مشاكلنا اللغوية والأدبية

يواجه العالم العربي اليوم مشاكل خطيرة في اللغة والأدب تتطلب حلولًا حاسمة سريعة.

والسبب الأكبر في هذه المشاكل أننا نواجه عالمًا جديدًا، قد قطع في المدينة والحضارة شوطًا بعيدًا، وقد تطور العالم في القرن التاسع عشر ونصف العشرين ما لم يتطوره في قرون مضت.

واللغة والأدب ما داما حيين لا بد أن يتطورا مع المدينة ويسيرا بجانبها ويتفاعلا معها، إذ هما عنصران من عناصرها ومقومان من مقوماتها.

وقد يكون هناك بعض الشبه بين الموقف الآن وموقف اللغة العربية والأدب العربي في العصر الإسلامي الأول يوم خرجا من الجزيرة العربية وواجها مدنية العراق والفرس والروم، وإن كان هناك بعض الفروق بين الموقفين، منها أن العرب قابلوا هذه اللغات واللغة العربية يومئذ لسانهم وهي ملكهم يتصرفون فيها تصرف المالك، ونحن نواجه المدنية الحديثة واللغة العربية لنا بالتعلُّم لا بالسليقة، وقد سبب هذا ضعفنا في الشعور بملكيتنا لها أقعدنا بعض الشيء عن العمل، وحملنا على الجمود، ومنها أنهم واجهوا المدنية إذ ذاك وهم غزاة فاتحون، ونحن واجهناها ونحن مغزوون مفتوحون، والشعور الأول يدعو إلى العزة والعزة تدعو إلى الجرأة، والشعور الثاني يدعو إلى الضعف، والضعف يدعو إلى التردد منها أن المدنية الحاضرة أكثر تركبًا وأشد تعقدًا، والحضارة الحديثة مقبلة والحضارات القديمة كانت مدبرة، الحضارة المعقدة المركبة المقبلة أكثر إنتاجًا وأصعب حلا وأكبر عبئًا عند الاحتياج إلى مسايرتها.

على كل حال أمامنا الآن مشاكل لغوية كثيرة أهمها:

أولًا: هذا السيل الجارف من آلاف الكلمات تضعها المدنية الحديثة لكل ما يجدّ من آلات وأدوات وتراكيب طبية ومواد كيمياوية، هذا إلى ما تضعه من آلاف الكلمات في مصطلحات العلوم المختلفة من اقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسيه إلخ، ولا بد للغتنا أن تساير هذه اللغات الغربية كما تساير حضارتنا حضارتهم، إذ اللغة ليست إلا ثيابًا يجب أن تتسع كلما اتسع الجسم وإلا لم تكن ثيابًا صالحة.

وكما توسعت اللغات الأوربية في مواجهة كل جديد بوضع كلمات له، توسعت أو عدّلت في معاني الكلمات القديمة فعددت معانيها وحددتها بحسب تقدم العلم وتطور الأشياء؛ فمثلًا تعريف الذرّة اليوم غير تعريفها منذ عشر سنين بسبب تقدم العلم، وتعريف الشعور والعاطفة والإرادة والعقل ونحو ذلك متطور بتطور علم النفس وتقدمه، وتعريف المؤتمر والحرية والمجلة والمطبعة ونحوها يختلف باختلاف تطور هذا الأشياء ومدلولاتها، فكانت معاجم اللغة عندهم متغيرة كل حين يتغير هذين العاملين: أعني المخترعات الجديدة ووضع ألفاظ جديدة لها، وتعديل المعاني وتحديدها بتغير مدلولها.

واجهت لغتنا العربية هذه المشكلة الكبرى من نحو مئة عام أو قبل ذلك، من حين الحملة الفرنسية ومن حين رأى الجبرتي المخترعات الفرنسية الحديثة فحار في تسميتها، وكلما مر يوم تعقدت هذه المشكلة وصَعُب حلها، ومعاجمنا لم تصلح إلى اليوم، والألفاظ الجديدة لم توضع إلى اليوم، وكل ما فعلنا أن بدأ بعض الأفراد يضعون كلمات لما يقابلهم في طريقهم من غير خطة مرسومة، وبدأت المجامع تتكون في مصر والشام وتواجه هذه المشكلة، وكان طبيعيًّا أن تتوزع الآراء بين محافظين يرون أن القواعد التي وضعها الأقدمون من اللغويين يجب مراعاتها والسير الدقيق عليها وعدم الخروج عنها، وأحرار يرون أن هذه القواعد لا تكفي لمواجهة الحالة الجديدة، ويجب أن يكون لنا الحق في الاجتهاد ولو خالف الأقدمين، وأن نأخذ من قواعدهم ما صلح ونزيد عليها ما يصلح لمواجهة حالتنا، وأن اللغة ملك لنا ولسنا ملكًا للغة، وكل ما يجب علينا هو أن نراعي المحافظة على العناصر الأساسية والمقومات الشخصية لكل لغة، فلا نسمح للرطانة والعجمة أن تكتسحها، وأمامنا التعريب والنحت والاشتقاق وزيادة بعض الحروف على بنية الأصول، وهي الطرق التي استعملها القدماء فلنستعملها الآن، ولنعرب كما عربوا وننحت كما نحتوا ونشتق كما اشتقوا، بل ولنضع ألفاظًا جديدة نخلقها خلقًا إذا اقتضى الحال كما فعل العرب أنفسهم إذ كانوا يلحظون في الشيء بعض صفات فيطلقون عليه لفظًا مناسبًا، فسموا نباتًا الظفرة لأنه يسب الظفر عند طلوعه، وسموا نباتًا العطف لأنه يعطف على الشجر ويلتوي عليه كاللبلاب، وسموا الثور ثورًا لأنه يثير الأرض وهكذا. وهذا باب واسع إذا فتحناه لأنفسنا أغنانا عن كثير من التعريب ولنتوسع في مدلول الكلمات عند الضرورة ولنعرف الكلمات في معاجمنا تعريفًا جديدًا كالذي دلّ عليه العلم، وكل ما في الأمر ألا نتوسع في هذه الباب توسعًا يطغى على كيان اللغة، وألا يكون الأمر في يد كل فرد يقول ما يشاء، بل لا بد أن يكون في يد أهل الاجتهاد الذي تكون لهم ذوق لغوي ممتاز يستطيعون به أن يلحظوا إيماء اللفظ ودلالته ومناسبته وجماله.

وربما كانت هاتان النزعتان نزعة المحافظين والأحرار باقيتين إلى اليوم من غير تلاق.

وننظر بعد ذلك كله فنرى المشكلة لا تزال قائمة، بل تعقدت وتركبت، فالكلمات التي أقرّها الأفراد والجماعات بالتعريب والنحت والاشتقاق والتوسع أقل بكثير مما خلقته أوربا من الأشياء وألفاظها ومعانيها وأسمائها.

وأحسب أن عدم حل هذه المشكلة يرجع إلى أن الأمور في هذه المسألة سارت في العالم العربي سيرًا مهوشًا من غير ضابط، فليس هناك اتصال وثيق بين المجامع ولا بين الهيئات ولا بين الأفراد، واللغة ملك للعالم العربي كله، والكلمة تصطلح عليها أمة يجب أن تصطلح عليها جميع الأمم العربية لما بينهم من ضرورة التفاهم، والمأمول وقد تكونت جامعة الأمم العربية أن ترسم خطة محكمة لتعاون المجامع والهيئات على تذليل هذه الصعوبات.

وسبب آخر وهو أن هذه المجاميع والهيئات اعتقدت أن مهمتها وضع الكلمات الاصطلاحية في العلوم المختلفة، وهي مهمة تنوء المجامع بحملها وليس في طبيعة تكوينها ما يمكنها من ذلك، وإنما الطريقة المثلى أن يضع الكيمياويون ألفاظهم الكيمياوية ويتعاون الكيمياويون في العالم العربي على ذلك بشتّى الوسائل وكذلك يفعل الطبيعيون والجيولوجيون وعلماء الحيوان والنبات ثم يُعرض ما وضعوه على المجامع لإقراره أو تعديله أو تهذيبه حسبما يرشدهم إليه ذوقهم اللغوي، فإذا تمّ ذلك كان إقرارهم قانونًا بهذا يسهل العمل ويسرع، وبهذا يكون العمل في يد الإخصائيين أولًا وهم أدرى بالمعاني والمصطلحات المناسبة. أما أن نكلّف لغويًّا وضع مصطلح كيمياوي وطبيعي وجيولوجي فضرب من العبث والبطء الذي لا نهاية له، ولا بأس أن يكون للمجامع الإرشاد العام لا وضع الجزئيات ابتداء، فصاحب كل بيت أدرى بما فيه.

ثم على كل هيئة كيمياوية وطبيعية وجيولوجية أن تضع معجمها الخاص بها، ثم تأخذ المجامع الألفاظ الكثيرة الشيوع الدائرة على ألسنة الناس والكتاب فتدخلها في المعاجم العامة بتعاريفها التي عرفها علماؤها مضافًا إلى مجهود المجامع في تحديد معاني الألفاظ تحديدًا يتفق وتقدم العلم وتطور المعاني والأشياء، فنحن إلى الآن لا نزال في حاجة قصوى إلى معاجم تُجاري الزمن فنحدد الحيوان والنبات والأشياء وفقًا لما وصل إليه العلم الحديث، ووفقًا لما تطورت إليه مدلولات الألفاظ في المدنية الحديثة، فقد أصبح مثلًا للجامعة والكلية والمطبعة والحكومة والمحكمة والاشتراكية والشيوعية والحوالة والصك والمدرعة والقنبلة ونحوها من مئات الكلمات معان جديدة لم يكن يعرفها العرب ولا صاحب القاموس ولسان العرب، وإنما نعرفها نحن، ومعاجمنا يجب أن تصنع لنا ولأبنائنا وتشرح شرحًا دقيقًا ما تدل عليه كلماتنا، وقد آن الآوان لمواجهة هذه المشكلة وحلها حلًا سريعًا.

•••

المشكلة الثانية الخطيرة التي نواجهها في اللغة مسألة البرزخ الذي بين اللغة العامية واللغة الفصحى، وهي مشكلة قد تبدو صغيرة ولكنها في نظري من أخطر المسائل وأهمها، وذلك لما لها من أثر كبير في حياتنا العقلية والأدبية، سواء في الخاصة أو العامة، وهي مشكلة قديمة نشأت في العصور الإسلامية الأولى منذ وجدت اللغة العامية بجانب الفصحى وصعّب على الأعاجم الإعراب فابتدعوا الوقف أي تسكين أواخر الكلمات، كما ابتدعوا أشياء أخرى مختلفة باختلاف البيئات تبعًا لاختلاف هؤلاء الأعاجم الذين خالطوا العرب، ولكن لم يشعر الأقدمون بهذه المشكلة كما نشعر بها نحن الآن، لأن العلم كان حظ عدد قليل من الناس، ولأن الحياة الاجتماعية منذ العهد الأموي كانت حياة أرستقراطية، حياة طبقات، في المال وفي المناصب، وفي الثقافة وفي العلم والفن والأدب، وكان يُتقبَّل هذا على أنه وضع طبيعي حدده القدر، فلما سادت العالم موجة الديمقراطية وصلت للشرق أيضًا وكان من تعاليمها حق الشعب في التعلم كحقه في الحياة، وليس يصح أن يكون في الأمة أمي وغير أمي، وهناك حد أدنى في الثقافة يجب أن يصل إليه أفراد الشعب مهما كان مستواهم الاجتماعي إذ ذاك أدركنا خطورة وجود لغتين: عامية وفصحى، وأن هذا أحد العوائق التي تعوق التقدم الثقافي وذيوعه.

إن ثنائية اللغة بهذا الوضع مشكلة لا يواجهها الغرب كما نواجهها، للقرب الشديد بين لغة كلامه ولغة قراءته، فما على الغربي إلا أن «يفك الخط» حتى يفهم ما يقرأ إذا كان مستوى ما يقرأ مناسبًا لعقليته، ولكن عامينا إذا قرأ صادف الإعراب الصعب وصادف كلمات فصحى لم يسمع بها، وصادف أسلوبًا لم يعتده، وهذا من غير شك يجعل انتشار الثقافة العربية لا مستحيلًا ولكن صعبًا، حتى إذا قرأ قارئ للعامي كتابًا أو صحيفة أو استمع للإذاعة لم يستطع أن يستوعب ما يقال استيعابًا كاملًا ولو كان ما يقال في مستواه العقلي.

وضرر آخر ينال اللغة العربية الفصحى نفسها، ذلك أن استعمال اللغة في الحياة الواقعية، في البيوت والشوارع والمجتمعات يكسب اللغة حيوية قوية ومرونة وتقدمًا أكثر مما تكسبها حياة الكتب، ونحن نلاحظ ذلك في لغتنا العامية، فاستعمالنا لها في حياتنا الواقعية جعلها تتجدد وترتقي كل يوم، لأن للفظ هالة غير المعاني الجامدة التي تنص عليها المعاجم، وهذه الهالات تتغير بما يحدث للفظ من تنادر ومن أخذ وردّ ومن أحداث اجتماعية وسياسية وهكذا، فإذا انحصرت الكلمات في الكتب لم تتجدد حياتها هذا التجدد.

واللغة العامية لما كانت لغة واقعية جاءتها المخترعات الحديثة والآلات الحديثة فلم تقف كما وقف رجال الفصحى وقالوا تلفون وسيما وراديو، وسمّى النجار آلاته، والحداد أدواته، وصقلوها بألسنتهم ولم ينتظروا رجال العلم والأدب.

أضرّ هذا الوضع باللغة الفصحى فلم تتجدد معاني ألفاظها التجدد الكافي، لأنها لم تنغمس في الحياة، وإنما انغمست في الكتب والصحف، وأضرّ بها من ناحية أن الأديب وقد عجز عن استعمال ألفاظ فصحى هرب من الواقع إلى الخيال ومن الجزئيات للكليات، فلما عجز عن أن يقول: إنه يلبس طربوشًا. قال: إنه يلبس قلنسوة. ولما عجز أن يقول: إنه يلبس جزمة. قال: إنه يلبس نعلًا. وفرّ من وصف أثاث حجرة أو ملبس شخص؛ لأن أسماءها إفرنجية، فقال ألفاظًا عامة ليست دقيقة.

إن شئت فانظر إلى نوع من أنواع الأدب اللطيف وهو الفكاهة والنوادر كيف نما في اللغة العامية بأكثر مما نما في اللغة الفصحى لأنها لغة التخاطب في المجتمعات والحياة العامة.

ولم أسق هذا لأقوال بتفضيل العامية على الفصحى فهذا لا يخطر لعاقل على بال، ولكن لأدلل على ما أصاب العامة والخاصة من وجود لغتين في العالم العربي بهذا الوضع.

هذا هو الداء فما الدواء؟

سؤال في غاية الصعوبة والخطورة معًا، فقد يرى قوم أن الأمور سائرة بطبيعتها سيرًا حسنًا لحل هذا المشكل، فاللغة العامية تتهذب بانتشار الثقافة وسماع الراديو والسينما والتمثيل وقراءة الصحف وما إلى ذلك، واللغة الفصحى تسهل بالصحف والمجلات وحاجة الكُتّاب إلى أن يفهمهم أكبر عدد ممكن، وهذا حتمًا يؤدي إلى تقارب اللغتين أو اتحادهما على مر الزمن.

وإني لا أنكر عمل الزمان في التقريب بين اللغتين، ولكنني من جهة أخرى أرى أن هذا التقارب إنما هو بين عدد محدود من سكان المدن كالعمال والصنّاع ومن في حكمهم، أما السواد الأعظم من الأمة وهم الفلاحون فهم بعيدون عن هذا التقارب. ومن جهة أخرى فلست أؤمن مطلقًا أن لغة العامة مهما ارتقت ستكون يومًا من الأيام لغة معربة كاللغة الفصحى، ونشر الثقافة العامة بين الشعب جميعًا يعوقه الإعراب، فنحن نعلم الطلبة نحو ثلاثة عشر عامًا تعليمًا مجهدًا، ومع ذلك قد يكون واحد منهم في الألف هو الذي يجيد الإعراب والكتابة الصحيحة والقراءة الصحيحة، فكيف نتطلب ذلك في الثقافة العامة التي تُعلَّم في زمن محدود.

وقد كنت رأيت في بعض الأوقات أن نصطنع لغة وسطًا بين العامية والفصحى تنقى فيها اللغة العامية من خرافيشها «كمفيش» و«معليش» ونحو ذلك، وتطعم بالكلمات السهلة من اللغة الفصحى وتستعمل فيها الكلمات العامية التي حرفت قليلًا عن اللغة الفصحى فيرد إليها اعتبارها، وفي الوقت عينه تكون خالية من الإعراب، تسكن فيها أواخر الكلمات ثم تستعمل هذه اللغة في التثقيف العام للجمهور وتنشأ بها مجلات وجرائد وكتب لتثقيف الشعب، ونبذل الجهد في أن يُنشر ويُتكلم بها الخاصة والعامة في حياتهم العامة، وتبقى اللغة الفصحى لتعليم الخاصة ومن يودون استكمال التعليم في الجامعات ونحوها حفظًا لتراثنا المجيد القديم وربطًا بين ماضينا وحاضرنا.

ولكن عيب هذه الفكرة صعوبة اصطناع اللغة وبثها ونشرها بين الجماهير الذين رضعوا لغتهم العامية مع اللبن، وبين أيدينا مثل على ذلك، وهو أن لغة الاسبرانتو قد اصطنعت اصطناعًا وسهّلت وسائلها وبُذل في نشرها جهود جبارة ومع هذا لم تنجح النجاح المرجوّ لها وإن كانت هناك فروق بين الاسبرانتو والرأي الذي شرحته.

على كل حال فقد أثرت هذه المشكلة وعرضت بعض حلولها لأبين خطرها وقيمة بحثها، ولعله لو اجتمع مؤتمر من رجال العالم العربي وعلمائه وأدبائه وقصروا بحثهم على هذه المشكلة وخطرها، وعرضوا للحلول الممكنة وتجردوا في بحثهم من سيطرة القديم وإلْفه ووصلوا إلى حل يرتضونه لأدّى للعالم العربي أجلّ خدمة.

•••

وأنتقل بعد ذلك إلى المسألة الثانية وهي مشاكلنا في الأدب العربي الحاضر وأحب أن أنبه إلى أني أستعمل الأدب بمعناه الواسع كالذي نستعمله عند ما نقول «كلية الآداب» فيشمل التاريخ والجغرافيا والفلسفة والأدب الصرف وما إلى ذلك.

ومشكلتنا فيه كمشكلتنا في اللغة من حيث إن الحضارة الحديثة أنتجت فيه إنتاجًا ضخمًا في جميع فروعه ونواحيه وساير أهلها فيه مقتضيات الأحوال والأزمان، وكما تقدموا في مادته وموضوعاته تقدموا في طريقة عرضه وإخراجه، ثم اعتبروا انتاج كل أمة ملكًا مشاعًا للأمم الأخرى، فلا يظهر كتاب جديد كبير القيمة في أمة حتى تنقله الأمة الأخرى إلى لغتها، حتى وضعت كل أمة حية يدها على كل ثروة العالم العلمية والأدبية ومكّنت أبناءها من السباق في الإنتاج.

وهذا ما يجب أن تفعله كل أمة تريد الحياة، فكل علم وكل أدب لا يحيا إلا بالتطعيم، وإلا بالوقوف على العلوم والآداب الأخرى حتى يُستفاد منها ويُبنى عليها، وحتى في الأدب الصرف، أمام الإنجليزي وبلغته خير نتاج الفرنسي والألماني والأمريكي والسويدي والروسي بل والشرقي، وهكذا في كل أمة.

في ضوء هذا ننظر ماذا فعل العالم العربي إزاء هذه الثروة الضخمة؟ إنه من غير شك في نهضته الحديثة قد قام بمجهود مشكور في ترجمة كثير من الكتب القيمة في شتّى فروع الأدب وفي الاقتباس منها واستغلالها بمختلف الأشكال، ولكن هذا المجهود معيب من نواح:
  • الأولى: أنه مجهود غير كاف، فالثروة ضخمة جدًا والترجمة ضئيلة بالنسبة إليها، ولعل العذر أن الإنتاج القيم نتج في أوربا من عهد نهضتها في القرن السادس عشر، وتأخرت نهضتنا فلم تبدأ إلا في نحو أوائل القرن التاسع عشر، فلم نلحق هذا التلاحق في الإنتاج الأوربي.

    ثم إن القادرين منا على الترجمة الصحيحة نسبة ضئيلة بالقياس إلى عددنا الذي يبلغ نحو سبعين مليونًا بسبب ضعف الثقافة وقلة عمقها وقلة عدد الذين يستفيدون منها.

  • والثانية: أن هذا المجهد مع قلته غير منظم فالمجهودات مجهودات فردية مبعثرة، والكتاب الواحد قد يُبذل في ترجمته مجهودان لا يعرف أحدهما ما يغفل الآخر. والطريقة المثلى التي يجب أن نسلكها هي:
    • أولًا: حصر أمهات الكتب التي يجب أن تترجم إلى اللغة العربية من اللغات المختلفة، ووضع سجل لها يزيد كلما زاد الإنتاج الأوربي وينقص بما ترجم منه، ويشترك في وضعه جهابذة الأدباء والعلماء في العالم العربي.
    • وثانيًا: تعاون الدول العربية والهيئات العلمية والأدبية على الإنتاج المنظم، وسخاء الدول في الإنفاق على هذا الباب، فليس إصلاح العقل وغذاؤه بأقل قيمة من إصلاح الأرض.

وإذ كان أدبنا العربي الحاضر يستمد وجوده من الأدب الغربي بالترجمة والاقتباس فهو كذلك يُستمد من التراث القديم، وهي ثروة واسعة لم تُستغل استغلالًا صحيحًا كافيًا أيضًا، وما قلناه هناك من القلة والفوضى ينطبق على الأمر هنا انطباقًا تامًا، ولعل في الجامعة العربية أيضًا الأمل في القيام بهذا العبء وتنظيم التعاون ووضعه على أسس ثابتة.

إذا تمّ هذا أمكن للأدب العربي أن يسير في موكب الأدب العالمي ويأتي بلون جديد بما يستغل من منابع الشرق الأصيلة.

ومسألة أخرى في أدبنا الحاضر، وهنا أتكلم عن الأدب البحت من شعر ونثر فني وقصص، فأراه مقصرًا في وصف حياتنا الاجتماعية وعرضها ونقدها وتوجيهها، وهذا جزء هام من رسالته، بل أرى أنه في الأيام الحاضرة أقل رعاية لهذا الأمر من الأيام القريبة الماضية، فقد كان شعر شوقي وحافظ أملأ بأحداثنا ومعالجتها من شعر اليوم، فكان كلما عرض حادث للأمة سياسيًّا واجتماعيًّا شعرا فيه، كما يدل على ذلك ديواناهما وليس هذا شأن الشعر اليوم.

لقد وجّه كثير من الشعراء والأدباء وجهتهم نحو أدب الغرب يقتبسونه ويقلدونه في موضوعاته وأساليبه، ولكن فاتهم أن هذا الأدب لا يكون أصيلًا، إنما الأصالة أن يتثقفوا بالأدب الغربي ما شاءوا، ثم يهضموه ويستغلوه، ثم يوجهوا وجهتهم نحو قومهم وحياتهم الاجتماعية وأحداثهم الهامة ويصوغون من ذلك كله قصصهم، وينشئون فيه شعرهم، ويوجهون أممهم إلى مثل أعلى يرسمونه، وإصلاح ينشدونه، أما السبح في الخيال فقط، والتقليد فقط، فإذا قال شاعر غربي: «في وادي القمر». قلنا «في وادي القمر». وإذا قال في: «بحر الدموع». قلنا: «في بحر الدموع»، فضرب من الفقر الفني.

إن قال قائل: إن الفن للفن. قلنا: هل ثَمَّ مانع من أن يكون هذا شأن بعض الفن، وأن يكون بعضه الآخر فنًّا لخدمة المجتمع، لقد شبع الأدب العربي من الأدب الغنائي لتصوير العواطف، وبكاء الحب، والإفراط في المديح والرثاء وما إلى ذلك، فلماذا لا يكمل نقصه بالأدب في تصوير المجتمع وبؤسه، وسوء موقفه الاجتماعي والسياسي، وتخلفه عن غيره، وبث الشعور بالنقص، وبعث الأمل في مستقبل خير من الحاضر، فالباحثون العلميّون يبحثون المشاكل الاجتماعية علميًّا وعقليًّا، والأدباء يمدونهم بتهييج المشاعر والعواطف نحو الإصلاح.

على هذا سار الأدب الغربي نفسه الذي نقلده، ففيه الأدب الغنائي وفيه الأدب الاجتماعي، فيه شرح عاطفة الحب وفيه قصة تمثل بؤس الكوخ وشقاء العامل، وفيه «اليوتوبيا» التي تصور مجتمعًا أسعد من مجتمعنا الحاضر، فلم نقلده في الأول، وإذا قلدناه في الثاني صورنا غير بيئتنا ولم نصدر عن مجتمعنا؟

وأخيرًا مشكلة ثالثة في الأدب، وهي التي أشرت إليها في مشاكلنا اللغوية وهي أن أدبنا كله أدب الخاصة، وليس فيه شيء للعامة، ومعنى ذلك أننا نغذي بالأدب عشرين في المئة من الشعب أو أقل من ذلك ونترك الثمانين في المئة من غير غذاء، وهذه حالة في منتهى الخطورة، فالغذاء الأدبي ضرورة من ضرورات الحياة لكل إنسان، لا يصح أن يستغني عنه إلا الحيوان، وضعف الغذاء الأدبي يضعف الرأي العام ويجعله ضحية للمهوشين من السياسيين والدجالين والمخرفين، ثم هو أيضًا يدعو إلى سوء تقويم الأشياء قيمة صحيحة، فالشيء التافه يقوَّم بأكثر مما يقوم الشيء الخطير، كما إذا مرض المريض فلا يعنى بعلاجه واستدعاء الطبيب له، ولكن إذا مات أقيم له المأتم وصرف عليه أضعاف أجرة الطبيب وثمن الدواء، ومثل هذا كثير، كما أنه هو السبب في عدم انضباط العواطف وتهيجها لأتفه الأسباب وسكونها عند أقوى الأسباب، فهو قد يقتل للتعدي على نوبته في الماء ثم لا يتحرك إذا أهدرت كل حريته، وهكذا.

جمهور الشعب لا يصل إليه الأدب إلا أدبًا سخيفًا عن طريق الغناء السخيف أو نحو ذلك. أما أدب يثقفه ويعلي مستواه ويرقّي ذوقه ويهذّب عواطفه فلا، وليس عندنا أديب للعامة وإنما كل أدبائنا للخاصة.

والسبب في ذلك هو ما ذكرت قبل من وجود لغتين، لغة عامية ولغة فصحى، وأننا إلى الآن لم ننجح في التوفيق بينهما، ولم ننجح في محو الأمية ولا قربنا من محوها، والبرامج البراقة توضع على الورق ثم تنام نومًا عميقًا عند التنفيذ.

ثم نحن لا نعترف بالواقع فنقرر أن السواد الأعظم أمي، ويجب أن يتغذى بالأدب، فنعمم الراديو مثلًا في القرى ونحدثه بلغته العامية ونثقفه بها ونقصّ عليه قصصًا أدبيًّا بها، فنحن نترفع عن ذلك حرصًا على اللغة الفصحى من الفساد واستمساكًا بالأرستقراطية الفكرية واللغوية، وفي الوقت عينه لا نغزو الجهل والعامية فنعمم التعليم باللغة الفصحة.

لا هذا ولا ذاك وتركنا الأمور تجري مجراها وقنعنا بالأدب يُقدم للعدد القليل المحدود وتركنا السواد الأعظم من غير غذاء.

ولا أمل في إصلاح هذا إلا بحل مشكلة البرزخ بين اللغتين أولًا، ومواجهة الواقع ثانيًا.

وقد حلت الأمم هذا المشكل من ناحيتين: من ناحية توحيد لغة الكلام ولغة الكتابة تقريبًا. ومن ناحية محو الأمية، فكان لكل إنسان أدبه بمقدار ثقافته وعقليته، وكلاهما أمر لا بد لنا منه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤