غفلة مزمنة

قرأت في بعض الصحف «أن زعيم الإسماعيلية الهنود، وعددهم يزيد على عشرة ملايين، سيُهدي إليه أتباعه في عيده الماسي وزنه ماسًا، ويقدر الماس الذي يعادل وزنه ﺑ ٦١٥٠٠٠ قيراط، وقد بدأ فعلًا جمعها، وقد أُهدي إليه في عيده الذهبي وزنه ذهبًا فبلغ ٢٥٠٠٠ جنيه ذهبًا».

فقلت: أيظل المسلمون في غفلتهم هذه أبدًا؟ إن الإسلام في جوهره لا يقدس أحدًا، ويحارب عبادة كل حجر وكل وثن وكل صنم وكل حيوان وكل إنسان، وشعاره الدائم «لا إله إلا الله» ومعناها البسيط أنه هو وحده الذي يُعبد والذي يُقدّس والذي يُرجى والذي يُخاف.

فما بال المسلمين فقدوا هذا المعنى فقدسوا الأشخاص يعبدونهم، ويلجئون إليهم ويقدمون لهم الهدايا كما تُقدّم القرابين؟!

ألا يدرون فيما تُصرف هذه الأموال الطائلة التي يجمعونها من البائس الفقير الذي لا يجد ما يسد قوته وما يستر جسمه؟ إنها تُصرف في خيل السباق وفي ترف الزعيم وفي غير ذلك من وجوه السرف؟ أليست نظرة بسيطة تُري أن هذا المال الذي يُجمع من محتاجه ليُصرف في هذه الوجوه غفلة عريقة عريضة.

ولم هذا التقديس كله؟ ولم هذه الحفاوة كلها؟ لم يكن ذلك من كفاية ممتازة، ولا عبقرية خارقة للعادة، ولا قيام بالإصلاح عظيم، ولكن وراثة دينية ورثها، وسلطة روحية تنقلت من الآباء إلى الأبناء حتى وصلت إليه.

أفيقوا أيها المسلمون.

ليس هذا الأمر مقصورًا على الإسماعيلية دون غيرهم ولا على الشيعة دون السنيين، فالغفلة عامة والجهل مخيم والسخافة فاشية وعبادة الأشخاص في كل مذهب.

ما صناديق النذور هذه التي يراها الزائر عند كل ضريح كبير كالسيد البدوي والإمام الشافعي والسيدة زينب وسيدنا الحسين وغيرها من الأضرحة؟ إن كل صندوق من هذه توضع فيها مئات الجنيهات بل الآلاف أحيانًا كل عام.

أتدرون من الذي يدفعها ومن الذي ينعم بها؟ يدفعها الفلاح المسكين يحرم نفسه وأولاده من غذائهم الضروري وملبسهم الذي لا بد منه، ويدفعها من ثمن بقرة يبيعها وهو في أشد الحاجة إليها في زراعته ليفي بنذر نذره إن شُفي ابنه من مرض أو بُرّئ من تهمة أو نحو ذلك؟ مما لا دخل للسيد البدوي وسيدنا الحسين فيه.

ويأخذ الأغنياء المترفون من مشايخ هذه المساجد ومن إليهم ممن ليسوا في حاجة إليها، وبعضهم يقتني منها الأملاك والضياع، وكل حين تحدث فضائح حول هذه الصناديق تؤلف وزارة الأوقاف لها لجانًا. وماذا عليها لو ألغتها فسدَّت بذلك بابًا من أبواب الفساد.

وما هذه مشيخة الصوفية التي تُتوارث كما ورث زعيم الإسماعيلية مشيخته؟ فهل العلم يُتوارث وهل الروح تُتوارث؟ إنا نرى أعلم عالم يلد أجهل جاهل، وصالحًا كبيرًا يلد فاسقًا كبيرًا وممعنًا في الفسق يلد ممعنًا في الصلاح. والعلم والذكاء والغباء والصلاح والفساد «تذكرة شخصية» لا يمكن أن تُتوارث، وقد مُنع الأنبياء من أن يُورَّثوا حتى في أموالهم وجاء الحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة».

فالسيادة الروحية كالسيادة العلمية لا يصح أن يكون كل مصدرها الوراثة، بل لا يصح أن يكون أحد مصادرها الوراثة. هل رأيت أحدًا اختير أستإذن في جامعة أوفي مدرسة عالية أو غير عالية لأن أباه كان يشغل هذا المنصب؟ فكيف بالروح وأمرها أصعب ونيل الدرجة الممتازة فيها أشق و«الله أعلم حيث يجعل رسالته» وقد يكون شريف النسب لا يساوي عند الله شيئًا، وقد يكون وضيع النسب وهو عند الله في مكان مكين؛ هذه بديهيات تطيح بمشايخ الطرق زعماء المذاهب وبكل من نال منصبًا بالوراثة لا بالكفاية.

قد كان الناس إلى عهد قريب ينظرون إلى المناصب نظرة شخصية، فإذا مات موظف جهدوا في أن يحل ابنه مكانه للحرص على أن يظل «البيت مفتوحًا» ونحو ذلك من الاعتبارات، فلما عقلوا وفهموا أن المنصب عمل يُؤدّي ولا بد لمن يؤديه أن يكون كفؤًا له زالت النظرة الشخصية وزال توظيف الابن مكان أبيه لمجرد الأبوة والبنوة، وروعيت المصلحة العامة لا المصلحة الشخصية. فلماذا تبقى هذه البقية من المناصب تُتوارث من غير نظر إلى الكفاية؟

إن رجل الدين إنما يقوم بدينه وبما يقوم به من إصلاح روحي وخلقي، فلو لم يكن فيه هذه الصفات فلا يصلح مطلقًا أن يُولّي هذا المنصب ولو كان أشرف الشرفاء. والله يقول لنوح النبي في ابنه غير المؤمن: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ. والرسول يقول لعائشة زوجه ولفاطمة ابنته «إني لا أغني عنك من الله شيئًا» فما بال هؤلاء يعتزون بنسبهم البعيد ويرون استحقاقهم للمناصب بنسبهم لا عملهم والناس من عفلتهم يؤيدونهم في أغراضهم وشهواتهم!

هل كان النبي يختار لعمله أقاربه؟ أو كان أبو بكر وعمر وعليّ يختارون لعملهم أقارب النبي؟ ألم ينح عليّ نفسه قريبه عبد الله بن عباس وينصّب من ليس من أهله مراعاة للكفاية وحدها؟

جميلة جدًا هذه العاطفة النبيلة أن يحب المسلمون نبيهم فيحبوا كل ما يتصل به من أقاربه ومكانه وأصحابه كما يحب العاشق كل ما اتصل بمحبوبه، ولكن لا يصح أن يتدخل هذا الحب في المصلحة العامة ولا في العدالة الاجتماعية ولا في المبادئ الأساسية للإسلام. هل يُسمَح لي في شرعة العدل أن أولّي قريبًا عملًا لا يصلح له؟ بالبداهة «لا» فكذلك هنا «لا».

إن من أسس الإسلام التقويم بالعمل لا بالنسب. ووُضعت لذلك القاعدة الجميلة فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ من غير نظر إلى فاعل الخير وفاعل الشر. فهل يصح أن نهمل كل ذلك من أجل الحب، والحبيب نفسه لا يرضى أن تُهدر مبادئه؟

لقد ذهب زمان الغفلة وأصبح الناس يقدرون الرجل بعمله، فيولّون رياسة حكوماتهم ابن الصانع وابن العامل، وينحّون عن العمل ابن العظيم وابن الشريف إذا كان لا يصلح للمنصب، والناس يتقدمون للانتخاب بعملهم وببرامجهم لا بنسبهم، ومنتخبوهم ينتخبونهم على هذا الأساس لا على أي أساس آخر.

أفيصح للمسلمين في مثل هذا الزمان أن يسلّموا زمامهم وينفقوا أموالهم ويطأطئوا رءوسهم ويسندوا أعمالهم إلى من ليس يستحق لمجرد نسبه؟

لست أقصد بهذا النقد مذهبًا معينًا ولا طائفة خاصة، فهذا الشر واقع فيه كل الطوائف، والغفلة عامة، فهل يفيقون في زمن لا تكفي فيه الإفاقة بل لا بد من العمل المجدي والسعي المضني للعيش الصالح في هذا العالم!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤