الذوق الأدبي

لكل عصر ذوقه، وهذا الذوق يتحكم في أدب الأدباء، من شعراء وكتّاب إلى حد بعيد، فذوق العرب في الجاهلية غير ذوقهم في العصر الأموي والعباسي، وغير ذوقهم اليوم، ولذلك كان أدبهم مختلفًا. جاء عصر كان الذوق العام لا يستنكر التعبير عن العلاقات الجنسية بأصرح لفظ حتى في مجالس الخاصة والخلفاء. وذوقنا اليوم يستهجن هذا كل الاستهجان ويتطلب في التعبير عن هذا الإشارة البعيدة والإيماء الخفية. وكان الذوق في العصر الأموي يستنكر من العربي أن يكون صانعًا أو يتصل بالصناع، ولذلك كان ركن كبير من أركان هجاء جرير للفرزدق أنه قين (حداد) وابن قين ولم يكن آباء الفرزدق حدادين، ولكن كان لآبائه أرقّاء يعملون في الحدادة. ونرى اليوم بأذواقنا أن هذا الضرب لا يصح أن يكون أساسًا للهجاء، بل نرى الوزراء من العمال يفخرون بصناعتهم في نشأتهم وشبابهم لأن الذوق اختلف.

ونحن في قراءتنا للآداب المختلفة لا نقدرها كما يقدرها أهلها، فنحن لا نقدر روايات شكسبير كما يقدرها الإنجليز ولو فهمناها، ولا نقدر روايات جوتة كما يقدرها الألمان ولو فهمناها، لأن التقدير يعتمد على الذوق، والكاتب يراعي هذا الذوق فيما ينتج، والذوق يختلف، فالتقدير يختلف.

إن ما نقرأ من الآثار الأدبية لكل عصر هو ظل لذوق هذا العصر وأثر من آثاره، ونتيجة لتقدير ذوقه للأشياء. حتى مظاهر الأسلوب من ميل إلى السجع أو الترسل والإفراط في أنواع البديع أو التخفف منها والاستطراد وعدمه، كل هذا متأثر إلى حد كبير بذوق العصر.

ويأتي عصر يُغمر فيه الناس بموجة دينية فيكون الذوق متأثرًا بذلك فيتأثر به الفن والأدب، ويتلوه عصر يميل فيه الذوق إلى التحرر من الدين والاستمتاع بمباهج الحياة إلى أقصى حد فيتأثر بذلك الأدب؛ وعلى هذا يمكننا أن نفهم الأدب من روح العصر الذي نشأ فيه ونفهم روح العصر من أدبه، وعلى هذا أيضًا يكون تاريخ أدب كل أمة تاريخ ذوقها، أو بعبارة أخرى تاريخ روح عصورها. انظر إلى أدب أي عصر وتعمق في النظر إليه تعرف قيم الأشياء في نظر أهله، وإذا عرفت القيم عرفت الذوق وكذلك العكس.

وكان الذوق الذي يقوّم الأدب ويغذق على أهله هو ذوق القصور، فانطبع الأدب بهذا الطابع وغلب عليه المديح وما إليه، ثم قويت الشعوب وحلت المطابع والناشرون محل القصور، فهي التي تعطي وتكافئ الأديب، فتحول الأدب إلى ما يوافق ذوق الجمهور؛ ولهذا لما كان الأدب العربي أدب «قصور» كان مُحلى بكل أنواع الزينة من جناس وبديع كالطرف تُهدى إلى الملوك، فلما أصبح أدب شعب تحرر من الزينة لأن الشعب يقوم الحاجيات أكثر مما يقوم الكماليات.

إنا لنستطيع أن نحكم على ذوق الأمة بنظرنا في مجموعة من صحافتها وكتبها الأدبية الرائجة، لأن جمهرة الأدباء يتبعون ذوق جمهورهم أكثر مما يرقى القراء إلى ذوق أدبائهم لو ارتفعوا عنهم.

إذا رأيت المهاترات الصحفية تنزل إلى الحضيض في السباب والشتائم والفضائح ورأيت إقبال الجمهور عليها كثيرًا وأنها تُقابَل بالترحيب فاحكم على ذوق الأمة الأدبي بالضعف، كما تحكم على الأسرة التي يتسابّ أطفالها بكل الفاظ الهجر على مسمع من آبائهم بالانحطاط، لأن الذوق الراقي لا يحب الهجاء الصريح ولا الهجاء العنيف، إنما أقصى ما يُسمح باللمحة الدالة والإشارة المفهمة. ولا أدل على ذلك من النظر إلى حالتنا من ثلاثين سنة أو نحو ذلك، فكانت جريدة «كالصاعقة» أو «المسامير» أو «حمارة منيتي» تلقى رواجًا كبيرًا بين عامة الشعب، وكلما كانت الجريدة ممعنة في السباب المقذع كانت أكثر رواجًا. وهي لو بُعثت اليوم من قبورها أو قُلدت في منحاها لم تجد رواجًا لأن ذوق الجمهور ارتقى.

وكذلك لو قارنت الآن بين مجموع الصحف الشرقية والصحف الغربية لم تجد في هذه من المهاترات الشخصية والسباب المقذع ما تجده في بعض الصحف الشرقية، لأن ذوق الجمهور أرقى، والصحيفة التي تقع في مثل هذا تجد من اشمئزاز الذوق ما يميتها. كما تجد أن ظروف الأمم الحاضرة يجب أن تشغلها مصلحتها العامة ومستقبلها الخطير أكثر مما يشغلها أمور شخصية؛ فإن كانت هذه الأمور الشخصية تمس صالح الجمهور عولجت أمام القضاء في حزم وسرعة، لا أن تكون شغل الأمة الشاغل أزمانًا طويلة.

كذلك إن رأيت مجلات الجمهور إنما تعنى بالمسائل الجنسية أكثر مما تعنى بالناحية الثقافية، وبالصور الخليعة أكثر مما تعنى بالصور الرفيعة، دلّ هذا على انحطاط الذوق الأدبي للجمهور، لأن في الحياة أمورًا أكثر من نظرة الرجل إلى المرأة والمرأة إلى الرجل. قد يصح أن يكون هذا شيئًا من الأشياء، أما أن يكون كل شيء أو أهم شيء فدليل على فساد الذوق الأدبي.

تسألني: وما يرقّي الذوق الأدبي في الأمة؟

أما في الخاصة فعماد ترقية الذوق الأدبي هما «الجامعة» و«البرلمان» فهما المثل الذي يُحتذى، فإن رقي ذوقهما بحسن تقويمهما للأشياء. وما يقال وما لا يقال وكيف يقال، وما يفعل وما لا يفعل وكيف يفعل، قُلدت سيرتهما في الجماهير، فالجامعة نموذج الناشئين، والبرلمان نموذج الصحفيين والسياسيين …

إن هؤلاء الجامعيين والبرلمانيين مظنة الثقافة الواسعة والقراءة العميقة والاطلاع الواسع، والاتصال بذوي الثقافة الراقية والذوق المهذب في العالم المتمدن، فأحرى بهم أن يقودوا الذوق الأدبي في الأمة.

وأما في الجماهير فويل لنا من الفقر والأمية، فهما الحجران اللذان يصطدم بهما كل إصلاح. وإن فساد الذوق أكثر ما ينشأ من الفقر والجهل. إن الطفل الذي رُبي في بيت قذر ووسط قذر لا يأنف من قذارة الشوارع، ولا من قذارة ملابسه، ولا من قذارة وسطه. فكيف إذا كبر نتطلب منه أن يأنف من النكتة القبيحة، والحكاية القذرة، والسباب القذر؟ وإن الأمي الذي لم يقرأ كتابًا، وكل غذائه الأدبي أغان وضيعة وحكايات ونوادر وضيعة لا يمكن أن يرقى ذوقه فيأنف من الهجر.

عماد الذوق الفني إدارك الجمال في كل صوره، من جمال منظر، وجمال أزهار وجمال طبيعة، وجمال نظافة، وجمال نظام، فإذا شاع هذا الإدراك وربى في البيت والمدرسة والمجتمعات، أمكننا بخطوة يسيرة أن ندرك بذوقنا جمال المعاني، فلا نضحك إلا من النادرة المؤدبة، وننفر من السياسي المهرج، ومن الصحف السبابة، ومن كل شيء قَبُح مادة أو معنى. وإذا رقي ذوق الجمهور رقيت السياسة ورقي الفن والأدب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤