الإنسانية في الإسلام

كان من أكبر النكبات التي مُني بها العالم نزعة «القومية» أو «الوطنية» بمعنى أن كل أمة تعمل لخيرها دون النظر إلى سائر الأمم، فغايتها المنشودة أن تتبوأ السيادة في العالم، وأن تسعى أن تملك من الأرض أكثر ما تستطيع، وتخطف من الأمم الضعيفة ما تقدر، وأن تكون تجارتها أكثر رواجًا، وشعبها أغنى شعب، وقوتها الحربية أعظم قوة، فأمنيتها العظمى إعلاء شأن قومها من غير أي اعتبار آخر؛ وعلى هذا الأساس تبني سياستها، وإليه يقصد قادتها، فأعظم سياسي من كسب لها من الأمم الأخرى أكبر مكسب، وأعظم قائد حربي من نكّل بالأمم الأخرى وضم إلى مستعمراتها مستعمرة، واعتدى على أمة آمنة مطمئنة فأذلها وضمها إلى أملاك قومه، وعلى هذا الأساس أيضًا وُضعت برامج التعليم، من تربية وطنية ودروس تاريخية تمجد الوطن وتعنى بإظهار تاريخ الأمة بمظهر العظمة ولو داس الحقيقة؛ ونشأ عن هذه النظرة الضيقة للوطنية أن الأمم الأوربية تسابقت في هذا المعنى، فكل أمة تريد أن تسمو، وكل أمة تريد أن تلتهم الضعيف، وكل أمة تريد السيادة والغلبة، وهي لذلك لا بد أن تتسلح وتسبق غيرها في التسلح، كما تتسابق في التربية الوطنية ومسخ التاريخ، وإشاعة أن جنسها خير جنس، ودمها خير دم، وإلهها خير إله، وأنه معها ينصرها في الحرب ويساعدها في السلم. فكانت نتيجة هذه الوطنية بهذا المعنى سلسلة الحروب التي كانت والتي ستكون، والخراب الذي حدث والذي سيحدث. ومن حين لآخر يأتي قوم من بعيدي النظر يدركون خطر الوطنية، وينادون بالإنسانية، كما فعل تولستوي وولسن وغيرهما، ولكن سرعان ما تخمد دعوتهم، وتتغلب الوطنية من جديد، وإذا اكتووا بنار الحرب راحوا يبشرون بمبادئ العدل والمساواة كما فعلوا بمبادئ ويلسن وميثاق الأطلانطي، ثم لا يلبثون بعد الحروب أن يعودوا سيرتهم الأولى؛ فروسيا لا تنظر إلا إلى القومية، وإنجلترا وأمريكا وفرنسا وغيرها كلها تنظر إلى السيادة الوطنية، ويكفي أن تتمسك أمة بوطنيتها لتتسابق كل الأمم في الوطنية، وتتحرك الشهوات القديمة، ويعود العالم إلى معسكرات.

ولا علاج من هذه الأمراض كلها إلا غلبة النزعة الإنسانية، واختفاء النزعة الوطنية، أو قصرها على حدود لا تتنافى مع الإنسانية، ومعنى الإنسانية أن ينظر إلى العالم كوحدة وكأسرة، تخضع كلها لنظام عام شامل، وتؤمن كلها بقوانين العدل والحق، وتتقيد كل أمة بالصالح العام، ويعمل القوي لخير الضعيف ويأخد بيده حتى يقوى، ومن سبق في محْمدة اجتهد في تعميمها، ومن أخطأ قوم خطّؤه، ومن نُكب بجهل أو فقر انتُشل من نكبته، ونحو ذلك مما يفعله كل فرد في الأسرة الواحدة نحو أسرته، كبير يرشد صغيرًا، ومتعلم يعلّم جاهلًا، وصغير يوقر كبيرًا، وأب وأم يعملان لخير الجميع، إذ يشعر كل أنه لنفسه ولأسرته.

•••

لعل أكبر محْمدة في الإسلام، وأعظم دعوة سبق بها غيره منذ قرون، دعوته إلى الإنسانية والأخوة العامة، فهو قد سُمي الإسلام، والإسلام والسلام من مادة واحدة. وأسلم الرجل استسلم لله وأخلص له، أي كان في سلام مع الله، ومن كان في سلام مع الله أحبّ أن يكون في سلام مع خلقه، ولذلك قال رسول الله : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» وسُمي معتنق هذا الدين مسلمًا، وجعلت تحية المسلمين فيما بينهم «السلام عليكم».

ثم أهم تعاليم الإسلام وحدة الخلق ووحدة الخالق، فوحدة الخلق تظهر في تقريره أن الناس كلهم من آدم وحواء، فهم سواء، وإنما النظم المصطنعة السيئة هي التي سببت الفروق من سيد وعبد، وذي جاه وعديم الجاه، وغني وفقير، والله لا يعبأ بذلك كله، والإسلام ينكر ذلك كله، ولا يجعل هناك فرقًا بين إنسان وإنسان إلا العمل الصالح. لقد جاء في كلام رسول الله في خطبة حجة الوداع وفيها خلاصة تعاليم الإسلام: «إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب». ثم تلا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.

وجاء في حديث آخر: «كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملئوه١. إن الله لا يسألكم عن أحسابكم وأنسابكم يوم القيامة. إن أكرمكم عند الله أتقاكم».

وأكد في هذه الخطبة أيضًا حرمة الأنفس والأموال والأعراض فقال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا».

ويقرر الإسلام وحدة الناس، فقد كانوا أُمّة واحدة ثم فرق بينهم الباطل وفي أمكانهم أن يعودوا أمة واحدة إذا اتبعوا الحق: «وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا».

ثم أعترف بالأديان السابقة وبالأنبياء السابقين لا فرق يبنهم، فكل من آمن بالله وعمل صالحًا فله جزاؤه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ، فإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم أتوا لهداية الناس ودعوتهم إلى الحق وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ، فنظام العالم نظام عام شامل، والناس أُمّة واحدة، والله يرسل رسله لهدايتهم، فإن اختلفوا وتفرقوا فبسوء صنيعهم لا بما يطلب الله منهم، والله جعلهم شعوبًا ليتعارفوا، فتناكروا وتحاربوا.

وليست الإنسانية وحدها في نظر الإسلام وحدة، بل العالم كله وحدة؛ فالذرة في الأرض تتكون على نمط تكون الشمس في السماء. وكله يخضع لقوانين واحدة ونظم واحدة، وإلا ما أمكن أن يكون العلم وقوانينه، والقرآن يقول: مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ. تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ وتسبيح العالم خضوعه لقوانين الله، ودلالته على قدرته، والسير على مشيئته.

هذه هي وحدة الخلق، وهذا الخلق الواحد له خالق واحد، فـاللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ.

وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ، ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ۖ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ إلخ. إلخ.

على هذا الأساس من وحدة الإنسانية بل وحدة الخلق عامة، ووحدة الخالق بُني الإسلام، وجُعل شعاره لا إله إلا الله، وكانت أولى آياته الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وعلى هذا الأساس أيضًا وُجهت الدعوة، فالناس كلهم يجب أن يدعوا إلى وحدة الخالق ووحدة الخلق، ومحمد رسول الله أُرسل إلى الناس كافة لتبليغ هذه الدعوة، ذلك لأن الإنسانية ستُعذب إذا أشركت فعددت الآلهة، أو عددت اختصاص الآلهة في الخلق، ولأن نشر العدل بين الناس كافة واعتناق الحق لا يتحقق تمام التحقق إلا بالاعتقاد بهذه الوحدة وحدة العالم ووحدة الله التي يدل عليها لا إله إلا الله رب العالمين، فإذا فشت عقيدة أن لكل شعب إلهًا كانت الحرب والخصام والفساد، وإذا فشت عقيدة أن هناك شعوبًا ممتازة وشعوبًا غير ممتازة، وتميزًا في الدم أو الجنس أو نحو ذلك فالحرب والخصام، وإذا عُبدت الملوك والحكام من دون الله كان الظلم، وإذا قُدّس شيء دون الله تعددت الآلهة فانتشر الفساد.

لذلك جاء الإسلام يحارب استبداد الملوك والحكومات بالشعوب، كما ترى في الكتب التي أرسلها الرسول إلى ملوك فارس والروم في آخر حياته، ويحارب عصبية القبائل وعصبية التعاظم بالأنساب، ويجعل أساس التقويم والتفاضل العمل الصالح، ويقرب الرسول بلالًا الحبشي، وصهيبًا الرومي، وسلمان الفارسي، على صناديد قريش، ولا يعتد باللون والدم في قليل ولا كثير.

ومهمة الرسول ليست إلا أن يبلغ هذه الدعوة وأن يوصلها إلى كل أذن ما استطاع مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ، وبعد ذلك فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، ومحمد بشر كسائر الناس، ليس له ميزة إلا أنه أُوحي إليه بهذه المبادئ يبلغها قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا. وهو إنما يدعو هذه الدعوة بالحسنى ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.

إن على الرسول أن يبين آيات الله في خلقه، ويفتح عيون الناس على آثاره في الكون، ويبين لهم كيف يسعد الناس بحسن العقيدة، وتحري الحق والعدل، وكيف يشقون بسوء العقيدة والظلم، وهم أحرار بعد ذلك أن يقبلوا أو أن يرفضوا. ولكن يجب أن يسمعوا، ويجب أن يُمكَّن من أن يسمع الناس ما يدعو إليه، وأن يترك الملوك والحكام الناس أحرارًا يسمعون دعوته، ولهم الخيار بعد أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا.

ولو سمعوا لهذا المبدأ ما حمل رسول الله ولا صحبه سيفًا ولا أقاموا حربًا ولا أراقوا دمًا، ولانتشر الإسلام بالدعوة وحدها يزينها الحق ويبعث على اعتناقها العقل، وحب الحرية والبساطة، والاعتراف بحقوق الناس كافة، ونصرة المظلوم وتقوية الضعيف، وإنقاذ الفقير وتحرير الرقيق.

ولكن حمله على تقلد السيف أمران لا ثالث لهما: أن يُهاجِم، فيرد الحرب بالحرب والقوة بالقوة ليحمي دعوته، أو أن يمنعه الملوك والحكام والرؤساء من نشر دعوته حفظًا على سلطانهم وعزهم وجاههم؛ وهو لا بد مبلِّغ رسالته إنقإذن للناس من الظلم وسوء العقيدة، ورغبة في توحيد الناس على العقيدة الصالحة والسياسة الحسنة.

على هذا الأساس وحده كان الغزو وكان الجهاد، ولم يدر بخلد الإسلام أن يجر مغنمًا، فقد مات رسوله فقيرًا لم يملك من الدنيا شيئًا، ولم يفتح ما فتح حبًا في الفتح والاستعمار، فقد أتى ليرد للناس حريتهم لا ليفقدهم حريتهم, ولذلك كان أسرع الناس لقبول الإسلام الأرقاء والمستضعفون والمظلومون.

ولو حقق الإسلام غايته كلها لكان الناس كلهم أمة واحدة تعتقد بإله واحد وتؤمن بالحق والعدالة وتتعاون على البر والتقوى، ولا تتعاون على الإثم والعدوان، فإن اختلفوا شعوبًا وألوانًا وأجناسًا كما هي طبيعة الدنيا فللتعارف وللتعاون واللانتفاع بمزايا كل، لا للتناكر والتحارب والاستعلاء.

هذا هو الإسلام في جوهره وصميمه.

فإن كان فيه عيب فعيبه أنه بعد عصره الأول لم يجد له حَمَلَة، والدين الصالح يفسد بحملته، والدين الفاسد يصلح بحملته.

١  يقال: «هذا طف المكيال» إذا قارب أن يمتلئ ولما يملأ. قال ابن الأثير: المعنى كلكم في الانتساب إلى أب واحد بمنزلة واحدة في النقص والتقاصر عن غاية التمام، شبههم في نقصانهم بالكيل الذي لم يبلغ أن يملأ المكيال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤