيد لنا).

هل يمكن لنا بعد هذا التحليل المستفيض أن نقول إن وسطية الغزالي الأشعرية قد انتهت إلى نوعٍ من محاولة الجمع بين «النقائض»؟ وهل نستطيع بهذا الاستنتاج أن نفسِّر حقيقة الأزمة؟

خاتمة

هكذا لا نحتاج، وَفْق هذا التحليل التاريخي، أن نبحثَ عن سندٍ شرعي للتفريق بين «الخلافة» و«السلطنة»، بقَدْر ما نحتاج للغوص في عمق إشكالية الخلافة في التراث الديني الإسلامي، ولا نكتفي بحصر النقاش حولها في المسائل الفرعية والفقهية. إنها مسألة تتمثل فيها جملة الحقوق والمصالح العامة المختصة بالأمة؛ ومن ثَم يحتاج تحليلها لكشف قناع «التشيُّع» في الفكر السُّني، القناع الذي حلَّلناه من خلال إبراز الصراع على مسألة الرأسمال الرمزي في الفِقرة السابقة.

وحين يصبح أمر الخلافة كذلك تنكشف حقيقة كونها أمرًا سياسيًّا دنيويًّا لا علاقة له بالعقيدة.

إن الإجماع الذي ثبت به وجوب نصب الإمام إجماعٌ لا يستند إلى نصٍّ في الشريعة من قرآن أو سنة، بل هو يستند على قاعدةٍ عقلية هي «دفع الضرر»، وهي قاعدة يتفق عليها العقلاء جميعًا، وإدخال هذه القاعدة العقلية في حيِّز الشريعة لا يجعل منها قاعدة «شرعية».

إن مسألة شكل الحكومة هي من المسائل التابعة لمقتضيات الزمان. وتتعيَّن أحكام مثل هذه المسائل بحسب مقتضى الزمان والمصلحة العامة وأحوال الناس الاجتماعية، وتتبدَّل أحكامها حسب تطوُّرات هذه الأحوال والبواعث.

إن التركيز على جوهر الشريعة الإسلامية، متمثلًا في واحدٍ من مقاصدها الكلية — العدل — يترك شكل الحكومة التي تحقِّق هذا العدل لمتغيِّرات الزمان والمكان، بما أن الشريعة لم تنصَّ على ذلك وسكتَت عنه. إن الخلافة كانت شكلًا تاريخيًّا، ربما تحقَّق في صورته المثلى «الحقيقية» في عصر الخلفاء الراشدين الأربعة، وفي عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز. أما ما تلا ذلك من عصورٍ فقد كانت الخلافة فيه «صورية»، سواء في عصر الأمويين أم العباسيين، أم عصر المماليك والعثمانيين. وإذا كان للخلافة جانبان هما: خلافة النبوة — النيابة عن النبي في إجراء الحكومة والإمامة — وخلافة الأمة، بالوكالة عنها والنيابة، فإن خلافة النبوة قد انتهت، ولم يبقَ سوى خلافة الأمة.

هذه الخلافة نوعٌ من الوكالة التي لا تنعقد إلا بالاختيار الحر المباشر، أو باختيار من تُوكِّلهم الأمة منها في هذا الاختيار؛ إن الخليفة، وبعبارةٍ أخرى الإمام، هو رئيس جمهورية المسلمين، ولم تكن ولايتُه العامة كولاية البابا الروحية، بل إنها إدارية وسياسية، كالولاية العامة الموجودة عند رئيس جمهورية أو ملك.

هذه الخلافة بالمعنى السالف، وبعد أن تم تفكيك بُعدها الديني المتمثل في خلافة النبوة»، ليست إذن خلافةً مطلقة، بل هي مقيَّدة بالأمة صاحبة الحق في الاختيار والعزل.

هكذا يُفضي بنا إعادة وضع مشكلة الخلافة في التاريخ، إلى إبراز بُعدها السياسي ووظيفتها الدنيوية وكشف القناع عن البُعد الديني الذي أُضفي عليها. ولعل هذا الإنجاز هو الذي حاوله بشكلٍ صريحٍ كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، فتعرَّض لما تعرَّض له إيَّان صدوره، ثم عاود البعضُ الهجوم عليه مجددًا كما شرحنا في مكانٍ آخر من هذا الكتاب. ولأن مشكلة الخلافة ما زالت موضع نقاشٍ من زاوية «الدين» لا من زاوية «الدنيا» ومن باب العقيدة» لا من باب «السياسة»، فمن الضروري التصدِّي لهذه الدعاوى بالمساهمة في كشف «التاريخ» الذي تريد الأيديولوجيا أن تحجُبه وراء ستار «الدين».

١  رسالة المؤتمر الخامس، دار الكتاب العربي بمصر، ص٤٨–٥٠.
٢  انظر: Hourani, Albert; Arabic Thought in The Liberal Age, Oxford University Press, London, 1920, p. 106.
٣  تعقيب: حول مقال «الإمبراطورية والخليفة»، الأهرام، ٢١ / ٨ / ١٩٩٤م.
٤  انظر: محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، مكتبة الآداب، القاهرة، ١٩٥٦م، ج٢، ص١٧–٢١؛ حيث يُبرز المؤلف حالة الفرح العام التي عبَّر عنها الشعراء بانتصار الكماليين في الأناضول سنة ١٩٢٢م. وانظر كذلك ص٢٢؛ حيث يقرِّر المؤلف أن الذين أنكروا فصل السلطنة والخلافة من العلماء كانوا «قلة قليلة»، ويستعرض المؤلف بعد ذلك بعضَ القصائد والكتابات التي نُشرَت في مصر حول هذه القضية، وابتداءً من ص٢٨ يصف المؤلف الأثر العكسي الحزين الذي أحدثه قرار إلغاء الخلافة في نفوس المصريين.
٥  الخلافة وسلطة الأمة، الطبعة العربية الثانية، ١٩٩٥م، دار النهر، القاهرة.
٦  انظر: Hitti, Philip; History of The Arabs, Macmillan, Education LTD; Tenth Edition, 1986, pp. 461–465.
٧  المرجع السابق، ص٤٨٤.
٨  المرجع السابق، ص٤٧٠.
٩  المرجع السابق، ص٤٧١-٤٧٢.
١٠  المرجع السابق، ص٤٧٣.
١١  المرجع السابق، ص٦٧٤-٦٧٥.
١٢  المرجع السابق، ص٦٧٧.
١٣  المرجع السابق، ص٤٧٥-٤٧٨. وانظر أيضًا: تاريخ الدولة العثمانية، سبق ذكره، ص١٩ وما بعدها من الجزء الأول.
١٤  تاريخ الدولة العثمانية، ج١، ص٣٦-٣٧.
١٥  تاريخ الدولة العثمانية، ج١، ص٣٨.
١٦  تاريخ الدولة العثمانية، ج١، ص٦١.
١٧  المرجع السابق، ج١، ص١٦٣.
١٨  المرجع السابق، ج١، ص٢٠٩-٢١٠.
١٩  المرجع السابق، ج١، ص٢١٣.
٢٠  المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.
٢١  المرجع السابق، نفس الجزء، ص٥١٩.
٢٢  انظر: فيليب حتي، مرجع سبق ذكره، ص٧٠٥.
٢٣  تاريخ الدولة العثمانية، ج٢، ص٥-٦.
٢٤  تاريخ الدولة العثمانية، ج٢، ص٣٣٢.
٢٥  تاريخ الدولة العثمانية، ج٢، ص٣٣٧.
٢٦  تاريخ الدولة العثمانية، ج٢، ص٣٤٣-٣٤٤.
٢٧  انظر: محمد حسين، الاتجاهات الوطنية، سبق ذكره، ج٢، ص٣٩–٤١.
٢٨  انظر عرضًا وافيًا للكتاب، المرجع السابق، ج٢، ص٤٥–٥٧.
٢٩  المرجع السابق أيضًا، ص٦٣-٧٤.
٣٠  الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط٤، دار المعارف، ج٣، ص٢٠٥-٢٠٦.
٣١  المرجع السابق، ص٢٠٣.
٣٢  المرجع السابق، ص٢٠٨.
٣٣  المرجع السابق، ص٢٠٥. وانظر أيضًا ص٢١٨–٢٢٣، في تفاصيل الجدل الذي دار بين المهاجرين والأنصار.
٣٤  الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، تحقيق: حسن محمود عبد اللطيف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ١٣٩١ﻫ/١٩٧١م، ص٣٦٣.
٣٥  انظر كتابنا: الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، دار سينا، القاهرة، ١٩٩٢م، ص٨٣–٩٠.
٣٦  حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، مكتبة مدبولي، القاهرة، المجلد الخامس (الإيمان والعمل-الإمامة)، ص١٩٣-١٩٤.
٣٧  الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، سبق ذكره، ص٣٨٠-٣٨١.
٣٨  المرجع السابق، ص٣٨١.
٣٩  الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج٣، ص٤٢٨.
٤٠  الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج٤، ص٢٢٩.
٤١  الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج٤، ص٢٢٨.
٤٢  المرجع السابق، ص٢٢٩-٢٣٠.
٤٣  المرجع السابق، ص٣٧١.
٤٤  المرجع السابق، ص٣٦٢.
٤٥  انظر: ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، سبق ذكره بالإنجليزية، ص١٣.
٤٦  الإمام الغزالي، فضائح الباطنية، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، ١٣٨٣ﻫ/١٩٦٤م، ص١٧٦-١٧٧.
٤٧  المرجع السابق، ص١٧٨.
٤٨  المرجع السابق، ص١٧٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥