عبء الاستقلال

مهداة إلى سوريا ولبنان

صدق رسول الله إذ يقول عقب غزوة غزاها: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» يعني بالجهاد الأصغر جهاد العدو، وبالجهاد الأكبر جهاد النفس وهواها.

جميل أن تقام الأفراح, والليالي الملاح، لنيل الاستقلال، فإنه أمل تحقق وجهاد تُوج بالنصر، وثمن لدماء عزيزة سُفكت، ونفوس شُردت، وأموال صودرت، ودنيا خُربت، ومصالح عُطلت، ولكن ماذا بعد؟

أعباء ثقال تنوء بها العصبة أولو القوة.

لقد خلّف الاحتلال الأجنبي ديونًا تثقل الظهور، ومغارم تقض المضاجع، وقيودًا تعوق الحركة، فلا بد من همم جبارة تسدد الديون، وعناء مضن يمهد للراحة، وأعمال عبقرية تكسر القيود.

وقف الاحتلال في سبيل تعليمنا الصحيح فجهلنا، وفي مواردنا الاقتصادية فافتقرنا، وفي تكوين أخلاقنا فانحللنا، وفي حسن إدارتنا فتواكلنا، وقرب بعضنا وأبعد بعضنا فاختصمنا، ورمى في سياسته إلى نفع قومه فداسنا، وإلى استغلالنا فاستنزف دماءنا وامتص أرواحنا.

•••

واليوم نلتفت بعد الاستقلال … فنرى عقل الأمة يجب أن يُعلم، ومال الأمة يجب أن يُخلق، وأخلاق الأمة يجب أن تُبنى، وإدارة الأمة يجب أن تُنقى، وخصومتنا يجب أن تُقتلع من جذورها، وألفتنا يجب أن تُؤسس من جديد، وعزتنا يجب أن تُسترجع، ودماءنا يجب أن تجري في عروقنا حارة طاهرة، وليس ذلك كله باليسير.

سوء تعليمنا جعل نوابغنا وأكفاءنا قليلي العدد، يحملون أعباء أكبر عدد، وتشويه أخلاقنا جعل هؤلاء النوابغ الأكفاء يتحاربون ولا يتعاونون، فلا يبقى للأمة بعد هذه الحرب إلا قوة ضئيلة لا تكفي لتسيير السفينة، فهل لنا من عصا سحرية تقلب العداء ألفة، والكره حبًا والخصومة تعاونًا؟

•••

قديمًا قالوا إن للشرق أدواء مزمنة، أو على تعبير الأطباء أدواء مستوطنة، هي داء المحسوبية، وداء الأنانية، وداء تضحية المنفعة العامة للمنفعة الشخصية، وهي حقًا أدواء مفزعة، ولكن هل هي حقيقة أدواء نبتت من طبيعة الشرق، أو هي أدواء جلبها الغرب وبذرها في الشرق لينعم هو بشقاق الشرق وغفلة الشرق وسوء سمعة الشرق؟ أليس هو الذي اختار أسوأ الناس وحكمهم في أحسن الناس فكره بعضهم بعضًا؟ أو ليس هو الذي جعل قيم الناس مرتبطة بالملق له والتقرب إليه فأفسد الذمم ونشر البغض؟

يقول قوم هذا وقوم ذاك، وفي يد قادة الأمم الشرقية المستقلة اليوم ترجيح أحد القولين وتصحيح أي الرأيين.

•••

قد كنا فيما مضى نحتمي بالاحتلال نحمِّله كل عيوبنا، ونلصق به كل وجوه نقصنا، فنسند إليه جهلنا وفقرنا وانحلالنا، وكنا نزهد في الإصلاح مدعين أنه مرتطم آخر الأمر بالاحتلال، وأن الأجنبي أس الفساد وعدو كل إصلاح، فاليوم زال الاحتلال وبعد عن الطريق كل ما كنا نقول إنه العقبة الكأداء. فهل نتمشى اليوم مع منطقنا فنبذل كل جهد للإصلاح، ولا ندخر وسعًا لمعالجة الآلام وتضميد الجروح وتقوية الأمة في كل نواحيها؟

•••

لقد تم الفصل الأول من الرواية وبدأ الفصل الثاني، وفي يدنا أن نكتبه جميلًا يعجب الناظرين، أو رديئًا يسوء القارئين والسامعين، ولم تنته الرواية بعد، ففي إمكاننا أن تكون سارة وأن تكون محزنة، فهيا إلى المسرح ومثلوا خير الأدوار.

•••

إنها أول تجربة لأمم غربية شرقية تدير أمور نفسها بعد الاحتلال، والعالم حولنا كله عيون يتطلع إلى أعمالنا، ولنا أصدقاء يضعون أيديهم على قلوبهم خائفين لكن آملين، ولنا أعداء عز عليهم استقلالنا فهم مترصدون، ولو أتيحت لهم الفرصة يدسّون، ولهم أذناب أفسدوا ضمائرهم يلعبون ويدّعون الإصلاح وهم المفسدون وإذ كانت أول تجربة فسيكون الحكم لكم أو عليكم حكمًا لأمم الشرق كلها أو عليها «ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

•••

غفر الله لحكامنا السابقين، فقد مهّدوا للاحتلال بسوء صنيعهم، فحملونا أثقالهم وأثقالًا مع أثقالهم، ولا بد من سواعد قوية ترفع هذه الأثقال، وترميها في البحار لا إلى رجوع.

•••

لقد قطع الغرب شوطًا بعيدًا في العلم والاقتصاد والصناعة، وسار أول أمره سير الطفل يدرج فيقع فينهض حتى اكتمل شابًا، وكان خطؤه مقبولًا منه، إذ كان وحده هو الذي يسير سير الإنسان. أما نحن اليوم فلا يُقبل منا السير البطيء، ولا السير المتعثر، ولا السير المتخلف، وستُقاس أعمالنا بمقياس الإنسان المتحضر على آخر طراز، العالم على أبعد مدى، السياسي الذي امتلأ حنكة، الاقتصادي الذي وزن المادة بميزان الصيرفي، وليس ينفع سير الجمل بجانب السيارة، ولا الجري مع الطيارة، ولا نسيج اليد بجانب نسيج الكهرباء. ولا سير المركب البطيء بشراع الهواء. فإما حياة الأحياء وإما الفناء، وما أشقّه من مطلب.

•••

إن الحكم الظالم الذي جرى طويلًا علينا قد التهم الحب من جونا، فلا الحاكم يحب المحكوم ولا المحكوم يحب الحاكم، ولا الموظفون يحبون أصحاب الحاجات ولا العكس، ولا الطبقة الرفيعة تحب الطبقة الفقيرة ولا العكس، ولا المتعلم يعطف على الجاهل، ولا الجاهل يوقر العالم ثم هذا الحكم الجائر قسّمنا شيعًا وجعل كل فرد أمة وحده. إن عطف فإنما يعطف على أسرته وأقاربه ليس غير؛ فمن لنا بعد الاستقلال بقوم يبذرون بذور الحب حتى تنمو وتتفرع وتملأ الجو، فيحل التعاون محل التنافر، والعطف محل الخطف، والإيثار محل الأثرة، إذ لا تصلح أمة إذا فقدت هذا الحب؟

لقد كنا نهبًا مقسمًا للأمم الغربية تستعمرنا وتحتلنا وتملأ بلادنا ثكنات, وجنودًا وطائرات، واليوم وقد زال هذا المنظر البغيض أو كاد سنواجه دواعي الفرقة من جنس جديد، ستتقسمنا الدول بمبادئها، شيوعية تحارب ديموقراطية، وديموقراطية تحارب شيوعية، ودعاة يدعون لكل أمة غربية على أنها المثل الذي يجب أن يُحتذى، والقدوة التي يجب أن تُقلد، وستكون الحرب عنيفة بين دعاة الرجعية ودعاة التجديد؛ الأولون ينظرون إلى الخلف، ويستغلون مشاعر الشعب باسم الدين والمحافظة على الأخلاق، والآخرون ينظرون إلى الأمام ويستغلون العقل والتفكير ومسايرة العالم، فيقسمون الأمة إلى معسكرين، ولا بأس من ذلك إذا اقتصرت الحرب على الجدل والإقناع، ولكن الويل لنا إذا خرجت عن هذه الدائرة، وستتسابق الأمم في احتلالنا اقتصاديًّا، والاقتصاد فن لم نحذقه، وعلم لم نتقنه، وثرواتنا لم ندرسها ولم نحسن استغلالها، وفتحنا عيوننا فوجدنا أهمها في يد غيرنا. فكم يقتضي ذلك من الجهد حتى لا تتوزعنا المبادئ المتناقضة توزعًا حادًا يمزق وحدتنا، وحتى نفهم مصادر ثروتنا كما فهمها غيرنا، ونحتلها لأنفسنا كما احتلها غيرنا لأنفسهم، ونستخدمها في مصانعنا وأعمالنا فنمحو بها فقر الفقير وذلة البائس والشعور بالنقص؟

•••

أما بعد فلي كلمة للشعب وكلمة للحكام.
  • فأما كلمتي للشعب: فهي أن يغيروا نظرتهم إلى الحاكم. قد كانوا معذروين أن ينظروا إليه نظرة الطائر للصائد، إذ كان حاكمهم ليس منهم أو أداة في يد غيرهم، أما اليوم فحاكمهم منهم، وليس يستطيع الحكم إلا بهم، والتمتع بثقتهم، كونوا أحرارًا ولكن تعلموا كيف تستخدمون الحرية، وهو درس شاق عسير، وخاصة بعد أن احتملت الأمة من الاستبداد ما احتملت، وذاقت من الضغط والعسف ما ذاقت، وأخطر ما فيه أن الأمة في مثل هذه الظروف تلتفت إلى حقوقها ولا تتذكر واجبها، وتطلب من حاكمها أن يكون نبيًّا معصومًا، ولا تتطلب من نفسها أن تكون صحابة طائعين.

    إن لكم الحق كل الحق أن تطالبوا حكومتكم بالإصلاح في كل مرافق الحياة، ولكن في حدود المعقول والممكن. ولكم الحق كل الحق أن تنقدوا ولكن على أن يكون النقد نقدًا بانيًا لا نقدًا هادمًا. اذكروا دائمًا أن الحاكم في أول حمله للتبعة يخطئ، ولكن تقبلوا خطأه بصدر رحب ونقد مشبع بالعطف، ومكنوه من أن يصلح خطأه، ومهدوا له سبيل الاستقرار حتى يتوطد الحكم وتستقر الأسس، فبعض الخطأ مع الاستقرار خير من نشدان الكمال مع التغير المستمر، وغاروا عليه كما تغارون على مصالحكم، واحرصوا على أن يكون الحكم على أيديكم أحسن من الحكم على يد غيركم، وأن تكونوا أطوع للحاكم من أنفسكم من الحاكم يفرض عليكم، وقدروا ما يواجه من مشاكل أشرنا إلى بعضها، فلا تثقلوا كاهله بما تحدثون من مشاكل يمكن تأجيلها.

  • وأما كلمتي للحكام: فهي أن يمتلئوا عقيدة بأن الحكم تكليف لا تشريف، وأداء واجب لا تحصيل مغنم، وأنهم من الشعب وللشعب وبالشعب، وأنهم قائدوه لا ناهبوه، وهادوه لا مضللوه، وموجهوه لا تابعوه.

    إنكم خدّام الشعب لا آلهته، وقد حُكِّمتم لنفعه لا استغلاله، وأقمتم على مصالحه جميعه لا مصالح أسركم ولا حزبكم ولا أتباعكم، فكل الأمة حزبكم وأتباعكم، والحكومة الصالحة هي التي تعرف الكفايات حيث كانت، وتستغلها للخير من غير أي اعتبار.

    ضعوا قوانين العدالة وقدسوها والتزموا السير عليها، فما أسرع الفوضى إلى أمة تتلاعب بقوانينها، وتخضع لشهواتها لا قانونها.

    إن الحكم فن دقيق، فاجتهدوا أن تجيدوه، وهو علم وفطنة فتزودوا منهما.

    من أهم أسسه حفظ التوازن بين القوى المتنافرة في الأمة، وتوجيهها كلها للمصلحة العامة، ومن أهم أسسه إشعار الأمة بقوة حكومتها وثبات مركزها وشدتها إذا اقتضى الحال، وبتّها السريع لا ترددها، وإلا سقطت من أعين الشعب وسادت فيه الفوضى. ومن أهم أسسه العناية بآمال الأمة الأدبية كالعناية بمنافعها المادية، ثم الحذر كل الحذر من الزعماء الطامعين في الحكم، الذين يلونون شهوتهم بلون المصلحة العامة، فيقسمون الأمة ويفرقونها، فتذهب قوتها وتتحول إلى قوى متشادة يذهب بعضها بعضًا، ينصرفون إلى وضع العراقيل للحكومة وتنصرف الحكومة لإبطال دسائسهم، ثم تضيع مصالح الأمة بين هؤلاء وهؤلاء.

    إن الأمر جد لا هزل فيه، وحق لا عبث فيه، وليس الاستقلال وردًا بلا شوك أو مغنمًا بلا مغرم.

    إنه عبء، إنه واجب، إنه همة، إنه تضحية، إنه مسابقة، إنه عرض على أنظار العالم، إنه أهم قضية تنتظر حكم القاضي، والقاضي متحيز، فسدوا عليه كل منفذ وفقكم الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤