قراءة جديدة للمقاصد الكلية للشريعة
من أهم إنجازات العلماء المسلمين في مجال قراءة النصوص الدينية ما أنجزه علماء أصول الفقه من تحديدٍ للمقاصد الكلية للشريعة، وهي المقاصد التي صاغها الإمام الشاطبي في خمسة مبادئ كلية عامة، هي: الحفاظ على النفس والعرض والدين والعقل والمال.
لقد تَم التوصُّل إلى هذه المقاصد الكلية من خلال القراءة التفصيلية المتأنِّية والعميقة للنصوص الدينية ذات الطابع التشريعي، من خلال علاقاتها التركيبية بعضها ببعض من جهة، ومن خلال علاقاتها بنصوص العقيدة والأخلاق من جهةٍ أخرى، والمقصود بالعلاقات التركيبية للنصوص التشريعية علاقات الإجمال والبيان، والعموم والخصوص، والنسخ … وغير ذلك. وهي علاقات إنتاج الدلالة الشرعية؛ فما أُجمِل في نصٍّ من النصوص يكون مبينًا ومفصلًا في نصوصٍ أخرى، وكذلك ما كانت دلالته عامة قد يكون هناك نصٌّ آخر يحوِّله من العموم إلى الخصوص، ثم هناك أخيرًا ظاهرة نسخ بعض التشريعات واستبدال تشريعاتٍ أخرى بها للتخفيف أو التدرُّج مراعاةً لتبدُّل الأحوال وتغيُّر الظروف.
هذه القراءة المتأنية العميقة للنصوص ينتُج عنها فهم الأحكام التفصيلية الشرعية. ومن هذه الأحكام التفصيلية أمكَن لعلماء المسلمين استنباط المقاصد الكلية التي تُوجِّه تلك الأحكام. ولا تنتهي القراءة عند استنباط الكليات من الجزئيات بالمعنى الذي شرحناه — أي بالمنهج الصاعد من الجزئي إلى الكلي — وإنما يتم في قراءة أخرى، تستخدم المنهج الهابط، تنزيل الكليات على الجزئيات، في محاولة لإعادة فهم الجزئيات — وربما تعديلها — في ضوء الكليات المُستنبَطة منها. كأن علماء الأصول خاصة، وعلماء الإسلام بصفةٍ عامة، يدركون أن العلاقة بين الكلي والجزئي علاقةٌ تفاعلية وأكثر تعقيدًا من أن تكون مجرد علاقة تراكم أو «جمع» بالمعنى الرياضي.
منهج علماء الأصول
هذا الإنجاز المهم جدًّا والخطير يؤصِّل منهجًا في قراءة النصوص ناجزًا. ولا أعني أنه ناجزٌ في مجال قراءة النصوص الدينية فقط؛ لأن ذلك أمرٌ تحقَّق بالفعل، لكنه منهجٌ ناجز كذلك في قراءة كل أنماط النصوص القانونية والفلسفية والأدبية. وككل منهجٍ ناجزٍ يظل منهج علماء الأصول في استنباط الكليات من الجزئيات، ثم إعادة تنزيل الكليات لفهم الجزئيات، فهمًا مجددًا، منهجًا مفتوحًا قابلًا للإضافة مع تجدُّد الوعي وتطوُّر أساليب المعرفة وأدوات البحث، خاصةً في مجال «قراءة النصوص». ولعل هذا هو الدافع الذي يدفعُنا اليوم لاقتراح مشروع قراءةٍ جديدةٍ للمقاصد الكلية للشريعة.
هذه القراءة الجديدة تسترشد بمنهج علماء الأصول، ولكن في إطار هموم العصر الذي نعيش فيه، ولمواجهة المشكلات التي تمثِّل عقبة أمام تحقيق وعيٍ إسلاميٍّ جديد.
وككل قراءةٍ جديدةٍ من حق المشروع المقترَح لقراءتنا أن يضيف إلى منهجيات القراءة السابقة ما أحدثَته المنهجيات الحديثة من انشغال بمستويات الدلالة التي تتجاوز حدود الدلالة اللغوية. لقد شُغلَت القراءة السابقة بفحص الدلالة اللغوية أساسًا؛ ولذلك تركِّز اهتمامها في الكشف عن آليات هذه الدلالة في حدود علوم اللغة والبلاغة التقليديَّين. وكان انشغالها منصبًّا أساسًا على الكليات المستنبَطة من الجزئيات، دون أن تقف على الدلالات الكلية الناشئة عن طبيعة الحركة المعرفية لنصوص الإسلام في كليتها. والمقصود بهذه الدلالات الكلية علاقة النص الإسلامي — معرفيًّا — بالنصوص التي كانت قائمةً ومؤثِّرة وفاعلة في سياق اللحظة التاريخية للوحي. هذه الدلالات تمثِّل محور الحركة التي سبَّبَت الصراع والمقاومة التي واجهَت النص الإسلامي خلال السنوات العشرين التي تمثِّل مرحلة الوحي، بل والتي استمرَّت بعد ذلك فيما عُرف بحروب الردة، وما سبقها واقترن بها من ظاهرة «النبوات الكاذبة» التي استشرت في محاولة لمنازعة «النص الإسلامي» مشروعيته السماوية.
كلية النص الإسلامي
من الطبيعي إذن أن تحاول القراءة الجديدة تجاوز ثنائية الجزئي والكلي دون إغفالها تمامًا، وذلك للبحث عن الدلالة أو الدلالات الكلية التي لا تفصل بين التشريعي والعقيدي من ناحية، وبين الدلالات المستنبطة من القصص القرآني ووصف الجنة والنار من جهةٍ أخرى. بالإضافة إلى ذلك تُدخِل هذه القراءة في بؤرة اهتمامها الدلالةَ الكليةَ للنص الإسلامي في سياق تفاعله الجزئي والكلي مع الواقع الاجتماعي والتاريخي. وبعبارةٍ أخرى تحاول القراءة الجديدة، بمنهجياتها المعاصرة، أن تتناول النص الإسلامي في كليته، ذلك النص الذي جزَّأَته العلوم الدينية في التراث الإسلامي، فانشغل «علم الأصول» بالأحكام والتشريعات، وانشغل «علم الكلام» بالعقيدة، وانشغل «التصوف» بالأخلاق، وانشغلَت باقي العلوم كلٌّ بجانب من الجوانب.
والاقتراح الأوَّلي لمشروع القراءة الجديدة يعتمد على إدراك ثلاثة مبادئ نرى أنها جوهريةٌ وأساسية؛ بحيث يمكن القول إنها تمثِّل «الكليات» التي تستوعب الجزئيات، إلى جانب أنها تستوعب «المقاصد الكلية» الخمسة، التي استنبطها أسلافنا في قراءتهم العميقة المستوعبة، بحسب الإطار المعرفي المتاح لهم. يتعلق المبدأ الكلي الأول بمفهوم «العقلانية» بوصفها صفةً تُضادُّ «الجاهلية» التي طرح المشروع الإسلامي نفسه بوصفه نقيضًا لها في كثيرٍ من نصوصه المعروفة جدًّا. وعلى عكس ما أصبح شائعًا أخيرًا في بعض الكتابات من أن «الحاكمية» هي نقيض «الجاهلية»، فإن نقيضَ الجاهلية يتحدَّد من خلال ملاحظة التداول الضدِّي بين لفظَي «العقل» و«الجهل» في اللغة أولًا، وفي القرآن ثانيًا. ونقول في اللغة أولًا؛ لأن اللغة العربية هي الإطار المرجعي لتحديد الدلالات المعجمية لألفاظ القرآن، وذلك قبل أن نرى ما أحدثه القرآن من تطوير أو تغيير في هذه الدلالات.
والسياق اللغوي لتداول لفظ «الجهل» ومشتقاته يجعله نقيضًا ﻟ «الحلم» بمعنى العقل. ولفظ «الجهل» ومشتقاته يعني «العصبية» التي يرتبط بها نمطٌ من السلوك الهجومي العدائي غير المتعقل، يقول الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم في معلَّقته الشهيرة:
ولا يمكن أن يكون الشاعر مفتخرًا بجهله «نقيض العلم والمعرفة»، وإنما يفتخر بعصبيته وقوة قبيلته وقدرتها على مقابلة العدوان بالعدوان. هذه «الجاهلية» هي التي يأتي الإسلام نقيضًا لها على جميع المستويات والأصعدة؛ ليؤسس العقلانية في السلوك والفهم والعلاقات الإنسانية. من هنا نفهم تركيز القرآن على «العقل» و«اللُّب» و«الفكر» و«الفؤاد»، ومخاطبته دائمًا للذين يعقلون ويتفكَّرون. ولأن «الجاهلية» نابعةٌ من عصبية العِرق والدم والانتماء القبلي جاء غضب الرسول ﷺ وقوله للمتفاخرين: «دعوها فإنها مُنتِنة.»، أو قوله: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.»
ومن الخطل استنتاج بعض «الجهال» من أمثال هذه النصوص معارضة الإسلام لمفهوم «الوطن» أو مفهوم «القومية»، وإنما يعارض الإسلام «التعصُّب» و«الطائفية» و«العِرقية» ليؤكِّد مفهوم الدعوة الإنساني، والذي يقوم على المساواة والكفاءة والندية رغم كل الاختلافات الإثنية والعِرقية، والدينية. إن ما يساوي بين البشر هو «العقل» الذي هو كما قال المعتزلة «أعدل الأشياء قسمةً بين البشر». هكذا يمكِن القول إن الإسلام يعتمد على مبدأ كلي أساسي هو «العقل» نقيضًا للجهل، وبهذا يُدين كل ممارسات «الجاهلية» في الفكر والسلوك داعيًا إلى «الحلم» وتحكيم «العقل» والاحتكام إلى «اللب» و«الفؤاد».
الحرية نقيض العبودية
المبدأ الكلي الثاني هو مبدأ «الحرية» نقيضًا للعبودية، وهو مبدأ شديد الالتصاق من حيث دلالته بمبدأ «العقل»؛ ذلك أن الإنسان الحر هو الإنسان العاقل أساسًا، من حيث إن «العقل» هو مركز فعالية النشاط الإنساني. إن الإنسان المتعصِّب تُحركه مبادئ خارجية في فكره وسلوكه، مبادئ تتحكَّم في عقله فتمنعه من ممارسة فعاليته الحرة، وهذا منشأ العبودية الحقيقي؛ لأن العبودية الاجتماعية منشؤها نسقٌ اجتماعي إذا تغيَّر انتفت تلك العبودية، أما عبودية «العقل»، فهي أشد خطرًا لسيطرتها على «جوهر» إنسانية الإنسان. إنها تردُّ الإنسان إلى مستوى البهيمة في حين تظل العبودية الاجتماعية عبوديةً خارجية. ليس هذا دفاعًا عن النظام العبودي لكنه محاولةٌ لكشف خطر عبودية «العقل» لتأكيد التواشُج والاتصال الدلالي بين مفهوم «العقل» ومفهوم «الحرية».
إن النصوص التي يمكن الاستشهاد بها لإثبات أن «الحرية» مبدأ كلي في المشروع الإسلامي، لا تتسع لها ولا لتحليلها هذه المقاربة ذات الطبيعة الاقتراحية. ويكفي هنا أن نشير إلى أن الإسلام قائمٌ أساسًا على مبدأ «حرية الاخيار» المطلقة، واختيار المسلم للإسلام دينًا لا يمكن أن يكون نافيًا لمفهوم الحرية الأصلي؛ ذلك أن الفرع لا يُلغي الأصل أبدًا، كما يحاول البعض أن يُوهِمَ الناس. إن دخول الإنسان الإسلام حرًّا طائعًا مختارًا راضيًا لا يحوِّله إلى «عبد» مجرَّد من حريته واختياره الأصليَّين، واللذَين هما مناط إنسانيته. إن الذين يُوهِمون الناس بذلك يخلطون بين مفهوم «العبودية» السابق على الإسلام، المرتبط بالنسق الاجتماعي العبودي، وبين مفهوم «العبادية» الذي صاغه القرآن الكريم لعلاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى. ويتجاهل هؤلاء أن جمع كلمة «عبد» هو «عبيد»، وهو لم يُستخدم في القرآن إلا في سياقٍ محدَّد هو سياق نفي الظلم عن الله سبحانه وتعالى: «آل عمران/١٨٢، الأنفال/٥١، الحج/١٠، فصلت/٤٦، ق/٢٩». والاستخدام القرآني المتواتر هو الصيغة «عباد» لا «عبيد»، وهو أمرٌ يؤكِّد تغايُر الدلالة رغم اتفاق صيغة «المفرد» للكلمتَين. وهذا ينفي مفهوم علاقة «العبودية» بكل دلالاتها السلبية، تلك العلاقة التي يُحاول البعض حصر العلاقة الأعمق بین الله سبحانه وتعالى والإنسان داخل أسوارها الضيقة الخانقة. ويتم ذلك كله في ظل تجاهُل شبه تام للنصوص التي تتحدث عن بُعد «الحب» المتبادل بين العظيم وبين عباده.
ولا يمكن الاعتراض على كلية مبدأ «الحرية» في النص الإسلامي بالاعتراض السقيم الذين فحواه أن الإسلام لم يُلغِ العبودية من حيِّز النظام الاجتماعي. ومع ذلك فإن مناقشة هذا الاعتراض تكشف عن بُعد احترام الإسلام لقوانين الواقع والتاريخ، وذلك بتجنُّبه عدم المجازفة بالوثب فوقها وتجاهلها. إن الدين الذي حرَّم الخمر على ثلاث مراحل تدرُّجًا في التشريع، والذي نسَخ بعض الأحكام واستبدَل بها أحكامًا أخرى في فترة الوحي، لهو دينٌ واقعي إنساني يؤكِّد أن الفعل الإلهي إذا تحقَّق في التاريخ يجري على سنَن التاريخ، وهي السنَن التي تمثِّل القوانين الكلية التي عبَّر عنها القرآن الكريم ﺑ «سنة الله» التي لن تجد لها تبديلًا. ولعل هذا الشرح يرفع عن كلمة «التاريخ» الدلالات السقيمة التي يلصقُها بها البعض حين ترِد في مثل هذا التحليل مصاحبة لكلمة «الوحي».
لكن احترام قوانين التاريخ والواقع لا يعني أن الإسلام وقف حيالها عاجزًا؛ فمنهج الإسلام هو التغيير الجزئي الذي يؤدي في النهاية إلى «خلخلة» دعائم البنَى الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية القائمة والمسيطرة. كان هذا موقفه من النظام العبودي الاجتماعي؛ حيث انبثَّت دعوة الإسلام إلى تحرير العبيد في كثيرٍ من النصوص بدءًا من «المساواة» بين العبد والحر في الأحكام وفي معايير الثواب الأخروي، والتخفيف عن العبيد في أحكام العقاب الدنيوي — في مجال الحدود بصفةٍ خاصة — مراعاةً للضغوط الاجتماعية التي يتعرَّضون لها، فتجعلهم أقرب إلى الوقوع في الخطأ. علاوةً على ذلك فتح الإسلام في كثيرٍ من أحكامه باب التحرُّر بأن جعل «عتق الرقبة» وتحريرها واحدةً من أهم الكفَّارات في حالاتٍ كثيرة وأحكامٍ عديدة. والأهم من ذلك أنه جعل الزواج من العبد المسلم أفضل من الزواج من الحر المشرك، وكذلك جعل الزواج من الأمة المسلمة خيرًا من الزواج من الحرة المشركة، ومعنى ذلك أن الإسلام جعل معيار «القيمة» معيارًا مخالفًا للسائد الاجتماعي.
إطلاق مبدأ الاختيار
كل هذه التغييرات على مستوى الأحكام ارتبطَت بتأكيد نسق للقيمة يفتح الباب للحرية والتحرُّر من العبودية، كما فتحَتْه للتحرُّر من عصبية الدم والعِرق تمامًا، لكن الأهم من ذلك والأخطر إطلاق الإسلام لمبدأ حرية العقائد وممارستها من جهة، وإطلاق مبدأ حرية الاختيار للإنسان الفرد من جهةٍ أخرى. وفوق ذلك كله فقد دشَّن الإسلام مفهومًا للإنسانية الحرة الطليقة بأن أعلن رسالته خاتمة الرسالات والكلمة الأخيرة من السماء إلى الأرض. وهذا معناه الإقرار بأن الإنسانية قد تعدَّت مرحلة ما قبل النضوج، التي تتطلب الوصاية الدائمة، إلى مرحلة «الرشد» الكاملة.
هذه الحرية التي يحاول بعض المتعصِّبين أن ينال من اتساعها وعمقها تجدُ جذرها في الخطاب الإسلامي من حقيقة صفة «العدل» الإلهية، وهي الصفة التي لا تقف دلالتها عند حدود نفي الظلم فقط، بل تمتد دلالتها إلى إقرار مبدأ «العدل» مبدأً كليًّا للوجود الإنساني. إن حرص المعتزلة على تأكيد صفة العدل الإلهي هو الذي أفضى بهم إلى تأصيل صفة «التوحيد» فكريًّا وفلسفيًّا. إن الله سبحانه وتعالى عادل لأنه ليس صاحب مصلحة ولا تلحقه الحاجة ولا المنفعة التي تدفع البشر إلى الظلم دفعًا لضرر أو استجلابًا لنفع. ولن يزيد في ملكه طاعة الطائعين ولن ينقص من ملکه سبحانه وتعالى عصيان العصاة ولا كفر الكافرين. هذا «الاستغناء» المطلَق هو جوهر مفهوم «الوحدانية» التي تميِّز الوجود الإلهي عن الوجود الإنساني، وهو ذاته جوهر مفهوم «العدل» الإلهي. هل بالَغ الفقهاء الذين قالوا: حيث يوجد «العدل» تُوجَد شريعة الله؟! وهل بالغوا كذلك حين قالوا: الحاكم العادل خيرٌ وأفضلُ من الحاكم الظالم ولو كان الأول غير مسلم والثاني مسلمًا؟! لا أظن ذلك؛ فقد تعمَّقوا مفهوم «العدل» الإلهي الذي انسرب مبدأً كليًّا بالضرورة في المشروع الإسلامي.
مقاصد الشريعة
إن هذه المبادئ الكلية الثلاثة — العقل والحرية والعدل — تمثِّل منظومةً من المفاهيم المتماسكة المترابطة من جهة، وهي تستوعب المقاصد الكلية الخمسة التي استنبطَها علماء أصول الفقه من جهةٍ أخرى. إن الحفاظ على النفس والعقل والدين والعرض والمال تبدو مبادئَ جزئية بالنسبة للمبادئ الثلاثة الكلية، ويمكن بالتالي أن تندرج فيها. هذا إلى جانب أن تلك المبادئ تستوعب جميع القواعد الاجتهادية التي أنجزها الأصوليون مثل قاعدة «الاستحسان» و«المصالح المرسلة» و«استصحاب الأصل»، و«إباحة الضرورات للمحظورات»، وغير ذلك. هذه القواعد تمثِّل من جهةٍ أخرى أُسُسًا كلية ترفع الاختلاف المعروف بين المدارس الفقهية حول مشروعية بعض هذه المبادئ. قد تصبح هذه الخلافات موضوعَ تحليلٍ ودراسةٍ لاكتشاف الأسباب والعِلل لفهم تاريخ المذاهب والأفكار، لكننا لن نكون ملزَمين — في ضوء المبادئ الكلية المشار إليها - بالاختيار بين هذا أو ذاك.
ومن المؤكَّد أن الانطلاق من هَدْي تلك المبادئ سيجعلنا نتوقف عند قاعدة «درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح» وقفةً نقديةً فاحصةً متأملة للسياق التاريخي الذي صيغَت فيه، وهو سياقُ حالة الضعف والتمزُّق والتشتُّت الذي أصاب بنية المجتمعات العربية الإسلامية. وإذا كنا نسعى لتجاوز هذه الحالة المشار إليها، واللحاق بركب التقدُّم والمدنية، فإنه من الصعب تقبُّل مثل تلك القاعدة، هذا بالإضافة إلى أنها تتعارض مع مبادئ العقل والحرية والعدل، التي هي بمثابة المقاصد الكلية للشريعة. ولا شك أن كل تقدمٍ اجتماعي وعمراني وتقني إنما يرتبط بتطوُّر الوعي الإنساني وبتنامي قدرته على اكتشاف القوانين الطبيعية والاجتماعية. وبعبارةٍ أخرى ليس التقدُّم إلا تقدمًا في نشاط «العقل» الذي يمثِّل مركز المشروع الإسلامي في تناقضه مع الجاهلية. لكن كل تقدُّم له بعض توابعه السلبية التي تترتَّب عليها بعض الأضرار، وهي بمثابة ضريبةٍ تدفعُها البشرية في سبيل التقدُّم؛ فلو أخذنا بقاعدة «درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح» لناهضنا التقدم ووقفنا حجَر عثرة في سبيله؛ أي لناهضنا تطوُّر العقل وتقدُّمه، وبذلك ننتهك مبدأ كليًّا من مبادئ الإسلام.
إن دراسة النصوص الدينية وفهمها وتأويلها، من خلال تلك المبادئ الكلية الثلاثة، يمكن أن يكون هاديًا لصقل مزيدٍ من آليات الاجتهاد تُضافُ إلى آليات الاجتهاد التي وصلَت إلينا من تراثنا الفكري. ولا خوف على عقائدنا وديننا من تلك المنهجية وإجراءات تحليلها، وإنما الخوف من «الجمود» و«التقليد»، اللذَين يمثِّلان حصونَ الدفاع في المؤسَّسات التقليدية. لقد أرسل الله سبحانه وتعالى رسلَه للناس يحملون كلامه عز وجل لكي يفهمه الناس، وليست عملية الفهم حكرًا على عصرٍ من العصور مهما بلغ إخلاصُ أهله، بل هي عمليةٌ تتشارك فيها كل العصور سعيًا لإتمام نور الله سبحانه وتعالى بإبراز الدلالات الكامنة في كلامه.