مثل رائع

كان مسلمة بن الخليفة عبد الملك بن مروان سيد بني أمية، نبلًا وكرمًا وشجاعة وعلو نفس وأصالة رأي، لما اشتدت العلة بعبد الملك دعا بنيه وقال: «أوصيكم بتقوى الله، فإنها عصمة باقية، وجُنة واقية, وقِّروا كبيركم، وارحموا صغيركم، وابذلوا للناس معروفكم، وجنبوهم أذاكم، وأكرموا مسلمة بن عبد الملك، فإنه سنكم الذي به تتزينون، ونابكم الذي عنه تفترون، وسيفكم الذي به تصولون، فاقبلوا قوله، واصدروا عن رأيه، وأسندوا جسيم أمركم إليه، وأكرموا الحجاج بن يوسف، فإنه وطّأ لكم المنابر، ودوّخ لكم البلاد».

وتسألني: ومسلمة على هذه الحال، لماذا لم يعهد عبد الملك إليه بالخلافة كما عهد لبنيه؟

فأقول: كانت تقاليد بني أمية الإمعان في العصبية للعرب، واستهجان من عداهم، والاعتزاز بالدم العربي إلى أقصى حدود الاعتزاز، والاستخفاف بغيرهم مهما بلغوا من المجد؛ ولهم في ذلك أخبار غريبة، ونوادر عجيبة؛ ولم تكن أم مسلمة عربية، بل كانت رومية.

والعرب في عهد بني أمية يرون ألا يصلح للخلافة إلا العربي القح، فهذا ما نحّى مسلمة عن الخلافة رغم كل مميزاته.

ومع أن عبد الملك نفسه لم يؤمن بهذه النظرية، ويرى أن قد يكون في أبناء الإماء نجابة وفضل ونبل، وخاصة إذا كرم أصلهن، وعلا حسبهن فإنه لم يستطع الخروج على هذه التقاليد:

أقيمت يومًا حفلة سباق وفروسية حضرها عبد الملك، فكان السابق فيها مسلمة. فنظر عبد الملك إلى مصقلة ابن رقبة العبدي وقال: إن صاحبكم لقليل المعرفة بأولاد أمهات الأولاد حين يقول:

نهيتكم أن تحملوا هجناءكم١
على خيلكم يوم الرهان فتُدركوا
وما يستوي المرآن هذا ابن حرة
وهذا ابن أخرى بطنها متشرك
ترعّد كفاه ويسقط سوطه
وتفتُر فخذاه فلا يتحرك
وتدركه أعراق سوء ذميمة
ألا إن عرق السوء لا بد مدرك

ولكن العرف والتقاليد والرأي العام غلبت على عبد الملك، فخضع لها، وأبعد مسلمة، وجعل الخلافة في سليمان ويزيد والوليد وهشام أبنائه من الحرائر.

فتوجه مسلمة إلى المجد لا عن طريق الخلافة، فكان القائد الكبير، والفاتح العظيم، وطالما اشتاق إلى فتح القسطنطينية، وقد تقدم في الفتوح إلى أن وصل إلى أسوارها.

•••

لم نسق هذا الحديث في فضائل مسلمة، وإنما سقناه لجندي مجهول في جيش مسلمة، تمنى مسلمة أن يكونه، لم يعرف له اسم، ولا حسب، ولا نسب، ولم يشأ هو أن يُعرف له شيء من ذلك.

هؤلاء هم المسلمون يحاصرون حصنًا منيعًا بذلوا الجهد في الاستيلاء عليه فلم يوفقوا، وأخيرًا نقبوا فيه نقبًا لينفذوا منه إلى داخله، ولكن الروم أدركوا خطورة عملهم، فوجهوا إلى النقب قوتهم، فكلما أراد أحد من المسلمين أن ينفذ منه قُتل، وأخيرًا جدًا استطاع جندي أن يأتي بالأعاجيب، فنّفذ ومهّد السبيل لغيره أن ينفذوا، ثم استولوا على الحصن، وفرح المسلمون بنصر الله والفتح، وعرف مسلمة فضل ذلك الجندي الباسل، فأراد أن يكرمه، فجمع الناس وأمر مناديًا ينادي: أين صاحب النقب؟ والتفت الناس، واشرأبت الأعناق لرؤية هذا الذي يتقدم مزهوًا بنفسه معجبًا بشجاعته معتزًا بفعاله.

ولكن مرت فترة سكون رهيبة ولم يتقدم أحد.

أمر مسلمة أن ينادي المنادي مرة ثانية، فلعله لم يسمع، فكانت المناداة الثانية والثالثة كالأولى، لم يلبّها أحد.

وفي المرة الرابعة تقدم رجل ملثم لا يبين وجهه، وقال: أنا أيها الأمير «صاحب النقب»، «ولكن آخذ عليكم عهودًا ومواثيق ثلاثة: ألا تسوّدوا اسمي في صحيفة٢، ولا تأمروا لي بشيء، ولا تسألوني من أنا».

قال مسلمة: قد فعلنا لك ذلك.

ثم اندس في غمار الجند لم يعرفه أحد.

قال الراوي: فكان مسلمة يدعو بعد صلاته: «اللهم اجعلني مع صاحب النقب».

•••

لو حللنا نفسية هذا الرجل العظيم؛ والباعث له على سلوكه، لكان أحد أمرين: إما أنه أراد أن يحتسب عمله لربه من غير أن يُضعِف قيمته بمكافأة أو شهرة أو جاه، عملًا بقوله تعالى: إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ. وإما أن تكون قد سَمَتْ عنده فكرة الخير، وملكت عليه نفسه، فهو يعمل الواجب للواجب من غير أن يدنسه بنظرة إلى ثواب ما، وكلا الباعثين عظيم تضعف بجانبهما كل البواعث الأخرى، حتى باعث «مسلمة» من فخر ومجد وحسن أحدوثة، ولذلك أدرك مسلمة سمو هذا الرجل عنه، فكان يدعو الله أن يجعله مع «صاحب النقب».

إن هذا الجندي المجهول شعر أن باعثه النبيل أرقى من أن يناله التاريخ فيدونه، وأرفع من أن يقوّمه الإنسان فيجازي عليه. لئن دوّنه التاريخ فيجب أن يدوّنه معنى في السماء لم يتصل بشخص في الأرض، ولئن أراد الناس أن يقوّموه فيجب أن يقوّموه في نفوسهم ليُحتذى، لا لمكافأة صاحبه ليستصغر.

ليت شباننا وشيوخنا يعون هذا الدرس، فقد أصبحت التضحية مهزلة، فكل من صرخ صرخة فهو كبير المجاهدين، وإن شيك شوكة فهو سيد المضحين، لا يرضيه إلا أن يطبل له ويزمر له، ويُهتف باسمه كلما تحرك، ويُسبَح بحمده كلما ذُكر، ويُكتب اسمه كل يوم في الصحف بحروف بارزة، إلى آخر هذا الهراء، يريدون غنمًا كثيرًا من غير غرم، وشهرة طويلة عريضة من غير عمل.

والله لو أطلّت علينا روح هذا الجندي المجهول، ورأت هذه المظاهر الكاذبة لأسرعت في التواري مما ترى خجلًا.

١  الهجين من كان ابن أمة من عربي.
٢  يريد ألا تكتبوا اسمي في دفتر للعطاء، أو للتشريف أو نحو ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤