الشرق في محنته

يجتاز الشرق اليوم مرحلة من أدق المراحل وأخطرها، عليها يتوقف مصيره وتتأثر بها أجياله.

ولئن كان العالم كله يجتاز هذه المرحلة كذلك فللشرق مشاكله الخاصة به وله آماله وآلامه التي لا يشاركه فيها غيره.

ومشاكل الشرق آتية من علاقاته الخارجية وعلاقاته الداخلية.

فمن الناحية الخارجية يريد الشرق تبعًا للتطور العالمي أن يستقل ويحكم نفسه بنفسه، ويصرف شئونه كما يرى، وكما يقدر المصلحة له ولمن حوله، ويأبى كل الإباء أن يتحكم فيه الغرب كما كان يتحكم من قبل، وأن يتصرف فيه تصرفه في السلع التي تباع وتشرى، ويرى الشرق أن خضوعه لغيره إن كان ممكنًا فيما مضى وقت عماه وضلاله وغفلته فلم يعد ممكنًا الآن، وقد أبصر بعد العمى، واهتدى بعد الضلال، وتنبه بعد الغفلة، وأيقن أن العلاقة بينه وبين الغرب لم تعد علاقة عبد لسيد ولا خادم بمخدوم ولا فلاح بمالك مزرعة، وإنما يجب أن تكون العلاقة علاقة الند للند، كل يدير شئون نفسه بنفسه، وكل يخضع لما يتطلبه الصالح العام للعالم.

هذه وجهة نظر الشرق الآن، وهو يعتمد في تحقيق مطالبه على قوة حجته، وقوة مطالبته، وعرقلة الطريق أمام من يريد أن يتحكم فيه، ويجعل حكمه صعبًا عسيرًا لا يُطاق، واستحياء الضمير الإنساني العالمي الذي ينادي من أعماق القلوب بتحقيق العدالة الإنسانية.

والغرب من ناحيته يصعب عليه التجرد عن امتيازاته في الشرق التي استمتع بها طويلًا، ويعز عليه النزول عن مكان السيادة إلى منزلة المساواة، ثم هو منقسم على نفسه، يتنافس بعضه مع بعض في السيادة والكسب. وكل يخشى أن ينزل عن سيادته للأمة المحكومة فيحل محله المنافس الآخر لا الأمة المحكومة نفسها، فيكون قد قوي خصمه من غير أن ينفع الأمة المحكومة بشيء؛ فهو لا يريد أن يتخلى عن جزء من السيادة حتى يستوثق من أنه لا يؤول إلى منافسه، ثم إن الأحزاب في الغرب تتحارب في كل أمة بالحق وبالباطل رغبة في الحكم، فإذا أراد الحزب الذي يتولى الحكم أن يخضع للحق، ويسلم بمبادئ العدالة، شنّعت عليه الأحزاب الأخرى، ورمته بأنه يريد تصفية أملاكها، وضياع عزتها، فيضطر إلى التراجع ولو بعض الشيء، والجمود على القديم ولو إلى حد، ثم إن الضمير الإنساني لم يستيقظ بعد الاستيقاظ التام، وهو إذا استيقظ أثناء الحروب فنادى بالعدالة التامة عاد بعد الحروب يختفي شيئًا فشيئًا تحت تأثير المنافسة الدولية، والتسابق إلى السيادة، وتنبه الغرائز القديمة، فلا يزال يختفي شيئًا فشيئًا ويحل محله الضمير القومي شيئًا فشيئًا حتى تنشب الحرب من جديد.

من هذا كله ينشأ الصراع بين المستعمِر والمستعمَر، بين طالب التحرر وطالب السيادة، بين الشرق والغرب، وهذا هو ما يعانيه الشرق الآن: مصر تجاهد في نيل استقلالها، والعراق يناضل في سبيل تعديل معاهدته، وسوريا ولبنان يعانيان في استكمال استقلالهما، وفلسطين المسكينة تئن من ظلم العالم، وبلاد المغرب تصرخ من ظلم فرنسا وهكذا وهكذا. والصراع دائم والمرحلة دقيقة، والغلبة للحق إذا استند على القوة، وليست القوة في السلاح وحده، فالاتحاد قوة والعناد قوة، والإلحاح في المطالبة قوة، والدعاية قوة، والوسائل الاقتصادية قوة إلخ.

•••

ثم مشاكل كل الشرق الداخلية ليست بأقل صعوبة ودقة من المشاكل الخارجية، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؛ فقد أفسدنا الحكم الأجنبي حتى مزقنا، وأفسدتنا الحكومات المتعاقبة حتى فرقتنا، ومرت علينا أجيال لا نتولى فيها أمور أنفسنا، فأضعفت شخصيتنا، وتحكمت فينا الطبقات الأرستقراطية حتى أذلتنا، وأصبحت كل طبقة تذل لمن فوقها وتستعبد من تحتها، فضاعت عزتنا، فلما انتبهنا لهذه الأمور كلها رأينا العبء ثقيلًا والديون باهظة، وكلها تقتضينا جهادًا طويلًا.

إن الشرق يحتاج في جهاده الداخلي إلى تكوين رأي عام شديد الإيمان بالعدالة يقف الظالم عند حده، مستنير لا يلعب به الدجالون، قوي يخافه الهازلون.

يحتاج في جهاده إلى تضحية من الزعماء، فليست المسألة كلها شهوة في الحكم، فالحكم بمعناه الصحيح مغرم لا مغنم، وليس الحاكم سلطانًا يأمر وينهي كما يشاء، ويتخذ كرسيه أداة لعظم الجاه، ونيل المكسب، والتحكم في رقاب الناس وأموالهم؛ فهذه الأمور كلها هي التي تفتح شهوة الحكم، فإذا زالت — ويجب أن تزول — أدرك الحاكم أنه خادم للأمة، وأدرك المحكومون أن الحاكم نائب عنهم، عامل لخدمتهم، وأنهم رقباء عليه، إذا عدل بقي، وإذا لم يعدل نُحي عن كرسيه؛ فبذلك تزول عظمة الحاكم الكاذبة، وتقل الشهوة في الحكم، ولا يتقدم له إلا كفؤه.

إن الشرق في جهاده يحتاج إلى علم يدعم به نفسه، فيعرف كيف يستغل موارده، وكيف يسيّر أموره الاقتصادية، وكيف يقضي على الفساد الذي سببه الجهل بجميع مرافق الحياة.

إن العالم الآن يقوّم الأشياء بالعدل لا بالرحمة، وبالقوة لا بالضعف، فمن لم يثبت عدالته لا يرحم، ومن لم يحقق قوته لا يقوم.

هل يدرك الغرب أن الشرق لا ينام بعد اليقظة، ولا يُستذل بعد أن شعر بنفسه، ولا يستسلم بعد أن أدرك قوته؟

وهل يدرك الشرق نفسه ما أمامه من مفترق الطرق، وما يجتازه من دقة المرحلة، وما في عنقه للأجيال القادمة، فيبذل كل جهده، ويضحي بكل شهواته، ولا يهزل حيث يجد العالم، ولا يتكالب على الصغائر، والحكمة منعقدة، والعالم شاهد، والحكم على لسان القاضي؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤