مأساة

شعب يقدر بالملايين يُحرَم القوت ليموت جوعًا، وأسباب الحياة ليفقد الحياة، والقوت متوافر كثير، وأسباب الحياة سهلة الوصول، ولكن تقام في وجهها السدود والحواجز والحصون حتى لا يتسرب منها شيء إلى الجائعين.

ذلك هو الشعب المغربي المسكين الذي يسكن تونس والجزائر ومراكش، يُمنع عنه الغذاء العقلي فلا تدخله جريدة تنيره، ولا مجلة تفيده، ولا كتاب يهديه.

إنما يسمح له بدلائل الخيرات وأمثالها وبالكتب المدرسية الجافة، بشرط ألا تُحيي عاطفة ولا تنير عقلًا، فأما كتاب يرشد العقل وينير الذهن، وأما كتاب يغذي العاطفة ويحييها ويقويها، وأما كتاب فيه ذكر للعرب ومجدهم، وأما كتاب فيه الميثاق الأطلنطي وحق الأمم في تقرير المصير، وحق الشعوب في الحرية، فحرام أي حرام، تُرصد له العيون، وتُحشد له الرقباء، وتُغلق في وجهه الأبواب وتُشيّد له الحصون، حتى إذا مر من حصن حُجز في آخر، فلا يمكن أن يصل إلى داخل البلاد مهما عمل من حيلة وبذل من جهد.

لو كان هذا حشيشًا أو أفيونًا أو خمرًا أو أي نوع من أنواع السموم القاتلة لفُتحت له الأبواب ولم تقف في وجهه الأرصاد. أما الكتاب والمجلة والجريدة فأمر بغيض بشع يثير الرعب والفرع، ويحتاط له كل الحيطة، ويُمنع كل المنع، لأن الحشيش والأفيون مخدر ومرحبًا بالمخدرات، والكتاب يغذي ويُحيي ويُلهم، ولا مرحبًا بالمغذيات المحييات الملهمات.

لو عذب هؤلاء الأقوام في أقواتهم ومآكلهم ومشاربهم وملابسهم لكان أقل إجرامًا من أن يعذبوا في عقولهم وأرواحهم وعواطفهم، لأنه إهدار للإنسانية وإعدام للآدمية.

ثم إذا طالب هذا الشعب بحقه في أن يقرأ وأن يتعلم وأن يتحرر وأن يتوحد وأن يكون أمره بيده، سُلِّط عليه العذاب في أبشع صوره، واستُخدم آخر ما وصل إليه العلم والاختراع في التنكيل به؛ فطائرات ترميه بقنابلها حتى تمحو قراه محوًا، وأساطيل تسلط عليه مقذوفاتها حتى تخرب البلاد تخريبًا، إلى سجن ونفي ومصادرة وما لا يعلمه إلا الله.

لو حدث هذا في القرن العشرين قبل الميلاد لكان أعجوبة الأعاجيب وموضع الغرابة والاستنكار، فكيف يحدث هذا في القرن العشرين تحت سمع العالم وبصره، وهيئة الأمم المتحدة تُعقد بدعوى تحقيق العدل وإنقاذ الإنسانية، وأجواء العالم تتجاوب بالديمقراطية وحق المصير ومؤازرة الحرية! ما فظائع الحروب الصليبية بجانب هذه الفظائع، وما جرائم محاكم التفتيش بجانب هذه الجرائم؟ ومن يفعل هذا كله؟

فرنسا نصير العلم، وناشرة الثقافة، والسابقة بالثورة لتقرير حقوق الإنسان. فرنسا التي كتب كتابها أنصع صفحات الحرية، وأبلغ آيات الحقوق الإنسانية، وأخلد كتب الدعوة إلى الأرستقراطية العقلية.

فرنسا هذه هي التي تحرم الآن شعبًا من أن يطلع على كتاب أو مجلة أو صحيفة يفهم منها ما يجري في العالم أو يستجلي منها حقيقة أو يغذي بها قلبًا.

فرنسا نصيرة الثقافة تحارب الثقافة، وناشرة العلم تضع أنواع القيود الثقيلة العلم، وزعيمة الحرية تقتل الحرية. أَكُل هذه المبادئ بهرجة لا حقيقة وراءها؟ أم هي حلال لأوربا وأمريكا حرام على الشرق؟ أم هي حق للمسيحيين وليست حقًا للمسلمين؟ أم هي من حقوق بعض الأجناس دون بعض فلم يستنكرون إذن دعوة الشعوب الجرمانية؟ وإلا فكيف يُفسَّر سلوك فرنسا مع هذه البلاد المغربية، من غير فرق بين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار، ومعتنقي المبادئ المحافظة والمبادئ المتطرفة.

ومن عجيب الأمر أن يسود الصمت عن هذه المخازي، ولا يرتفع الصوت في وجه هذا الظلم الصارخ.

أين هيئة الأمم المتحدة؟ وأين أرباب الصحف والمجلات الإنجليزية والأمريكية الذين يعلمون من أمر بلاد المغرب وما يجري فيها أكثر مما نعلم؟ لو حدث عشر معشار ما يجري في المغرب في بلاد أخرى وفي شعوب تمتّ إليهم بصلة الدين أو النسب أو الدم ما كفتهم صفحات جرائدهم!

أين العرب المثقفون في فرنسا والذين يشيدون بذكرها ويسبحون بحمدها، ويرتلون آيات الثناء على ثقافتها وحريتها ومبادئها؟

ألم يبلغهم هذا كله أو شيء منه؟ ألم يبلغهم أن شعبًا يقدر بالملايين يراد منه أن يعيش على دلائل الخيرات؟

ألم يبلغهم أن آثار أقلامهم مما يكتبون من كتب وما ينشرون في مجلات محرمة على الشعب المغربي ومحرمها هو الحكومة الفرنسية العزيزة عليهم؟ اتقوا الله وارفعوا أصواتكم، واصرخوا في وجه الظالم أيًّا كان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤