في الأدب العربي (٥)

قوانين الوزارة

الإمام أبو الحسن الماوردي من أئمة الدين، وعلم من أعلام الشافعية، درس بالبصرة وبغداد، ثم تولى التدريس ببغداد، وكان مقصد العلماء والمتعلمين، ثم تولى القضاء في عدة بلاد، فاستفاد بجانب علمه خبرة واسعة بأهل زمنه. ثم عاد إلى بغداد وتمكنت الصلة بينه وبين الخليفة القادر، وسفر بينه وبين بني بويه الذين كان بيدهم السلطان الفعلي على العراق، وسفر لبني بويه في مشاكلهم. فلما أراد جلال الدولة البويهي سنة ٤٢٩ أن يلقِّبه الخليفة المقتدى «شاهنشاه» أو ملك الملوك الأعظم استفتى الماوردي في ذلك فأفتى بعدم الجواز فجلبت له هذه الفتوى عداوة البويهيين.

مكَّنت له هذه الحياة العلمية والقضائية والسياسية واتصاله بالرؤساء ذوي السلطان الشرعي والفعلي من معرفة بدقائق الأمور وألاعيب أهل السياسة، إلى علمه بالفقه ونظرياته.

وكان لهذا كله أثر كبير في اتجاهه جهة تشريعية قَلَّ من علماء الفقه من اتجه إليها، وهي البحث في «القانون الدستوري» فألّف في ذلك كتابًا خالدًا هو «الأحكام السلطانية» كان مرجع كل من كتب في نظام الحكم عند المسلمين، تعرض فيه للخلافة أو الإمامة، والوزارة والإمارة والقضاء وولاية المظالم وأنواع الولاية كولاية النقابة على الأنساب والولاية على إمامة الصلاة وولاية الأموال ووضع الدواوين وترتيبها ونظامها واختصاصها إلخ إلخ.

والكتابة في هذا الموضوع شائكة. فهي ليست مثل الكتابة في الصلاة والزكاة، ولا كالكتابة في البيوع والإجارات، بل هي في الصميم من الحياة السياسية، تمس أولي الأمر ومن بيدهم زمام الحكم، من الخليفة إلى المحتسب، وتبين ما هو حق من توليهم الحكم وما هو باطل، وما هو صواب في تصرفهم وما هو خطأ. ولعل هذا هو السبب في قلة تأليف الفقهاء في هذا الباب مع عظم أهميته. ولو وجه إليه العلماء عنايتهم فوضعوا في كل هذه الأمور قواعد ثابتة وأحاطت الأمة هذه القواعد بقوتها لم يقع كثير من الأحداث المحزنة في الخلاف على الخلافة ومن يتولى الإمارة ودسائس الوزارة ونحو ذلك مما أخَّر المسلمين وفرَّق كلمتهم وأضعف قوتهم.

وربما كان الحرج في هذا الموضوع أيضًا هو السبب في أن الماوردي في كتابه «الأحكام السلطانية» اقتصر على الجانب النظري في الموضوع ولم ينغمس في الجانب العملي، فلم يتعرض لتطبيق نظرياته على أحداث زمانه، مع أن زمانه مملوء بالحوادث العظام كثورة القرامطة وشيوع دعوة الإسماعيلية من مركزها في قلعة أَلمَوت وغلبة بني بويه على العراق، وتسلط الفاطميين في مصر وخلافة هشام ابن الحكم بن عبد الرحمن الناصر في الأندلس. فكل هذه وأمثالها كانت تكون مددًا صالحًا للتطبيق على ما وضع الماوردي من نظريات. ولكنه لم يفعل شيئًا من ذلك، فلم يتعرض لبيان الخطأ والصواب فيما يفعل الخلفاء العباسيون والملوك البويهيون والأمراء من الفرس والترك. ولو فعل لطار رأسه، ومع هذا ففيما فعل خير كثير، وشجاعة يحمد عليها.

•••

وفيما كتب أيضًا من الاتجاه النادر كتاب في الوزارة وقانونها سماه «قوانين الوزارة» وهو موضوع حديثنا الآن، وقد نُشِر في مصر بعنوان «أدب الوزير» — وليس يُفهم هذا الكتاب حق الفهم إلا إذا فهمت حالة الوزارة في أيامه أعني القرن الرابع الهجري وأول الخامس.

فالوزير كان يتلقى سلطته من الخليفة أو الملك، وقد جرت عادة الخلفاء العباسيين من أول عهد خلافتهم أن يسندوا أمرهم إلى وزير واحد يتولى شئون الدولة في جميع مرافقها، من مالية وإدارية وداخلية وخارجية، وهو الذي ينيب عنه من شاء في دوائر الاختصاص. أما النظام المعروف عندنا اليوم من توزيع أمور الدولة بين وزارات مختلفة فلم يكن يؤخذ به في العهد العباسي، وإنما ساروا عليه في الأندلس. قال ابن خلدون: «وأما دولة بني أمية بالأندلس … فقسّموا خطته أصنافًا وأفردوا لكل صنف وزيرًا، فجعلوا لحسبان المال وزيرًا، وللترسيل وزيرًا، وللنظر في حوائج المتظلمين وزيرًا، وللنظر في أحوال أهل الثغور وزيرًا، وجعل لهم بيت يجلسون فيه على فرش منضدة لهم، وينفذون أمر السلطان هناك كل فيما يُجعل له، وأفرد للتردد بينهم وبين الخليفة واحد منهم ارتفع عنهم بمباشرة السلطان في كل وقت، فارتفع مجلسه عن مجالسهم وخصّوه باسم الحاجب».

أما في المشرق فكان للخليفة وزير واحد يعمل باسمه في كل شيء. ولما اتسعت رقعة الدولة أيام عضد الدولة عيَّن لدولته وزيرين، وزيرًا لفارس ووزيرًا للعراق.

ولما تسلط الأتراك أولًا وبنو بويه ثانيًا انتزعوا من الوزير العباسي السلطة على الجنود والمسائل الحربية وأصبح أهم عمل يقوم به الوزير جباية المال وإنفاقه وضبطه.

وفي القرن الرابع كان مرتب الوزير خمسة آلاف دينار في الشهر، ثم رفع إلى سبعة آلاف، غير مرتبات لأولاده، وهو مبلغ ضخم إذا قيس بالوقت الحاضر، وخاصة إذا علمنا أن قوة الدينار الشرائية كبيرة جدًا بالنسبة إلى الجنيه في عصرنا. ولكن إذا فهمنا أن واجبات الوزير إذ ذاك كانت تستدعي نفقات هائلة استصغرنا هذا المرتب. فبيته كان مضيفة عامة لأصحاب الحاجات والعلماء والشعراء، فمثلًا كان في دار الوزير ابن الفرات مطبخان، مطبخ للخاصة ومطبخ للعامة، ولا يُحصى ما كان يدخل المطبخين من الحيوان لكثرته، ولا ينقطع الخبَّازون عن الخبز فيه ليلًا ونهارًا، وكانت ألوان الطعام توضع وتُرفع على مائدته أكثر من ساعتين.

هذا عدا ما كان واجبًا عليه من إهداء الثياب في المناسبات، وما كان يمنحه من المرتبات الشهرية لكثير من الأسر.

ذلك لأن الحالة الاقتصادية كانت سيئة، فهذا الغنى المفرط في قصور مثل هؤلاء الوزراء يقابله فقر مدقع في بيوت الشعب، والثروة المركزة تستوجب واجبات كثيرة وأعباء ثقيلة على ذويها.

وقد قالوا إن بيت ابن الفرات هذا كان مدينة بذاتها، فيها المطابخ والخياطون وصانعو الحلوى والقائمون على الشراب وصانعو الشمع إلخ.

وكان هذا الغنى الوفير والجاه العريض «على كف عفريت» فاليوم في الصدر وغدًا في القبر. والحكومة حكومة استبدادية محضة يرجع الأمر فيها إلى إرادة ولي الأمر، وهو في ذلك العصر الملك البويهي، رقبة الوزير وثروته متوقفة على كلمة من هذا الملك، يرضى فتقبل الدنيا على الوزير لا إلى حد، ويغضب فتُدبِر الدنيا عنه لا إلى أحد. ليس للوزير في الحياة ولا حق في الملك، بل حياته وماله رهن إشارة الأمير، والأمير قلما يسلم من الغضب، فالوزير قلما يسلم من القتل والمصادرة.

ولهذا كان تاريخ الوزراء في هذا العصر تاريخًا عجيبًا؛ فالوزير ابن الفرات نُكِبَ وصودرت أمواله، والوزير ابن مقلة الخطاط المشهور قُطعت يده ثم قُطع لسانه بعد ثلاث سنين، وبقي في الحبس حتى مات، والوزير المهلبي ضربه سيده مرة مئة وخمسين مقرعة، ولما مات قبض معز الدولة البويهي على عياله وأتباعه وصادر كل أملاكهم، وابن بقية الوزير سملت عينه ثم طُرح للفيلة وصُلب على شاطئ دجلة وهو الذي قال فيه الشاعر قصيدته المشهورة: «علو في الحياة وفي الممات» إلخ إلخ.

ولهذا كثر في الأدب العربي في تلك العصور التحذير من هذه المناصب كالوزارة والقضاء، وقيلت الحكم الكثيرة في النصح بالابتعاد عنها، لأن تحقيقهم للعدالة في مثل هذه الظروف غير ممكن، وطمأنينتهم على أنفسهم وأموالهم مفقودة.

وكان الظن والوزارة على هذه الحال وقلَّ منهم من سلم برأسه أن يفر الناس منها فرار الخروف من السكين. ولكنهم — مع العجب — كانوا يتنافسون فيها ويدبرون المؤامرات والدسائس لمن يتولاها حتى يُخلع ويُقتل ويُصادر فيحلوا محله، ويتسابقون إلى الرشا لينالوا الوزارة، حتى حكوا أن أحدهم وعد بثمانية ملايين من الدراهم إذا ولي الوزارة، فتعهد الوزير الذي في المنصب أن يدفع ستة ملايين ويبقى في الوزراة، وهكذا كان كرسي الوزراة كرسيًّا مسحورًا من جلس عليه فقد وعيه، ومن بعد عنه جذبه ببريقه ولو كان فيه حتفه. ولله في خلقه شئون.

في هذا المحيط الذي وصفنا ألّف الماوردي كتابه «قانون الوزارة».

•••

ومن عادة العقل الغربي الميل إلى التحليل، فلو كُتب في موضوع حلله حتى يستقصيه؛ يظهر ذلك جليًّا في تأليفه وأدبه في المقالات والروايات ونحوها، ومن عادة العقل الشرقي الميل إلى التركيب وخاصة في العصور الوسطى قبل أن يُنهج المنهج الغربي في العصور الحديثة، فهو أميل إلى الكليات، وأميل في الأدب إلى الأمثال والحكم.

فلو كتب كاتب غربي في قوانين الوزارة لذكر المبادئ العامة وحللها وأبان تفاصيلها وطبقها على المعروف منها في زمانه.

أما الماوردي فقد ذكر بعض هذه المبادئ، ولكنه لم يلبث أن لجأ إلى الحِكَم والأمثال والشواهد الأدبية من غير أن يتعرض لتفاصيل الموضوع والاستشهاد بأحداث الزمان.

ومع هذا ففي الكتاب لفتات قيمة، ونظرات دقيقة صائبة، وقد وضع كتابه لوزير معين لم يسمه، وجَّه إليه خطابه، ولم أهتد أنا إلى تعيينه.

من هذه اللفتات تحديده لمركز الوزير بين الرعية والملك؛ إذ يقول: «وأنت أيها الوزير، أمدك الله بتوفيقه في منصب مختلف الأطراف، تدبر غيرك من الرعايا، وتتدبر بغيرك من الملوك، فأنت سائس مسوس، تقوم بسياسة رعيتك، وتنقاد لطاعة سلطانك، فتجمع بين سطوة مطاع وانقياد مطيع، فشطر فكرك جاذب لمن تسوسه، وشطره مجذوب لمن تطيعه، وهو أثقل الأقسام الثلاثة محملًا، وأصعبها مركبًا؛ لأن الناس ما بين سائس ومسوس وجامع بينهما».

وعنده أن الوزير عليه جملة مسئوليات:
  • (١)
    تنفيذ أوامر السلطان: وقد تعرض عند ذلك لنقطة شائكة، وهي ما إذا أبدى السلطان رأيًا لم يرضه الوزير: وخلاصة رأيه «أن الوزير يردّه عن الخطأ باللطف ويقوي عزمه على الصواب بالحمد». وكذلك إذا كان الرأي من قبل الوزير فعارضه السلطان، فعند ذلك يستوضح السلطان أسباب معارضته بلطف، فإن اقتنع برأي السلطان عدل عن رأيه هو ونفذ رأي السلطان مع شكره، وإن كان الصواب مع الوزير فإن أقنع السلطان نفذه، وإن لم يستطع إقناعه توقف عن تنفيذ رأيه، وكان الذي يتحمل مسئولية التوقف هو السلطان، ولا أدري لماذا لم يدر في خلد الماوردي استقالة الوزير.

    ومن ألطف ما روي في هذا الباب، أن للسلطان على الوزير حقوقًا، وللوزير على السلطان حقوقًا، فحقوق السلطان على الوزير قيام الوزير بمصالح ملكه بعمارة بلاده وتقويم أجناده، وتثمير مواده، وحياطة رعيته، ثم القيام بمصالح نفس السلطان من إدراك كفايته، وتحمل عوارضه وتهذيب حاشيته، ثم القيام بمقاومة أعدائه من تحصين الثغور، واستكمال العدة، وترتيب العساكر. وأما حقوق الوزير على السلطان، فتقوية يده، وتنفيذ رأيه، وإطلاق كفايته، وألا يجعل لغيره عليه أمرًا، ثم ألا يؤاخذه من غير ذنب، ولا يقدم عليه من دونه، ولا يمكِّن منه عدوًا، ثم ألا يرتاب السلطان في باطن الوزير متى كان ظاهره سليمًا، وألا يستبدل به غيره متى استقام نظره وعمله، ثم ألا يحمله ما ليس في قدرته، ولا يكلفه فوق ما في طاقته.

  • (٢)
    علاقة الوزير بمن تحت يده من الموظفين: والوزير في هذا يجب أن يطلق يدهم في التصرف متى وثق بهم. وأما المسائل الهامة التي يرجع فيها الموظفون إلى رأيه فعليه أن يتحرى المسائل قبل إبداء الرأي، ويعرف وجه الخطأ والصواب فيها.
  • (٣)
    علاقة الوزير بالشعب: وخلاصة رأيه فيها أن لكل صنف من أصناف الشعب كالزراع والصناع والتجار تقاليد يجب مراعاتها ثم معاملتهم كلهم بالإنصاف. ثم عدم تدخله هو ولا السلطان في مكاسبهم حتى ولا من طريق التجارة (لأن هذا وهن في السياسة، وهم إن زاحموا العامة في مكاسبهم أوهنوا الرعية، وعاد وهنها عليهم، وقد قال رسول الله: إذا اتجر الراعي أهملت الرعية).

ثم أهم واجبات الوزير في نظر الماوردي:

الدفاع: دفاع الوزير عن الملك من كل ما يمسه، فيقود الرعية إلى طاعته بالرغبة، ويكفهم عن معصيته بالرهبة، وقد بلغ المأمون أن الجند شغبوا بخراسان ونهبوا، فكتب إلى عامة بها: لو عدلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينهبوا، ودفاع الوزير عن المملكة من أعدائها بإعداد العدة، ومعاملة كل عدو بما يناسبه، من المقابلة والمسالمة، أو الملاطفة والملاينة، أو السطوة والمخاشنة، ودفاع الوزير عن نفسه من خصومه، وهؤلاء يدفعون بالملاينة إن نجحت؛ وأهم من ذلك ألا يمكِّنهم من نفسه بأخطائه وظلمه، فإن لم ينجح الحلم فالشر بالشر، ثم الدفاع عن الرعية من الخوف والاختلال، وذلك بإعانتهم على صلاح معايشهم، ووفور مكاسبهم، وعدم مغالاة الحكومة في طلب ما تظنه من حقوقها، وإحاطتهم بكف الأذى عنهم، ومنع الأيدي الغالبة منهم.

واهتم كثيرًا بالتنبيه على أن يكون الوزير متصفًا بالإقدام، والإقدام في نظره يجمع بين صفة الحزم والعزم؛ فالحزم تدبير الأمور بموجب الرأي، والعزم تنفيذها في أوقاتها المُقدَّرة لها والإقدام نوعان: نوع في اجتلاب المنافع للدولة كالتوسع في الملك، ولأن يُنال ذلك بطريق الاحتيال، خير من أن يُنال بطريق القتال، وكجلب الرفاهية للرعية في داخليتها، كتعمير الأرض وحماية الزراعة والتجارة وتنشيطهما؛ وعماد ذلك كله العدل، وأما دفع المضار فبعلاج كل داء بدوائه، فإذا اختلفت الأمور بالإهمال عولجت باليقظة، وإذا كان من الجور عولجت بالعدل. وإذا كان الوزير المتولي هو المسئول عن الخلل كان مؤاخذًا على حصوله ومطالبًا بجبره، وإن كان صادرًا عن غيره كانت جريرة الإساءة على ذلك الغير، وواجب العلاج على الوزير المتولي.

وذُكر أن من أهم صفات الوزير الحذر؛ واهتمامه بهذه الصفة كل الاهتمام راجع إلى ضروف زمانه التي أشرنا إليها قبل، وقد قسّمه إلى حذر من الله، وهذا يحمله على إطاعته في تدبير شئون الرعية بالعدل، ويمنعه عن الظلم والجور، وحذر من السلطان، وهذا يحمله على ملاينته ومجاملته، ونصح الوزير الذي كتب له هذا الكتاب بقوله: «اقبض نفسك إذا قدمك، وتواضع له إذا عظمك، واحتشمه إذا آنسك، ولِنْ له إذا خاشنك، واصبر على تجنيه إذا غالظك». وعرض لما إذا حدث بينهما خلاف في الرأي، وقد روينا خطته في ذلك من قبل، وحذر من الزمان وتقلبه، وهذا يحمله على الاستعداد لنوائبه، بفعل الجميل وغرس الصنائع، لتكون ذخرًا له عند الشدائد، وأخيرًا الحذر من أهل الزمان، فالوزير محسود بما فيه من النعمة، وهو محاط بكثير من الأعداء.

ثم استعرض أصناف الناس وكيف يعامل كل صنف.

ثم عقد فصلًا للموظفين، وما للوزير من سلطة في التولية والعزل، والقواعد التي يرعاها في ذلك.

وفصلًا في بيان ان الوزارة نوعان: الأول وزارة التفويض، وهي الوزارة المعروفة عندنا في إدارة شئون الحكم، من عقد وحل وتولية وعزل، ووزارة أخرى تسمى وزارة التنفيذ، وهي التي يعهد فيها الملك لشخص بمهمة خاصة ينفذها حسبما رأى الملك.

وأخيرًا عرض لنصائح عامة هامة للوزير مثل: «اختبر أحوال من استكفيته لتعلم عجزه من كفايته، وإحسانه من إساءته، فتعمل بما علمت من إقرار الكافي وصرف العاجز وحمد المحسن وذم المسيء اقتصر من الأعوان بحسب حاجتك إليهم، ولا تستكثر منهم لتتكثر بهم، فلن يخلو الاستكثار من تنافر يقع به الخلل، أو اتفاق يتشاكل به العمل،لا تعول على التهم والظنون، واطرح الشك باليقين تثبت فيما لا تقدر على استدراكه، احذر قبول المدح من المتملقين، فإن النفاق مركوز في طباعهم، اعتمد بنظرك إحماد سلطانك وشكر رعيتك، وسِّع قلبك فالقلب الضيق لا تحسن به الرئاسة، اجعل يومك أسعد من أمسك، وصلاح الناس عندك بصلاح نفسك، ومِلْ إلى اجتذاب القلوب بالاستعطاف، وإلى استمالة النفوس بالإنصاف، تجدهم كنوزًا في شدائدك، وحرزًا في نوائبك إلخ».

وقد ختم الكتاب بقوله: «وقد أوجزت لك أيها الوزير ما إن كان علمك به محيطًا ذكَّرك، وإن كنت غافلًا عنه أنذرك. والله يمدك بتوفيقه وبعينك على طاعته».

•••

وهذا كما ترى بدء لطيف، واتجاه طريف، اتجه مؤلفه من نحو ألف عام إذ لم يكن يحسن الأوربيون الإتيان بمثله، ولكن مصيبتنا أن كثيرين من نوابغنا ابتكروا في التفكير. وقالوا الكلمة الأولى في الموضوع، ثم لم يأت بعدهم من يقول الكلمة الثانية. فوقفنا عند الكلمة الأولى، وظننا أنها كل شيء، وقلدنا ولم نبتكر، وعُنينا بالرواية دون الدراية، وبالتقليد دون الاجتهاد — وكان هذا موقفنا في كل فرع من فروع العلم؛ كان هذا موقفنا في كتاب «الحيوان» للجاحظ وقد بنى كثيرًا مما قال على التجربة والملاحظة. وكان هذا موقفنا في كتاب «الأحكام السلطانية» وما أبداه الماوردي من آراء في القانون الدستوري، وكان هذا موقفنا في مقدمة ابن خلدون وما ابتكره من علم الاجتماع — وظللنا وقوفًا حتى أتتنا التكملات من الخارج لا منا. ولو سرنا السير الطبيعي في بناء الخلف على أعمال السلف لكان نمونا كنمو الشجرة من داخلها لا بتضخيمها تضخيمًا صناعيًّا من خارجها، وكنمو الطفل إلى رجل لا تضخم الطفل بكثرة ملابسه. فما أحوجنا إلى البناء لنعوض به ما فقدنا بالخمول والخمود!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤