تعقيل الإصلاح١

في اللغة: عقّل الأحمق أو الجاهل، صيّره عاقلًا. وقد استعملته هنا في معنى قريب من هذا، وهو تأسيس الإصلاح على مقتضى العقل والعلم لا على أي أساس آخر.

وتعقيل الإصلاح بهذا المعنى درجة لا يصل إليها الإنسان إلا بعد مراحل شاقة وبلوغ درجة عالية من الرقي والنضج. سواء في ذلك الإصلاح الشخصي أو الإصلاح الاجتماعي. ففي الأفراد مثلًا كثيرًا ما يسير المرء هواه وعواطفه لا عقله، وقد يتخذ الهوى والعوطف شكل العقل خداعًا وتضليلًا. هذا رجل مقتر على نفسه، يأتيه المال الكثير ولا ينفق منه إلا القليل، ويضن به على نفسه وأولاده حتى في الضروريات خشية الفقر، فهذا يسير في حياته على الهوى، ولكن يصبغه صبغة العقل فيخترع حججًا ومنطقًا يبرر بها سلوكه، ويظن أنها العقل وليس بعقل، وإنما هو الهوى.

وهذه امرأة رأت نفسها أسمن مما يلزم، فوُصف لها نمط من الغذاء خاص تلتزمه، فلما حاولت ضعفت إرادتها، فهي تزعم لنفسها أن سمنها ليس فوق المعتاد، وأنها إن نحفت عن ذلك قلّ جمالها، فهي تخترع حججًا عقلية لتبرهن بها على سلوكها، وهي في الواقع تستر فشلها. هي إذن تسير حسب هواها لا حسب عقلها، لأن السير حسب العقل عسير.

والأمر في الإصلاح الاجتماعي أوضح؛ فالأمم تسير في الإصلاح حسب الهوى حتى تنضج فتخضع للإصلاح حسب العقل. وأعني بالهوى مجرد الرغبة، سواء أكانت خيّرة أو شريرة. فالإصلاح المؤسس على مجرد عاطفة ولو خيّرة من غير أن يفحصه العقل هو إصلاح مبني على الهوى ويحتاج إلى تعقيل.

ولنضرب لذلك مثلًا الفقر والإحسان. فقد نُظر إلى الفقر قديمًا على أنه كارثة يألم لها الإنسان، وعالجها بالإحسان بمعنى التصدق على الفقراء، فهذا إصلاح مبني على العاطفة أو النية الحسنة أو الهوى بمعناه الحسن، ولكنه إصلاح لم يعقل. وظل الحال على هذا المنوال حتى جاء العصر الحديث وحدثت النهضة العقلية، فحاولوا تعقيل إصلاح الفقر. فماذا فعلوا؟ درسوا الفقر وأسبابه دراسة عميقة، فتساءلوا: ما الفقر؟ ومن الفقير؟ وأسباب الفقر، وما يرجع منها إلى الفقير، وما يرجع إلى النظام الاقتصادي والاجتماعي في الأمة. ورأوا أن الإحسان بمعنى إعطاء الفقير شيئًا من الصدقة يدًا بيد قد يلتقي مع أسباب الفقر في قليل من الأحيان، ولا يلتقي في كثير منها؛ فإذا كان سبب الفقر أن رب الأسرة سكّير فماذا تجدي الصدقة؟ فلما عقلوا الإصلاح ودرسوا الفقر وأسبابه نوّعوا الإحسان ليتلاقى مع أسباب الفقر؛ فمن كان سبب فقره العطل عن العمل فليوجد له عمل؛ ومن كان سببه الإدمان على كيف من المكيفات فليُعالَج، وإذا كان السبب سوء الحالة الاقتصادية في البلاد فلتصلح الضرائب.

وعلى كل حال فليكن الإحسان في يد جمعيات وهيئات صالحة تدرس وتعالج بناء على الدرس، وليحرم الإنسان الفردي، وليكن الإحسان لهذه الهيئات الصالحة ننفقه، وليُحرَّم التسول في الطرقات بناء على هذا، ولتنشأ المدارس الصناعية لأولاد الفقراء منعًا للفقر المقبل، وهكذا. ولا يزال الباحثون يعقلون هذا الإصلاح إلى اليوم. وكان آخر ما قرأنا في ذلك مشروع «بيفردج». وكان لهذا التعقيل على اختلاف أنواعه نتائج باهرة إن لم تقض على الفقر تمامًا فقد كادت؛ ولولا الحروب وويلاتها لرأينا منها أحسن النتائج.

ولننظر في ضوء هذا إلى الأموال الكثيرة تنفق بدعوى معالجة الفقر عندنا. كأموال النذور والأوقاف الخيرية وأموال الجمعيات الخيرية كيف توزع بدعوى معالجة الفقر من غير عقل ولا تعقيل!!

كذلك الشأن مثلًا في الإجرام والجريمة. كانت النية الحسنة أو الهوى ينفر من الجريمة ويعاقب عليها في كثير من الأحوال، ولكن لما أريد تعقيلها بُحث عن الجريمة وأسبابها ووُضع العلاج لكل سبب؛ فالجريمة لم تأت عفوًا فلا تعالج عفوًا، إنما تأتي من عوامل متعددة مختلفة، فما بقيت العوامل بقي الإجرام.

على هذا أُصلحت السجون، ووضعت الأسس للوقاية من الإجرام.

وهكذا كل الأمراض الاجتماعية وما وُضع لها من إصلاح.

قد أتى هذا التعقيل أو هذا النضج في التفكير نتيجة للإيمان بقانون السببية، وربط المسببات بالأسباب، فالفقر والإجرام والجهل والقذارة وسوء النظام وفساد الحكم، كل ذلك ليست قدرًا ينزل من السماء لا قِبل لنا به ولا دخل لنا فيه، ولكن أسباب حدثت تنتج مسببات لا بد منها، وليست ثمرة تثمر عفوًا، ولكن تبذر بذور وتتكون مع الزمن لتكون شجرة ثم تثمر، ولا بد أن تكون الثمرة من جنس البذرة، فإذا بذرت حنظلًا وأردت تفاحًا فذلك محال، إلا أن تغير البذرة وتتعهدها بالنماء حتى تثمر تفاحًا. ومهما كان لك من نية حسنة فبذرة الحنظل حنظل، وبذرة التفاح تفاح.

•••

والناظر في شئون الأمم والجماعات وتطورها يرى أنها جرت في تطورها على سنن واحد من الخضوع للغريزة، إلى الخضوع للهوى، إلى التعقيل.

فالجمعيات الإنسانية الأولى تتحكم فيها الغرائز وحدها، ولا شيء يكبتها إلا القوة والخوف منها، ثم تخضع لحكم الهوى من تقاليد وعرف وظروف طبيعية واجتماعية، ثم أخيرًا تتطور إلى الخضوع للعقل وإن لم تبلغ في ذلك إلى الآن الغاية.

هذا هو شأن الإنسان في علاقاته الجنسية، فالغرائز أولًا مطلقة، ثم تكون الأسرة خاضعة لأحكام الهوى، ثم تأخذ في الخضوع للعقل، وكذلك الشأن في النظم الاقتصادية تخضع أولًا للغرائز، ثم لحكم الهوى فيكون نظام الطبقات وما إليها، ثم لحكم العقل، وكذلك في الشئون السياسية.

ولهذا كان البطل في الجمعية الأولى أقوى مَن في الجمعية غرائز، كما يتمثل ذلك في شيخ القبيلة، ثم يكون البطل في الطور الثاني الولي أو القديس أو الحاكم المستبد، ثم يكون في طور التعقيل المصلح. وليست الخطوط بين هذه الأطوار واضحة جليّة، فكثيرًا ما تمر القرون مختلطة بين طورين حتى يتم التطور.

•••

ماذا نعني بتعقيل الإصلاح؟

إذا أردنا أن نبني عمارة على مساحة من الأرض فإن سرنا على الهوى فإنا نأتي بمعماري حيثما اتفق، وهو يسير في بنائها حيثما اتفق، وإذا عنَّ في أثناء البناء ضروب من التعديل والتغيير أدخلها، وإذا فرغ مال المالك وسط البناء وقف، وإذا تمّ البناء بدأ يفكر في النجارة، وقد تستلزم النجارة تعديل البناء. وهكذا في كل خطوة تظهر مشاكل تتطلب حلًا، فتُحل المشكلة الحاضرة من غير نظر إلى ما وراءها، حتى إذا تمت — إن تمت — فبطلوع الروح، وبضروب من النقص الناشئ من الارتجال.

أما إن بُنيت على أساس التعقيل وجب أن يحدد المالك ماذا يريد من البناء: الاستغلال أو سكنى نفسه وأهله، وكم شقة يريد في الدور، وكم دورًا.. إلخ.. إلخ.

ويأتي بالمهندس فيمسح الأرض، ويدرسها من حيث طبيعتها وما تسمح به القوانين في ارتفاعها، ويتخيل أحسن أشكالها وفقًا لموقعها وما تتطلبه من شمس وهواء وضياء، ويضع ذلك كله على الخريطة: الأساس والدور الأول والثاني وهكذا، وكم مترًا ستكون مساحة البناء، وما يتطلبه من مال، والنجارة، والسباكة، والكهرباء. ويضع ذلك كله على الورق، ويراعي كل الظروف والملابسات، ويصل إلى كل النتائج، إلى تسليم المفتاح، وإذا كان مهندسًا ماهرًا لم يختل شيء من ذلك في قليل ولا كثير.

ثم المالك بعد يقيس ذلك بماليته، ويرى هل ذلك كله حقق غرضه. فإن تمّ الاتفاق نفذ المشروع، على أن يكون أول حجر يوضع مقدمة لآخر عمل يعمل، فهذا تعقيل البناء وكذلك الشأن في تعقيل الإصلاح الاجتماعي.

إن أي مشروع لإصلاح اجتماعي يتطلب لتعقيله خمس خطوات:
  • (١)

    مسح المشروع كما تمسح الأرض، وذلك بإلقاء نظرة عامة عليه وعلى ما يحيط به من علاقة بين الحالة الاقتصادية والاجتماعية للأمة.

  • (٢)

    دراسة المشروع دراسة وافية من جميع جوانبه كما يفعل المهندس الماهر في دراسة بناء العمارة: من وصف دقيق للمشروع، وتحليل عميق، وعلاقة المشروع بالنظم الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، والاستعانة بما يحتاج إليه من إحصائيات وما يتكلف من مال، والموارد والمصادر والنتائج، والموازنة بين ما يُنفق عليه والنتائج التي تحصل منه، وما قد يعترضه من عوائق، وكيفية التغلب عليها، وهل يُنفّذ دفعة واحدة أو على خطوات، وإن كانت الثانية فما هي هذه الخطوات. وهكذا إلى «تسليم المفتاح».

  • (٣)

    وضع المشروع على الورق، أو رسم الخريطة الكاملة له نتيجة لدرسه، وعرضه على الخبراء لنقده إن كان لديهم نقد، والإصغاء إلى ملاحظاتهم، وتقديرها في عدل وسماحة، وتعديل المشروع حسبما يصح من وجوه نقدهم.

  • (٤)

    إعداد الرأي العام لقبول المشروع والعطف عليه والتحمس لإتمامه، ففي هذا فائدة كبرى للمشروع، فإنه إذا لم يحظ بعطف الرأي العام أحيط بالصعوبات والعقبات، وفتّ ذلك في عضد القائمين به، وتعثر في كل خطوة يخطوها. وفي عطف الرأي العام شيء من الضمان في الاستمرار فيه، والدفع إلى إتمامه.

  • (٥)

    التشريع له وإقراره من السلطة المختصة حتى يبدأ في التنفيذ.

هذه هي الخطوات الخمس لتعقيل أي مشروع، فإن أردنا أن نضيف شيئًا إلى هذه الخطوات الخمس قلنا: يجب أن يكون موقف الأمة الاقتصادي والاجتماعي في حالة ملائمة لقبول هذا المشروع، ولك أن تدخل ذلك في الخطوة الثانية، وهي خطوة الفحص والدرس.

وعلى كل حال فإن رأيت فشلًا في مشروع من المشروعات فاعلم أن سببه أنه لم يستوف خطوة أو أكثر من هذه الخطوات، ولو أنه استكملها لنجح نجاحًا مؤكدًا.

إن أكبر أسباب فشلنا في كثير من المشروعات يرجع إلى عدم تحديد ما نريد، فإذا حددنا ما أردنا فنقْص في البحث والدرس، وكثيرًا ما نعتمد على الدرس الذي قامت به دولة أو هيئة أوربية من غير أن نفحص المشروع نفسه في بلادنا وما يحيط به من ملابسات عندنا. مثال ذلك ما حدثني به اقتصادي مصري خبير قال: إن جماعة في إنجلترا أسست مشروعًا لجمع الملابس القديمة وإعادتها بالآلات الحديثة إلى «فتل» تٌنسج من جديد، فتكون أثوابًا جديدة رخيصة، قد تختلف عن الفتلة الجديدة بأنها أقل متانة وأقل نعومة، ولكنها على كل حال صالحة للاستعمال. ونجح المشروع الإنجليزي، فأراد جماعة من المصريين أن يقلدوهم في مشروعهم بناء على درس الإنجليز لا على درسهم هم، ففشل المشروع لقلة الدرس، إذ فاتهم أن أكثر الملابس الإنجليزية صوفية، وأكثر ملابسنا قطنية، وأن الإنجليز يستغنون عن ملابسهم قبل أن تهلهل، وأن أكثر ملابسنا لا نستغني عنها إلا بعد أن تكون مهلهة. ولذلك فشل المشروع.

ثم إذا نحن حددنا ما أردنا جيدًا، ودرسنا جيدًا، فأمامنا ثلاث مصائب كبرى تقضي على أكثر المشروعات:النظام المالي عندنا وفساده، وهذا يحتاج وحده إلى محاضرة أو محاضرات ممن هم أعلم مني بذلك، وعدم استقرار الحكومات مع ربط المشروعات برغبات الحكومة، فإذا تغيرت الحكومة تغيرت الرغبة، وأوضح مثل لذلك مهزلة مشروع خزان أسوان، ومشروع تعميم التعليم، والمصيبة الثالثة ضعف خلق الثبات والاستقرار في الأمة، ويتجلى هذا حتى في المشروعات الأهلية؛ لهذا كله قد نرى المشروع جميلًا جدًا، وإخراجه إلى الوجود قبيحًا جدًا، آلة فخمة ضخمة كاملة، ولكن ينقصها المحرك.

ومع هذا فدورنا دور طبيعي في الأمم، ولا بد حين الانتقال من عصر الهوى إلى عصر التعقيل، من عصر مخضرم، ثم ينتهي الأمر إلى التعقيل لا محالة، إن شاء الله.

١  ملخص محاضرة ألفيت في الجمعية الجغرافية بدعوة من الجامعة الشعبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤