الشيخ مصطفى عبد الرازق

رحم الله صديقنا وزميلنا مصطفى عبد الرازق رحمة واسعة، فقد ترك في نفس كل من عرفه فراغًا لا يُملأ، ولوعة يعز عليها الصبر.

كان رحمه الله متميزًا في خلقه، متميزًا في أدبه، متميزًا في علمه.

نفس كريمة سمحة، وقلب عطوف رحيم، وصدر واسع رحب، لا يحمل حقدًا ولا ينطوي على ضغينة، وحلم رائع لا يستفزه نزق، ولا يستخفه غضب.

لست أنسى يومًا منذ أربعين عامًا سمعت باسمه وأنا طالب بمدرسة القضاء، وهو أستاذ بها، وحول اسمه هالة من حسب ونسب، وغنى وجاه، فارتسمت في نفسي صورة من أبناء الذوات، يشمخون بأنوفهم، ويتكلمون من أطراف ألسنتهم، وينظرون إلى الناس في الأرض من أعلى السماء، فما رأيته حتى انمحت هذه الصورة الكاذبة، وحلت محلها صورة تخالفها كل المخالفة، قد أخذ من الأرستقراطية أجمل ما فيها، ومن الديمقراطية أجمل ما فيها. أناقة في الملبس من غير بهرجة، ورشاقة في الحركة من غير تصنع، وأدب في الحديث من غير ترفع، ودعة في النفس من غير تكلف.

فامتلأت منه نفسي، وأحببته وصادقته في جلسة، وتأكدت الصداقة بيننا على مر الأيام، وأشهد أني لم أر منه مرة ما يخدش الصداقة أو يعكر صفو الود، وهكذا كان شأنه رحمه الله مع كل صديق.

كان من أجمل ما فيه رحمه الله ذوقه المرهف الرقيق الدقيق، يتحكم في حياته المادية من ملبس ومأكل ومشرب، ويتحكم في حياته الأدبية والروحية من حديث لذيذ ممتع مؤدب، يوزعه ويوزع نظراته على المستمعين، ومن أجل هذا كان ناديه في بيته من خير الأندية وأمتعها وأحفلها، يجمع بين الأزهري الصميم، والمثقف ثقافة مدنية عصرية، وقد يكون فيه الأوربي والأوربية، فإذا هو رحمه الله بلطفه وظرفه ورقته يؤلف بين قلوب الجميع، ويمكِّن بلباقته من استفادة كل من كل، وتتلاقى عنده آراء الأحرار والمحافظين.

ولهذا الذوق الجميل كان أحب شاعر إليه البهاء زهير ذو الذوق الجميل، والشعر الجميل، أعجبه فيه ظرفه وذوقه ومصريته وعزة نفسه، فذكر أنه كان يتعشقه ويتعشق شعره منذ صباه، ولا زال يحن إليه حتى ألّف فيه في كهولته.

نفعه ذوقه فاستفاد منه في كل مرحلة من مراحل حياته إذ كان يتذوق من كل شيء أحسنه، تربى في الأزهر فاستقى منه أحسن ما فيه. وكان بيت أبيه مزار كبراء البلد وعظمائها وعقلائها، يتحدثون فيه في شئون الأمة السياسية والاجتماعية والأخلاقية، فيصغي لأحاديثهم ويتخير منها أحسنها.

وعن هذا الطريق تعرف بالأستاذ الشيخ محمد عبده صديق أبيه، فتعشقه وتتلمذ له، واتصل به في دروسه وغير دروسه، واتخذه أبًا روحيًّا، يحضر مجالسه، ويزوره حاضرًا، ويكتب إليه مسافرًا، وينظم الشعر في استقباله عائدًا، ويستفيد منه أجل فائدة، ويفي له بعد مماته، فيحاضر فيه، ويترجم له رسالة التوحيد إلى الفرنسية، ويكون مرجع كل باحث عن الشيخ محمد عبده.

ثم سافر إلى فرنسا فأفاده ذوقه هذا كثيرًا، فكم من شبان يرحلون إلى أوربا فيخسرون كثيرًا ويكسبون قليلًا، أما هو فقد كسب كثيرًا، ولم يخسر قوميته، ولا شرقيته، ولم يتخل عن الجميل من قديمه.

وهكذا كان ذوقه في حياته دليله وهاديه ومرشده، وقد كتب إليه أستاذه الشيخ محمد عبده يقول: «ما سررت بشيء سروري أنك شعرت في حداثتك بما لم يشعر به الكبار من قومك، فلله أنت ولله أبوك، ولو أذن لوالد أن يقابل وجه ولده بالمدح لسقت إليك من الثناء، ما يملأ عليك الفضاء، ولكني أكتفي بالإخلاص في الدعاء أن يمتعني الله في نهايتك بما تفرسته في بدايتك؛ وأن يخلص للحق سرك، ويقدّرك على الهداية إليه، وينشط بنفسك لجمع قومك عليه, والسلام».

•••

سمح كريم النفس، يبذل العطاء للبائس والمحتاج، فكم بكته أُسَر كان يعولها في الخفاء، وكم له من يد على اليتامى والفقراء، وكم أنفق في تعليم محتاج، وكم سعى في توظيف عاطل، أو دفع الظلم عن مظلوم، أو إيصال الخير لمستحق، وأسعفه على ذلك ماله الخاص، فأنفق منه الكثير، ومركزه في الجمعية الخيرية الإسلامية ووزارة الأوقاف، فتعاون ماله الخاص والمال العام على إفاضة المعروف على البائسين والمحتاجين والمنكوبين، فكان نفاح اليدين وغيث المعروف.

وكان من طيب نفسه لا يحقد على مجرم أو مسيء أو مذنب، على حين يتهلل للمحسن والخيّر والنبيل، فكأن خلاصة فلسفته في ذلك الجبر في الإساءة، والاختيار في الإحسان، فهو لا يكره خصومه، ولا يبغض مَن أساءه، ولكنه يحب من أحسن ويحب كل الحب أصدقاءه.

إن أعجبه الجديد في فرنسا، فلا يكره القديم في الأزهر، وإن أعجبته الحضارة العصرية الأوربية، فإنه تعجبه الحضارة الإسلامية، وإن تذوق الأدب الفرنسي الحديث، فإنه يتذوق الأدب العربي القديم. وإن شغف بفلسفة «كانت» و«ديكارت»، فإنه مشغوف بفلسفة ابن سينا وابن رشد، وإن تكلم الفرنسية مع الفرنسيين، فإنه يتكلم العامية الصعيدية مع الفلاحين، فكان قلبه يتسع لكل شيء، ويتعشق كل جميل.

•••

هذا خلقه.

أما أدبه — فكان كذلك مظهرًا لذوقه، مُقل مُجيد، يتأنق فيه تأنقه في ملبسه وحركاته وسلوكه، يذهب مذهب من يرى الجمال في البساطة، لا يعجبه المهلهل من الأسلوب، ولا المفرط في الحلية، ذواق يتحسس اللفظ الجميل ليضعه في موضعه اللائق به، وقد يستعرض المترادفات ليرى أنسبها في مكانه، ويتحرى المعنى الرشيق والأسلوب الرشيق يحلي بهما ما يكتب، وخاصة في الاستهلال والختام، ويردد الجملة في نفسه ليستسيغها، كما يتذوق الشارب الشراب اللذيذ والطعام اللذيذ.

خبرته في ذلك يوم كان يحرر مقالاته الأدبية في «الجريدة» تحت عنوان «يوميات إبراهيم الفزاري» وأيام اشتركنا في تحرير مجلة «السفور» بعد عودته من فرنسا، ثم فيما كان يخطب ويكتب في الحفلات والمناسبات، ولو واتته الظروف وفرغ للأدب لكان منه الأديب الكبير الذي يتزعم مدرسة.

•••

ثم كان أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب بالجامعة المصرية، فكان في مكانه الذي يتفق وهدوءه وسكينته وعقليته ومزاجه، سرعان ما امتدت أسباب الود بينه وبين طلبته فأنسوا به وأنس بهم، وأحبوه وأحبهم، وكان مقصدهم العملي والخلقي في الكلية وفي البيت وحيث يكون، يعرضون عليه مشاكلهم العلمية ومشاكلهم النفسية ومشاكلهم العائلية، فكان لهم أبًا رحيمًا وكانوا له أبناء بررة، فإذا تخرج متخرجهم كان للأستاذ أخًا صغيرًا وصديقًا وفيًا، وهو من ناحيته لا يكل في السعي لهم حتى يطمئنوا في حياتهم، ثم يوعز إليهم بأساليبه الظريفة أن يستمروا في البحث والدرس والإنتاج، ويشرك الكثير منهم في تحضير دروسه معه، وحل ما يعرض له من المشاكل الفلسفية، فربّى رجالًا كما ربى عقولًا، ومكّنه الاتصال بطلبته أن يتعرف خواص كل منهم وموضع قوته وضعفه، فعالج وشجع ووجه، حتى رأينا «قسم الفلسفة» في الكلية ينشط في البحث والإنتاج، وينشر الفلسفة بين الناس، ويحببها إليهم بفضله.

ثم هو في دروسه يسوي في التقدير بين فلاسفة الشرق وفلاسفة الغرب، ويناقش رينان كما يناقش الشهرستاني، وينقل عن هؤلاء وهؤلاء، ويمعن في فهم النصوص والوصول إلى باطنها مستفيدًا كل الفائدة من الطريقة الأزهرية.

وكان في بعض دروسه كما قال: «يتوخى الرجوع إلى النظر العقلي الإسلامي في سذاجته الأولى ويتبع مدارجه في ثنايا عصوره وأسرار تطوره».

ولئن حاول كثير من المستشرقين أن يغلوا في رد أصول الفلسفة الإسلامية إلى العناصر اليونانية، فقد رأى الأستاذ أن يضم إلى الفلسفة الإسلامية علم الكلام وأصول الفقه، ليدلل على ما للمسلمين من ابتكار في الفلسفة بأوسع معانيها.

وهو مؤدب جدًا في النقد، فإذا لم يوافق على رأي عالم، فكل ما يفعل أن يذكر الرأي، ويقول إنه لا يراه ويرى غيره أولى، ويورد الحجج على ذلك في أدب جم من غير تجريح، ومن غير أن يمس شعور المنقود أي مساس، فكأن المخالف صديقه الحميم الذي يرعى كل الرعاية عواطفه.

وكم كنت أتمنى أن تظهر شخصيته في التأليف أكثر مما ظهرت، وأن يتحرر من كثرة النقول أكثر مما تحرر؛ فقد كان رحمه الله يحاول ما أمكن ألا يظهر كما تظهر النصوص والنقول، ولعل حرصه التام على الأمانة في النقل وإعطاء كل ذي حق حقه من الفضل، حمله على أن يضحي بنفسه للإشادة بفضل غيره، ولكل مؤلف مزاجه ولكل شيخ طريقته.

كان رحمه الله يدوّن محاضراته قبل إلقائها قصدًا إلى الدقة، ولكنه احتفظ بها لم ينشرها طول مدة دراسته في الجامعة، فلما غادرها مأسوفًا عليه إلحّ عليه طلبته في أن يأذن لهم بنشرها، فأجاب وكتب: «قد كنت أيام اشتغالي بتدريس الفلسفة الإسلامية وتاريخها في الجامعة المصرية معنيًّا بدرس هذه الموضوعات واستكمال بحثها، ودوّنت فيها صحفًا طويتها على غرها منذ تركت الجامعة في صدر سنة ١٩٣٩ وصرفتني الشواغل عنها.

«واليوم أعود إلى هذه الصحف لأنشرها كما هي، بصورتها يوم كتبت، من غير تنقيح ولا تعديل، وفي صياغتها التعليمية التي تراعي حاجة الطلاب إلى مراجعة النصوص الكثيرة، وحسن التدبر والفهم للأساليب المتفاوتة، وإن لم يخف ذلك على ذوق المطالعين جميعًا».

«وأرجو أن يكون في هذه الصفحات عون لباحث أو فائدة لقارئ».

وعلى هذا نُشر كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» وكتابه عن «الكندي» والفارابي المسمى «فيلسوف العرب والمعلم الثاني» كما نشر كتابه «الإمام الشافعي واضع أصول الفقه» إلخ.

ومن سنة ١٩٣٩ إلى حين وفاته رحمه الله تنقل بين وزارة الأوقاف ومشيخة الأزهر، ولو ترك لسجيته وطبيعته ومزاجه ما قبلهما، ولظل أستاذ الفلسفة في الجامعة المصرية، ولكنه رحمه الله كان حييًّا خجولًا، يحمله حياؤه وخجله على أن يرعى الظروف ويراعي المجاملات، ويخضع لأدب اللياقة، قبلهما حائرًا بين طبيعته ومزاجه، وبين خجله ولباقته، إن وافقته وزارة الأوقاف في أنها ميدان الإحسان ووسيلة لتخفيف الكرب عن الضعفاء والبائسين والمنكوبين، فلم يوافقه ما تقتضيه الوزارة من أفانين السياسة، وشيخه الإمام قد لعن السياسة وكل ما اشتق من السياسة، وإن ناسبته مشيخة الأزهر، لأنها تغذي حنينه لأول معهد قضى فيه صباه وشبابه، فلم تناسبه لأنها مبعث قلق واضطراب وتضارب نزعات واختلاف تيارات، وقد لقي في مثل حاله شيخه الإمام الأمرّين حتى خرج منه على مضض، وفارقه على ندم.

وقد شعر رحمه الله بالقلق والاضطراب والحيرة من كل ذلك، فعبّر عن حالته أجمل تعبير في آخر ما كتب، إذ نشر تلميذ له كتابًا قديمًا اسمه: «صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام» لجلال الدين السيوطي وعرضه على أستاذه ليقدمه، فكان مما قاله رحمه الله في المقدمة:

«كنت عثرت في دار الكتب الأزهرية على مجموعة رسائل للسيوطي في ضمنها كتاب «صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام» وكتاب «جهد القريحة في تجريد النصيحة» الذي لخّصه السيوطي من كتاب «نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان» لابن تيمية، فوجد في الكتابين نفعًا محققًا فيما أحاوله، فشرعت يومئذ في تدارسهما مع بعض الطلاب، غير أن ذلك لم يطل، فقد صرفتني الأقدار عن حياة المنطق إلى حياة ليست بمنطقية».

وقد كتب هذا في ١٨ يناير سنة ١٩٤٧ قبيل وفاته.

فهو يصف حياته في السنين الأخيرة بهذا الوصف الرائع الحزين، إن حياته ليست منطقية، إذ الحياة المنطقية هي مطابقة الحياة للمزاج، والسير في الشئون الخارجية على وفق طبيعة النفس الداخلية، أما جو قلق لنفس هادئة، ومعمعة حروب لطبيعة مسالمة، فليس من المنطق في قليل ولا كثير.

لقد فقدنا بفقده صديقًا كريمًا، وإمامًا عظيمًا، وشخصية لا تعوض، رحمه الله، وطيّب ثراه، وأجزل له من الفضل كِفَاء ما قدم لأمته، وألهم الصبر أسرته وأبناءه وأصدقاءه، ووفقنا لاقتفاء أثره وتخليد ذكره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤