مقدمة

بعد رحلاتي العربية المتعددة، التي استأثرت بي بضع سنوات، نشأت الرغبة في رحلة إلى بلاد عربية أخرى، أسماها العربُ الأقدمون المغربَ الأقصى.

وما كانت هذه الرغبة بأقل إلحاحًا واستبدادًا من الرغبات في الرحلات التي تقدَّمَتْها، بل كانت أشدَّ وأحدَّ فنفذت إلى أقصى نواحي النفس، وصارت تحنُّ كالقلب الفتيِّ، قلب العاشق، إلى ذلك البلد العربي في أفريقيا الغربية الشمالية.

وما كنت أقصر في المحاولات الحكيمة للتخفيف عن النفس حمل الشوق والحنين، فكنت أتفلسف تفلسُفًا بارعًا في التأويل والتحليل لما كان يحول دون تخفيف الرغبة من المقادير.

أما المقادير فليست كلها من النوع الذي لا يد للإنسان فيه. نعم، إن بعض التبعة فيها عليَّ؛ فقد نشأت عن إرادة معقودة بشئون الحياة المادية والأدبية والوطنية، ومع أني كنت أستطيع أن أغيِّر أو أعطف بعض مجاريها، فأطلب رزقي في وطني الأول أو فيما جاوَرَه من الأوطان — كمصر مثلًا — وأحصر أدبي في لغة الأجداد، ولا أحمل وطنيتي تبعة الجهادَيْنِ في وطني وعبر البحار، كنت أستطيع ذلك، وما فعلت. فما السبب؟

هناك أسباب: أولها أني هجرت بلادي وأنا في العاشرة من سني، فكانت نيويورك مسرح ألعابي ومغامراتي، وطبعت نفسي بطابعها الخاص، فصرت من أبنائها، وعندما حاولت الانطلاق من قيود تلك العبودية فيما كان من رحلاتي العربية، لم أتوفَّق كل التوفيق؛ لأن تلك الرحلات جدَّدت — في بعض نتائجها — حق نيويورك، بل حق أميركا عليَّ.

والبيان كله في السبب الثاني، وهو أن لغة شكسبير سبقت لغة أبي العلاء المعري إلى لساني وقلمي — كدتُ أقول أيضًا وقلبي — فوقعت في فخ التأليف هناك قبل أن وقعت فيه ها هنا في وطني الأول.

بقي السبب الثالث، أو قُلِ القيد الثالث، وهو أشد القيود وأثقلها، ولا بد — وأنا ذاكره — من العودة إلى الرحلات العربية، تلك الرحلات التي فرضت عليَّ الجهاد في سبيل قضية وطنية قومية، هي قضيتي — وأنا من سلالة قحطان — كما هي قضية ابن صنعاء أو العارض أو الرافدين.

ومن عجيب ما حدث في ارتقائي الفكري وتطوري الوطني — إذ كان من الواجب عليَّ أن أكون أميركيًّا قلبًا وقالبًا، لبًّا وقشرًا، مائة بالمائة كما يقال — من عجيب ما حدث ليفسد ذلك الواجب، هو أني نهضت ذات ليلة من نومي، عند صياح الديك، وأنا أتصور نفسي أكبر من أميركا!

أنا اللبناني العربي المفكِّر الوحيد — لله درِّي — بين مائة وعشرين مليونًا من الناس غير المفكِّرين ممتزجين امتزاجًا مقدورًا معتكرًا، وهم جميعًا يفاخرون بأمريكيتهم، بلسان صحافتهم وحكومتهم و«هليوودهم»، ولا يهمهم من العالم سواها! إنما العالم أميركا، وكل ما سوى أميركا لا يساوي فستقة من فستق العبيد!

هذه النزعة التي امتاز بها الرومان، في قديم الزمان، ثم هلكوا بها، ولَّدَتْ فيَّ أنا اللبناني العربي الأميركي الوحيد المفكِّر، بعض العطف على الشعب المزدحم في غابات المدن هناك بين جبال من ناطحات السحاب، في غابات وبين جبال من الجهل، وولَّدَتْ مع العطف واجبًا في إنقاذ أولئك الآدميين من ذلك الجهل. كيف لا وقد تيقَّنْتُ أنهم يجهلون كل ما أعلم أنا، ولا أجهل أنا كل ما يعلمون، وإنْ قلَّ واعتلَّ.

هو الغرور؛ غرور العبقرية وبعض الأساتذة في الجامعات الكبرى. علِّموا الشعب، أنيروا ذهن الأمة، علِّموه فلا يشقى، أنيروا ذهنها فلا تهلك كما هلكت روما، وكما هلكت بابل قبلها في قديم الزمان. فيا إخوان ضون كيخوته — دون كيشوت — أيها الجالسون في كراسي الأستاذية، المتشعثون في بوادي العبقرية، لا معلم للأمم والشعوب غير الفقر والعذاب، وبكلمة أصح: لا معلم للأمم والشعوب غير الزمان وبيديه السوطان: الفقر والمذلة.

لكني أنا اللبناني العربي أريد أن أعلِّمَ الأمة الأميركية شيئًا يسيرًا من العلم الذي لا يجرح كبرياءها، ولا يمس بضرٍّ غناها. أريد أن أعلِّمها أوليات العلم بالأمة التي أنا منها — كنت ولا أزال منها، اليوم وغدًا، وعلى الدوام — أي الأمة العربية.

ورأيتني أعيد اﻟ «كيخوتية» — عفوًا يا سيدي سرفنتس — إلى أصلها العربي، وإن تغرَّبَ لسانها. رأيتني أشحذ القلم واللسان بالإنكليزية، وأحبر المقالات وأؤلف الكتب بالإنكليزية، وأقف على منابر الجمعيات والجامعات الأميركية الإنكليزية، لأُفهِم العالم الجديد، رومان هذا الزمان، أن في العالم غير أميركا والأميركان، وأنهم هالكون حتمًا إذا استمروا في جهلهم أو استقووا، والغريب العجيب أنهم مثل البرابرة في الطهر والسذاجة، قلبًا ووجهًا، كانوا يصفِّقون للخطيب، ويرحِّبون به وبعلمه؛ فازدادت الرغبتان: رغبتهم في التعلُّم، ورغبتي في التعليم — بارك الله فيَّ وفيهم.

وتبعت الرحلات العربية رحلات أميركية.

على أن النكبة الكبرى في قُطْر من الأقطار العربية، أي نكبة فلسطين بالصهيونية، نقلتني من التعميم إلى التخصيص، دفاعًا عن إخواني العرب في وطنهم الذي يريده اليهود وطنًا قوميًّا لهم، واليهود في أميركا مثل الرومان في روما قديمًا، ومثل طبقة البورجوازيين في فرنسا اليوم، يملكون قسطًا وافرًا من ثروة البلاد، ويسيطرون بعبقريتهم المالية والقومية على العوامل السياسية.

وإن عاصمة تلك السيطرة اليهودية نيويورك.

عُرِضت على مسارح المدينة في أحد مواسم التمثيل روايتان في مسرحين متقابلين في شارع واحد، عنوان إحدى الروايتين: «مَن هو صاحب نيويورك؟» وعنوان الأخرى: «اليهودي»، فهاك السؤال والجواب كانا ينشران بالأنوار الكهربية الفضية والذهبية: نيويورك لليهود.

وهذا اللبناني العربي يحمل الترس والرمح، كما حملهما ضون كيخوته ده لامنشا حقبة من الدهر، في سبيل الحق والعدل والفضيلة، على معاقل إسرائيل، على حصون يهوذا. ويلك يا نيويورك! ويلك، اكتبي الحجة ليهودك بماء الذهب، وسجليها في سجل الصيارفة والكهان، ومثِّلي روايتها، بالأفلام والكلام، على ألفي مسرح وشاشة. وبعد ذلك؟ ماذا بعد ذلك؟ ستستفيقين ذات يوم، قبل صياح الديك، وستصفرين صفير الهول والهلع، ستسمعين صوتًا يناديك ويقول: صدق العربي البارُّ، الحق أصدق أنباءً من الدولار!

وتكررت الرحلات من الفريكة إلى نيويورك، وتكرَّرت الصولات الضون كيخوتيَّة، فانكسرت رماح، وتجددت رماح، ورُفِعت للعرب فوق معاقل الجهل والظلم، وفوق حصون الصيارفة، وفوق منابر الجامعات والأندية السياسية والثقافية؛ أعلامٌ ورايات قد دبجت بأشرف الآيات. فقال بعضهم مستهزئين: كلام وأوهام. وقال بعضهم الآخَر: كلام فيه سلام. وقال الكبراء فيهم — أي الأغنياء: هذا العربي ابن عمنا، وهو يجهل حقائق الحياة، فعلينا أن ننير ذهنه بنورَيْها الفضي والذهبي. فراح الأعوان يبحثون عنه — راحوا ينشدونه بصوت فيه رنَّات وغنات، وما كان الله صديق العرب ليظفرهم به!

فقال أحد السحرة من خطبائهم: هذه شظية من رمحه، أحرقوها يحضر …

حرقوها، ويا لهول الساعة! حرقوها، فظهر في البلاد الأميركية ألف ضون كيخوته، شاهرين الرماح، وحاملين أعلام العروبة ينشرونها في الأسواق، وأمام دور الحكومة الروزفلتية في العاصمة الأميركية. ارعووا، يا بني العم، وتوبوا إلى الله إلهنا وإلهكم. أما فلسطين فهي لأصحاب الحق لا لأصحاب الدولار.

كلام، وأوهام، كلام وسلام، وغَلَب المتمردون المسالمين، ثم رجحت كفة المسالمين، وكدنا نقول: آمين. ولكن بني العم عتاة قساة، يحاسبون أتقياءهم منذ أيام الآدون الأكبر، ويرجمون الأنبياء، ولا يعرفون من أبجد الكرام، غير الميم والألف واللام …

تكررت الرحلات، وتعدَّدَتْ بيننا وبينهم المناورات والغزوات والوقعات الحربية؛ فعلَّمتهم ولا بدَّ شيئًا، وعلَّمَتْنا أشياء، منها أن في العالم يهودًا غير اليهود العبرانيين، أسماؤهم إنكليزية مثلًا أو أميركية، وهم مثل إخوانهم العبرانيين، لا يعرفون من أبجد الكرام غير الميم والألف واللام! فهل يصح وهل يليق أن نستعين بهم على إخوانهم الأصليين؟ وقد عرف الأخوان العبراني والأميركي، كما عرف الأخوان العبراني والإنكليزي، أنه قد ينكسر رمح ضون كيخوته، ولا تنكسر الروح الضون كيخوتية. فالحرب لا تزال قائمة بيننا، وضون كيخوته لا يزال ممتطيًا جواده حاملًا رمحه، رائحًا جائيًا من الفريكة إلى نيويورك، ومن نيويورك إلى الفريكة.

هي رحلة طويلة وخصوصًا في فصل الشتاء، حيث اليوم الواحد في الأوقيانوس يمسي ليلًا كله، ويطول والله يطول. اثنان وعشرون من هذه الأيام السود الطوال، قبل أن نصل إلى ساحة القتال، اثنان وعشرون يومًا من الاستجمام، نستجم ونستعد ونشحذ السلاح ونصقله، ونتعب من الشحذ والصقل والتأهُّب.

ولكننا عندما نشاهِد ناطحات السحاب، وهي تبدو لنا كما بدت لضون كيخوته دواليب الهواء، نشتعل حماسة ونشاطًا واستبسالًا. دواليب الهواء قد سحرت ومُسِخت يهودًا، مسخها سحرة الديمقراطية لينجوا من شرها — وما هم بناجين!

دواليب الهواء، جبابرة إسرائيل، صيارفة الصهيونية في فلسطين وفي عاصمة البريطانيين — عليهم يا ضون كيخوته، عليهم!

أسهبت في شرح الأسباب التي حالت دون تحقيق الأمنية القصوى بزيارة المغرب الأقصى، وما كنت لأسهب لولا أني متخذ، في تأليف هذا الكتاب السبيل الشريف في التأليف، سبيل العباقرة، سادة زمانهم وفنونهم. فلا طابع يستعجل، ولا حاجة تستحث، ولا هم يحمل على إرهاق القريحة في الميدان، أو على انتهاك حرمة الفكر في البستان، وفي الإسهاب تعريج، وفي التعريج مرح وتفريج، هي الحسنة الجامعة في التأليف والمطالعة.

إذن سأسوقها إليك سوق الهون، لا رغبة في راحتي فقط بل رغبة كذلك في راحتك، أيها القارئ، فلا تتعب ولا تسأم ولا تُظلم ولا تهان. أما إذا كنتَ ممَّنْ يُطالِعون الكتب على الطريقة السينمائية، فتعدو في صفحاتها عَدْوَ الفارِّ من النار، ثم تَثِب من صفحة إلى أخرى وثب السعدان على الأفنان، فلا دواء لك عندي.

بَيْدَ أني أتمنى لك شيئًا من النعمة التي تلزمني في التأليف، نعمة الصبر والتؤدة، فلا تستعجلني إن وقفتُ حائرًا أو مفكِّرًا، ولا تستوقفني إن سرت منذرًا أو مذكرًا؛ فلعل صورة من صور الجمال تستحيل شرًّا مستطيرًا، ولعل بعض الشر في الناس — سياسيين كانوا أم تجَّارًا — ينقلب خيرًا شاملًا، والسر في التفكير الهادئ والتعريج المطمئن.

قلت إن الرحلة الكيخوتية من الفُريكة إلى نيويورك رحلة طويلة مملة، وخصوصًا في فصل الشتاء، وهي فوق ذلك، عند ملتقى البحرين، مؤلمة لصاحب القلب المتنقل بالشوق والحنين. هناك، في ذلك المضيق، حيث يتصل البحر الأبيض بالأوقيانوس، وتدنو الشواطئ الأوروبية والأفريقية بعضها من بعض، يتلفَّت ذلك القلب إلى الجبال الأفريقية المكلَّلة بالضباب الشفاف والضياء، تلفَّتَ العاشق المشتاق. هناك الغصَّات والحنين تذهب بها في اليوم التالي ظلمات الأوقيانوس وأنواؤه، ثم نعود من الرحلة المباركة، فنصل إلى ذلك المضيق، فتعود هي؛ تعود الغصات، ويعود الحنين.

فهذا جبل طارق بن زياد، لم يبقَ من عروبته غير اسمه وبعض الآثار في أعاليه، ومن ذلك الجبل — من شاطئه الهادئ — يقلنا مركب تجاري صغير إلى الرأس الغربي الجنوبي من الشاطئ الأفريقي، حيث تتمطَّى المدينة العربية الجميلة طنجة، تتمطَّى في ظلال الفردوس الدولي، مطمئنة آمنة راضية مرضية — أو شبه ذلك — شهدت القلوب أم لم تشهد. ومن طنجة — مسقط رأس رحَّالتنا ابن بطوطة — إلى أول ميناء في أفريقيا الأطلنطيقية، إلى أصيلة، ومنها إلى العرائش، فالدار البيضاء؛ أسماء عربية شريفة، ما تغيَّرَتْ منذ وطئت أقدام العرب البلاد.

وها هنا، قبالة صخرة طارق، البلدة الإسبانية الوجه اليوم، العربية الاسم أبدًا: الجزيرة. ومن الجزيرة في مركب بخاري أصغر من المركب الأول — مركب إسباني — إلى أقرب بلدة أفريقية من الصخرة الشهيرة: من الجزيرة إلى سبتة — سبتم الرومان، سبتة العرب، سوتا الإسبان. وما أقرب تلك المدينة الرومانية العربية الإسبانية من الأمنية القصوى. ساعة في ذلك المضيق … ولكننا لا نزال على ظهر الباخرة المشرقة.

تختفي القلاع، ويختفي المضيق، وتذوب الشواطئ الأفريقية في بحيرات من الضباب والضياء، ثم تتكوَّن عند أول بلدة في الجزائر — أو آخِر بلدة حسب اتجاهك — فتقف أنت أمام وهران، أو تقف وهران أمامك ترحب بك.

عرِّج على وهران وسلِّم على تلمسان — (اتلمسان المغاربة) عاصمة الزناتيين — وهناك غربًا بجنوب: فاس، حيث تمرَّنَ ابن خلدون على خدمة الملوك المرينيين — بني مرين — وأقام سنتين، جزاء ذلك، في السجن.

هي اتلمسان جارة وهران، وعاصمة الدولة الزناتية في قديم الزمان، ومن اتلمسان غربًا بجنوب نصل إلى وادي ملويه، إيوان الجبل العظيم، في قلب المغرب الأقصى، ذلك الجبل المعروف اليوم بالأطلس، وهو في لغة العرب — عن ابن خلدون — جبل دَرَنَ.١

سِرْ في ذلك الوادي تصل إلى الممر الشهير بين الجزائر والمغرب، ممر تاز، ثم إلى تلك العاصمة المغربية القديمة المسمَّاة بهذا الاسم، ومنها إلى مراكش، إلى مكناس، إلى فاس، مدينة إدريس الكبير.

المغرب الأقصى! ما كان أشد الحنين إليه! ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، والأصح أن أقول: تجري السفينة بما لا يشتهيه واحد في الأقل من المسافرين. تجري في بحر من الشوق ولا تستقر.

رحلة تلو الرحلة، وشمس الحبيب تشرق بعيدًا وتغيب.

وما كانت الأيام لتغيِّر ما أمسى كفصل من فصول السنة، وها هي ذي السنة قد دَنَتْ من الغروب، وهاك زينات العيد تبشِّر بقدومه، والصبيان والبنات في الأسواق والحوانيت زينة الزينات، وأنت أيها الراحل: أتعيِّد في البحر؟ أتستقبل العام الجديد في ظلمات الأوقيانوس؟ أقول: نعم. وأقول: لا.

ليس في الظلمات حدود للزمان والمكان، إنما نحن نصطنع الحدود، ونسميها في مثل هذه الحال العيدَ، فنلبس له الثياب الرسمية — سوداء أو بيضاء للرجال، ومن ألوان الشفق السوري والمغيب اللبناني للنساء — ونكلل رءوسنا بأكاليل من الورق، حمراء وخضراء وزرقاء، ونرقص على نغمات الراديو، التي ترقص على صدر الرياح، فوق جبين الأنواء، وننفخ في الأبواق كالصبيان عند دنو الساعة، ونرفع الأصوات منشدين:

تدور …
دومًا تدور …

وهذه الأشباح — أشباح السنين، والليالي والأيام، أشباح الشموس والأقمار، أشباح الدول البائدة والمدن المدفونة، أشباح الآمال والأشواق، أشباح الشباب والحب، والثراء والسعادة — كلها تدور … تدور وهذه الدنيا. كرة من التراب في جو من الأشباح، تُرَى ولا تُرَى. تُرَى بعين الخيال إن لم تكن رمداء، ولا تُرَى بالعيون التي تتغازل في حلقة الرقص والاهتزاز، على ألحان اﻟ «جاز»، أو فوق الكئوس والقناني، أمام اﻟ «بار» الأميركاني!

تعدَّدَتِ الاحتفالات ساعة دنوِّ العامين الواحد من الآخر في بحر الظلمات، قبيل الدنو من المضيق أو بعد اجتيازه، وأنا — شريك الناس في عيدهم — أسمع القلب يطالبني بطنجة والعرائش، وبفاس ومكناس وبجبال الأطلس، وواحات سِجِلْماسَة.

وفي ذات يوم من السنة الثانية من الحرب الإسبانية الأهلية جاءني صديق يقول: في جيش فرنكو مائة وثمانون ألفًا من عرب المغرب، كانوا بالأمس يحاربون الإسبان، واليوم يحاربون مع فرنكو مستبسلين، ولا أحد يعرف السبب في ذلك، وأنت الراغب في زيارة المغرب — هاك الفرصة السانحة للسياحة والدرس.

لا، يا صديقي. ليست الفرصة سانحة لا للدرس ولا للسياحة، فالمثل الإسباني يقول: في الحرب يمسي الكذب كالتراب! فأين الفرصة، وأين المجال الحر للدرس؟ وليست أخطار الأسفار مستحَبَّة في أيام الحرب؛ لأنها تعزى إليها، فتذهب في عين السائح المجرِّب محاسنها ومغرياتها. إلى أميركا إذن، إلى نيويورك. اجتزت المضيق للمرة العاشرة أو الخامسة عشرة، والقلب رفيق العين يتلفت إلى الشمال وإلى الجنوب. متى تنتهي هذه الحرب الإسبانية الأهلية؟ متى يعود الخير والهناء إلى هذه البلاد الجميلة، الزاهية في أيام السلم بكل زواهي الحياة؟!

قطعت الأوقيانوس وأنا أسأل هذا السؤال: وأَعِد النفس إذا ما انتهت تلك الحرب بعد انتهاء رحلتي الخطابية أو خلالها؛ أعدها بالنزهة الكبرى، أعدها بالتعريج البهيج على صخرة طارق، ومنها إلى فردوس أفريقية، إلى المغرب الذي هو اليوم في حماية إسبانيا، إلى المغرب الذي جنَّد لفرنكو مائة وستين ألفًا من أبنائه الأشداء البسَّل، إلى المغرب المقيم فيه اليوم مقيم إسباني عام وُلِد في قرطاجنة من مقاطعة مُرْسيَة، مسقط رأس شاعرنا الصوفي ابن العربي، وهو — أي المقيم — كما يظهر مما بلغني من أخباره، على شيء من التصوف وأشياء سياسية استعمارية غريبة جديرة بالدرس. جديرة بالدرس؟ ما لنا والدرس.

سأعود من أميركا تعبًا ضجرًا، كليلَ قوى العقل والروح. سأعود وبي الرغبة الكبرى في النزهة الكبرى، أوَلَا أستحقها بعد محاربة اليهود في عقر دارهم أربعة أشهر؟

وجرت السيارة، ودرجت دواليب القطار، وتحركت أجنحة طير السير الحديث، هناك في الولايات المتحدة، وأنا أتنقل عليها من مدينة إلى أخرى، ومن منبر في جامع إلى آخَر في جمعية ثقافية أو نادٍ سياسي.

وجاءت صحف الأخبار أثناء الرحلة تُنبِئ بفوز فرنكو، وتبشِّر بقرب انتهاء الحرب في البلاد الإسبانية المحبوبة.

ثم انتهت الحرب وانتهت الرحلة، فسافرت من نيويورك يوم افتتاح المعرض الكبير، وسمعت وأنا في الباخرة أمام الراديو أحد الخطباء يمجد الزمان والتاريخ — وقد تجسَّدَا اليوم في هذا المعرض العظيم — ضجات استحسان فظيعة!

فيا أيها الضاجُّون — أراحنا الله من ضجيجكم — ما المعارض الكبرى والصغرى غير أحابيل من أصناف اللعب والشعوذة للتفريج عن القلوب، ولصيد ما في الجيوب، يتخللها أشياء من ثمار العلوم والفنون والاختراعات.

المعرض العظيم؟ الجزء الأكبر منه ألاعيب وشعوذات، والجزء الأصغر علم وفن وثقافة، وهذا الجزء الصغير من الفوائد تجده، بعد انتهاء المعرض، في متاحف المدينة، وفي معروضات صناعاتها الدائمة. فلا بأس عليك إن أنت سافرت من نيويورك في اليوم التاسع والعشرين من شهر نيسان (أبريل) من السنة التاسعة والثلاثين والتسعمائة والألف، في الساعة التي افتُتِح فيها المعرض الأميركي الكبير، هناك في قلب الجزيرة الطويلة المجاورة لأختها الصغيرة منهاتان، التي هي نيويورك بعينها، والتي تباهي اليوم الجزائر الخالدات في بحر الظلمات.

وقد اجتزنا ذلك البحر على ظهر ذلك الجبل الساري الحافل بالقصور — كل درجة من درجات السفر فيه قصر فخم قائم بذاته — ذلك الجبل الذي يدعى سفينة اسمها الخاص الكونتي دي سافوي. اجتزنا الأوقيانوس بسرعة السيارات في المسافات البعيدة: ثلاثة آلاف ميل قطعناها في خمسة أيام ونصف يوم — فرسَوْنا في مساء اليوم السادس في مياه جبل طارق، ثم نزلنا في الليل، من باب صغير في الطابق الأسفل من السفينة إلى مركب بخاري صغير ربط إلى جنبها، فبدا كالحبة إلى جنب القبة!

وما كنا نحن القلائل المعرجين على جبل طارق، لنختلف كثيرًا تحت جناح الظلام، عن اللصوص، أو ما يشبههم من أبناء الحرام — الجواسيس مثلًا — في نظر الموظف البريطاني الذي فحص جوازات السفر، واستنطق كلًّا منَّا استنطاقًا إنكليزيًّا وجيزًا لطيفًا لا إزعاج فيه ولا اطمئنان: ما هي مدة إقامتكم في جبل طارق؟ وما الغرض منها؟ وفي أي نُزُل ستنزلون؟ هاكم الجواز، «ثنك يو!»

ركبت السيارة إلى النزل الذي سُجِّل اسمه في سجل الشرطة، وفي اليوم التالي اتصلت برقيًّا بسعادة المقيم العام الكولونيل خوان بايبدر في تطوان العامرة عاصمة المغرب الشمالي القانع اليوم بالحماية الإسبانية.

أيها القارئ العزيز، إنْ كنتَ فهمت مما تقدَّمَ أننا سنسيح في المغرب الأقصى، فنجوب عواصمه كلها ونقطع جبله الأكبر إلى آخِر واحة فيه — إلى سجلماسة — فقد أخطأت الفهم، أو أني أنا المخطئ في التعبير والتصوير لمنعكسات الشوق. انفسح الخيال في جو ذلك المغرب الشاسع، وليس للخيال من رادع فرنسي أو سجلماسي.

وإن كنت فهمت أن هذه السياحة نزهة من النزهات تنشرح لها القلوب وتتجدَّد فيها القوى النفسية والبدنية، الروحية والمادية، فقد أخطأت الفهم، أو أني أنا المخطئ فيما بيَّنْتُ أو فيما حاولتُ من التبيين.

وأنا وحدي المسئول عن ذلك، الحامل كل ما خبأته الأيام والليالي لنفسي الكليلة المتخومة، وقد شبعت من مشقات الأسفار الكشفية والاستقصائية، من متاعب الإكرام والوطنية والسياسة، فإما أن هذه الرحلة أشدُّ الرحلات فيما يفرضه الرحَّالة الصادق الأمين على نفسه، وأكثرها صعوبات وعقبات، وإما أني — وقد تجاوزت الستين — فقدت الكثير من العزم والنشاط لتذليل العقبات والتغلب على المشقات. أما الباقي، بعدما فقدت، فهو ذلك النشاط الروحي في المقاصد الكبيرة، الذي كنت أتمتع به مع قواي الأخرى في رحلتي العربية الأولى.

لله من السنين! ولله من ذلك المقيم الإسباني الكريم! فقد كان في إمكانه أن يقول، جوابًا على برقيتي: ليست البلاد مفتوحة اليوم للزائرين، وخصوصًا إذا كانوا من المستكشفين، ولكنه قال ما هو عكس ذلك في معناه، وانتدب فوق ذلك صديقًا له في جبل طارق، معروفًا لدى السلطتين الإنكليزية والإسبانية، ليرافقني في اجتياز الحدود من الصخرة العربية الاسم إلى المدينة الشبيهة اسمًا بها المقابلة لها — هناك الطرف الغربي من الهلال الأخضر، إلى الجزيرة.

فإن شئتَ، أيها القارئ، أن ترافقني فأهلًا وسهلًا بك، أما مشقات الرحلة فأنت منها بعيد، وقد لا تشعر، وأنت جالس على كرسيك — أو مستلقٍ في فراشك، تدخن السيكارة أو السيكار أو الأركيلة أو الغليون، وهذا الكتاب بيدك — أقول: قد لا تشعر بغير الملل الذي يلزم كل كتاب في بعض صفحاته، وقد يكثر مثلها في هذا الكتاب. فما عليك إذ ذاك غير أن تضعه جانبًا — برفق أرجوك لا بعنف — وتستمر في التدخين، أو في النوم، أو فيما قد يكون أثار فيك من فكر أو غيظ أو كراهية.

فلا يزال هذا الكاتب صديقك القديم، يقول كلمته ويمشي، مشيت أنت معه أم وقفت وتخلفت. فهو لا ينتظر، وهو لا يتوقَّع من أحد الرفقاء — القرَّاء — أن يماشيه حتى النهاية. على أنه يقول، في ختام هذه المقدمة: إن في المغرب طبخة يسمونها الحريرة، هي شبيهة بالحساء، ولكنها تشتمل على الكثير من أنواع اللحم والخضر والأبازير، فيرسب الأكبر في قعرها؛ فلا تحظى أنت به إلا بعد أن تصل في احتسائك إلى القعر — إلى النهاية.

فإلى قعر الحريرة — إلى النهاية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أمين الريحاني
الفريكة — لبنان — في ٢٥ جمادى الثانية ١٣٥٨
الموافق ١١ آب (أغسطس) سنة ١٩٣٩
١  «ابن خلدون» (١٣٣٢–١٤٠٦) وُلِد في تونس، ونُقِل وهو في العشرين من سنه إلى فاس، فدخل في خدمة السلطان ابن عنان، وبعد أربع سنوات «نُقِل» إلى السجن فقضى فيه سنتين — بيان أسباب هذا الحادث في آخِر تاريخه غير مُقنِع — ثم نُقِل إلى غرناطة، وما طالت أيامه هناك في خدمة الملك ابن الأحمر، فعاد إلى أفريقية فعيَّنَه في تلمسان سلطانها، وما طال أمره حتى خرج من الخدمة ودخل معهدًا دينيًّا، فرارًا من السلاطين ودسائس قصورهم. وقيل إن تلك القصور ارتاحت منه. ثم عاد إلى تونس حيث باشَرَ تأليف تاريخه، ثم شرَّق يحج فشمله الملك الظاهر بنظره، فعيَّنَه قاضي المذهب المالكي بالقاهرة، وكانت آخِر مغامراته والملوك مقابلته في دمشق مع وفد علمائها للفاتح المغولي تيمورلنك الذي أحب ابن خلدون بلغته فأهداها إليه، وخاب أمله بكرمه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤