الفصل الرابع

إشكالية التأويل عند الحركات الإسلامية المعاصرة

يُعتبر قانون «التحدي والاستجابة» هو القانون الذي يمكِن أن يفسِّر لنا إشكالية التأويل في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر تفسيرًا قادرًا على شرح كثير من الانحناءات والتراجعات بل والانكسارات التي أعاقت، وما زالت تعوق، تطوُّر الوعي الديني في مسارٍ صاعدٍ مطَّرد. ولأن «التحدي» الذي واجه العالم الإسلامي وما زال يواجهه ليس تحديًا نابعًا من سياق ظروفه الموضوعية المستقلة عن العوامل الخارجية، ممثلة في حركة المد الاستعماري والأطماع الإمبريالية أساسًا، فإن «الاستجابة» جاءت في شكل «رد فعل» وليس في شكل فعل. في الاستجابة «الفعل» تكون عمليات التفسير والتأويل محكومة في الغالب بسياقَين؛ أولهما السياق المعرفي الموضوعي الذي يكوِّن ما يمكن أن نطلق عليه «الأفق المعرفي» للمفسِّر، وهو أفق ذاتي/سسيو تاريخي في نفس الوقت. والسياق الثاني هو سياق «النص» موضوع التأويل، سواء كان النص هو القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف. أما في الاستجابة «رد الفعل»، فإن عناصر التحدي الخارجي تتدخل أحيانًا بطريقةٍ قسرية، تُفضي إلى إحداث قدْرٍ من التشويه في بنية الوعي، الأمر الذي يؤدي إلى إرباك السياق الموضوعي اللازم لانضباط عملية التفسير كما يعوق نُموَّها الطبيعي. كان التحدي الأوروبي الذي فرضَتْه الأوضاع العالمية على العالم الإسلامي تحديًا مركَّب العناصر متشابك الأبعاد. وليس صحيحًا أن هذا التحدي بدأ في نهاية القرنِ الثامنَ عشرَ وبداية القرنِ التاسعَ عشرَ كما يحلو للبعض أن يتصوَّر، بل بدأ في القرنِ الحاديَ عشرَ مع حملات الحروب الصليبية. والفارق بين الحروب الصليبية والغزو العسكري في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر أن التحدي في الحالة الأولى لم يكن على نفس المستوى من التركيب والتعقيد الذي كان عليه التحدي في الحالة الثانية. هذا بالإضافة إلى أن نتيجة «الحروب الصليبية» كانت هزيمةَ المعتدي واندحارَ العدوان وجلاءَه عن الأرض، في حين أن التحدي الأخير اتخذ شكل الهزيمة الشاملة التي أوقعَت العالم الإسلامي تحت حكم المحتلين الغزاة.

من أهم عناصر التحدي التي فرضها المد الاستعماري الإمبريالي في مجال الثقافة والفكر عنصر «الدين»، وهو العنصر الذي تم من خلاله اتهام «الإسلام» بأنه السبب الرئيسي والجوهري في تخلف العالم الإسلامي. وغنيٌّ عن البيان أن عنصر الدين كان أيضًا العنصر الموظَّف تبريرًا للحروب الصليبية وإن بطريقةٍ مغايرة. هذا التفسير الذي فرضَه الوعي الأوروبي على الوعي الإسلامي١ لإشكالية «التخلف» في العالم الإسلامي كان عنصرًا حاسمًا في تشكيل اتجاه حركة الاستجابة الإسلامية لهذا التحدي. وانحصَر دور الظروف الموضوعية الداخلية في تحديد طبيعة الحركة. من هنا يمكن التمييز بين نمطَين من الاستجابة يتحركان في نفس الاتجاه رغم اختلاف طبيعة كلٍّ منهما. أما وحدة الاتجاه فتتمثل في التسليم، صراحةً أو ضمنًا، بتلك العلاقة الشَّرطية، وأحيانًا العِلِّية، بين الإسلام والتخلف، أما اختلاف طبيعة الاستجابة فيتمثل في تحديد المعنى المقصود من مفهوم «الإسلام» الذي هو علة «التخلف» وسببه. قامت حركة «الإصلاح الديني» في العالم الإسلامي جوهريًّا على أساس ربط التخلف بسوء «فهم» الإسلام من جانب المسلمين، نافيةً عن الإسلام من حيث هو دينٌ منزَّل من الله مسئولية تخلُّف المسلمين. من هنا تركَّز جهد الإصلاحيين في تقديم قراءةٍ ذات طابعٍ عقلانيٍّ مستنير للنصوص الدينية، هدفُها الحرصُ على انفتاح المعنى الديني ليكون قادرًا على استيعاب ما بدا لهم جديدًا ونافعًا في المُنجَز الأوروبي. في سبيل تحقيق هذا الهدف اعتمدَت القراءة منهجًا ذا طابعٍ «انتقائي» إلى حدٍّ كبير، ارتكَز على العناصر العقلانية في التراث، خاصةً ما يتناسب منها مع مستوى الوعي الأوروبي الذي استوعَبه النهضويون المسلمون. ترِد في هذا السياق أسماء: رفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والسيد أحمد خان، ومحمد إقبال، وقاسم أمين، وعلي عبد الرازق، وطه حسين، والطاهر الحداد، ثم أمين الخولي ومحمد أحمد خلف الله، ومحمود طه. خلافًا للإصلاحيين قامت الحركات السلفية في العالم الإسلامي على أساس أن الدين معطًى جوهريٌّ ثابتُ المعنى، لا يقبل الاختلاف أو التعدُّد، وأن الإسلام ليس مسئولًا عن تخلُّف العالم الإسلامي، بل تقع مسئولية التخلُّف على «ابتعاد» المسلمين عن دينهم وعلى تنكُّرهم لقيَمه.

هكذا ابتلع الوعي الإسلامي طعم الخطاب الأوروبي في تفسير سبب تخلُّف العالم الإسلامي. وهكذا ارتبطَت مفاهيم «التخلُّف» و«التقدُّم» بالدين ارتباطًا وثيقًا في بنية الوعي لدرجة أصبح مستحيلًا معها تفكيك تلك العلاقة، أو مناقشة أيٍّ من المشكلات الاجتماعية-الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية الفكرية دون استدعاء الدين والاستناد إلى مرجعيته. وهكذا تحوَّل عنصرٌ واحد من عناصر الهوية الثقافية — الدين — ليكون هو «الهوية» بألف ولام التعريف، وتضاءلَت باقي العناصر إلى حد الاختفاء. وهكذا انحصر مفهوم «المواطنة» تدريجيًّا في إطار الدين وحده في الخطاب الديني الراهن والمهيمن. ونتيجةً لذلك صار الفارق بين التيارات السلفية وتيارات الإصلاح الديني فارقًا في اتجاه الحركة لا فارقًا في طبيعتها؛ فعلى حين سَعَى الإصلاحيون إلى «فتح» المعنى الديني لاستيعاب المستجدَّات والمتغيِّرات تركَّز سعي السلفيين على «استعادة» المعنى الديني الجوهري الثابت من أجل إعادة بناء المجتمع وفقًا له. من هنا يمكِن أن نفهم الفارق بين «إعادة تشكيل المعنى» ليلائم التطور الحادث بالفعل بحكم حركة التاريخ، وبين «إعادة صياغة الواقع» ليلائم نموذج المعنى الأزلي الثابت. لا يحتاج تشكيل المعنى إلا إلى قوة الحجة ونصاعة الدليل استنادًا إلى مبدأ الحوار ثقةً في قدرة العقل الإنساني على فهم الوحي والتمييز بين ثوابته ومتغيِّراته. أما تغيير الواقع ليلائم نموذجًا متخيَّلًا متصوَّرًا لواقعٍ سابق فيحتاج إلى «القوة»، التي تتجلى في الخطاب كما تتجلى في الفعل؛ يتغير المعنى بإعمال الفكر والجنوح إلى الإقناع بأسلوب «الحوار»، ويحتاج فرض نموذج إلى «قوة» السلطة أو قوة «الإرهاب». لعل في هذا الفارق ما يمكن أن يفسِّر، ولو تفسيرًا جزئيًّا، ظاهرة التركيز على «السياسي» بشكلٍ أكبر في الخطاب السلفي، في حين يركِّز الخطاب الإصلاحي بشكلٍ أكبر على «الفكري»، دون أن يَعْنيَ ذلك بأي حالٍ من الأحوال إهمال «الفكري» عند السلفيين أو إهمال «السياسي» في خطاب الإصلاحيين. من هذا المنظور يمكِن أيضًا تفسير الطابع «الحركي» للسلفية، سواء في مناهضتها للاستعمار والاحتلال — الوهابية في الجزيرة، والسنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان، وأخيرًا «الجهاد» في لبنان و«حماس» في الأرض المحتلة — أو في صراعها ضد الحكومات من أجل الوصول إلى السُّلطة.

ومن الجدير بالذكر أن حركة «الإخوان المسلمين» التي تأسَّسَت في مصر عام ١٩٢٨م، بدأَت نشاطَها كحركةٍ إصلاحيةٍ فكريةٍ تربوية، ثم تحوَّلَت إلى السلفية الحركية تدريجيًّا؛ لذلك يجتمع نشاطها الفكري والسياسي بهدف تحقيق الاستيلاء على السلطة. التحوُّل الذي حدث للإخوان في مصر تحوُّلٌ تدريجي سواء على مستوى الفكر أو على مستوى النشاط السياسي. على المستوى الفكري يكفي الاستشهاد بالتحوُّل الذي أصاب خطاب «سيد قطب» — وعناوين الكتب تكفي شاهدًا هنا — من «معركة الإسلام والرأسمالية»، و«الإسلام والعدالة الاجتماعية»، و«التصوير الفني في القرآن»، في الأربعينيات والخمسينيات إلى «معالم في الطريق» في الستينيات. وقد تواكَب هذا التحوُّل مع نُمو مُناخ الفساد العام الذي لم ينجُ من آثاره المدمِّرة الحركة الوطنية باستثناءاتٍ نادرة، وهو الفساد الذي كانت حركة «الضباط الأحرار» في الجيش المصري موجَّهة للقضاء عليه، خاصةً بعد حريق القاهرة في يناير ١٩٥٢م … وقد استثنى الضباط الأحرار «الإخوان المسلمين» من قرار إلغاء الأحزاب السياسية، وذلك على أساس أن تنظيمهم ليس حزبًا سياسيًّا وإنما جمعية دينية. من الواضح أنه كان هناك تحالُف من نوعٍ ما بين الإخوان والضباط الأحرار، تصوَّر كل فريقٍ منهما أنه من خلاله يستطيع استخدام» الآخر لتحقيق أهدافه؛ لذلك سرعان ما انهار هذا التحالف، وبدأ صراعٌ سياسيٌّ مرير، لم يتردَّد فيه الفريقان المتصارعان عن استخدام «الإسلام» أداةً من أدواتِ تحقيق «المشروعية» فكريًّا وسياسيًّا.

يجب التمييز بالطبع بين حقبتَين في هذا الصراع الذي ما زال جاريًا بصورةٍ دموية إلى حدٍّ كبير؛ الحقبة الأولى هي حقبة الفترة الناصرية، وهي حقبة اتسمَت، رغم غياب الحريات الفكرية والسياسية، بدرجةٍ من درجات الاستنارة فرضَها مُناخ المد الوطني والقومي في النضال ضد الاستعمار العالمي والاستغلال الداخلي. والحِقبة الثانية هي حِقبة انحسار هذا المد؛ حيث تمكَّنَت قوى الاستعمار العالمي من إحكام الحصار حوله حتى أفلحَت في تطويقه بهزيمة ١٩٦٧م. وعلى المستوى الداخلي كانت قوى الثورة المضادة قد أفلحَت — بفضل غياب الحريات الذي أفضى إلى سلبية الجماهير وعزلتها، بالإضافة إلى التحالف التاريخي بين قوى الثورة المضادة وقوى الاستغلال الخارجي بسبب اتفاق المصالح — في الاستيلاء على السلطة. في هذه الحقبة الثانية تم إحياء التحالف القديم مع الإخوان المسلمين بهدف القضاء على الحركة الطلابية المناهضة لنظام الحكم، والمكوَّنة أساسًا من اليساريين والناصريين. كانت بداية مؤشِّرات هذا التحالف الإفراج عن الإخوان في ٢٠ سبتمبر ١٩٧١م؛ أي بعد أقلَّ من عامٍ من تولي السادات السلطة وأقل من ستة أشهرٍ من القضاء على منافسيه في السلطة، فيما صار يُعرف باسم «ثورة التصحيح» وذلك في مايو من نفس العام. وفي هذه الحقبة الثانية انحسَر تيار الاستنارة لانحسار أسبابه، وذلك رغم الوجه الديمقراطي السياسي الذي فُرض على النظام أن يتجمَّل به. وقد أفضت ديمقراطية «الأنياب والأظافر» — على حد تعبير الرئيس السادات — إلى أسوأ أنواع الدكتاتورية التي نما الفساد في ظلها واستفحل. وقد مكَّنَت تلك الظروف مجتمعةً جماعات الإسلام السياسي من الانتشار والسيطرة في العديد من القطاعات والفئات الاجتماعية.

غنيٌّ عن البيان أن الانشقاقات التي حدثَت في السجن داخل حركة الإخوان المسلمين — بفضل كتابات سيد قطب بصفةٍ خاصة — كان لها تأثيرٌ كبير في تدشين «العنف» الدموي سلاحًا رئيسيًّا للقضاء على المجتمع «الجاهلي» وإقامة دولة «الإسلام». هكذا بدأ نشاط جماعة «منظمة التحرير الإسلامية» — بزعامة «صالح سرية»، الذي يُقال إنه كان موظفًا فلسطينيًّا في مقر الجامعة العربية في القاهرة، وعضوًا في جماعة الإخوان المسلمين المصرية — بأحداث الكلية الفنية العسكرية في ١٨ أبريل ١٩٧٤م. وفي ٣ يونيو ١٩٧٧م؛ أي بعد أقل من ستة شهور من أحداث الانتفاضة الشعبية — التي ظل السادات يُصِرُّ على إطلاق اسم «انتفاضة الحرامية» عليها — في شهر يناير، قامت جماعة «التكفير والهجرة» بزعامة «مصطفى شكري» باختطاف الشيخ «محمد حسين الذهبي» — وكان وزيرًا سابقًا للأوقاف والشئون الدينية — وقتله. وتنامَى مسلسل العنف في الصعيد والمناطق العشوائية في القاهرة، خاصة ضد «الأقباط» الذين اعتُبروا بمثابة «رهائن» في الصراع ضد النظام السياسي للدولة. ووصل المسلسل إلى «ذروة» حبكته الدرامية حين قام تنظيم «الجهاد» بتخطيط المهندس «محمد عبد السلام فرج» — مؤلِّف «الفريضة الغائبة» — باغتيال رئيس الدولة في يوم الاحتفال الكبير، السادس من أكتوبر ١٩٨١م، بعد عشر سنواتٍ من بداية التحالف.

من الجدير بالذكر أن زيارة «السادات» للقدس في نوفمبر ١٩٧٧م، وما ترتَّب عليها من توقيع معاهدة الصلح المنفرد مع إسرائيل في سبتمبر ١٩٧٨م، لم تكن هي الدافع لاغتيال رئيس الدولة، كما يحلو للبعض أن يدَّعي في محاولة لإضفاء مشروعية وطنية-قومية على عملية الاغتيال. كان الدافع كما يدُل تتابع الأحداث الانتقام، الثأر بالمعنى المعروف في الصعيد جنوب الوادي، بسبب قرارات سبتمبر ١٩٨٠م التي تضمَّنَت — فيما تضمَّنَته الاعتقالات السياسية الجماعية — اعتقال بعض القيادات من الإخوان والتيارات الإسلامية الأخرى. لعل هذا يفسِّر حالة «الارتياح» — المشوب بالقلق والتوتُّر — التي سادت الواقع الفعلي للحياة في مصر عقب الاغتيال، لكنه يكشف من جانبٍ آخر عن الغياب الكامل لأي بُعدٍ وطنيٍّ أو قومي في مشروع تلك الجماعات؛ لأن استراتيجيَّتهم القصوى صارت الاستيلاء على السلطة بأي وسيلة وبأي ثمن، ولو كان «الإسلام» نفسه.

من الضروري الإشارة هنا أيضًا إلى الدور الذي لعبَتْه حقبة «النفط»، بدءًا من ١٩٧٣م بصفةٍ خاصة وما زالت تلعبه حتى الآن، في توفير المناخ الملائم لهيمنة هذا التيار لا في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي كله، وذلك بدعمه أيديولوجيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. ولا شك أن نجاح الثورة الإسلامية في إيران في بداية الثمانينيات وتوهُّم سهولة الإمساك بالسلطة، كان عاملًا من عوامل تأجيج الاتجاه نحو العنف في تكتيك تلك الجماعات. ومن الممكن أن يفسِّر هذان العاملان الأخيران ذلك التزاوج غير المسبوق في أيديولوجيا تلك الجماعات بين التأويل الوهَّابي للإسلام وبين الأيديولوجيا الشيعية؛ فمفهوم الدولة الدينية التي يقوم على رأسها إمامٌ يتمتع بسلطةٍ دينية معرفية مطلَقة هو بالأساس مفهومٌ شيعي له جذوره التاريخية في أيديولوجيا المعارضة الإسلامية التي مثَّلها تيار الفكر الشيعي في التاريخ السياسي للدولة الإسلامية. ومفهوم «الخلافة» الذي يعتقد البعض أنه المقابل السني لمفهوم «الإمامة» الشيعي لا يتضمن أية إشارة إلى سلطةٍ دينية مرجعية تُنسب إلى شخص الخليفة. الدليل على ذلك أن «الخليفة» يجوز — نظريًّا على الأقل — خلعُه لأسبابٍ عديدة، ولا يجوز خلع «الإمام» الشيعي؛ فهو «وارث» العلم النبوي الذي خو مناط مرجعيته. من هنا كان لا بد للإمام الخميني أن يقدِّم اجتهاده المتضمَّن في نظرية «ولاية الفقيه» لكي يجعل الثورة ضد الشاه مشروعةً رغم غياب «الإمام». هكذا يتم في خطاب الإسلام السياسي تبنِّي المفهوم الشيعي للدولة الدينية، جنبًا إلى جنب الفهم شبه الوهابي للنصوص الدينية، دون أي إحساسٍ بالتعارض بين النظامَين الفكريَّين؛ الوهابية والشيعية.

من اللافت للانتباه أن الذين تنبَّهوا إلى حقيقة «زيف» علاقة الارتباط الشَّرطي أو العِلِّي بين الدين ومفاهيم التخلُّف والتقدُّم — من بين مفكِّري الإصلاح والنهضة — كانوا الدعاة الأوائل لتحرير المرأة؛ قاسم أمين والطاهر الحداد. وجديرٌ بالذكر كذلك أن محمد عبده يُشير أحيانًا في بعض كتبه إشاراتٍ تعكس وعيًا ما بانعدام الارتباط الشَّرطي بين الدين وتقدُّم المجتمع أو تخلُّفه. في ردوده ومساجلاته ضد «هانوتو» — وزير الخارجية الفرنسي آنذاك وأحد ممثِّلي تيار الفكر الغربي الذي يحصر أسباب تخلف المسلمين في دينهم — يرى عبده أن أوروبا — التي تزعم العلمانية والفصل بين الدين والدولة — تتخذ أيضًا من الدين سلاحًا في سياستها الاستعمارية ضد العالم الإسلامي: «وأن المرسَلين والجمعيات الدينية من أهم الوسائل لديها في إعداد الشعوب لقبول سلطانها عند سُنوح الفرص لسوقه إليها … وفي فتح المغالق التي لا يستطيع السلاح وحده أن يفتحَها، وتمهيد السبل التي لا يمكن لساعد الجندي وحده أن يمهِّدها. وهو من الأمور المسلَّمة التي لا يجادل فيها عارف مثل هانوتو». هذا الاستخدام الذرائعي النفعي للدِّين من جانب أوروبا يفتح في وعي عبده سبيلًا لنفي التفسير الديني للتقدُّم أو للتخلُّف؛ لأن دين أوروبا — المسيحية — ليس في حقيقته وجوهره دينَ قوة وغلبة بقَدْر ما هو دين تسامح ورحمة. هكذا يؤكِّد عبده أنه إذا «صح الحكم على الأديان بما يُشاهَد من أحوال أهلها وقتَ الحكم جاز لنا أن نحكُم بأنْ لا علاقة بين الدين المسيحي والمدنية الحاضرة.»٢ من الواضح أن وعي عبده، المحكوم بالإشكالية التي فرضها عليه الخطاب الأوروبي، كان منخرطًا أساسًا في موقفٍ دفاعي عن الإسلام؛ لأن عبارته الأخيرة تهدف — بدلالة المخالفة — نفي علاقة الارتباط الشرطي بين «الإسلام» و«التخلُّف».

هذا الوعي يتراجع الآن بفعل العوامل التي أشرنا إليها فيما سبق، ويتراجع معه بنفس القوة مفهوم «انفتاح» المعنى الديني لاستيعاب متغيِّرات الزمان والمكان. وبسبب هذا التراجُع والغياب يسود خطاب الإسلام «الثابت المعنى» المطلَق الدلالة، الإسلام الذي يحتاج لقوة «الإرهاب» لفرضه على الناس، ولتتويج ممثليه سدَنةً وكهانًا وحكامًا. ولعل هذا يقدِّم تفسيرًا لحالة الاستقطاب الفكرية الحادة التي تصل إلى حد الحرب الأهلية في المجتمع. وهناك اختلاف — يعكس حالة الاستقطاب ويؤكِّدها — في توصيف هذه الحالة؛ فممثِّلو الخطاب الإسلامي، مثلًا، يصفون الاستقطاب بأنه استقطابٌ بين «الإسلاميين» و«العلمانيين»، ولكن خصومهم — الموصوفين بالعلمانيين — يتجنَّبون هذا الوصف، ويتحدثون بدلًا من ذلك عن الصراع بين «ثقافتَين»؛ تقليديةٍ محافِظة من جانب، وتنويريةٍ منفتحة من جانبٍ آخر. وهناك فريقٌ ثالثٌ يحاول أن يمثِّل «الوسط» المعتدل، فيتحدث عن أضرار الاستقطاب، وما يمكن أن يُؤديَ إليه من انشقاقٍ سياسي وفكري، يهدِّد وحدة المجتمع، ويمزِّق النسيج الاجتماعي للأمة المصرية. يمثِّل الفريق الأول — فريق الإسلاميين — كُتَّاب مثل محمد عمارة وفهمي هويدي ومحمد الغزالي، وتعبِّر عنه منابرُ حزبية هي: «الإخوان المسلمون» و«حزب العمل الإسلامي». أما الفريق الثاني فيعبِّر عنه كثيرون كذلك، لعل أبرزَ من كتب منهم حول عملية الاستقطاب تلك: فؤاد زكريا وسيد ياسين. وقد عبَّر عن فريق أهل الوسط عبد المنعم سعيد، من مركز الدراسات الاستراتيجية بجريدة «الأهرام».

من الضروري الإشارة إلى أن ممثِّلي الاتجاهات الثلاثة المشار إليها، يتجاوز عددُهم الأسماء المشار إليها، ولكنَّا اكتفينا بهذه الأسماء؛ لأن أصحابها هم الذين تعرَّضوا لظاهرة الاستقطاب تلك وناقشوها، كلٌّ من وجهة نظره الفكرية الخاصة. والذي نتناوله هنا بالعرض والتحليل، لا علاقة له بأسانيد كل فريقٍ من تلك الفِرق الثلاثة؛ فالظاهرة أبرز وأوضح من أن تحتاج إلى دليل أو برهان، بل إن الظاهرة تجاوزَت حدود أن تكون ظاهرةً فكريةً ثقافية، وقاربَت تخوم «الحرب الأهلية» بين الفريقَين المتصارعَين، وتعبير «الحرب الأهلية» ليس من عندي، إنه التعبير الذي استخدَمه الكاتب فهمي هويدي (الأهرام ٢٣ / ٣ / ١٩٩٣م) وهو بصدَد مناقشة الدعوة إلى «الجبهة الوطنية»، وعبَّر عن خشيته من أن تكون تلك الدعوة ترتيبًا لإقامة تحالفٍ علماني في مواجهة المدِّ الإسلامي الراهن، وذهب إلى أن ذلك سيكون «خطوة باتجاه إذكاء وتكريس الحرب الأهلية الدائرة بين العلمانيين والإسلاميين، التي تهدِّد المجتمع بالانشطار». وتعميقًا لمفهوم «الحرب الأهلية»، كان ثمَّة اقتراحٌ تقدم به هويدي أيضًا لخلق مناطقَ فكريةٍ آمنة لا يتناولها البحث والنقاش، وهو اقتراحٌ ثنَّى عليه مؤيِّدًا عبد المنعم سعيد في «الأهرام» كذلك.

والحقيقة أن ثمَّة «حربًا» بالمعنى الحقيقي لا المجازي، حربًا يخوضها الإسلاميون بأسلحة «التكفير» والوصف بالردَّة، و«العلمانية» — التي جعلوها مساوية لمفهوم «الإلحاد» — لأي اجتهادٍ يتناقض مع أطروحاتهم. ويلي الاتهام بسلاح التكفير ومشتقاته إطلاقُ الرصاص من جانب الجناح العسكري للاتجاه — أو الاتجاهات — الإسلامي. ويصعُب هنا الحديث عن «اعتدال» و«تطرف»؛ فالحروب جميعها لا ينفصل فيها «الإعلام» — بما يبُثه من أيديولوجيا الحشد والتجييش — عن العمليات العسكرية في ميادين القتال. من هنا تُصبِح المطالبة بمناطقَ فكريةٍ آمنة، في حقيقتها، دعوةً للكفِّ عن التفكير والبحث والنقاش؛ لأن المطالبين هنا هم الذين يميل التوازن العسكري لصالحهم.

ليس لخصوم الإسلاميين من الليبراليين ودعاة التنوير — بكل اتجاهاتهم وفصائلهم — أية أجنحةٍ عسكريةٍ مماثلة للأجنحة العسكرية الإسلامية؛ لهذا يميل الإسلاميون عادةً إلى جعل الجناح العسكري للسلطة السياسية الحاكمة — أجهزة الأمن — هو المقابل للجناح العسكري الإسلامي. ويعزِّز هذا التفسير من جانب الإسلاميين — ويعطيه بعضَ المشروعية — نموذجُ المثقَّف الليبرالي التنويري المبرِّر دائمًا لفكر السلطة، والمدافع دائمًا عن مواقفها السياسية والفكرية، لكن يظلُّ هذا التفسير من جانب الإسلاميين، تفسيرًا يُراد به الحفاظ على حالة «التوتُّر» المولِّدة للحرب الأهلية، التي يملكون مقاليد إدارتها من الوجهة العسكرية. ويُصبح الحديث عن «مناطقَ فكريةٍ آمنة»، حديثًا مماثلًا لمطالبة إسرائيل بالحدود الآمنة، وهي المتفوِّقة عسكريًّا، ناهيك أنها الممثِّل الأساسي للعدوان.

إذا كانت «الحرب» واقعًا قائمًا ماثلًا، له ضحايا سالت دماؤهم وتقطَّعَت أشلاؤهم في الشارع المصري بالسلاح الإسلامي، كما سالت وتقطَّعَت دماء وأشلاء ضحايا أخرى داخل السجون، وفي مخافر الشرطة وفي الشوارع والطرقات، ضحايا ينتسبون، أو تنسبهم أجهزة الأمن، لجماعات الإرهاب الديني، إذا كان الأمر كذلك، فهل هذه الحرب حقيقة بين «الإسلاميين» و«العلمانيين» كما يحاول خطاب الإسلاميين أن يؤكد؟! هذا هو السؤال الذي نطرحه هنا، وجوابنا عن هذا السؤال يتعارض مع قول الإسلاميين؛ لأن الصراع يدور في جوهره على أرض «الإسلام»، وليس خارج حدوده. يدور الصراع بين من يريدون «إسلامًا عصريًّا»، وبين من يريدون «أسلمة العصر». وهذا هو جوهر ما كتبه فؤاد زكريا في «الأهرام»، في ردِّه على اتجاه «الوسط» الذي عبَّر عنه عبد المنعم سعيد. إن القائلين بمقولة «الوسط» المعتدل، ينطلقون أساسًا من مقولة الإسلاميين بأن الصراع القائم هو صراعٌ قائم بين «العلمانية» و«الإسلام»، وهي أطروحةٌ خاطئة في أساسها، ويتم توظيفها توظيفًا أيديولوجيا إعلاميًّا في الحرب المشار إليها.

«العلمانية»، مصطلح يتجنب كل المفكرين المصريين — إلا قليلًا — استخدامه، ويفضِّل الجميع استخدام مصطلحاتٍ مثل «التنوير» و«الليبرالية» و«الدفاع عن المجتمع المدني» … إلخ، وليس من المقبول إلصاق الفكر باتجاه لا يُعلِنه صراحة، إلا بتحليل الخطاب الفكري تحليلًا عميقًا، يكشف عن مستوى «الإضمار» و«التضمين» و«المسكوت عنه»، وهو تحليلٌ لم يتحقَّق حتى الآن من جانبِ أيٍّ من الإسلاميين لفكر خصومهم. يحاول محمد عمارة جاهدًا أن يلصقَ وصف «العلمانية» بكتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرزاق، في سلسلة مقالاتٍ نشرها، لكن منهج التحليل الذي استخدَمه عمارة، كشَف فقط عن إنكار الكتاب لمسألة أن الرسول كان رئيسَ دولةٍ بالمعنى السياسي. ودفاع عمارة عن مفهوم «الدولة» التي أقامها الرسول في المدينة، يجعل فهم عمارة للعلمانية فهما عاميًّا وقاصرًا، يتلخص في مسألة «الدولة الدينية». وهذا الفهم — من جهةٍ أخرى — يكشف جوهر الخلاف بين الإسلاميين وخصومهم.

إنه ليس خلافًا حول «الإسلام»، كما أن «العلمانية» في نشأتها التاريخية لم تكن مناهضةً للمسيحية، بل هو خلاف حول فهم الإسلام، وحول علاقة الدين بالدولة، كما أن العلمانية في نشأتها، كانت حركة فكرية ضد التفسيرات الكنَسية الحَرْفية المغلَقة للمسيحية، وضد سيطرتها وهيمنتها على شئون الدولة والمجتمع. وإنكار العلاقة التاريخية بين «الإسلام» و«الدولة»، مسألةٌ فكريةٌ خلافية وليست مسألةً دينية. إن المصادفة التاريخية هي التي وحَّدَت، لفترةٍ قصيرة، بين القيادة الروحية والقيادة السياسية في شخص الرسول، ثم استردَّت «قریش» هيمنتَها على العرب بادعاءات انتساب الرسول إليهم، رغم أن الأنبياء — حسب روايةٍ منسوبةٍ للرسول ذاته — «لا يورَّثون». وظل نظام الحكم في الدولة يعتمد على واحدةٍ من آليتَين؛ الإنابة، وأخذ البيعة للشخص الذي يقترحه الخليفة القائم. وكانت الإنابة وأخذ البيعة معًا تتم وفقًا للميراث، فيما عدا استثناءاتٍ قليلة لا يُعتد بها. هذا هو التاريخ الإسلامي؛ حكمٌ وراثيٌ أوتوقراطي وليس ثيوقراطيًّا. واستخدام الحكام لسلطة الفقهاء وفتاويهم لتكريس سلطتهم، لا يعني «إسلامية» نظام الحكم.

إذا كان علي عبد الرازق مفكرًا، مارس فكره داخل نطاقِ ما يُسَّمى بالفكر الإسلامي — القائم على التعدُّدية والتسليم باختلاف الرؤى — فكذلك كان طه حسين وزكي نجيب محمود وكذلك فؤاد زكريا ومحمود أمين العالم والمستشار العشماوي وخليل عبد الكريم ونصر أبو زيد. وهذا يُفضي بنا إلى الفارق بين الاتجاهَين؛ إنه الفارق بين محاولة الفهم العصري المتحرِّر المستنير للإسلام، والفهم الحَرْفي الضيِّق المغلَق. إنه الفارق بين الذين يدركون الإسلام بوصفه صيرورةً تاريخيةً اجتماعية، استمرَّت وما زالت مستمرَّة، بفضل انفتاح الدلالة والمعنى للنصوص الأصلية وما تحمله من مضامين، وبين مَن يتصوَّرون أن الإسلام هو الواقعة التاريخية الأولى للوحي، ويتصوَّرون أن تحوُّلاتها وانفتاحها محضُ ضلالٍ وانحرافٍ وتزييفٍ يجب الخلاص منه. وإذا كان الموقف الأخير هو موقف «المتطرفين» من أتباع نظرية سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، اللذَين وصَما التاريخ الإنساني كله، حاشا العقود الأولى من تاريخ الإسلام، بالجاهلية والضلال، فإن «المعتدلين» الإسلاميين يمتدُّون بالتاريخ الحقيقي للدولة الإسلامية، إلى العام الذي ألغى فيه كمال أتاتورك الخلافة في هذا القرن العشرين. لكن الجميع، من متطرِّفين ومعتدلين، متفقون على أن للإسلام معنًى ثابتًا مكتملًا صاغه الفقهاء والمتكلمون المسلمون قبل عصر الانحطاط؛ أي في القرن الرابع الهجري، وهم يستَثْنون من صياغة المعنى الإسلامي كثيرًا من الاتجاهات الفلسفية والسياسية والكلامية.

هذا الصراع يتجلى في مظاهرَ عديدة؛ تقديس التاريخ ودراسته بمنهج الاحتفال والتوقير، وذلك في مقابل منهج التحليل والتفسير والنقد. منهج الاحتفال والتوقير يتعامل مع التاريخ الإسلامي من منظور التدوين الرسمي، ويكاد يتجاهل الصراعات والحروب التي حدثَت بين الصحابة مثلًا، بين نظام الدولة وبين خصومه، مكتفيًا بالقول إنها خلافات المجتهدين المخلصين، المتروك أمر الحكم عليهم الله سبحانه، لكن الصحابة كلهم أجلَّاء مكرَّمون لا يجب المساسُ بهم أو نقدُ سلوكهم وتصرفاتهم؛ لأنهم «خير القرون»، ولأنهم «كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، ولأن القرآن وصفَهم بصفاتٍ إيجابية، بل ويثور الأزهر ورجاله لو تجرَّأ أحد، وتحدَّث عن إمكانية ظهور ممثلٍ في عملٍ درامي مسرحي أو تليفزيوني ليقوم بدَورِ صحابي. هذا الامتناع حتى عن قبول فكرة «التمثيل» الرمزي للشخصية، يؤكِّد مفهوم «القداسة» الذي يُنكِره علماءُ الأزهر والإسلاميون، حين يُواجِههم أحدٌ بأنهم يقدِّسون البشر.

المظهر الثاني لهذا الصراع يتجلى في تقديس «الأئمة» واعتبار اجتهاداتهم نهائية وصائبة، ومحاربة أية محاولة لتحليل هذه الاجتهاداتِ بوصفها اجتهاداتِ بشر، تعبِّر عن مواقفَ فكريةٍ اجتماعية تنبُع من مصالحَ وتوجُّهاتٍ أيديولوجية.

المظهر الثالث، الأخطر والجديد في نفس الوقت هو «أسلمة المعرفة»، وهو المظهَر الكاشف عن جوهَر الأطروحة «الإسلامية»، والمتمثل في إلغاء العصر والتاريخ والعلم والمعرفة، وذلك بتصوُّر أن ذلك كله كامنٌ ومضمَر ومضمَّن في النصوص الأصلية.

وهذا المظهر الأخير كاشفٌ بدَوره عن معنى «التقدم» في الخطاب الإسلامي، إنه التقدم بالحركة إلى الخلف، وبالقراءة التراجعية للنصوص؛ أي القراءة التي تبدو عصرية، لكنها في الواقع ترتهن الواقع كله و«العصر» في أَسْر الماضي، الذي يستمد سلطته من كونه كذلك. هنا تبدو أهمية القيمة الرمزية للحجاب واللحية وتقصير الثياب وبناء المساجد، وشرائط الكاسيت والفيديو، والشيخ العاري الرأس، اللابس الثياب الغربية، المتعطِّر بأرقى أنواع العطور، والذي يتحرك بسيارةٍ فارهة. لقد صار كل شيء في الحاضر والعصر «إسلاميًّا».

هذه القراءة بكل ما يحيط بها من إعادة ترميز للعلامات، تستهدف في الحقيقة السيطرة على الحاضر اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وفكريًّا. ولأن المقاومة الفكرية هي المانع الوحيد المتبقِّي، وهي خندق الحاضر والعصر والتراث، فإن الحرب شرسة ضدها بكل الأسلحة من التلويث حتى القتل. وهذه المقاومة صارت هي المانع الوحيد أمام «المشروع الإسلامي»، لسقوط كل الموانع الأخرى وعلى رأسها الدولة، التي لم تعُد تملكُ إلا سلاحها القمعي للسيطرة. وهو سلاحٌ تستخدمه ضد الجميع، ولا ينجو منه إلا من ينخرطُ في مشروعها، الذي صار تابعًا على كل المستويات والأصعدة. ولأن بعض المثقَّفين قد اختاروا تبرير كل ما تقوم به الدولة اعتقادًا منهم بأن ذلك هو الطريقُ الممكِن لمناهضة الظلامية والتخلُّف، فقد أعطى ذلك للإسلاميين مبررًا، لأن يشوِّهوا كل المفكِّرين. وساعدَهم على ذلك حالة انحطاطٍ فكري، وتفشٍّ للأمية والجهل والفقر، فضلًا عن الفساد الذي صار سمةً للواقع العربي كله.

إنه مشروعٌ سياسي بالأساس إذن، ذلك المشروع «الإسلامي». وهو مشروعٌ يناهض مشروع الدولة لا كمشروعٍ نقيض، بل بوصفه مشروعًا يستمد مشروعيته من سلطةٍ مقدَّسة، في مقابل مشروع الدولة الذي يستمد مشروعيته من القمع والاضطهاد والفساد. إنه صراعُ المشروعية الذي يبدو كأنه صراعٌ حول مشروعَين مختلفَين، لكن القراءة الفاحصة للأطروحات تكشف عن أن الصراع هو صراعٌ على السلطة السياسية. وأصحاب نظرية «الوسط» يحاولون في الحقيقة حل إشكالية الصراع بين السلطتَين بإغلاق نافذة المقاومة الفكرية، النافذة التي يطلق الجميع عليها اسم «العلمانية»، وذلك لأنها ببساطة نافذة الفكر الذي يناهض الشمولية بكل صورها، ويقف ضد ارتهان الحاضر في أَسْر الماضي من جهة، وضد تبعيته المطلَقة للعدو من جهةٍ أخرى. إنه مشروع «التحرير» الذي صار مجرَّد خندق «مقاومة». هذا المشروع فكري في الأساس، معرفي في الجوهر، سياسي في دلالته ومغزاه. وهو مشروعٌ لا يقف خارج الإسلام، لكنه لا يقف أيضًا خارج «العلمانية» التي يتبرأ منها كثيرٌ من ممثليه. وقد آن الأوان للعب على المكشوف لحسم القضايا على أرض الفكر. آن الأوان لكي نناقش مفهوم العلمانية ومفهوم الإسلام معًا، وبكل الحرية اللازمة لإنتاج فكرٍ علمي معرفي قادر على الفهم والتدبر؛ تدبُّر النصوص والتاريخ، والماضي والحاضر، والدنيوي والمقدَّس.

١  مفهوم يحتاج لمناقشة بسبب إصرار البعض على أنه مفهومٌ أيديولوجي يحسُن أن يستبدل من مصطلح «وعى المسلمين».
٢  الإسلام دين العلم والمدنية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٣م، ص٧٤-٧٥ و٥٥ على التوالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥