إشكالية التراث في الوعي المعاصر
«القرآن بين دفَّتَي المصحف لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال.»
بين التأويل والتفسير
وقد نشأَت المشكلة، مشكلة قراءة وتأويل النصوص الدينية، في تراثنا العربي الإسلامي، في سياق نشأة الفِرق السياسية-الدينية فيما عُرف بحِقْبة «الفتنة» في التاريخ المبكِّر للدولة العربية الإسلامية. وقد ارتبطَت هذه النشأة بخلافٍ في تحديد معنى ودلالة مصطلحَي «التفسير» و«التأويل»، ومحاولة بلورة الفرق بينهما في الاستخدام والتوظيف. ومن الثابت تاريخيًّا أن مصطلح «التأويل» كان هو المصطلح السائد والمستخدَم دون حساسيةٍ للدلالة على شرح وتفسير القرآن الكريم، في حين كان مصطلح «التفسير» أقلَّ تداولًا، لكن مصطلح «التأويل، بدأ يتراجع بالتدريج ويفقد دلالته المحايدة، ويكتسب دلالةً سلبية، وذلك في سياق عمليات التطور والنمو الاجتماعيَّين وما يصاحبهما عادةً من صراعٍ فكريٍّ وسياسي.
ولعلنا لا نحتاج هنا لشرح ما هو معروفٌ تمامًا من تعدُّد التأويلات واختلاف التفسيرات بدءًا من القرن الأول الهجري، وهو أمرٌ اتسع ونما في القرون التالية، حتى صار مصطلح «المُؤَوِّلة» يضُم — إلى جانب الخوارج — الشيعة والمعتزلة والمتصوِّفة. ولعل القرن الرابع الذي شهد نُمو الفكر الشيعي على مستوى الصياغة الفلسفية واللاهوتية، هو نفسه القرن الذي شهد قمة العداء بين الدولة السُّنية ممثلة في دولة الخلافة العباسية وبين الدولة الشيعية التي امتد سلطانها حتى القاهرة. وهو كذلك القرن الذي كان قد شهد الانتصار السياسي ممثلًا في تأييد الدولة بدءًا من عصر المتوكل للفكر الفقهي السُّني المحافظ، بعد أن كانت في عصر المأمون والمعتصم تتبنَّى الفكر الاعتزالي وتُعادي الموقف الفقهي السني. من الطبيعي أن يكون لهذا المشهد الذي يصعُب فيه التمييز بين السياسي والفكري، أو بين الدنيوي والديني، تأثيرُه في إلصاق دلالة «التحريف، بدلالة «التأويل»؛ الأمر الذي جعل مصطلح «التفسير، يتقدَّم تدريجيًّا ليكون هو المصطلح الدال على البراءة الموضوعية.
ولكي تتضحَ أبعادُ هذا الإحلال لمصطلح «التفسير» محل مصطلح «التأويل» ينبغي العودة لكلمة تفسير في مجال التداول اللغوي. ومن الجدير بالذكر أن كلمة «تفسير» لم ترد في القرآن كله سوى مرةٍ واحدة، بينما وردَت كلمة «تأويل» أكثر من عشر مرات. وإذا أخذنا النص القرآني — الذي طالت فترة نزوله أكثر من عشرين عامًا — نموذجًا لما يُسمَّى في الدراسات اللغوية «مُعَدَّل الانتشار» لجاز لنا أن نقول إن كلمة «تأويل» تنتشر في اللغة العربية في عصر القرآن عشرةَ أضعافِ انتشار كلمة «تفسير». هذا بالإضافة إلى أن كلمة «التفسير» — وهناك خلافٌ حول جذرها اللغوي، هل هي من الفسر أم من السفر — تعني في الغالب ما يقترب إلى حدٍّ كبير من معنى الترجمة، الآن، وإن كانت ترجمة داخل النظام اللغوي نفسه. من هنا نفهم لماذا أطلَق ابن جني (أبو الفتح عثمان، القرن الرابع الهجري – العاشر الميلادي) على شرحه لديوان المتنبي اسم «الفَسْر» وهو مجرد شرح لمعاني المفردات. أما أول كتابٍ كبيرٍ في شرح القرآن، وهو كتاب محمد بن جرير الطبري، الذي ضم داخله كلَّ ما سبقه في مجال شرح النص القرآني، فقد أطلق عليه اسم «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» يبدأ كل آية بالشرح قائلًا: «تأويل قوله تعالى …» ولكن رغم هذه الأسبقية الدلالية والتداولية لمصطلح «التأويل» مقابل مصطلح «التفسير» درج العلماء المسلمون منذ القرن الرابع الهجري تقريبًا؛ أي العاشر الميلادي — باستثناء الشيعة وبعض المتصوفة — على تفضيل مصطلح «التفسير» على مصطلح «التأويل». وصار شائعًا أن «التأويل» جنوح عن المقاصد والدلالات الموضوعية في القرآن، ودخول في إثبات عقائد وأفكار، أو بالأحرى ضلالات، من خلال تحريفٍ عمدي لدلالات ومعاني المفردات والتراكيب القرآنية.
كان هذا تعريفًا مختصرًا لمجال تداول مصطلح «التأويل» في نشأته في كلٍّ من الثقافتَين الغربية والعربية، لكن مفهوم المصطلح قد اتسع في تطبيقاته في الفكر الحديث، فصار يتناول إلى جانب تأويل النصوص الدينية عملياتِ التأويل المعرفية في العلوم الإنسانية كالتاريخ وعلمَي الاجتماع والأنثروبولوجيا، وعلم الجمال والنقد الأدبي والفولكلور. صارت «التأويلية» باختصار هي جوهر ولُب «نظرية المعرفة» في محاولتها وصفَ فعل «القراءة» — أي قراءةٍ لأي ظاهرةٍ تاريخية أو فلسفية أو أدبية أو سياسية أو اقتصادية — بوصفها بناءً معقدًا من العلاقات التي تتضمن عناصر «الذات» و«الموضوع» و«السياق» و«نسق العلامات» و«الرسالة»، وهي عناصر تتفاعل مع بعضها تفاعلًا يتسم بالتوتُّر الذي قد يُفضي أحيانًا إلى «بروز» بعضها على حساب البعض، دون أن يُفضيَ إلى إخفائها إخفاءً كاملًا. صحیحٌ أننا نجد بعض نظریات «التأويلية» تبالغ أحيانًا في التركيز على فعالية «الذات» القارئة إلى درجة زعم «موت المؤلِّف» و«الوجود الوهمي للنص» لحساب «القارئ» أو «المُؤَوِّل». لكننا نجد أيضًا على الجانب الآخر «تأويلية» تُعلي من شأن القراءة الموضوعية المحايدة، وتُبالغ إلى حد الزعم بإمكانية الوصول إلى «المعنى التاريخي» الأصلي للحدث أو للوثيقة والنص. من الصعب أن نزعم أن تطورًا مثل هذا قد حدث في مفاهيم «التأويل» و«التفسير» في ثقافتنا الحديثة والمعاصرة، بالرغم من أن الحديث عن التراث وإشكالية تفسيره وتأويله حديثٌ سيظل ماثلًا في أفق همومنا الثقافية والفكرية لأمدٍ زمني يصعُب التكهُّن بوصوله إلى محطةٍ معرفيةٍ هادئة، وخالية من صخب النزاع الأيديولوجي والصراع الاجتماعي (الاقتصادي/السياسي) المحتدم. وإذا كان من الصعب تحديد نقطة البداية في نشأة هذه الإشكالية في ثقافتنا الحديثة، فإن تحليل مظاهر تعقيدها الراهنة يُمكِن أن يساعد في استجلاء بعض الغموض الذي لازم المشكل منذ تلك البداية الغامضة. ومن السهل على الباحث أن يرصُدَ الآن ثلاثةَ مواقفَ أو تياراتٍ أساسية واضحة من التراث، يتضمَّن كل تيارٍ منها العديد من التفريعات التي قد تختلف فيما بينها في بعض التفصيلات والقضايا الجزئية، ولكنها اختلافاتٌ لا ترقى إلى مستوى أن تتشكَّل منها تياراتٌ مستقلة قائمة بذاتها.
-
التيار الأول: هو الذي يتبنى أصحابه مقولة إننا
الآن نعيش عصرًا جديدًا لا يمُت بأي
صلة للماضي، لا في شكل الحياة، ولا
في أنماط السلوك، ولا في طرائق
التفكير. وفي رأي أصحاب هذا الاتجاه
أن «التراث» هو الماضي بخيره وشره،
بليبراليته وتقليديته، بعقلانيته
وأساطيره، وأنه أيًّا ما كانت عناصر
التقدم والاستنارة والعقلانية في هذا
التراث، فإنها تظل في النهاية عناصرَ
تنتمي إلى الماضي، وتعجز عن مخاطبة
الهموم والمشكلات التي تطرحها الحياة
في شكلها الراهن. يُقال مثلًا إن
مشكلة «الحرية» في العصر الحديث أشدُّ
تعقيدًا منها في التراث؛ المقصود
بالحرية اليوم ليس فقط مناقشة البُعد
«الديني» الذي يتلخص في قضية «الجبر
والاختيار» كما ناقشَها متكلمو
وفلاسفة الإسلام في الماضي. وأيًّا
كانت المواقف الجريئة والتأويلات
العقلانية التي طرحَها «المعتزلة»
مثلًا أو «الغزالي» و«ابن رشد»،
فإنها لم تتجاوَز نطاق المشكل الديني
الكلاسيكي الذي يناقش حرية الإنسان
«الفرد» — لا الإنسان بما هو كائنٌ
اجتماعي — من حيث علاقة إرادته
ومشيئته بالإرادة والمشيئة
الإلهيتَين. وبعبارةٍ أخرى انحصر نطاق
مناقشة قضية الحرية في مسألة «حرية
الفعل» بالنسبة للإنسان الفرد من
جهة، كما انحصر في نطاق «تعارض» أو
«توافق» — وبالطبع «تکامل» — الإرادتَين
الإنسانية والإلهية من جهةٍ
أخرى.
قضية «الحرية» الآن أشد تعقيدًا؛ إذ أدَّى التقدم الذي تحقَّق في القرنَين الأخيرَين في مجال كلٍّ من العلوم الطبيعية والإنسانية إلى فهمٍ أعمقَ لتعقُّد الظاهرة الإنسانية، سواء في مستوى الإنسان الفرد، أو في مستوى الإنسان من حيث هو كائنٌ اجتماعي. إلى أي حدٍّ أدى الكشف عن مستوى — أو بالأحرى مستويات — الوعي عند الانسان بما تتضمَّنه من مستوى «العقل الباطن» وعلاقته بعالم الرغائب والأحلام والأمنيات المقموعة، بحكم الكوابح والضوابط الدينية والاجتماعية والأخلاقية، إلى تعقُّد النقاش في مسألة «الحرية»، وانفكاكه من أَسْر مستوى النقاش الكلاسيكي المعروف في التراث؟! وقد أضافت الكشوف العلمية والطبية لقوانين وعوامل الوراثة وتأثيرها في سلوك الإنسان عن طريق «الجينات» مزيدًا من التعقيد إلى النقاش الخاص بقضية «الحرية»، فنقلَته من مستوى النقاش الفلسفي التأملي الخالص إلى مستوًى بحثي معملي طبي وسيكولوجي في آنٍ واحد. ولم يتوقف الأمر عند حدود «الإنسان» الفرد؛ إذ الإنسان كائنٌ اجتماعي، تتحقق فرديته — حرية أو جبرًا — وفقًا لموقعه الاجتماعي وانتمائه الثقافي. تحدِّد القوانين الاجتماعية المصاغة وَفْقًا لعلاقات القوة بين الطبقات والفئات والجماعات المختلفة في البناء الاجتماعي حدودَ «المسموح» أو «المباح» في مقابل «المجرَّم» أو «المحرَّم» اجتماعيًّا وثقافيًّا، وتلك القوانين هي التي تحدِّد بالتالي مجال الحرية المتاح للأفراد والجماعات. ومع تغيُّر علاقات القوة المشار إليها تتغيَّر القوانين، فيصبح ما كان ميزةً لجماعة أو فئة بعينها من مميزات جماعةٍ أو جماعاتٍ أخرى، لم تكن تتمتَّع بها من قبلُ. ويكفي أن يتأمل الإنسان على سبيل المثال ما أحدثَتْه ثورة «٢٣ يوليو ١٩٥٢م» في المجتمع المصري من تغييراتٍ أحلَّت فئاتٍ مكانَ فئاتٍ أخرى، خاصة في مسألة «الحرية» كما عبَّر عنه شعار «الحرية كل الحرية للشعب، ولا حرية لأعداء الشعب». ليس المقصود هنا بالطبع الدخول في الجدل الدائر حول «الناصرية» و«الساداتية» أو «المباركية»، بقَدْر إبراز علاقة قضية «الحرية» بالنسَق والبناء الاجتماعيَّين في حَراكهما وسُكونهما على السواء.
لكن هل تتوقف إشكالية حرية الفرد عند المستويات البالغة التعقيد التي يشير إليها عادة، أو يُمكِن أن يشير إليها على سبيل الاحتمال، أصحابُ نظرية «الانقطاع» بين قضايا التراث والمشكلات التي تثيرها الحياة المعاصرة؟ ألم تُثِرْ مرحلة المد الاستعماري الأوروبي، بدايةً من نهاية القرنِ الثامنَ عشرَ وحتى منتصف هذا القرن الذي انتهى، مسألة «الحرية» بالمعنى الوطني والقومي، حرية الشعوب من أَسْر الاستعمار وهيمنة المستعمر على مقدَّرات الأمة؟ ما هو حجم الحريات المتاحة الآن للشعوب والحكومات، بل وللثقافات الوطنية والمحلية، في إدارة شئونها الداخلية الخاصة؟ وأخيرًا ألا تُعد «ثورة الاتصالات» التي صاحبَت عملية «العولمة» الاقتصادية تأثرًا وتأثيرًا مقدمةً لعملية «عولمة» أخرى — سياسية ثقافية — بدت بوادرها في الأفق لائحة، من شأنها أن تُعيدَ طرحَ مشكل «الحرية» وتفتح باب مناقشةٍ بدأَت بالفعل؟
كيف يمكن الانخراط في مناقشة قضية «الحرية»، حرية الفرد والمجتمع، في سياق هذا الوضع البالغ التعقيد، والمحمَّل بمخاطرَ جديدة وإشكالياتٍ مستجدَّة، من خلال الوعي التراثي المقيَّد بحدود تاريخيَّته والمسجون في أفق زمانيَّته؟ إن التراث لا يُفيدنا في حياتنا المعاصرة، ولا يُمكِن أن يقدم لنا حلولًا مهما كانت تقدميَّته واستنارته؛ لأن تلك التقدُّمية وتلك الاستنارة يكتسبان حقيقتهما في سياق زمانهما وليس خارج هذا السياق. والحل عند أصحاب تلك الرؤية وممثلي هذا الاتجاه أننا يجب أن ننقطعَ عن هذا التراث، بمعنى ننشغل بالبحث عن حلول من منطقة «الصفر» الفاصلة، أو بالأحرى العازلة، بين الماضي والحاضر. «الانقطاع المعرفي هو الحل»، تصلح هذه العبارة لتكون شعارًا لممثلي هذا التيار. ومما تجدُر الإشارة إليه أن بعض ممثلي هذا الاتجاه يجدون أنفسهم أحيانًا في موقفِ تناقضٍ منطقي، وذلك حين يناقشون — في سياق دفاعي — ما يُسمَّى «أزمة الهوية» أو يدافعون عن «الخصوصية»، فتبدو «الهوية»، وكذلك «الخصوصية»، أشبه بالأقانيم الثابتة والمستقرة منذ فجر التاريخ. أو بعبارةٍ أخرى نجد هذا البعضَ في سياق الدفاع يتطرف في تأكيدِ حقائقَ أشد رسوخًا من «التراث» الذي يمكن إلى حدٍّ كبيرٍ وضع عناصره المختلفة في سياقها السسيو-تاريخي.
- التيار الثاني: هو التيار المعاكس والمضاد للتيار الأول، هو تيار أصحاب شعار «الإسلام هو الحل»؛ ذلك أن التمييز بين «الإسلام» و«التراث» عند هؤلاء شاحب إلى حدٍّ كبير بصرف النظر عن التأكيد النظري أحيانًا — في سياقٍ سجالي في الغالب الأعم — أن ثمَّة فارقًا بين «التراث» الذي يمثل إنجاز العقل الإنسان الاجتماعي-التاريخي في محاولته الدائبة لتنزيل معاني الوحي على أرض الواقع والتاريخ، وبين «الدين» في نصوصه الأصلية الأساسية، التي أكَّد الإمام علي بن أبي طالب في الاستشهاد الذي أوردناه فيما سبق أنها «لا تنطق بذاتها، وإنما ينطق بها الرجال.» رغم هذا التأكيد النظري، فإن أصحاب الشعار بمختلف توجُّهاتهم وتعدُّد مرجعياتهم، يتعاملون مع «التراث» بوصفه إنجازًا مقدسًا لا يجب المساس به إلا بالتوقير والتعظيم والإجلال. والضجَّة التي آثارها سدَنة هذا الاتجاه حول كتابي عن «الإمام الشافعي»؛ لأني لم أسلُك فيه المنحى التقليدي المألوف في الكتابة عن الأئمة، تقدِّم دليلًا ساطعًا على صحة القول بأن التمييز الذي نُصادفه أحيانًا هنا وهناك تمييزٌ سجالي لا أكثر. لم يكن كتاب «الإمام الشافعي» ولا كتاباتي الأخرى أول ضحية لمسلك التوحيد هذا بين «الدين» و«التراث» في تاريخنا الحديث؛ فالضجَّة التي حدثَت ضد «علي عبد الرازق» وكتابه «الإسلام وأصول الحكم» (١٩٢٤م)، أو تلك التي أُثيرَت ضد «طه حسين» وكتاب «في الشعر الجاهلي» (١٩٢٦م)، فضلًا عن ثورة سدَنة التراث ضد رسالة «محمد أحمد خلف الله» عن «الفن القصصي في القرآن الكريم» (١٩٤٧م)، كلها شواهد تؤكد أن «التراث» وليس الدين، أو بالأحرى «التراث» الذي صار هو «الدين»، قد تم إدماجه في هيكل «المقدَّس». وهكذا يتم إعلاء التراث وتقديمه ليس على الحاضر فقط، بل تكريس سيطرته على قاعدة من التمسك العقائدي الانتقائي المسيطر كتعبير عن السيطرة السلطوية.
ولنُفور أهل الحديث والفقهاء من فكر المعتزلة وطرائق استدلالهم أسبابٌ كثيرة ليس هنا مجال شرحها. ويكفي فقط القول إن أهل الحديث والفقهاء كانوا ينفرون عمومًا من التعمق المعرفي في أسرار النص القرآني؛ ذلك أن نفورهم من المعتزلة والفلاسفة لم يكن أكثر من نفورهم من المتصوِّفة، خاصةً من هؤلاء الذين يتفوَّهون بعباراتٍ غريبة أو يُقيمون زهدَهم على أساسٍ عرفاني؛ لهذا دفع الحلَّاج وكذلك السهروَردي الثمن غاليًا من حياتهما، ودفَعه غيرهم من سمعتهم اتهامًا بالإلحاد والزندقة والهرطقة، وربما كان لقبول علماء أصول الفقه التحدي في مجال آيات التشريع والأحكام أسبابٌ عملية لاتصال تلك القضايا بالحياة اليومية والمصالح المباشرة. هذا بالإضافة إلى أن القياس الذي اعتمدوه كان قياسًا بسيطًا من الوجهة العقلية؛ لأنه ببساطةٍ قياسُ تطابُق لا مخالفة.
الوسطية والتوفيق
هل يمكن في شروط السوق الفكرية الحرة تلك — حيث الفكرة صحيحة لأنها نافعة — إلا أن يكسب أصحاب الشعار المخادع؛ لأنهم ببساطة شديدة يُنتِجون، أو بالأحرى يُعيدون إنتاج، السلعة «التراثية» الملائمة لسوقٍ تقليدية، طال تاريخ «التقليد» فيها حتى أصبح دينًا وعقيدة. في هذه السوق، تكسَّد السلع التراثية الأخرى، تلك التي تُعيد إنتاج «المعتزلة» أو «ابن رشد» أو مَن على شاكلتهما. هكذا يمكِن القول إننا إزاء سوقٍ واحدة تبدو منقسمة ومتعدِّدة، بل وتبدو سوقًا حرة يتنازع فيها البائعون ويتنافسون في لفت الأنظار إلى بضائعهم «الفكرية»، التي تبدو بدورها بضائعَ — أفكارًا — مختلفة، لكن الحقيقة أن البضاعة — الأفكار — كلها تراثية تنتمي إلى الماضي، وأن الصراع — المنافسة — صراع أيديولوجيات وليس صراع أفكار حرًّا في مناخ للحرية الفكرية. قد يؤكِّد هذا الاستنباط أن الصراع يتخذ أشكالًا من العنف — تصل إلى القتل الفعلي — يوازي صراع التجار ورجال الأعمال في أسواق وبورصات العالم الثالث التابعة للبورصات الكبرى في العالم الأول (الأوحد لأنه لم يعُد له ثانٍ الآن). والخلاصة أن أسواقنا الفكرية كلها تُراثية؛ أي تابعة للماضي، كما أن أسواقنا الاقتصادية تابعةٌ للسوق العالمية؛ أي تابعة للخارج. تبدو استعارة «السوق» مغرية للمضي في التحليل؛ إذ يبدو تيار «القطيعة» في بنية الاستعارة محاولةً لتوحيد التبعية — تبعية المجالَين الاقتصادي والفكري — لجهة واحدة، هي الخارج، بينما يرضى التياران الآخران بالتمييز بين الفكري، الذي لا يجب أن ينفك عن الماضي، وبين الاقتصادي، الذي لا فكاك في ظل العولمة من تبعيَّته للخارج.
هل يمكن حماية التراث، تقليديًّا أو تنويريًّا، مع تزايد حالة الوهن والضعف في أبنيتنا الاجتماعية وأنساقنا الفكرية في زمن العولمة، الذي يسعى لشبك العالم وإيجاد نوعٍ من السيطرة الشاملة؟ سؤال يحتاج إلى قراءة مفهومَي «الزمن» و«التاريخ» والعلاقة بينهما عند كل تيارٍ من التيارات الثلاثة؛ إذ يبدو تيار «الانقطاع» منطلقًا من مفهومٍ للزمن ينفصل فيه «الحاضر» عن «الماضي» انفصالًا تامًّا، وكأن اللحظات الثلاث التي تمثِّل «الزمن» لحظاتٌ متباعدة، ينقطع الماضي فيُوجد «الحاضر» الذي سينقطع بدوره ليُولد «المستقبل». على عكس هذا التصور، يبدو تيار «الإسلام هو الحل» منطلقًا من مفهوم للزمن يعتبر «الحاضر» نقطةَ تراجُعٍ واضمحلال، ويرى الاكتمال في الماضي، الذي يجب أن يُعاد بناء الحاضر على مثاله، فإذا أُعيد بناء «الحاضر» وَفقًا لمثال «الماضي»، صار «المستقبل» مأمونًا. أما التيار «التوفيقي» فهو الذي ينطلق من مفهوم للزمن يمثِّل فيه «الحاضر» نقطة التقاء الماضي بالمستقبل، نقطة تفاعُل خبراتٍ لا سكون فيها ولا تكرار، لكن مشكلة هذا التيار «التوفيقي» أنه في إدراكه النظري للعلاقة الجدلية بين لحظات «الزمن الثلاث»، يظل مسكونًا بهاجس الماضي — «التراث» — الأكثر امتلاءً بالعافية وبالخبرة، وبهاجس «الآخر» الغربي الطامع المُستعمِر المهدِّد للهوية. في كلٍّ من التيارات الثلاثة يبدو «التراث» مكتسيًا ملامح مختلفة، وذلك لأن «التراث» لا ينطق، بل تتكلم به الأيديولوجيا. أما كيف يمكن للتراث أن يتكلم، وكيف يمكن لنا أن نُنصِتَ فنُحسِنَ الإنصات، فالسبيل إلى ذلك يتطلب تغيير الشروط «العلمية» المعرفية وتحريرها. بدون تغيير هذه الشروط، من المستحيل أن يصبح التراث مجالًا للدرس العلمي النقدي، الذي يستنبط دلالة التراث في سياقه التاريخي الاجتماعي؛ فيصبح قادرًا على التمييز بين مستوى «المعنى» السياقي التاريخي ومستوى «المغزى» الكلي العام. وهذا الدرس العلمي من شأنه أن يكشف لنا أن مفهوم «التراث» لا ينبغي أن يظل قاصرًا على «التراث» الإسلامي؛ لأنه حتى هذا التراث «الإسلامي» بناءٌ مركَّب من طبقاتٍ ومستوياتٍ قبل إسلامية وغير إسلامية، تختلف من منطقة إلى منطقةٍ أخرى من المناطق الواقعة الآن في الحزام الجغرافي لما يُسمى العالم الإسلامي. وليس معنى إنجاز هذا المطلب العلمي كشف القناع نهائيًّا عن مستويَي «المعنى» و«المغزى»؛ إذ يظل البحث أفقًا مفتوحًا مع كل أثرٍ جديدٍ يظهر، أو نصٍّ مخطوطٍ يُنشر، هذا فضلًا عن التطور المعرفي الذي لا يتوقف لأدوات ومناهج البحث. مع ذلك كله يظل سؤال «التراث» مفتوحًا؛ لأن سؤال «الحاضر» وكذلك أسئلة «المستقبل» تُعيد صياغة أسئلة «الماضي»؛ فلا شيء مكتمل؛ لأنه لا شيء مغلَق إلا عقول البعض منَّا.