في الحياة الروحية١

١

بيت جميل، تروعك عظمته وفخامته، قد أسبل عليه القدم جلالا، يشهد لمهندسه بالمقدرة الفنية، تدخله فيعجبك أثاثه كما أعجبك بناؤه، قد فُرشت كل حجرة منه فرشًا جميلًا متناسقًا، وزُين البيت كله بأنواع الزينة، وحُلي بأنواع الطرف، وكان حديث الناس في الإعجاب به ووصف جماله وجلاله، يفيض المهندس في وصف بنائه، والفنان في الإشادة بفنه، والهاوي بالإعجاب بطرفه، والأديب بوحي مناظره، وكلهم متفقون على حسنه.

ولكنهم مختلفون اختلافًا كبيرًا في أمر هام من أموره؛ فقوم يقولون إن في البيت كنزًا مدفونًا لسنا نعلم مقره، ولكنا واثقون من وجوده، وهذا الكنز في الغاية من عظم القيمة، حتى إن البيت وما فيه لا يساوي شيئًا بجانبه، ومن وصل إليه أو نال شيئًا منه كان ذا حظ عظيم، أما من اكتفى بمنظر البيت ومتاعه فلم يدرك من الأمور إلا ظواهرها.

وقال آخرون إن هذا الكلام من صنع الخيال، وليس في البيت إلا ما نحس وما نرى وما نلمس، فهذا هو الحق، وهو الحق وحده، أما الكنز فلا نؤمن به إذ لا دليل عليه، وإنما هي أقوال قالها السلف وتوارثها الخلف. ولسنا نؤمن إلا بالحس وما يستنتج من الحس، فإن شئتم أن نؤمن بالكنز فأروناه جهرة.

ولما خلا المؤمنون بالكنز إلى أنفسهم اختلفوا فيما بينهم على طريقة استكشافه. فقال قوم نطلق البخور ونقرأ التعاويذ حتى يفتح الكنز، وقال آخرون إن ذلك إنما يكون بالسحر وضرب الرمل، وهزئ آخرون بكل ذلك وقالوا إن الوسيلة للوصول إليه صفاء النفس ورياضتها وتطهيرها وإرهاف مشاعرها حتى تصبح كالمرآة المجلوة تنعكس عليها صور الأشياء ومنها الكنز.

هذا مثل الحياة المادية والحياة الروحية، وهذا مثل الحياة الروحية بما فيها من حق وباطل وصدق وتخريف.

وتاريخ الإنسانية نزاع حول هذا البيت هل فيه كنز أولًا؟ فكل العقائد والأديان عمادها أن وراء هذا المنظور شيئًا غير منظور.

وشأن البيت وكنزه والخلاف فيه كشأن الإنسان بدنه وروحه يبتدئ ظاهرًا من خلايا وعضلات، ثم يدق في خلايا المخ وأعصابه، ويصل العلماء إلى بعض خصائص هذه الخلايا المخية، ثم تغمض حتى يعمى عليهم الأمر، ويكون الشأن شأن كنز البيت، فإذا وصلنا إلى الروح فالأمر أعقد وأغمض، كيف تحيا هذه الخلايا، وكيف تؤدي وظائفها العجيبة ذلك ما لا نعلم، ومع هذا ظل قوم لا يؤمنون إلا بالعلم.

إنا لنشهد في المدنية اليونانية هذا النزاع بين الماديين والروحانيين؛ فمنهم الطبيعيون الذي يؤمنون بالطبيعة ولا يؤمنون بما وراءها، والروحانيون الذين يؤمنون بما وراء المادة، ويغرقون في هذا الإيمان كما يظهر في أعمال معبد «دلفي». وعند المصريين القدماء كانت النزعتان، وكان رجال الدين هم الذين يحفظون أسرار الحياة ويصفون الحياة قبل الميلاد والحياة بعد الموت.

وتأتي على العالم موجات، موجة إلحاد يعقبها موجة إيمان وهكذا.

وفي القرن التاسع عشر وأوائل العشرين سادت النزعة العلمية، وتبعها الإيمان بالمادة وحدها، وسادت العالم العلوم الثلاثة، الطبيعة تبحث في ظواهر المادة التي حولنا، والفلك يبحث في حركة الأجسام السماوية ومادتها، والكيمياء تبحث في تركيب المادة، فكلها تبحث عن المادة، عن البيت من غير كنز، وتبع ذلك الاكتشافات العلمية الخطيرة والمخترعات العجيبة، وقسموا المادة إلى عضوية وغير عضوية، فالعضوية تشمل الحيوان والنبات، وقصروا الفروق بين العضوية وغير العضوية على الظواهر الخارجية، من تنفس وغذاء ونحو ذلك، ولكن العلم لم ينجح في تفسير كل ما في البيت كيف تؤثر الشمس في حركة الأرض وفي إضاءتها وحرارتها، مع أن بينهما خلوًا وفراغًا؟ إن قانون الجاذبية قد حل المسألة رياضيًّا، ولكن لم يحلها عقليًّا، وساد العالم الطبيعي نظرية الذبذبة في الكهرباء والمغنطيسية والحرارة والضوء، ولكنها كلها لا تفهم مع وجود الخلو والفراغ، ولا بد من فرض مادة تملأ هذا الخلو وهذا الفراغ، وهي الأثير، والأثير غير مفهوم، وإنما هو فرض يفرض.

وقال العلم الحديث إن المادة عضوية أو غير عضوية مكونة من ذرات، وهذه الذرات في حركة مستمرة، تتجاذب وتتدافع وتتقارب وتتباعد، وكلها قد تكون في جسم واحد فكيف تبقى ولا تتصادم فتفنى، ومن ذا الذي يحفظها وينظم حركاتها هذا النظام العجيب؟ ومئة سيارة في ساحة تتجه اتجاهات متعاكسة لا يمكن أن تبقى من غير صدام وفناء، فكيف بالملايين؟

وهكذا آلاف من الأسئلة يقف عندها العلم، والعلماء أنفسهم أقدر على الإقرار بما لم يفهموا، فإذا تجاوزوا ظواهر ما في البيت عجزوا عن تفسيره، وكانت هذه حجة قوية للقائلين بأن في البيت أسرارًا وكنوزًا لا بد منها لتكميل تفسير حقيقة ما في البيت. وثمة شيء آخر، وهو أن الذين آمنوا بالكنز كانوا أسعد حالًا وأهدأ بالًا؛ لأن الإيمان به جاوب ناحية من نواحي نفوسهم فملأها وغذاها، أما الذين كفروا بهذا الكنز فقد شعروا بفراغ لم يملأه شيء ولا العلم، وشكّوا في قيمة الحياة وقيمة الأخلاق، وهذا هو ما ساد في المدنية الغربية يوم ساد العلم وحده. لقد امتلأت حياة العالم بالبحث عن المادة، والمالي بالبحث عن المال، والصانع بالصناعة، ولكن هذا الفراغ في النفس الذي لا يملؤه إلا الدين كان موضع القلق والحيرة والاضطراب مهما نال الإنسان من مسرات الحياة، فالمسرات الواقعية إذا أصبحت رتيبة فقدت قوتها وزهد صاحبها فيها، وكلما عرض له عارض من تقدم في السن أو مرض أو وقت خلو أحس بهذا الفراغ يؤلمه، وهكذا كل شيء لا يتفق وطبيعة الإنسان.

لقد فشل العلم في نبوءته يوم تنبأ بأنه سيملك ناصية العالم، ويملأ حياة الناس سعادة، ويزيل منهم كل شقاء، ويجعل من الدنيا جنة كما يقول رجال الدين في جنة الآخرة. وظهر هذا الفشل في مظاهر شتى، في هروب بعض ذوي المشاعر الرقيقة من ضوضاء المدنية إلى الطبيعة، ومن سوء الواقع إلى جمال الخيال، بل وبعضهم من مدن الممدنين إلى قرى المتوحشين، وظهر في جشع الكثير من الناس، وتقويم كل شيء بميزان الذهب والفضة، ثم لا سعدوا في أنفسهم ولا أسعدوا غيرهم. وظهر في هذه الأعصاب المهدمة عند أغلب الناس لم يهدئها الدين، ولم يلطفها اليقين، وظهر في الشباب الذي تحرر من كل قيد فإذا هو في قيد المرض والفقر وضيق النفس، والشابات اللاتي تحررن من قيود سلطة الآباء، فوقعن في أسر سلطان الزمان، وظهر في المسحونين في شكل طلقاء، وفي الأموات في شكل أحياء، وأخيرًا في الحروب المتوالية ونكباتها وويلاتها، لقد تنبأ بأن الناس إذا تحرروا من قيود العقيدة ومن قيود رجال الدين، كانت السعادة التامة، فلما تحرروا من كل ذلك لم يكن إلى الشقاء.

إن المدنية الحديثة آلام ضاحكة، وأصوات «جازبند» تخفي وراءها أنينًا أليمًا, ورقص ضاحك يغالب قلبًا حزينًا. الحياة حرب حاضرة أو استعداد لحرب قادمة، أو بكاء من حرب فائتة. ومن المستحيل مع هذا اطمئنان دائم.

سر هذا أن الحياة فقدت انسجامها الذي كان يؤلفه الدين، وأن المصلحين يعالجون المادة ولا يعالجون الروح، وينظرون إلى البيت وأساسه وأثاثه ولا ينظرون أبدًا إلى كنزه.

كان المتدينون ينظرون إلى العالم كوحدة يسيطر عليها إله، وإن اختلفوا في التفاصيل فلم يختلفوا في الأساس، وكانوا يضمّون إلى حساب الأرض حساب السماء، وإلى الحياة الدنيا الحياة الأخرى، فكان هذا يوحي بالطمأنينة والانسجام. ولكن في تفاصيل كل دين وفيما عرض له بعد أيامه الأولى ما لا يتفق والعقل إذا رقي، والعواطف إذا تسامت، فبدل أن يعالج ذلك المصلحون ويفرقوا بين أصل صح وعارض فسد أنكروا الدين جملة، واتجهوا إلى العلم وحده، وإلى المنطق الجاف وحده، فذبلت الروح من قلة الغذاء، وضعفت الأخلاق إذ لم تؤسس على تقديس، وحل محل تقديس المبادئ ما وضع الساسة وعلماء الاقتصاد والاجتماع، فشعر الإنسان أنه مضطر لسماع الأوامر لا سامع لصوت الضمير، هو مضطر للخضوع للرأي العام ولقانون الدولة، وللمستبد الجبار أو للبرلمان، لا لأوامر الله الذي يسيطر على العالم وينظمه ويرعى في أوامره خيره وفي نهيه ضرره. لقد وعدوه بالسعادة عند ما تتحقق حرية العقل وحرية التفكير، ولكن رأى آخر الأمر أنهم قيدوه بآلاف القيود من ضغط الحوادث وكثرة القوانين ودعوى الوطنية.

لقد كانت أوامر الدين ربما آلمت وأتعبت، ولكن كان يخفف ألمها ومشقتها وربما يقلبها إلى لذة الاعتقادُ بأنها أوامر من بيده ملكوت السموات والأرض، ومن يستطيع الجزاء، ومن يعلم خفايا النفوس وبواطن الأمور وخلجات القلوب. أما الآن فأوامر مؤلمة ومطالب شاقة ممن قد يخطئ في أوامره وقد يصيب، وليس بيده المقدرة على الجزاء على النيات والضمائر، وممن هو مثلنا له شهوات وأغراض.

كل هذا حيّر الإنسان لما فقد دينه وجعله معلقًا بين السماء والأرض؛ فلا المصلحون الدنيويون أرضوه بتعاليمهم، ولا المصلحون الدينيون استبعدوا من الدين ما دخله من فساد.

لقد أصبح الناس بين قائل يقول: ليس في البيت كنز. وقائل: إن في البيت كنزًا يفتح بالبخور والتعاويذ. وليس هذا ولا ذاك مما يدعو إلى اطمئنانهم، وهم ينتظرون من يهديهم إلى الكنز بما يتفق وعقليتهم وعواطفهم.

٢

قال الصوفي: «إن تصوفنا معناه إدراك أو محاولة إدراك القوة الخفية في العالم، إدراك الله والروح عن طريق الوجدان»، وقد وجدت هذه النزعة الصوفية في كل الأزمان، وفي كل الأمم، وفي كل الأديان، ووصل أهلها إلى مبادئ متشابهة واكتشافات متماثلة، ليست من جنس ما يكتشف بالعقل أو بالمنطق، وإنما هي من جنس إلهام الشاعر والفنان، ولكن من نوع أرقى.

والنزعة إلى التصوف استعداد فطري عند بعض الأفراد ينمو بالمران؛ فكما أن هناك ذكيًّا وغبيًّا بالفطرة، وشاعرًا أو غير شاعر، كذلك هناك متصوف وغير متصوف بالفطرة، وكما أن العقل وسيلة من وسائل المعرفة عن طريق المنطق، فالتصوف طريق من طرق المعرفة عن طريق الرياضة التي تؤدي إلى الكشف والإلهام.

لا يعبأ المتصوفة كثيرًا بمظهر العالم إلا من ناحية دلالته على باطنه، إنما يعبئون بالحياة الباطنة التي تنتج الظاهر، إن ما نقرأ في التاريخ من قيام دول وسقوط دول وحروب وحالات اجتماعية واقتصادية ليست إلا تاريخ المظهر، أما تاريخ الباطن فهو التصوف، والفرق بينهما كالفرق بين من يرى أن أوراق الشجرة وجذعها هو كل شيء فيها، ولكن الورق يتجدد ويسقط، والشجرة باقية بجذورها الخفية وحياتها الباطنة؛ أو كالفرق بين من يرى أن البحر هو أمواجه، مع أن الموج ليس إلا سطحه.

إن الروحانية إنسانية داخل الإنسانية، وعالم داخل العالم، والعلاقة بينهما كالعلاقة بين العقل والبدن.

ولم يُخْل الله العالم من جماعة يدركون هذا السر ويتناقلونه، ويُأخذ منهم خلف عن سلف، وتظهر تعاليمهم أحيانًا في مظهر دين جديد، أو مذهب فلسفي جديد، أو نمط في التفكير جديد، وهم يسمون الثروة التي يصلون إليها «حكمة» تمييزًا لها عن العلم والفلسفة. ولهم في الحياة أسلوب ومنزع ومسلك يخالف سائر الناس، كمسلك العبد الصالح مع موسى في سورة الكهف.

وهؤلاء الروحانيون يؤثرون في الأمم وفي المدنيات وإن لم يظهر بعضهم على مسرح الحياة، وإن لم يلفتوا نظر المؤرخين؛ فالأنبياء من آدم إلى محمد، وبوذا وزرادشت، وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون، وغيرهم ممن لا نعلمهم، أثروا في بناء المدنية أكثر مما أثر الماديون من القياصرة والملوك والجبابرة.

إن الروحانية كلها من واد واحد، إن اختلفت مذاهبها ودعاتها فإنما هو اختلاف في فهم من يفهمها ومستواهم، أو في الظروف المحيطة بهم أو نحو ذلك، أما الأساس فواحد، وأما المنبع فواحد؛ حتى ما يحيط بها أحيانًا من تخريف إنما سببه أن كثيرًا من الناس لا يستطيعون أن يفهموا الحقيقة إلا من طريق التخريف، وهذا لا يقدح في حقيقة أساسها. إن زعماء الروحانية كانوا يحاربون دائمًا الوحشية في الإنسان، وتاريخ الإنسانية صراع بين الوحشية والروحانية، وهذه الوحشية ليست مقصورة على الأمم المتوحشة، بل هي في أرقى مظاهر مدنيتنا الحديثة. إن الوحشية في الإنسان الأول كانت ضربًا بالحجر أو بالهراوة، وهي في مدنيتنا الحديثة مدافع وطائرات وغواصات، وأخيرًا قنابل ذرية تهلك الحرث والنسل. إن العنف كله ليس من الروحانية في شيء، سواء جاء باسم الدين أو المذهب الاجتماعي أو المدنية أو ما شئت من أسماء.

إن العبرة في تقويم المدنية لا بالمظاهر ولكن بالدوافع، فإذا كانت المدنية تنشر الفزع والخوف والتناحر والتسابق على الشهوات، فمدنية بربرية مهما زُينت بالراديو والتلغراف والتلفون وكل أنواع المخترعات.

وفي الصراع المستمر بين المادية والروحانية لا تزال تتغلب المادية، أو بعبارة أخرى الوحشية؛ لأن غرائز الإنسان ترضيها الوحشية، والروحانية تحتاج إلى رياضة شاقة لا يستطيعها الكثير من الناس، ولأن المدنيات التي أُسست إلى الآن أُسست على تقوية الغرائز الوحشية، وكلما أمعنت في ذلك كانت أرقى، وحتى إذا نشأت مدنية روحانية بعض الوقت كدعوة المسيح في أول أمرها، والإسلام في أول عهده، فسرعان ما تنقلب ملكًا عضوضًا، ويحتضن الجبابرة الدعوة الدينية الروحية لخدمة مطامعهم المادية، فتنقلب المدنية إلى مدنية وحشية، وتنقلب الدعوة إلى عدم الطبقات دعوة إلى نظام الطبقات، كما يستخدمون العلم والفن والأدب لخدمة هذه الغرائز الوحشية، فتضعف الدعوة الروحانية شيئًا فشيئًا، ولا تبقى إلا في نفوس الشواذ النوادر. فالعلم أكثر ما يزهر في الحرب دون السلم، والأدب أكثر ما يزهر في إلهاب الغرائز الجنسية ونحو ذلك، أما العلم في خدمة السلم وفي خدمة الحقيقة، وأما الأدب في خدمة الروح فضعيف فاتر.

نتاج المدنية الحديثة إحياء الشهوات، ونشر الخوف والفزع في قلوب الخصماء، والمسابقة إلى حيازة القوة، وطلب اللذة من كل وجوهها، والجشع في المال؛ والنظر إلى اليوم لا إلى ما وراءه؛ وهذه كلها ليست من الروح في شيء، وكل المخترعات إنما هي لخدمة غرض من هذه الأغراض التي ذكرناها لا لخدمة روح. أما الروحانية فسلام وحب وسمو وعمق في المشاعر وتقويم للحقيقة لا المظهر.

•••

إن العالم كله في نظر الروحانية وحدة واحدة، صنع في مصنع واحد، أشرف عليه مهندس عظيم واحد، ليست المعامل والمصانع التي تراها في المدنية الحديثة مهما كبرت إلا لعب أطفال بجانب معمل ومصنع خالقنا العظيم، إن كل ما في الكون قد صُنع في مصنع واحد، ولذلك اتحد تكوينه وإن اختلفت درجاته ومظاهره. إن بين الشمس العظيمة والخلية الصغيرة تشابهًا تامًا في البناء، فليست الخلية إلا مجموعة كهارب تدور حول نواة كالشمس، كما تدور المجموعة الشمسية حول الشمس، بذلك قال العلم الحديث، وبذلك قال رجال التصوف من قديم، إن ما في العالم مما نسميه جمادًا ونباتًا وحيوانًا ليس إلا نتاجًا مختلفًا لمصنع واحد وصانع واحد، كمصنع السكر يخرج أنواعًا بعضها بدائي كالسكر المحبب الأصفر، وبعضها كامل الصفاء «كالسكر النبات»، أو كمصنع النسيج يخرج أشكالًا وألوانًا، وكلها على اختلاف قيمتها وأنواعها من خيط واحد أو قطن واحد. وكل ذرة في هذا الكون تدل على المصنع ومهندسه، وكل صغير من نتاجه معبر بشكل ما عن القانون العام لكل العالم، فدقق النظر تر العالم في النملة، وتر نظام الكون في النحلة. وكان أعجب ما أخرجه هذا المصنع هو الإنسان، ففيه كل خصائص الأطوار التي مر بها نتاج المصنع، مكملًا بزيادة في كمية عقلية ورحانية صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.

لقد اعتاد الناس أن ينظروا إلى قطعة الصوف ينتجها المصنع مستقلة، كأنها كل شيء، أما نحن معاشر الصوفية فنرى المصنع والصانع في كل خيط، نرى الشجرة في الثمرة بل في الورقة، ونرى البحر في القطرة، ونرى الكل في الواحد والواحد في الكل، وكل شيء في كل شيء، فنحن نلف العالم في نظرة، وننفذ إلى السر في لفتة، ونقرأ على كل شيء بطاقة المصنع والصانع، ونرى في كل شيء رمزًا.

ومن طول ما ألِفنا الرموز كان كل ما نسمع وما نقرأ رمزًا، وخاصة في الكتب الروحانية، في الكتب المقدسة؛ فالعامة يفهمون الآية على ظاهرها، ولكنا نفهمها رمزًا، والعامة إن اشتركوا أو تقاربوا في فهم الظاهر، فالخاصة يختلفون في فهم الرمز حسب قوة استعدادهم لفهم الإشارة، وحسب ما يستولي عليهم من وجدان، وهذا هو ما نسميه «الأحوال» و«المقامات»، وإذا نحن سمعنا قصة لم نقف عند ألفاظها ومعانيها اللغوية إنما ننتقل إلى رمزها ومغزاها.

خذ لذلك مثلًا قصة آدم وحواء، إن خلق آدم وحواء كان مرحلة من مراحل عمل المصنع، لقد ظل المصنع يعمل من قديم ويحسن ما يصنع، وكان يصنع الخيط الغليظ، ثم تقدم وتقدم فصنع الخيط الدقيق، وكل ما يصنع جميل متقَن، ولكنه في صنع الإنسان مبدِع متفنِن، وكل نوع مما يصنع يمثل قانونًا عالميًّا ولذلك يبقى مع بقاء الأكمل.

وكان الإنسان أول خريج للمصنع جرب فأخطأ فاستفاد من الخطأ، وهو أول من اتصل بصاحب المصنع واتصل بجميع منتجاته، يعرف خصائصها ويسميها بأسمائها، إنه أبى أن يعيش عيشة من قبله، وفضّل أن يخطئ ويرقى بخطئه على أن يعيش من غير خطأ ومن غير معرفة، فأكل من شجرة المعرفة، فهبط من سعادة العيش بالغريزة إلى شقاء العيش بالعقل، ولكن كان هبوطه وسيلة لسموه، وكذلك نفهم من قصة قابيل وهابيل قتال الأخوة في الإنسانية، ومن قصة نوح فساد الناس وفناءهم لعدم صلاحيتهم للحياة، ونجاة من يصلح لتأسيس جيل جديد على أسس جديدة، وهكذا. تاريخ الأنبياء وكبار المصلحين الروحانيين رقي متوال بالإنسانية.

•••

وليست الأرض وما فيها من مصنوعات رقيت إلى الإنسان إلا ركنًا صغيرًا من أركان المصنع، اهتممنا به أكثر مما يلزم لأننا أجزاؤه، ولأنه متصل بنا ونحن متصلون به، فلو وسعنا نظرنا وشاهدنا أركان المصنع الأخرى، لأخذنا العجب كل العجب، ولكن مهما اختلفت منتجات المصنع صغرًا وكبرًا، وعظمة وضعة، ففيها سمات الوحدة و«ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت».

والروحانية إدراك سر هذا المصنع، والاتصال بصاحبه والشوق إلى رؤيته، وفي كل إنسان نزعة إلى هذا؛ لأن فيه قبسًا من روح صاحب المصنع، وإنما يطفئها غلبة النزعات الأخرى، والمدنية التي يعيش فيها الإنسان إنما تفسد وتنحط وتفنى؛ لأنها لا تنسجم ونزعاته المختلفة. والمدنية الصالحة التي يقدر لها البقاء والنمو هي المدنية التي تتعادل فيها مقومات الروح ومقومات المادة معًا حتى تتجاوب وطبائع الإنسان.

•••

وإلى هنا انقطع حديث الصوفي، وقد سمعته في شوق، ونقلته في أمانة، وتفرقنا على ميعاد.

٣

قال الصوفي: «إن أساس التصوف بل أساس الديانات كلها أن وراء العالم المنظور عالمًا آخر غير منظور، وأن العالم غير المنظور يختلف في صفاته عن العالم المنظور، فهو لا حجم له ولا زمان ولا مكان، وأقرب مثل له آراؤنا وأفكارنا وذكرياتنا، فنستطيع أن نفكر ما لا عدد له من الأفكار من غير أن يكون لها حيز».

وكثير من تعاليم الدين لا يمكن الوصول إليها من طريق العلم ولا الفلسفة، كالحياة بعد الموت، فليست وسائل العلم ولا الفلسفة صالحة للوصول إلى هذه الحقيقة نفيًا أو إثباتًا؛ لأنها ليست من جنس مادته، ولا من جنس ما يبحث فيه أو يصل إليه.

إن إدراك هذا العالم الروحي لا بد أن ينظر إليه من زاوية غير زاوية المنظور؛ لأن طبيعته ليست كطبيعة المنظور، وما قيل من وصف الجنة والنار والحياة الآخرة لم يعبر تعبيرًا تامًا عنه؛ لأن أكثر النفوس لا تستطيع فهم المجردات، ولأن اللغة لم توضع إلا لشئون الحياة المنظورة، فاضطر المعبرون عنها أن يلجأوا إلى ألفاظ الدنيا وتعبيرات الدنيا على طريق المجاز والحياة الأخرى ليست كهذه الحياة في خضوعها للزمن، ولا شأن لها بطلوع الشمس وغروبها، وهو أهم عامل في الزمان، فإذا جُردت الحياة من الزمان كان طابعها مخالفًا كل المخالفة لحياة الدنيا وشئونها.

إذن فالحياة الروحية لا بد أن تُدرك بأساليب أخرى. وأهم وسيلة لها هي الرياضة. والغاية من هذه الرياضة تهيئة الشعور للاتصال بهذا العالم الروحي كما يعد الشخص للتنويم المغناطيسي، وما الشعائر من صلاة وصيام إلا أنواع من هذه الرياضة، وما فعل رسول الله من التعبد في غار حراء قبل البعثة كان من هذا القبيل، وكذلك استحضار الله في القلب ودوام ذكره، ونحو ذلك كلها وسائل لإعداد هذا الشعور، وعند بعض الأفراد ذوي الاستعداد تسفر هذه الرياضات عن نتائج غريبة. فيرى الدنيا غير ما ترى في العادة كأن ينعدم الفرق بين ذاته وغيره فلا ذاتية ولا غيرية، وتنعدم الفروق بين الأشياء، فلا شيء مستقل بنفسه، كالعالم يقرأ العالم كله خلية متكررة، وهو شيء غريب في الحياة العادية، ولكنه أمر مألوف في الحياة الصوفية. وعلى الجملة فهو يرى العالم من زاوية غير الزاوية التي اعتاد الناس أن ينظروا منها. فإذا هو أمعن في هذه الرياضة استغرق في شبه غيبوبة، وكان في شبه حلم، ورأى كأنه انغمس في نور واتحد به، ورأى وسمع ما لم يستطع وصفه إلا عن طريق الرمز، وإنما يفهم رمزه من ذاق مثل ذوقه، وهذا هو ما كان من أمثال ابن العربي وابن الفارض وغيرهما من المتصوفة في كل أمة وكل دين.

والناس معذورون في إنكارهم هذا؛ لأنه شيء لم يعتادوه في الحياة المألوفة، والصوفية معذورون؛ لأنهم يصفون ما يرون.

وفي هذا الباب مهرجون ونصابون ومزيفون، كما هو الشأن في عالم المعقولات في حياتنا العادية، ففي حياتنا من يهرج في الخطابة ويبعد عن المنطق الصحيح، ومن يوهمك أنه مخلص وليس بمخلص، ومن يلبس باطله ثوب الحق ونحو ذلك، فكذلك في عالم الروحانيات، صادق وكاذب ومحق ومزيف، بل ربما كان التزييف في هذا الباب أكثر؛ لأن الحياة المادية قد تنضبط بالمنطق، أما هذه فمرجعها الذوق والشعور، وهو من الصعب ضبطه. فما ترى من مظاهر أرباب الطرق كالطبل والزمر واللعب بالذكر والمراسيم الصوفية كلها ليست من التصوف الحق في شيء، وإنما هي صوفية مزيفة، والمتصوف الحق قد يباشر أمور الدنيا ويتصرف في الحياة بالتجارة أو الصناعة أو نحوها، وليس يشعر بروحانيته إلا خاصته، ومن هم على نمطه، وحتى إذا ذكروا الله ذكروه بقلوبهم، ولم يحركوا بذكره لسانهم.

والصوفي الحق رجل تيقظ شعوره فاتسعت آفاقه وتكسرت حدوده يرتفع فوق تفاصيل الحياة الدنيا كما يرتفع الطائر في طائرته، فيضعف شعوره بشخصيته ويذوب في العالم الذي يسبح فيه، ويسبح في هذا الأفق الشاعر والفنان والصوفي والنبي على اختلاف في منازعهم ومداركهم وإلهامهم ووحيهم وحقيقة رسالتهم. إنهم جميعًا يدركون العالم وراء حدود مادته وأشكاله. إنهم بعواطفهم المرهفة يرون أن الإدراك الحسي والعقلي لا قيمة له بجانب إدراك الشعور العاطفي إنهم يقرءون في النجوم والسماء والبحار والأنهار والأشجار ما لا يقرأ الناس، ويدركون في الأشياء كلها وحدة تعزّ عن الوصف، إنهم يرون المظاهر أمواجًا فوق سطح البحر، أو أوراقًا تورق وتسقط والشجرة باقية، إنهم يذيبون أنفسهم في مصدرها.

وإذا كان جمهرة الناس يدركون الله حاكمًا مسيطرًا على العالم يضرعون إليه في قضاء حوائجهم فالصوفي يراه القوة التي ينبض بها قلب الإنسان وقلب العالم، ويتحول بها غير المنظور إلى منظور، ولذلك يحول الصوفي عينه من الجزئيات والأشخاص والأفراد إلى المنبع الواحد الذي تفرّع إلى مظاهر مختلفة.

وهنا أفاض محدثي في ذكر ما يجده الصوفي من وحدة الوجود والحب الإلهي وما إلى ذلك، وأنه ينتهي به الأمر إلى الهيام بالعالم غير المنظور وحقارة المنظور.

قاطعته بقولي: إني أومن بأن الرياضة الصوفية تصل بصاحبها إلى رؤية العالم من زاوية غير الزاوية التي اعتاد الناس الرؤية منها. ولست أشك في صدق كبار الصوفية أمثال ابن العربي وابن الفارض والغزالي وغيرهم وأمثالهم من متصوفة الأديان الأخرى، وأنهم حقيقة يصفون ما يشاهدون، ولكن هل هم يرون الحقيقة، أو أن رياضتهم النفسية وكثرة مجاهدتهم للنفس من جوع وصيام وعزلة ورهبانية تجعل نفوسهم غير طبيعية، فيرون ما لا وجود له، هل هم المحقون والإنسان العادي مخطئ أو هم المخطئون والإنسان العادي مصيب؟ إذا كنت أرى الأشياء بعيني المجردة ويأتي آخر فيلبس منظارًا أزرق أو أصفر فيرى العالم كله من خلال منظاره أزرق أو أصفر ثم يصف ما يرى فهو صادق، ولكن هل لون العالم الذي سببه المنظار هو الحق؟ هل الصوفية لبسوا منظارًا فأوقعهم في الخطأ أو أن عيني المجردة هي المخطئة وأنهم لم يلبسوا منظارًا، وإنما كان على عيني وأعينهم غشاوة فأزالوها هم عن أعينهم؟ هل الزاوية التي ينظر منها الصوفية إلى الأشياء هي الزاوية الصحيحة أو الزاوية المنحرفة؟

تبسم من قولي وسكت برهة ثم قال: إن الصوفي لم يضع على عينيه منظارًا ملونًا يرى به الأشياء ملونة بلونه. إنما هو أمسك مكروسكوبا يرى به الأشياء على دقتها. وما قيمة ثقتك بعينك المجردة؟ إنها تريك الشمس في حجم الرغيف، وتريك النجم في حجم الكرة، وتريك الشيء أملس وهو مملوء بالتجاعيد، إن علمكم المادي يهزأ بالحواس ويؤمن بنقصها ويخترع كل يوم ما يكمل هذا النقص، وإن بصيرتنا التي نصل إلى جلائها من طريق الرياضة خير ألف مرة من بصركم في كشف الحق. وآية ذلك أن حواسكم وعلمكم المبني على الحواس لم يستطع أن يفسر العالم الذي نعيش فيه تفسيرًا شاملًا، بل عجز عن تفسير الحياة والموت، وعجز عن بيان علاقة المخ بالفكر، وعجز عن تفسير ظواهر لا تجري على المألوف، فلما تصوفنا استطعنا أن نكشف ببصيرتنا ما عجز عنه العلم. وأمر آخر وهو أن كثيرًا من خيار المتصوفة جمعوا بين العلم والتصوف، وبين لذة العقل ولذة الكشف، فلما وازنوا بين النتيجتين آثروا الكشف على العلم هم لم يكفروا بالعلم ورأوا لذته وقيمته، ولكن رأوا الكشف وجلاء البصيرة أعلى منه شأنًا؛ ومثل ذلك مثل من جرب اللذة الوضيعة واللذة الرفيعة ثم آثر الثانية على الأولى، أليس هذا دليلًا على سمو الثانية، وعلى أن حكم مجربي الأمرين خير من حكم مجربي أمر واحد.

ودليل ثالث وهو أن المتصوفة من جميع الأديان في جميع الأزمان وصلوا عن طريق الرياضة إلى نتائج متماثلة، ولو كانت مجرد خيالات لكان لكل إنسان خياله الخاص به.

إن الزاوية التي تذكرها وينظر الناس منها إلى العالم هي زاوية العوام وأشباههم، ولذلك يأنف من النظر منها حتى علماء المادة أنفسهم، ويجتهدون أن يعمقوا حتى يروا العالم كله وحدة من خلايا متشابهة، كما يجتهدون أن يسموا حتى يدركوا المادة غير متأثرة بعامل الزمان والمكان، وقد يلتقون في آخر طريقهم بالتصوف في بعض الطريق.

وأخذ يهجم على فكرة أخرى ثم سكت فجأة.

فسألته: ما باله؟

قال: تلك شقشقة هدرت ثم قرت!

وافترقنا على موعد.

٤

وقال الصوفي: «إن الصوفي الحق هو نموذج الإنسانية، أو الإنسانية في أعلى مقامها، نسبته إلى سائر الناس كنسبة الإنسان إلى القرد، هو ينمو داخليًّا وينمو روحيًّا، على حين أن المدنية تنمو خارجيًّا وتنمو ماديًّا، والعلوم — ومنها علوم الاجتماع — إنما تبحث في المادة الخارجية والإنسان الخارجي، لا في داخله ولا في روحه، ونظريات النشوء والارتقاء كلها تدور حول نشوء المادة وارتقائها، حتى علم النفس بعيد عن الروح، والإنسان عالم صغير، كل ما في العالم فيه، فيه المادة الجامدة، فيه النبات، فيه الحيوان، فيه الإنسان، فيه الله وكلما رقيت نفسه روحيًّا اتسعت جوانبها فرغب فيما لم تستطعه مادته ولم يستطعه جسمه ولم يستطعه عمره، وود أن يتجاوز حدود الزمان والمكان، وسبح بخياله فيما وراء الحدود، وتعدى بعواطفه ومشاعره حواجز العقل، ويبلغ به الأمر أن يشعر بأن له نفسين، نفسًا تعيش عيشة حيوانية فيها المادة وفيها الزمان والمكان، ونفسًا تتصل بعالم آخر روحاني ليس فيه زمان ولا مكان ولا مادة، والنفسان تتنازعان الغلبة والسيطرة، فإذا غلبت روحه العليا كان كالزهرة ذابت فيها البذرة، وإذا غلبت نفسه السفلى كان كالبذرة لم تزهر ولا تؤمن بأن غيرها يزهر، ولذلك لم يؤمن أكثر الناس بالصوفية، وهم في الناس أقلية لا يعرفون، والنزاع بين الفقهاء والصوفية وبين علماء المادة والروحانية من هذا القبيل، وكيف يدرك من في الأرض من أبعد في السماء؟

هو لجلاء نفسه وقوة روحه كأنه قد ثبتت له عينان في قلبه يرى بهما ما لا يراه الناس، ويؤمن بهما بما ينكره الناس وبما كان ينكر هو من قبل، بل هو يدرك معاني جديدة وروابط بين الأشياء جديدة، ويقوّم الأشياء والأشخاص والمعاني قيمًا جديدة، فقد يستعظم ما يحتقر الناس، وقد يحتقر ما يستعظم الناس، جاه الدنيا عنده لا شيء، والغلبة والشهرة والسيطرة والمال لا شيء، والحب والإخلاص والصفاء والطهارة والفتوة كل شيء.

وهو غالبًا لا ينجح أن يكون سياسيًّا كبيرًا أو إداريًّا خطيرًا؛ لأنه لا يقيس الأمور بمقياس الناس، ولا يلتقي في عقليته بعقلية الناس، ولا يخيف الناس ولا يرهبهم، ولا يرتضي أن يقول: إن الغاية تبرر الوسيلة، ولذلك نجح «معاوية» حيث لم ينجح «علي».

هو يتجه إلى مشاعره ينميها ويرقيها ويرهفها كما يتجه العالم إلى عقله يرقيه وينميه، ويسلط نظره إلى نفسه كما يسلط العالم نظره إلى الخارج، فإذا فعل ذلك كله رأى في نفسه مملكة واسعة الأرجاء، انطبع فيها كل العالم كما تنطبع الصورة في المرآة المجلوة.

ورياضته لنفسه تفعل الأعاجيب وتخلق منه شخصًا آخر غير الذي كان عليه من قبل، وفي التلمود قصة طريفة هذا مغزاها، خلاصتها أن العالم أخذه العجب لما طلع موسى عليه بسفر الخروج وأعجب به أيما إعجاب، وصار ذكر موسى على كل لسان، حتى وصلت شهرته والإعجاب به إلى ملك العرب، وكان ملكًا عاقلًا حكيمًا، فاستدعى أحسن رسام عنده وأمره أن يذهب إلى موسى ويصوره أدق تصوير وأحكمه، فلما فعل وأتى بالصورة جمع أشهر حكمائه وأعقلهم وأمرهم أن يستخرجوا من هذه الصورة ما تدل عليه من أخلاق وعادات وميول وأن يبيّنوا له السبب فيما أودعه هذا الرجل من قوة.

فحص هؤلاء الحكماء الصورة وأمعنوا في فحصها، ثم قالوا إن هذه الصورة لإنسان شديد القسوة، متكبر، طموع، طموح، تتملكه الرغبة في السيطرة وحب القوة، فيه كثير من الرذائل والنقائص.

عجب الملك من ذلك وقال: كيف يصدر عمل جليل كسفر الخروج من رجل صفاته ما ذكرتم؟ فإما أن يكون المصور أخطأ في التصوير، وإما أن يكون الحكماء أخطأوا في الاستنتاج.

قال المصور: والله ما صورت إلا ما رأيت في دقة وأمانة. وقال الحكماء: والله ما ذكرنا إلا ما تدل عليه الصورة في حذق وإحكام.

وأراد الملك أن يتحقق مما قام من خلاف بين المصور والحكماء، فسافر إلى حيث يقيم، فلما وقع نظره على موسى رأى أن مصوره أصاب في التصوير ورسمه في دقة فائقة. ولما دخل عليه ملك العرب سلم عليه في إعظام وخشوع، ثم ذكر له ما حدث من المصور والحكماء وما حيّره من أمرهم، فإنه كان قد ظن أن المصور أخطأ التصوير؛ لأنه عرف في حكمائه صدق الفراسة وقوة الملاحظة ودقة النظر، والآن وقد شاهد موسى أدرك صدق المصور وخطأ الحكماء.

قال موسى: «كلا، إن كلا من المصور والحكماء مصيب، وإن النقائص التي ذكرها الحكماء كانت فيَّ بالطبيعة، وربما كانت أوضح وأعنف مما ذكروا، ولكني جاهدت نفسي وهاجمت رذائلي بكل ما وسعني حتى أخضعتها وغلبتها، وفي هذا كل قيمتي وسر قوتي».

وهنالك العكس، ممن خلقوا وعندهم استعداد للروحانية ثم أضاعوه بانغماسهم الشديد في المادية.

•••

والصوفي لا يزال في رياضته وأحواله ومقاماته حتى يكاد ينعزل بنفسه عن العالم الخارجي؛ لأنه يشعر بأنه فوقه، إنما هو في هيام للاتصال بما هو فوق الأشياء بالله ثم هو يرى الله في كل شيء وفي نفسه، ثم يصل به الأمر إلى الشعور بوحدة كل ذلك؛ وهذا مقام لا يدركه العلم ولا العقل، إنما يُنال بالمشاعر والروح، وهو شيء كالنور يُقذف به في النفس فتشعر بما تشعر به من وحدة الكون، ويصحب هذا الشعور شعور بالطمأنينة والرحمة والقوة والحب لكل شيء والحب لله؛ وهنا يقدِّر العالم تقديرًا أبديًّا، ويكسبه هذا قوة احتمال وصبرًا على تحمل المشاق، وهو يدرك إذ ذاك سر الحياة وغرضها، ويطمئن إلى ذلك، على حين أن العالم لا يزال في حيرة من أمر الحياة، سرها وغرضها.

وهنا تدفّق في كلام لم أفهمه، حتى إذا فرغ منه قلت: هل ترى من الخير أن يسود التصوف وتسود الروحانية العالم؟ ألا ترى أن انتشار التصوف في أمة يجعلها بعيدة عن العالم الواقعي ويجعلها متخلفة عن الأمم الأخرى في دنيا الواقع؟ أليس التصوف يجعل الإنسان حملًا في وسط ذئاب؟ إني أفهم أن يكون العالم كله محكومًا بالروحانيات، إذن يسود السلام وتسود الطمأنينة. أما أن يكون في العالم زاهد وجشع، ومجرد من السلاح ومسلح، فإن الزاهد ومن ترك السلاح يكون مأكولًا للجشع المسلح. وهذا ما كان من الشرق والغرب، فإذا أُضيف إلى ذلك أن المتصوف الحق الذي وصفت قليل نادر، والكثير الغالب مشعوذ مخرف، وانتشار هذا يجعل الأمة أيضًا مشعوذة مخرفة، وإذ ذاك لا تكون في الأمة روحانية لا مادية، وتكون الأمة لا وصلت إلى الدنيا ولا إلى الآخرة كما هو حال الشرق من عهد قريب، هل بعد هذا كله تنصح بالتصوف وتدعو إليه؟

قال: إني لم أدع كل الناس إلى التصوف ولو دعوتهم ما استجابوا، فقد خلق الله أصنافًا من الناس كما خلق الجماد والنبات والحيوان والإنسان؛ وكما أن في بعض الناس استعدادًا للعلم؛ وفي بعضهم استعدادًا للفن، وهكذا، فهناك استعداد خاص للتصوف لا تجده إلا في القليل، وفي وجوههم برهانٌ دائم على فساد المادية وطغيانها وشقائها، ولفتٌ مستمر أن يخجلوا من أنفسهم للماديين ولا يمعنوا في طغيانهم، وكل أمة يجب أن تكون كالفرقة الموسيقية الكاملة، فيها العود، وفيها القانون، وفيها الكمان، وفيها الطبل، أو كنغمات «البيان» فيها العالي والسافل، وأعلى النغمات وأسماها هي الروحانية. فلا بد في الأمة من العالم والفنان والسياسي والإداري والحربي والصوفي. وفساد الشرق لم ينشأ من التصوف، ولكن من دعوى التصوف حينًا، ومن عدم استكمال بقية الأدوات حينًا، ومن مادية الغرب أحيانًا. ما أسعد العالم لو كان كله روحانيًّا! ولكن ليس ذلك في الإمكان، فيجب أن تتنوع الكفايات، والناس معادن، ذهب وفضة وحديد ونحاس، وإنك لا تستطيع أن تجعل من الحديد ذهبًا، ولكنك تستطيع أن تجعله نافعًا خاليًا من الصدأ.

وانقطع الحديث، وانتهى رمضان.

١  كتبت في شهر رمضان سنة ١٣٦٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤