في الهواء الطلق (٢)

عدت فجلست جلستي على البحر ونفسي.

هذا هو البحر لست أرى إلا ظاهره، أمواج يلعب بها الهواء، وألوان تجمعت من صفرة الرمل وزرقة السماء، أما ما في باطنه من مملكة بل ممالك، من أسماك ووحوش ولؤلؤ ومرجان فلست أراها ولكني أعلمها.

وهذا هو الشأن في الرواية التمثيلية التي شهدتها أمس. رأيت الممثلين من رجال ونساء وشبان وكهول، وكلام يقال وأعمال تصدر، ولكن هذا هو الظاهر فقط، وراء هذا كله ما لم نره وهو الأهم، مؤلف يؤلف الرواية، ومخرج يعدها وممثلون يحفظون أدوارهم، ومناظر تعد، وأدوار توزع على اللائقين بها، وملقن يستعد أن يلقن من نسي ونحو ذلك من أمور باطنة ليس مظهر الرواية إلا انعكاسًا لها.

وهكذا كل أمور الدنيا، ظواهر تستر البواطن.

فعد إلى نفسك تر أن كل أعمالك التي تظهر أمام الناس من خير وشر ليست إلا ظواهر كمظهر البحر ومظهر التمثيل، تنبعث من عوامل باطنة تجمعت فيَّ من يوم كنت حملًا في بطن أمي.

لقد احترقت أختي الشابة من نار هبت فيها وأنا جنين، فغذيت بدم حزين، فلعله أثّر في أثرًا كبيرًا إلى اليوم، أميل ما أكون إلى الحزن، تعجبني الأدوار الحزينة في الغناء، والمأساة دون الملهاة في التمثيل، وأسُرُّ للدمعة تسقط من عيني أكثر من الضحكة تظهر على فمي، وتهتز أعصابي لعوامل الحزن أكثر مما تهتز لعوامل السرور، وليس ببعد أن يكون كل هذا من أجل كوب من دم حزين كون جسمي في بدء التكوين.

ها أنا ذا خجول أتعثر في مشيتي إذا شعرت أن أحدا ينظر إلي، وأكره الاجتماعات والحفلات، وأن أمر بين قوم جلوس في مأتم أو حفل، وأحسب ألف حساب لكل ما يصدر مني من عمل أو تأليف خوف أن يأتي هزيلًا يستخفه الناس. ولا أستطيع أن أنظر في وجه من يحدثني أو أحدثه وهكذا، ولا شك أن هذه عادة تكونت منذ الصبا أيام كان والدي رحمه الله يكثر من صيغ النهي «لا تقل هذا» «لا تفعل هذا» وأيام كان يعاقبني العقاب الشديد على الغلطة اليسيرة، أو حتى ما ليس غلطة من الصغار. كل هذا سلبني حرية العمل وسلسلني بقيود كانت نتيجتها هذا الخجل.

وهكذا لو تتبعت كل ما يصدر مني من عمل، وما أتصف به من صفات لسهل عليَّ الرجوع بها إلى أحداث تجمعت في بطء وتدرج منذ الطفولة، ونمتها أو أضعفتها حوادث الصبا والشباب والكهولة.

فكم في من صور رسمها كتاب سيدنا الأول بحدته وشدته، وكتاب سيدنا الثاني بلينه وفوضاه، ومن صور رسمها أبي وأمي وإخوتي، ومن صور رسمتها مدرسة والدة عباس باشا الأول بمدرستها في الرياضة الشديد القاسي ومدرسها في اللغة العربية اللين المرح، وتلاميذها المختلفي الأشكال والألوان كل هذه الصور وأمثالها اختفت في الوعي الباطن كما يختفي السمك في هذا البحر، ولكن لا تزال تعمل عملها في البواعث لي على العمل أو الترك وتنعكس صورها بأشكال شتى على أعمالي الظاهرة.

بل بعض هذه الصور غرقت في الأعماق، ولست أذكرها مهما أجهدت ذاكرتي في استحضارها، وهي مع ذلك تعمل عملها وتلعب دورها، وهذا يفسر ما يحدث مني ولا أدري كيف أتيته، وما أتجنب ولا أدري كيف تجنبته , وما لم أضع يدي على هذه الصور الغريقة في الأعماق وأخرجها إلى نور الشمس فلا يمكن العلاج ولا الإصلاح.

وإن الصور التي اختزنتها في حياتي لا تماثل أي صور اختزنها أي إنسان غيري، ولذلك كانت مشاعري وعقليتي وبواعثي وأغراضي ونظرتي إلى الدنيا وتقويمي للأشياء وحكمي لها أو عليها لا يشاركني فيها جميعًا أي إنسان آخر في الوجود، وإنما يقرب مني في تفكيري ومشاعري من حاز في حياته صورًا تشبه صوري؛ ومن أجل هذا اختلف الناس في الحق والباطل وتقدير الجميل والقبيح، وما يجب أن يعمل وما يجب أن يترك، واختلفت نفوسهم كما اختلفت وجوههم، وكأن كل إنسان أمة وحده.

وندر أن يمنح إنسان ما صحة كاملة في مشاعره وعقله كما ندر أن يمنح صحة كاملة في جسمه، بل لكل إنسان مواطن ضعف، هذا ضعيف الذاكرة، وهذا بليد الشعور وهذا حاد العاطفة. وهذا ضيف الإرادة، وهكذا من آلاف الأشكال والألوان. فإذا أضيف إلى ذلك اختلاف ما يختزنه الأشخاص في حياتهم من صور بسبب ما يعرض لهم من أحداث كان الاختلاف بينهم أتم وأوضح.

هذا كله يسلمنا إلى نتيجتين:
  • النتيجة الأولى: أن كل إنسان له قانونه، وليس هناك قانون إصلاحي أخلاقي يسري في تفاصيله على الجميع، وأن لكل إنسان متاعبه الخاصة الناشئة من تاريخه الخاص لا يشاركه في كميتها وكيفيتها غيره، وأنه إن أريد معالجتها يجب أن نسير فيها سيرنا في طب الأجسام، فلا يمكن لطبيب أن يصف علاجًا عامًا لمرضى مختلفين، ولا يمكن أن يعالج المريض غيابيًّا، بل لا بد أن يضع يده على مكان المرض ويعرف أسبابه ثم يصف دواءه.

    وأصعب الأمر في علاج النفس أنها في كثير من الأحيان تخدع نفسها وتغشها وتكذب عليها وتجتهد في إخفاء عيوبها عن نفسها لأنها تشعر بالنقيصة في الإقرار بعيبها حتى أمام نفسها، فما أصعب أن نضع أيدينا عليها من وراء حجبها، فقد يكون في باطن نفوسنا شعور بالكره لآبائنا أو أمهاتنا أو زوجاتنا لسبب من الأسباب، وواجب الوفاء يقضي بحبهم، فتتعقد المشاعر، وقد نحب أن نعمل أشياء والتقاليد الاجتماعية تأبى الإتيان بها، أو نحب أن نتجنب أعمالًا والواجبات الاجتماعية ترى وجوب عملها ونحو ذلك، فتكتب في نفوسنا مشاعر قد لا ندركها في وعينا الظاهر.

    لذلك كان من أهم النعم أن يُرزق الإنسان صديقًا يفضي إليه بمكامن نفسه، ثم يشجعه هذا الصديق أن يقول كل شيء من غير أن يظهر له شيئًا من الاحتقار، وفي كثير من الأحيان يكون المانع من إظهار كوامن النفس ما اعتاده الإنسان من أنه لا يتكلم ولا يفكر إلا إذا مر الكلام والفكر على «الرقيب» يحجز منه ما شاء، فتبقى مواضع الداء كامنة لا تُعرف، فإن هو خدّر الرقيب حتى لا يحجز شيئًا، ولم يخضع للمنطق، وترك نفسه على سجيتها تتحدث بما يخطر لها من غير رقيب ولا منطق، أعان ذلك على ظهور الصور المخزونة على حقيقتها، وأمكنه معرفة كوامن الداء فيها.

    وأيًّا ما كان فلا تزال كلمة سقراط «اعرف نفسك» من أصعب الأوامر وأعقدها.

  • والنتيجة الثانية: ما تشعرنا به هذه المقدمات من وجوب التسامح والعفو والمغفرة لما يصدر من غيرنا، فلهم فيما يأتون به عذرهم، فهو ليس إلا نتيجة طبيعية لما اختزنوه من صور أعماق نفوسهم ولو كنا مكانهم لفعلنا فعلهم.

وهنا هبت ريح قوية أطارت الأوراق من يدي فجريت وراءها أجمعها وعاد إليَّ وعيي بما حولي وبالبحر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤