الفكاهة في الأدب العربي

١

الفكاهة عنصر هام من عناصر الأدب، لأن الضحك جزء من حياتنا يؤدي وظيفة روحية وفسيولوجية فيجب أن يكون له في سائر الفنون ما يغذّيه ويبعث عليه، ولأن الفكاهة تؤدي وظيفة اجتماعية كبيرة في تسلية النفوس وتقويم الأخلاق والعمل بتقاليد المجتمعات ومواضعاتها، فأنا أعتدل في مشيي وأنظم حركاتي وأنتظم في هندامي وأتخير ألفاظي وأطلب الكمال في كل شيء حذر أن يسخر الناس مني ويتخذوني موضوع فكاهتهم ودعابتهم وسخريتهم.

والأديب الماهر لا بد أن يكون لديه القدرة على الفكاهة، سواء كان شاعرًا أو خطيبًا أو كاتبًا أو قصّاصًا أو روائيًّا، فهو بهذه الملَكَة يستطيع أن يصل إلى نفوس سامعيه، ويفتحها لآرائه، ويدسّ في ثنايا فكاهته ما يريد من المبادئ والنظريات فيتقبّلها القارئ أو السامع في لذة ومتعة ويكون ذلك أفعل في نفسه، ولهذا ينجح الأديب الفكِه أكثر مما ينجح الأديب العابس.

وقد أدرك هذا مؤلفو العرب من قديم فكانوا يعمدون إلى خلط الهزل بالجد والفكاهة بالعلم، وقد قال ابن قتيبة في كتاب «عيون الأخبار»: «ولم أخل هذا الكتاب من نادرة طريفة، وفطنة لطيفة، وكلمة معجبة، وأخرى مضحكة، لأروّح بذلك عن القارئ من كدّ الجدّ، وإتعاب الحق، فإن الأذن مجّاجة وللنفس حَمْضة، والمزح إذا كان حقًا أو مقاربًا ليس من القبيح ولا من المنكر».

وكذلك نوّه الجاحظ بهذا وجرى على هذا المبدأ في تآليفه، خالطًا الجد بالفكاهة وجرى على أثرهما المؤلفون.

وكما أن الأمم تختلف في تقويمها للضحك والفكاهة وقدرتها على تذوق النكتة والضحك منها كذلك الآداب تختلف كثرة وقلة في الفكاهة وأنواعها وألوانها، والأمم العربية من أكثر الأمم تقديرًا للفكاهة، وأدبها من أغنى الآداب في هذا الباب.

وقد ورد في اللغة العربية ألفاظ كثيرة تدل على ألوان مختلفة من الفكاهة، كالمزاح والهزل والتندر والنكتة واللذع والتهكم والسخرية إلى غير ذلك.

وإن الباحثين في الضحك وأسبابه من علماء النفس ذكروا أن موضوع الضحك قد يكّون الأشكال المضحكة وهي غير الأشكال الدميمة كمن يتلاعب بحركات وجهه، ومن هذا القبيل كل الصور الهزلية وقد يكون التقليد، كتقليد البدوي للحضري والحضري للبدوي والطفل الصغير لأعمال الرجل الكبير، والمجنون للعاقل، والعاقل للمجنون، أو رجل يحاكي القرد أو قرد يحاكي الرجل وهكذا وقد يكون سبب الضحك التلاعب بالألفاظ والجمل كالجمع بين جمل لا تربطها رابطة وإنما هي مفارقات، أو إجابة تكون عكس ما يُنتظَر في مثل هذا الموقف، أو نقل لفظ من معناه إلى معنى آخر، أو الانتقال من المعنويات إلى الماديات، كقولنا إن فلانًا ذكر عالم رزين وشعره أسود، إلى نحو ذلك من ألفاظ وجمل تثير صورًا ذهنية مضحكة وقد يكون سبب الضحك الأخلاق التي تثير فينا السخرية من صاحبها، كضحكنا من المزهو بنفسه على غير أساس، والرجل الشديد الأنانية والطماع الشديد الطمع ونحو ذلك.

وقد تناول الأدب العربي الفكاهة من هذه النواحي كلها وأمثالها، فكان من أوسع أبواب الشعر العربي باب الهجاء، وليس إلا تصوير الهاجي للمهجو صورة هزلية تثير السخرية والضحك، وقد حفل العرب به أشد احتفال لأنه مرتبط بنوع حياتهم الاجتماعية، إذ هم يحرصون على المروءة التي هي الشجاعة والكرم ويحرصون على حسن السمعة، وفي الوقت عينه يقدّرون الشاعر تقديرًا كبيرًا لأن قوله يشيع في الناس شيوع أقوال الجرائد اليوم، ولأن القبائل تجتهد في حماية شرفها وتتخاصم بالنيل من شرف غيرها، فكانت هناك معارك شعرية بجانب معارك السيف، المتحاربون فيها هم الشعراء يمثلون قبائلهم في هجاء غيرهم وتصويرهم بالصور التي تثير الضحك والسخرية، ولعل خير الأمثلة في ذلك ما كان بين جرير والفرزدق والأخطل من الأهاجي التي ملأت جو العرب ضحكًا وسخرية وغضبًا وتحمسًا كقول جرير في الفرزدق يسخر منه بحقارة بيته وبصناعة أهله وهي الحدادة:

أعددت للشعر سمًا ناقعًا
فسقيت آخرهم بكأس الأول
لما وضعت على الفرزدق ميسمي
وصغا البعيث جدعت أنف الأخطل
أخزى الذي سمك السماء مجاشعًا
وبنى بناءك في الحضيض الأسفل
بيتًا يُحمَّم قينكم بفنائه
دنسًا مقاعده خبيث المدخل
ولقد بنيتَ أخس بيت يُبتنى
فهدمتُ بيتكم بمثلى يَذْبَل
إني بُني لي في المكارم أولي
ونفختَ كِيرَكَ في الزمان الأول

إلى كثير من أمثال هذا.

وقد وصل إلى القمة في هذا الباب ابن الرومي فيما بعد، فتفنن في رسم الصور المضحكة لأعدائه وخصومه أيما تفنن كقوله في وصف بارد ثقيل:

يا أبا القاسم الذي ليس يُدرَى
أرصاص كيانه أم حديد
أنت عندي كماء بئرك في الصيـ
ـف ثقيل يعلوه برد شديد

وقوله:

وجهك يا عمرو فيه طول
وفي وجوه الكلاب طول
مقابح الكلب فيك طرًا
يزول عنها ولا تزول
وفيه أشياء صالحات
حماكها الله والرسول
فالكلب واف وفيك غدر
ففيك عن قدره سفول
وقد يحامي عن المواشي
وما تحامي ولا تصول
وأنت من بين أهل سوء
قصتهم قصة تطول
وجوههم للورى عظات
لكن أقفاءهم طبول
مستفعلن فاعلن فعول
مستفعلن فاعلن فعول
بيت كمعناك ليس فيه
معنى سوى أنه فضول

وهجا رجلًا بطول أنفه فقال:

حملت أنفًا يراه الناس كلهم
من رأس ميل عيانًا لا بمقياس
لو شئت كسبًا به صادفت مكتسبًا
أو انتصارًا مضى كالسيف والفاس

وهجا بخيلًا اسمه عيسى:

يقتر عيسى على نفسه
وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره
تنفس من منخر واحد

وديوانه مملوء بمثل هذه الصور الساخرة.

وإذا عيب هذا الضرب من السخرية بشيء ففي أنه في كثير من الأحيان صريح مكشوف وكان يكون أرقى لو أنه خفي ملفوف.

وهناك لون آخر فشا في الأدب العربي وهو السخرية بالضعف الخلقي عن طريق القصص القصير، ومن أقدم ما روي لنا في هذا الباب ما روي لنا من الفكاهات الحلوة عن أشعب الطماع، وقد كان مولى يسكن المدينة، وأحيانًا يسكن مكة أو الطائف، ثم طلبه الوليد بن يزيد ليكون من ندمائه، وقد امتلأ الأدب العربي بنوادره القصيرة في طمعه كالذي رووا أن صديقته قالت له: هب لي خاتمك أذكرك به؟ قال لها: اذكريني بالمنع. وسُئل مرة عن مبلغ طمعه فقال: «ما رأيت اثنين يتسارّان إلا ظننت أنهما يأمران لي بشيء». وقال مرة للأطفال ليبعدوا عنه: إن سالم بن عبد الله يفرّق تمرًا فذهبوا، فلما أبطئوا ظن أن الأمر صحيح فذهب إليهم. وهكذا. وكان رجال الحجاز يجتمعون فيتسامرون ويدعونه يحدثهم بنوادره المضحكة. وخلفه ابنه بعده في هذا الباب، وتزيد الناس عليه فكانت كل حكاية طمع ظريفة تُنسَب إلى أشعب.

فلما جاء دور التأليف في العصر العباسي رأينا هذا الباب يزيد ويتسع ويكون موضوعًا للتأليف فيؤلف فيه الجاحظ نوادر المعلمين ونوادر البخلاء، وابن الجوزي نوادر الحمقى والمغفلين، وبلغ القمة في هذا الباب «جحا» فكان شخصية عجيبة ونُسبَت إليه كل قصة مضحكة فيها نقد لاذع وغفلة مضحكة وحكمة مستترة، فكانت شخصيته بأصلها وما زيد عليها إحدى روائع الأدب العربي في هذا الباب.

٢

وهناك ألوان أخرى في الأدب العربي من الفكاهة: منها ما اعتاده الملوك والوزراء والأمراء من اختيار ندماء في مجالسهم للتسلية والسمر والتفكُّه، وقد قلّد العرب في ذلك الفرس، فكاد يكون لكل خليفة ووزير نديم يراعي في اختياره خفة الروح وسعة الاطلاع وحسن الحديث والقدرة على الترفيه، بما يروي من أحاديث ونوادر طريفة، فإذا كان الخليفة أو الوزير مثقفًا ثقافة واسعة فالنديم يأتي بالطرف الثقافية، وإن كان من ذوي الميل إلى رغبة من الرغبات فحديث النديم يدور حول هذا؛ ففي العصر الأموي مثلًا اشتهر أشعب هذا، وقد اتخذه الوليد بن يزيد نديمًا له ومضحكًا. وفي العصر العباسي اشتهر أبو دلامة نديم السفاح والمنصور والمهدي، وقد كان شاعرًا فاستخدم شعره في السخرية والمجون والفكاهات اللاذعة يوجهها إلى كل من اتصل به حتى نفسه، ووضع قصيدة في بغلته فعابها بكل نقيصة. ومن هذا النوع كان الأصمعي للرشيد، فقد كان يشيع السرور عنده بما يرويه من نوادر الأعراب وملحهم مما مُلئَت بها كتب الأدب، كما اشتهر أبو العيناء تلميذ الأصمعي، وقد امتاز بنوع من الفكاهة وهي سرعة بديهته وإجابته المفحمة، وقد كفّ بصره وهو في سن الأربعين، وكانت نوادره وملحه وإجاباته مثار الضحك والفكاهة والتنادر الظريف، وكان نديمًا للبرامكة وفيًّا لهم بعد نكبتهم، وقال المتوكل لولا أنه ضرير لنادمناه، فقال أبو العيناء: إن أعفاني المتوكل من رؤية الأهلة وقراءة نقش الفصوص فأنا أصلح للمنادمة، وقيل له: إلى متى تمدح الناس وتهجوهم؟ فقال ما دام المحسن يحسن والمسيء يسيء، وأعوذ بالله أن أكون كالعقرب يلدغ النبي والكافر.

واستمرت عادة الخلفاء في اتخاذ الندماء طوال العصور حتى كان قريبًا من عصرنا الشاعران الشهيران السيد علي أبو النصر والسيد علي الليثي نديما الخديو إسماعيل، تُروى عنهما الملح الطريفة والنوادر الظريفة.

وهؤلاء الندماء أغنوا الأدب العربي بالفكاهات حتى لو جُمع ما أثر عنهم لبلغ المجلدات.

•••

وأولع العرب بنوع من الفكاهة طريف وهو الأجوبة المسكتة المفحمة وخصصوا له الفصول في كتب الأدب كما فعل ابن عبد ربه في العقد الفريد، وقد ظهر هذا النوع بكثرة أيام الانقسام بين شيعة علي بن أبي طالب وشيعة معاوية، فاتخذوا هذا الموضوع مثارًا للأسئلة والأجوبة الممتعة، وتفوق شيعة علي في هذا الباب تفوقًا بديعًا، ولا سيما بعد أن انهزم حزبهم حربيًّا، فكان من باب «التعويض» أن يجدوا لما في نفوسهم منفذًا للقول.

وقد أبدع في هذا الباب ونحوه طائفة من الممرورين وعقلاء المجانين، وهم طائفة من الناس خفيفوا الروح والعقل، أو متصوفة مدلهون أو فلاسفة شاردون تعتريهم لوثة من شذوذ، فيعبث بهم الناس في أوقات لوثتهم، فتصدروا عنهم الأجوبة المسكتة أو الأقوال الظريفة، وقد عني مؤلفوا الأدب بهذا النوع من الناس عناية فائقة فوضعوا فصولًا من كلامهم في كتب الأدب تحت عنوان «أخبار الممرورين والمجانين» أو ترجموا لمشهوريهم أمثال أبي العبر وبهلول، بل ألّف بعضهم كتبًا خاصة فيهم كما فعل النيسابوري صاحب التفسير إذ ألّف كتابًا سمّاه «عقلاء المجانين» ترجم فيه لمشهوريهم وذكر ملحهم، وعلى الجملة فكانوا كذلك مصدرًا من مصادر الفكاهة في الأدب العربي.

•••

ولما نضج النثر في العصر العباسي وبعده استُخدم في الهجاء، كما كان يُستخدم الشعر في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، فابتدع الجاحظ تصوير بعض الشخصيات تصويرًا ساخرًا في رسالة من رسائله وهي رسالة «التربيع والتدوير» سخر بها من كاتب بغدادي اسمه أحمد بن عبد الوهاب، فقد كان هذا الرجل قصيرًا ويزعم أنه طويل وجاهلًا ويزعم أنه عالم، فأخذ الجاحظ يعبث ببدنه ويعبث بعلمه ويسخر بغروره، وبهذا الضرب ملأ كل رسالته، وتبعه الأدباء على هذا النمط فوضع ابن زيدون في الأندلس مثلًا رسالته الهزلية وموضوعها أن ابن زيدون كان يحب ولاّدة بنت المستكفي ويستهويها فنازعه في حبها أبو عامر بن عبدوس فكان يراسلها ويتحبب إليها، فكتب ابن زيدون هذه الرسالة على لسان ولاّدة يهجوه فيها أشد هجو وأقساه ويضمنها كثيرًا من المعارف التاريخية، وكما فعل ابن مماتي المصري في رسالته المسماة «بالفاشوش في حكم قراقوش» وضعها في هجائه وبيان مظالمه ونسب إليه أحداثًا كثيرة يشهّر فيها بسوء تصرفه.

ويتصل بهذا ضرب قريب منه وهو الهجاء والنقد ولكن لا لشخص بعينه، بل لشخصية تصور الطمع والغرور أو البخل أو نحو ذلك. ونجد هذا النوع في بعض مقامات بديع الزمان والحريري كالمقامة المضيرية للبديع، إذ تصوِّر شخصية تكاد توجد في كل زمان، شخصية الرجل الذي يعتز بكل ما يملكه، فالثوب الذي يلبسه خير الأثواب، والساعة التي يحملها قد صنعها المصنع وحدها، ولم يصنع مثلها، والبيت الذي يملكه ويسكنه لا نظير لها، وحديقته قد نُقل إليها الأشجار من أطراف الدنيا، وكل شيء فيه من بِدَع الدنيا لا يوجد مثله عند الملوك ولا المتاحف وهكذا.

وفي بعض هذه المقامات ما يصور الأديب المحتال للكسب بأدبه ونحو ذلك من شخصيات غير معينة بالاسم ولكنها معينة بالوصف.

•••

ولون آخر من الفكاهة شاع في الآداب المختلفة وكذلك في الأدب العربي وهو أن يعمد الأدباء إلى قصيدة مشهورة جدّية فيقلبوها هزلية، أو شيء موقَّر محترم فيعبثو به، مثال ذلك ما فعلوا في قصيدة «ابن دريد» المقصورة المشهورة التي مطلعها:

يا ظبية أشبه شيء بالمها
ترعى الخزامى بين أشجار النقا

فحولوها إلى قصيدة هزلية.

وتبعهم في ذلك المحدثون فهزئوا بلامية العرب وبعض قصائد امرئ القيس ودالية النابغة الذبياني وقلدوها تقليدًا مضحكًا.

ومن هذا القبيل ما فعلوا في ألفية ابن مالك في النحو؛ إذ اختاروا منها أبياتًا كثيرة وحوّلوها إلى مهزلة في الأكل والشرب ونحو ذلك.

وابتدع الشيخ حسن الشربيني المتوفى في القرن الحادي عشر الهجري أسلوبًا في السخرية بالنحو والصرف والاشتقاق في كتابه المسمى «هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف» فقلّده من أتى بعده إلى عصرنا هذا، وهذا الكتاب ظاهره الهزل والسخرية والسخف وباطنه نقد حياة الفلاحين في عصره وبؤسهم، وظلم الحكام لهم، وأنواع المظالم التي يلقاها الفلاحون على أيديهم.

هذه بعض أنواع الفكاهات في الأدب العربي. وهناك ألوان أخرى أعرض لها في مناسبة أخرى إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤